التفاسير

< >
عرض

إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ ٱلْكَوْثَرَ
١
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنْحَرْ
٢
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ
٣
-الكوثر

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ ٱلْكَوْثَرَ }، قرأ الحسن وابن محيصن، وطلحة، والزعفراني: "أنْطَيْنَاكَ" بالنون. قال الرازي، والتبريزي: أبدل من العين نوناً.
فإن عنينا البدل الصناعي فليس بمسلَّم، لأن كل مادة مستقلة بنفسها، بدليل كمال تصريفها، وإن عنينا بالبدل: أن هذه وقعت موقع هذه لغة، فقريب، ولا شكَّ أنها لغة ثابتة.
قال التبريزي: هي لغة العربِ العاربةِ من أولى قريش.
وفي الحديث:
"اليَدُ العُلْيَا المُنطِيةُ، واليَدُ السُّفلَى المُنطَاةُ" .
وقال الشاعر وهو الأعشى: [المتقارب]

5324- جِيـادُكَ خَيْــرُ جِيــادِ المُلـــوكِ تُصَانُ الجِلالَ وتُنْطَـى الحُلُـولاَ

قال القرطبي: "وروته أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءة، وهي لغة في العطاء أنطيته: أعطيته".
والكوثر: "فَوْعَل"، من الكثرةِ، وصف مبالغة في المفرط الكثرة، مثل النوفل من النَّفل، والجوهر من الجهر، والعرب تسمي كل شيءٍ كثيراً في العدد، والقدر، والخطر: كوثراً؛ قال: [الطويل]

5325- وأنْتَ كَثيرٌ يَا ابْنَ مَرْوانَ طَيِّبٌ وكَانَ أبُوكَ ابْنَ العقَائِلِ كَوثَرا

قيل لعجوز رجع ابنها من السَّفر: بم آب ابنك؟.
قالت: آب بكوثر، أي: بمال كثير.
والكوثر من الغبار الكثير، وقد تكوثر إذا كثر؛ وقال الشاعر:

