التفاسير

< >
عرض

فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ
٤
ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ
٥
ٱلَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ
٦
وَيَمْنَعُونَ ٱلْمَاعُونَ
٧
-الماعون

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { فَوَيْلٌ } مبتدأ، ومعناه: عذابٌ لهم، وقوله: { لِّلْمُصَلِّينَ } خبر والفاء للسبب، أي: تسبب عن هذه الصفات الذَّميمة الدعاء عليهم بالويل.
قال الزمخشريُّ بعد قوله: "كأنه قيل: أخبرني": وما تقول فيمن يكذب بالدين أنعم ما يصنع، ثم قال تعالى: { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ } على معنى: فويل لهم، إلا أنه وضع صفتهم موضع ضميرهم؛ لأنهم كانوا مع التكذيب وما أضيف إليهم ساهين عن الصلاة مرائين غير مزكين أموالهم.
فإن قلت: كيف جعلت المصلين قائماً مقام الضمير { الذي يُكذِّبُ بالدينِ }، وهو واحد؟ قلت: معناه الجمع؛ لأن المراد الجنس. قال أبو حيان: وأما وضعه المصلين موضع الضمير، وأن "المُصلِّينَ" جمع، لأن ضمير "الذي يُكذِّبُ" معناه الجمع، فتكلُّف واضح، ولا ينبغي أن يحمل القرآن إلاَّ ما عليه الظَّاهر، وعادة هذا الرجل يتكلف أشياء في فهم القرآن ليست بواضحة.
قال شهاب الدين: وعادة هذا الرجل التَّحامل على الزمخشري، حتى يجعل حسنهُ قبيحاً، وطيف يرد ما له، وفيه ارتباط الكلام بعضه ببعض، وجعله شيئاً واحداً، وما تضمنه من المبالغة في الوعيد في إبراز وصفهم الشنيع، ولا شكَّ أن الظاهر من الكلام أن السورة كلها في وصف قد جمعوا بين هذه الأوصاف كلها من التكذيب بالدين، ودفع اليتيم، وعدم الحضّ على طعام المسكينِ، والسهو في الصلاة، والمراءاة, ومنع الخيرِ.
قوله: { ٱلَّذِينَ هُمْ }، يجوز أن يكون مرفوع المحل، وأن يكون منصوبه، وأن يكون مجروره، تابعاً أو بدلاً أو بياناً، وكذلك الموصول الثاني، إلاَّ أنه يحتمل ان يكون تابعاً للمصلين، وأن يكون تابعاً للموصول الأول.
وقوله: { يُرَآءُونَ } أصله: يرائيون كـ "يقاتلون"، ومعنى المراءاة: أي: أن المرائي يُري النَّاس عمله، وهم يرون الثَّناء عليه، فالمفاعلة فيها واضحة، وقد تقدم تحقيقه.
فصل في اتصال هذه الآية بما قبلها
في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه:
الأول: أنه لما كان إيذاء اليتيم، والمنع من بذل طعام المسكين، دليلاً على النفاق، كانت هاتين الخصلتين معاملة مع المخلوق.
والثاني: أنه تعالى لما ذكر هاتين الخصلتين مع التكذيب بيوم الدين، قال: أليس الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر؟ فقال: ويلٌ له من هذه الصلاة، كيف لا تنهاه عن هذه الأفعال المنكرة.
والثالث: كأنه يقول: إقدامه على إيذاء اليتيم، وتركه للحث على طعام المسكين تقصير في الشَّفقة على خلق الله تعالى، وسهوه في الصلاة تقصير في التعظيم لأمر الله تعالى، فلما وقع التقصير في الأمرين كملتْ شقاوته.
فصل في المراد بالمرائي في الصلاة
قال ابنُ عباس: هو المصلي، الذي إذا صلّى لم يرجُ لها ثواباً، وإن تركها لم يخشَ عليها عقاباً.
وعنه أيضاً: الذين يؤخرونها عن أوقاتها.
قال سعد بن أبي وقَّاص - رضي الله عنه -: قال:
"قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ }: الَّذينَ يُؤخِّرُون الصَّلاة عَنْ وقْتِهَا تهَاوُناً بِهَا" .
وقيل: لا يتمُّون ركوعها، ولا سجودها.
وقال إبراهيم: هو الذي يلتفت في سجوده. وقال قطربٌ: هو الذي لا يقرأ ولا يذكر الله، وفي قراءة عبد الله: "الذين هم عن صلاتهم لاهون".
[وعن ابن عباس أيضاً: هم المنافقون يتركون الصلاة سراً، ويصلونها علانية، وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى الآية، وهذا يدل على أنها في المنافقين قوله: { ٱلَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ }، ورواه ابن وهب عن مالك رضي الله عنه].
فصل
قال ابن عبَّاس: ولو قال: "في صلاتهم ساهون" لكانت في المؤمنين، وقال عطاء: الحمد لله الذي قال: { عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ } ولم يقل: في صلاتهم، فدل على أن الآية في المنافقين.
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: أي فرق بين قوله تعالى: { عَن صَلاَتِهِمْ } وبين قوله: "في صلاتهم"؟.
قلت: معنى "عَنْ" أنهم ساهون عنها سهو ترك لها، وقلة التفات إليها، وذلك فعل المنافقين، أو الفسقة الشطار من المسلمين، ومعنى "فِي" أن السَّهو يعتريهم فيها بوسوسة شيطان، أو حديث نفس، وذلك لا يكاد يخلو منه إنسان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقع له السَّهْوُ في صلاته فضلاً عن غيره.
قال ابن الخطيب: قال كثير من العلماء: إنه صلى الله عليه وسلم ما سها في صلاته لكن أذن الله له في ذلك الفعل بياناً للتشريع في فعل السَّاهي، ثم بتقدير وقوع السهو منه، فالسهو على أقسام:
أحدها: سهو الرسول - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه، وذلك يجبر بالسنن تارة، وبالسُّنن والنوافل تارة.
والثاني: ما يكثر في الصلاة من الغفلة، وعدم استحضار النِّيَّة، وهذا يقع كثيراًَ.
والثالث: ترك الصَّلاة، لا إلى قضاء الإخراج من الوقت، ومن ذلك صلاة المُنافق؛ لأنه يستهزئ بالدين، والفرق بين المُنافق والمُرائي: أنَّ المنافق يبطن الكفر, ويظهر الإيمان, والمرائي: إنما يظهرُ زيادة الخُشُوع ليعتقد من يراه دينه، أو يقال: إن المنافق لا يصلي سراً، والمرائي تكون صلاته عند النَّاس.
قال ابن العربي: السَّلامة عند السَّهو محال.
قوله: { ٱلَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ }، أي: يُري الناس أنه يصلي طاعة، وهو يصلي تقيَّة كالفاسق، يري أنه يصلي عبادة، وهو يصلي ليقال: إنه يصلي، وحقيقة الرِّياء: طلب ما في الدنيا بالعبادة، وأصله: طلب المنزلةِ في قُلوب الناس، وهو من وجوه:
أولها: تحسين السَّمت، يريد بذلك الجاه، والثناء.
وثانيها: الرياء بالثياب القصار والخشنة ليتشبه بالزهادِ.
وثالثها: إظهار السخط على الدنيا، وإظهار الوعظ، والتأسّف على فوات الخير والطاعة.
ورابعها: إظهار الصلاة، والصدقة، وتحسين الصلاة، لأجل رؤية الناس، وغير ذلك مما يطول ذكره.
فصل في الرياء
لا يكون الرجل مُرائياً بإظهار العمل المفروض، لأن حق الفرائض الإعلان وإشهارها لقوله صلى الله عليه وسلم:
"ولا غمةُ فِي فَرائضِ اللهِ" ، ولأنها أعلام الإسلام وشرائع الدين، ويستحق تاركها الذم، والمَقْت، فوجب إماطة التُّهمة بإظهارها، وأما التطوع فحقه أن يخفى؛ لأنه مما لا يلام بتركه، ولا تهمة فيه، فإن أظهره قاصداً للاقتداء كان جميلاً، وإن قصد بإظهاره أن الأعين تنظر إليه، ويثنى عليه بالصَّلاح فهو الرياء.
قوله: { وَيَمْنَعُونَ ٱلْمَاعُونَ }. في "المَاعُون" أوجه:
أحدها: "فاعول" من المعن، وهو الشيء القليل، يقال: ما له معنة، أي: قليل، قاله قطربٌ.
الثاني: أنه اسم مفعول من أعانه يعينه [والأصل: مَعُون، وكان من حقّه على هذا أن يقال: معون كـ "مقول" و "مصون" اسم مفعول من: قال وصان، ولكن قلبت الكلمة بأن قدمت عينها قبل فائها، فصار موعون، ثم قلبت الواو الأولى الفاً كقولهم تاب وصام في توبة وصومة، فوزنه الآن مفعول، وفيه شذوذ معان كقام، وأما مفعول فاسم مفعول الثلاثي.
الثاني: القلب وهو خلاف الأصل.
الثالث: قلب حرف العلة ألفاً وإن لم يتحرك، وقياسه على تابه وصامه بعيد لشذوذ المقيس عليه، وقد يجاب عن الثالث بأن الواو متحركة في الأصل قبل القلب، فإنه بزنة معوون الوجه].
والثالث: أن أصله "معونة" والألف عوض عن الهاء.
ووزنه "مفعل" كـ "ملوم"، ووزنه بعد الزيادة "مافعل".
فصل في تفسير الماعون
اختلف المفسرون في "الماعون"، وأحسنها: أنه كان يستعان به، وينتفع به كالفأس والدلو، والمقدحة.
قال الأعشى: [المتقارب]

