قوله تعالى: { وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً } القصة.
الكلامُ على أوَّلها كالذي قبلها. والعامَّةُ على منع "ثمُود" الصَّرْف هنا لعلَّتين: وهما العلمية والتَّأنيث، ذهبُوا به مذهب القبيلة، والأعمش ويحيى بن وثاب صَرَفاه، ذهبا به مذهب الحي، وسيأتي بيان الخلافِ إن شاءَ الله تعالى.
قوله: { هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ } يجُوزُ أن تكون "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ، أي ابتداء إنشائكم منها إمَّا إنشاءُ أصلكم، وهو آدم - صلوات الله وسلامه عليه -.
قال ابنُ الخطيب: "وفيه وجهٌ آخر وهو أقربُ منه؛ وذلك لأنَّ الإنسان مخلوقٌ من المنيّ ومن دم الطمث، والمنيُّ إنما تولد من الدَّم، فالإنسان مخلوق من الدَّم، والدَّم إنما تولد من الأغذية، والأغذيةُ إما حيوانية وإما نباتية، والحيوانات حالها كحال الإنسان؛ فوجب انتهاء الكل إلى النبات والنبات أنما تولد من الأرض؛ فثبت أنه تعالى أنشأنا من الأرض".
أو لأن كل واحد خلق من تربته؛ أو لأن غذائهم وسبب حياتهم من الأرض.
وقيل: "من" بمعنى "في" ولا حاجة إليه.
قوله: { وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } أي جعلكم عمَّارها وسكانها. قال الضحاكُ: "أطَالَ أعماركم فيها". وقال مجاهدٌ: أعمركم من العمرى. أي جعلها لكم ما عِشْتُمْ. وقال قتادةُ - رضي الله عنه -: "اسكنكم فيها". قال ابنُ العربي: "قال بعضُ علمائنا: الاستعمارُ: طلبُ العمارة، والطلب المعلق من الله - تعالى - على الوجوب، قال القاضي أبو بكرٍ: تأتي كلمة استفعل في لسانِ العربِ على معانٍ منها: استفعل بمعنى: طلبُ الفعل كقوله: اسْتَحْمَلْتُه أي: طلبت من حملاناً، وبمعنى اعتقد؛ كقوله: استسهلت هذا الأمر اعتقدته سهلاً، أو وجدتُه سهلاً، واستعظمتهُ أي: وجدته عظيماً، وبمعنى أصبت كقوله: استجدته أي: أصبته جيداً، وبمعنى "فَعَلَ"؛ كقوله: قرَّ في المكانِ، واستقر، قالوا وقوله: [ { يَسْتَهْزِءُونَ } [الأنعام:5] و { { يَسْتَسْخِرُونَ } [الصافات:14] منه، فقوله تعالى: { وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } أي: خلقكم لعمارتها، لا على معنى: استجدته واستسهلته، أي: أصبته جيداً، وسهلاً، وهذا يستحيل] في حقِّ الخالق، فيرجع إلى أنَّه خلق لأنه الفائدة؛ وقد يعبّر عن الشيء بفائدته مجازاً، ولا يصحّ أن يقال إنه طلبٌ من الله لعمارتها، فإن هذا لا يجوز في حقه" ويصحُّ أن يقال: استدعى عمارتها، وفي الآية دليل على الإسكان والعُمْرَى.
ثم قال: { فَٱسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ } وقد تقدَّم تفسيره. { إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ } أي: أقربُ بالعلم والسمعِ "مجيب" دعاء المحتاجين بفضله، ورحمته.
ولمَّا قرَّر صالح هذه الدلائل { قَالُواْ يٰصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـٰذَا } أي: كُنَّا نَرْجُو أن تكون سيّداً فينا. وقيل: كُنَّا نَرْجُو أن تعُود إلى ديننا، وذلك أنَّهُ كان رجلاً قوي الخاطر وكان من قبيلتهم، فقوي رجاؤهُم في أن ينصر دينهم، ويقرِّرُ طريقتهم، فلمَّا دعاهم إلى الله وترك الأصنام زعموا أنَّ رجاءهم انقطع منه فقالوا: { أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } من الآلهة، فتمسَّكُوا بطريق التقليد. ونظير تعجُّبهم هذا ما حكاهُ الله - تعالى - عن كفَّار مكَّة في قولهم: { { أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ص:5].