5326- وقَدْ ثَارَ نَقْعُ المَوْتِ حتَّى تَكْوثَرَا

فصل في المراد بالكوثر
اختلفوا في الكوثر الذي أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل: نهر في الجنة رواه البخاري وغيره.
وروى الترمذي عن ابن عمران قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الكَوْثَرُ: نهرٌ فِي الجنَّةِ، حَافتَاهُ مِنْ ذهَبٍ، ومَجْراهُ عَلى الدُّرّ والياقوت، تُربتُهُ أطْيَبُ مِنَ المِسْكِ، وماؤه أحْلَى مِنَ العَسلِ، وأبْيَضُ مِنَ الثّلْجِ" .
وقال عطاء: هو حوض النبي صلى الله عليه وسلم في الموقف وفيه أحاديث كثيرة.
وقال عكرمة: الكوثر: النبوة، والكتاب.
وقال الحسن: هوالقرآن. وقال ابن المغيرة: الإسلام.
وقال ابن كيسان: هو الإيثار.
وقال الحسن بن الفضل: هو تيسير القرآن، وتخفيف الشرائع. وقال أبو بكر بن عياش ويمان بن رئاب هو كثرة الأصحاب والأتباع والأمة.
وحكى الماورديُّ: أنه رفعة الذكر.
وقيل: [الشفاعة: وقال هلال بن يساف: هو لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وقيل: الصلوات الخمس.
وقيل الفقه في الدين.
وقيل غير ذلك].
قال القرطبيُّ: وأصح الأقوال: الأول، والثاني؛ لأنه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم نصًّا في الكوثر.
فصل في الكلام على هذه السورة
قال ابنُ الخطيب: هذه السورة كالمقابلة للتي قبلها، فإنه ذكر في الأول البُخل، وترك الصلاة، والرياء، ومنع الماعون، وذكر هنا في مقابلة البخل: { إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ ٱلْكَوْثَرَ } وفي مقابلة ترك الصلاة: قوله: "فَصلِّ" أي: دُمْ على الصلاة، وفي مقابلة الرياء قوله تعالى: { لِرَبِّكَ } أي: لرضاه خالصاً، وفي مقابلة منع الماعون قوله: "وانْحَرْ"، أي: تصدَّق بلحم الأضاحي، ثم ختم السُّورة سبحانه وتعالى بقوله: { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ }، أي: أنَّ المنافق الذي أتى بتلك الأفعال القبيحة سَيمُوتُ ولا يبقى له أثر، وأما أنت فيبقى لك في الدنيا الذكر الجميل، في الآخرة الثواب الجزيل.
قوله: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنْحَرْ }.
قال ابن عبًّاس - رضي الله عنهما - أقم الصلاة المفروضة عليك.
وقال قتادة، وعطاء، وعكرمة: فصل لربك صلاة العيد يوم النحر، "وانْحَرْ" نسُككَ.
وقال أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينحر، ثم يصلي، فأمر أن يصلي ثم ينحر.
قال سعيد بن جبير: نزلت في "الحديبية" حين حصر النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت، فأمره الله تعالى، أن يصلي، وينحر البدن، وينصرف، ففعل ذلك.
قال ابن العربي: "أما من قال: إن المراد بقوله تعالى: { فَصَلِّ } الصلوات الخمس، فلأنها رُكْن العبادات، وقاعدة الإسلام، وأعظم دعائم الدين.
وأما من قال: إنها صلاة الصبح بالمزدلفة، فلأنها مقرونة بالنحر، وهو في ذلك اليوم، ولا صلاة فيه قبل النحر غيرها، فخصها بالذكر من جملة الصلوات لاقترانها بالنحر".
قال القرطبي: وأما من قال: إنها صلاة العيد، فذلك بغير "مكة"، إذ ليس بـ "مكة" صلاة عيد بإجماع، فيما حكاه أبو بكر رضي الله عنه.
فصل
الفاء في قوله: "فصلِّ" للتعقيب والتسبب، أي: تسبب هذه المنة العظيمة وعقبها أمرك بالتخلي لعبادة المنعم عليك، وقصدك إليه بالنحر لا كما تفعل قريش من صلاتها، ونحرها لأضيافها، وأما قوله تعالى: { وَٱنْحَرْ }، قال علي - رضي الله عنه - ومحمد بن كعب القرظي: المعنى ضع اليمنى على اليسرى حذاء النحر في الصلاة.
وعن علي - رضي الله عنه - أن يرفع يديه في التكبير إلى نحره، وهو مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: استقبل القبلة مكة بنحرك، وهو قول الفراء، والكلبي وأبي الأحوص.
قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: منازلنا تتناحر أي تتقابل نحر هذا بنحر هذا.
وقال ابن الأعرابي: هو انتصاب الرجل في الصلاة بإزاء المحراب، من قولهم: منازلهم تتناحر، أي: تتقابل.
[وعن عطاء: أنه أمره أن يستوي بين السجدتين جالساً حتى يبدو نحره.
وقال محمد بن كعب القرظي: يقول: إن ناساً يصلون لغير الله، وينحرون لغير الله - تعالى - فقد أعطيناك الكوثر، فلا تكن صلاتك ولا نحرك إلا لله تعالى.
والنَّحر في الإبل بمنزلة الذَّبح في البقر والغنم].
قوله: { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ }. يجوز أن يكون "هُوَ" مبتدأ و "الأبتر" خبره، والجملة خبر "إن"، وأن يكون فصلاً.
وقال أبو البقاء: "أو توكيد"، وهو غلط؛ لأن المظهر لا يؤكد بالمضمر.
والأبترُ: الذي لا عقب له، وهو في الأصل: الشيء المقطوع، من بترهُ، أي: قطعه.
وحمار أبتر: لا ذنب له، ورجل أباتر - بضم الهمزة -: الذي يقطع رحمه.
قال: [الطويل]