5323- بأجْودَ مِنهُ بِمَاعُونهِ إذَا ما سَماؤهُمُ لَمْ تَغِمْ

ولم يذكر المفعول للمنع، إما للعلم به، أي: يمنعون النَّاس، أو الطالبين، وإما لأن الغرض ذكر ما يمنعونه، تنبيهاً لخساستهم، وضَنّهم بالأشياء النافعة المستقبح منها عند كل أحد.
فإن قيل: هذه الآية تدلُّ على التهديد العظيم بالسَّهو عن الصَّلاة، والرياء، ومنع الماعُون، وذلك من باب الذنوب، ولا يصير المرء به منافقاً، فلم حكم الله بمثل هذا الوعيد على هذا الفعل؟ فالجواب من وجوه:
الأول: قال ابن الخطيب: المراد بالمصلين هنا المنافقون الذين يأتون بهذه الأفعال وعلى هذا التقدير: دلّت الآية على أن الكافر له مزيد عقوبة على فعل محظورات الشرعِ، وتركه واجبات الشَّرع، وذلك يدل على أنًّ الكفار مخاطبون بفروع الإسلام.
الثاني: قيل لعكرمة: من منع شيئاً من المتاع كان له الويلُ؟ فقال: لا، ولكن من جمع ثلاثتهن فله الويل، يعني: ترك الصلاةِ، وفعل الرياء، وترك الماعون.
روى الثعلبي عن أبيّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ قَرَأ سُورَةَ { أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ } غَفرَ اللهُ لهُ إنْ كَان مُؤدِّياً للزَّكَاةِ" . والله تعالى أعلم.