قوله: { وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ } مما تدعونا إليه مريب هذا هو الأصل، ويجوز "وإنَّا" بنونٍ واحدةٍ مشدَّدة كما في السورة الأخرى [إبراهيم:9]. وينبغي أن يكون المحذوفُ النُّونَ الثَّانية من "إنَّ"؛ لأنَّه قد عُهد حذفها دون اجتماعها مع "نا"، فحذفها مع "نا" أولى، وأيضاً فإنَّ حذف بعض الأسماءِ ليس بسهلٍ وقال الفرَّاءُ: "مَنْ قال "إنَّنَا" أخرج الحرف على أصله؛ لأنَّ كتابة المتكلمين "نَا" فاجتمع ثلاثُ نونات، ومن قال: "إنا" استثقل اجتماعها؛ فأسقط الثالثة، وأبقى الأوليين" انتهى. وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك.
قوله: "مُرِيبٍ" اسم فاعل من "أرَاب" يجوز أن يكون متعدِّياً من "أرابهُ"، أي: أوقعه في الرِّيبة، أو قاصراً من "أرابَ الرَّجلُ" أي: صار ذا ريبة. ووصف الشَّكُّ بكونه مُريباً بالمعنيين المتقدمين مجازاً.
والشَّك: أن يبقى الإنسان متوقفاً بين النَّفْي والإثبات، والمُريب: هو الذي يظن به السوء والمعنى: أنَّهُ لَمْ يترجَّحْ في اعتقادهم فساد قوله وهذا مبالغةٌ في تزييف كلامهِ.
قوله: { أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةً } تقدَّم نظيره [يونس:50]، والمفعول الثَّاني هنا محذوف تقديره: أأعْصيه ويدل عليه "إنْ عَصَيْتُه". وقال ابنُ عطيَّة: هي مِنْ رؤيةِ القَلْبِ، والشَّرطُ الذي بعده وجوابه يَسُدُّ مسدَّ مفعولين لـ "أرَأيْتُم".
قال أبُو حيَّان: "والذي تقرَّر أنَّ "أرَأيْتَ" ضُمِّن معنى "أخْبِرْنِي"، وعلى تقدير أن لا يُضَمَّن، فجملةُ الشَّرط والجواب لا تسدُّ مسدَّ مفعولي "عَلِمْتُ" وأخواتها".
قوله: { إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي } ورد بحرف الشَّك، وكان على يقين تام في أمره إلاَّ أنَّ خطاب المخالف على هذا الوجه أقرب إلى القبُولِ؛ فكأنه قال: قدِّرُوا أنِّي على بيِّنةٍ من ربِّي وأنِّي نبيٌّ على الحقيقةِ، وانظُرُوا إن تابعتكم، وعصيتُ أمر ربِّي، فمن يمنعني من عذابِ الله فما تزيدُونَنِي على هذا التقدير غير تَخْسِير.
قوله: "غَيْرَ تَخْسِير" الظاهرُ أنَّ "غَيْرَ" مفعولٌ ثانٍ لـ "تَزِيدُونَنِي".
قال أبُو البقاءِ: "الأقْوَى هنا أن تكُون "غير" استثناءً في المعنى، وهو مفعولٌ ثانٍ لـ "تَزِيدُونَنِي"، أي: فمَا تَزِيدُونَنِي إلاَّ تَخْسِيراً. ويجوز أن تكون "غير" صفةً لمفعولٍ محذوفٍ، أي شيئاً غير تخسير، وهو جيد في المعنى.
ومعنى التَّفْعِيل هنا النسبةُ، والمعنى: غير أن أخسركُم، أي: أنسبكم إلى التَّخْسير، قال الزمخشريُّ.
قال الحسنُ بن الفضلِ: لم يكنْ صالح في خسارةٍ حتى قال: { فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ } وإنَّما المعنى: فما تَزِيدُونَنِي بما تقُولُون إلا نسبتي إيَّاكم إلى الخسارةِ.
والتفسيقُ والتَّفْجِيرُ في اللغة: النسبة إلى الفِسْقِ والفُجُور، فكذلك التَّخْسيرُ هو النسبة إلى الخُسرانِ.
وقيل: هو على حذفِ مضافٍ، أي: غير بضارِّه تخسيركم، قالهُ ابن عبَّاسٍ.
قوله تعالى: { وَيٰقَوْمِ هَـٰذِهِ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمْ آيَةً } الآية.
"لَكُمْ" في محلِّ نصبٍ على الحالِ من "آيةً"؛ لأنَّهُ لو تأخَّرَ لكان نَعْتاً لها، فلمَّا قُدِّم انتصب حالاً.
قال الزَّمخشريُّ: فإن قلت: بِمَ تتعلَّقُ "لَكُمْ"؟ قلتُ: بـ "آيَةٌ" حالاً منها متقدمة، لأنَّها لو تأخَّرت لكانت صفة لها، فلما تقدَّمت انتصبت على الحالِ.