5327- لَئِيمٌ نَزتْ فِي أنْفهِ خُنزُوانَةٌ عَلى قَطْعِ ذِي القُرْبَى أحَذُّ أباتِرُ

وبتر - بالكسر -: انقطع ذنبه.
قال أهل اللغة: الأبتر من الرجال: من لا ولد له ومن الدواب: الذي لا ذنب له.
[وكل من انقطع من الخير أثره، فهو أبتر. والبترُ: القطع بترت الشيء بتراً قطعته قبل الإتمام، والانبتار: الانقطاع، والباتر: السيف القاطع].
وفي الحديث:
"مَا هَذهِ البُتَيْرَاء؟" لمن أوتر بركعة واحدة، فأنكر عليه ابن مسعود.
وخطب زياد خطبة بتراء، لم يذكر الله تعالى، ولا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم. وكان للنبي درع يقال لها: "البتراء" سميت بذلك لقصرها وقال ابن السكيت الأبتران: العِيْرُ والعبد، سيما بذلك لقلة خيرهما.
[والبتريّة فرقة من الزيدية نسبوا إلى المغيرة بن سعد، ولقبه الأبتر].
وقرأ العامة: "شَانِئك" بالألف، اسم فاعل بمعنى الحال، أو الاستقبال أو الماضي.
وقرأ ابن عبَّاس: "شنئك" بغير ألف.
فقيل: يجوز أن تكون بناء مبالغة كـ "فعال" و "مفعال"، وقد أثبته سيبويه؛ وأنشد: [الكامل]

5328- حَذِرٌ أموراً لا تَضِيرُ، وآمِنٌ ما ليْسَ مُنْجِيَهُ مِنَ الأقْدَارِ

وقول زيد الخيل: [الوافر]

5329- أتَانِي أنَّهُمْ مَزقُونَ عِرْضِي جحَاشُ الكِرمَليْنِ لهَا قَديدُ

[فإن كان بمعنى الحال، والاستقبال، فإضافته لمفعوله من نصب، وإن كان بمعنى المضي فهي لا من نصب.
وقيل: يجوز أن يكون مقصوراً من فاعل كقولهم: بر وبار، وبرد وبارد].
فصل في أقوال العلماء في الآية
اختلف المفسرون [في المراد] بقوله تعالى: { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ } فقيل: هو العاص بن وائل، وكانت العرب تسمي من له بنون، وبنات، ثم مات البنون، وبقي البنات: أبتر.
فقيل: إن العاص وقف مع النبي صلى الله عليه وسلم يكلمه، فقال له جمع من صناديد قريش: مع من كنت واقفاً؟ فقال: مع ذلك الأبتر، وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من خديجة - رضي الله عنها - فأنزل الله تعالى: { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ } أي: المقطوع ذكره من خير الدنيا، والآخرة.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان أهل الجاهلية، إذا مات ابن الرجل قالوا: بُتر فلان، فلما توفي إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم خرج أبو جهل لأصحابه، فقال: بتر محمد، فأنزل الله تعالى إن شانئك هو الأبتر يعني أبا جهل.
وقال شهر بن عطية: هو عقبة بن أبي معيط.
وقال السديُّ وابن زيد: إن قريشاً كانوا يقولون لمن مات له ذكور ولده: قد بتر فلان، فلما مات لرسول الله صلى الله عليه وسلم القاسمُ بـ "مكة"، وإبراهيم بـ "المدينة"، قالوا: بتر محمد، أي: فليس من يقوم بأمره من بعده، فنزلت الآية.
وقيل: لما أوحى الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم دعا قريشاً إلى الإيمان قالوا: انبتر منا محمد أي خالفنا وانقطع عنا، فأخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أنهم هم المبتورون قاله عكرمة وشهر بن حوشب.
فصل في المعاني التي احتوتها هذه السورة
قال أهل العلم: قد احتوت هذه السورة على كونها أقصر سورة في القرآن على معان بليغة، وأساليب بديعة، منها: دلالة استهلال السورة على أنه - تعالى - أعطاه كثيراً من كثير.
ومنها: إسناد الفعل للمتكلم المعظم نفسه، ومنها: إيراده بصيغة الماضي تحقيقاً لوقوعه كـ "أتَى أمْرُ اللهِ".
ومنها: تأكيد الجملة بـ "إنَّ".
ومنها: بناء الفعل على الاسم ليفيد بالإسناد مرتين، ومنها: الإتيان بصيغة تدل على مبالغة الكثرةِ، ومنها حذف الموصوف بالكوثر؛ لأن في حذفه من فرط الإبهام ما ليس في إثباته.
ومنها: تعريفه بـ "أل" الجنسية الدالة على الاستغراق، ومنها: فاء التعقيب الدالة على التسبب كما تقدم في "الأنعام" سبب الشكر والعبادة.
ومنها: التعريض بمن كانت صلاته ونحره لغير الله تعالى.
ومنها: أن الأمر بالصلاة إشارة إلى الأعمال الدينية التي هي الصلاة وأفضلها كالأمر بالنَّحر.
ومنها: حذف متعلق "انْحَرْ" إذ التقدير: فصلِّ لربِّك وانحر له.
ومنها: مراعاة السجع، فإنه من صناعة البديع العاري عن التكلُّف.
ومنها: قوله تعالى: { لِرَبِّكَ } في الإتيان بهذه الصفة دون سائر صفاته الحسنى دلالة على أنه المربِّي، والمصلح بنعمه، فلا يلتمس كلَّ خير إلا منه.
ومنها: الالتفات من ضمير المتكلم إلى الغائب في قوله تعالى: { لِرَبِّكَ }.
ومنها: جعل الأمر بترك الاحتمال للاستئناف, وجعله خاتمة للإعراض عن الشانئ, ولم يسمه ليشمل كلَّ من اتصف - والعياذ بالله - بهذه الصفة القبيحة, وإن كان المراد به شخصاً معيناً, لَعَيَّنَه الله تعالى.
ومنها: التنبيه بذكر هذه الصفة القبيحة، على أنه لم يتصف إلا بمجرد قيام الصفةِ به، من غير أن يؤثر في من شنأه شيئاً - ألبتة - لأن من شنأ شخصاً، قد يؤثر فيه شنؤه.
ومنها تأكيد الجملة بـ "إنَّ" المؤذنة بتأكيد الخبر، ولذلك يتلقى بها القسم، وتقدير القسم يصلح هاهنا.
ومنها: الإتيان بضمير الفصل المؤذن بالاختصاص والتأكيد إن جعلنا "هُوَ" فصلاً، وإن جعلناه مبتدأ فكذلك يفيد التأكيد إذ يصير الإسناد مرتين.
ومنها: تعريف الأبتر بـ "أل" المؤذنة بالخصوصية بهذه الصفة، كأنه قيل: الكامل في هذه الصفة.
ومنها: إقباله تعالى على رسوله بالخطاب، من أول السورة إلى آخرها.
روى الثعلبي عن أبيّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ قَرَأ: { إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ ٱلْكَوْثَرَ } سقاه اللَّـهُ - تعالى - من أنهار الجنَّةِ, وأعطي مِنَ الأجْرِ عَشْر حسناتٍ, بعَددِ كُلِّ قربَانٍ قرَّبهُ العبادُ في كُلَّ عيدٍ أو يُقرِّبُونَهُ" .
وعن مكحول - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَرَأ: { إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ ٱلْكَوْثَرَ } كَانَ لَهُ ما بيْنَ المَشرِقِ والمَغربِ أبعِرةٌ، على كُلِّ كرَاريسُ، كُل كرَّاس مثلُ الدُّنيَا ومَا فيهَا، كتب بدقة الشَّعرِ ليْسَ فِيهَا إلاَّ صفة قصوره، ومنَازله في الجنَّةِ" .