قال أبُو حيَّان: وهذا متناقضٌ لأنَّهُ من حيثُ تعلق "لكُم" بـ "آية" كان معمولاً لـ "آية" وإذا كان معمولاً لها امتنع أن يكون حالاً منها، لأنَّ الحال تتعلَّقُ بمحذوفٍ.
قال شهابُ الدِّين -رحمه الله -: ومثلُ هذا كيف يعترض به على مثلِ الزمخشري بعد إيضاحه المعنى المقصود بأنه التعلُّقُ المعنويُّ؟.
و "آيةً" نصب على الحالِ بمعنى علامة، والنَّاصبُ لها: إمَّا "ها" التَّنبيه، أو اسمُ الإشارة، لما تضمَّناهُ من معنى الفعل، أو فعلٍ محذوف.
فصل
اعلم أنَّ العادة فيمن يدَّعي النبوة عند قوم يعبدون الأصنام لا بُدَّ وأن يطلبوا منه معجزة، فطلبوا منه أن يخرج ناقة عشراء من صخرةٍ معينةٍ، فدعا صالحٌ؛ فخرجت ناقة عشراء، وولدت في الحال ولداً مثلها.
وهذه معجزة عظيمة من وجوه:
الأول: خلقُهَا من الصَّخْرة.
وثانيها: خَلْقُها في جوف الجبل ثم شق عنها الجبل.
وثالثها: خلقها على تلك الصُّورة دفعة واحدة من غير ولادة.
ورابعها: أنَّهُ كان لها شرب يوم.
وخامسها: أنه كان يحصلُ منها لبنٌ كثير يكفي الخلق العظيم.
ثم قال: { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِيۤ أَرْضِ ٱللَّهِ } من العشب، والنبات، فليس عليكم مؤنتها.
وقرىء "تأكلُ" بالرفع: إمَّا على الاستئناف، وإمَّا على الحالِ.
{ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوۤءٍ }، ولا تصيبوها بعقر "فيَأخُذَكُمْ" إن قتلتموها "عذابٌ قريبٌ" يريد اليوم الثالث.
{ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ } لهُم صالح: { تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ } أي: في دياركم، فالمراد بالدَّار: البلد، وتُسَمَّى البلاد بالدِّيار، لأنَّه يدار فيها، أي: يتصرف، يقال: ديار بكر أي: بلادهم.
وقيل: المراد بالدِّيار: دار الدُّنيا، وقيل: هو جمع "دارة" كساحة وساحٍ وسُوحٍ، وأنشد ابنُ أبي الصَّلْت: [الوافر]
2980- لَهُ دَاعٍ بِمَكَّة مُشْمَعِلٌّ وآخَرُ فوْقَ دَارَتِهِ يُنَادِي
فصل
قال القرطبيُّ: "استدلَّ العلماءُ بتأخير الله العذاب عن قوم صالح ثلاثة أيام على أنَّ المسافر إذا لمْ يُجمع على إقامة أربع ليالٍ قصر؛ لأنَّ الثلاثة أيام خارجة عن حكم الإقامة".
والتَّمتع: التَّلذُّذ بالمنافع والملاذ. { ذٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ }، [أي: غير كذب].
قوله: "مَكْذُوب" يجُوزُ أن يكون مصدراً على زنة مفعولٍ، وقد جاء منه أليفاظ نحو: المَجْلود والمعقُول والمَيْسُور والمَفْتُون، ويجوزُ أن يكون اسم مفعولٍ على بابه، وفيه حينئذٍ تأويلان:
أحدهما: غير مكذوبٍ فيه، ثم حذف حرف الجر فاتَّصل الضَّمير مرفُوعاً مستتراً في الصِّفة ومثله "يَوْمٌ مَشْهُودٌ" وقول الشاعر: [الطويل]
2981- ويَوْمَ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وعَامِراً قَلِيلٌ سِوَى الطَّعْنِ النِّهَالِ نوافِلُه
والثاني: أنه جُعِل هو نفسُه غير مكذوب؛ لأنَّه قد وُفي به، فقد صُدِّق.
فصل
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "لمَّا أمهلهم ثلاثة أيَّام، قالوا وما علامةُ ذلك؟ قال: تصبحوا في اليوم الأوَّلِ وجوهكم مصفرة، وفي اليوم الثاني مُحْمَرة وفي اليوم الثالث مسودة، ثم يأتيكم العذابُ في اليوم الرَّابع فكان كما قال".
فإن قيل: كيف يُعقل أن تظهر هذه العلامات مطابقة لقول صالحٍ، ثم يبقون مصرين على الكفر؟ فالجواب: ما دامت الأمارات غير بالغة إلى حدِّ اليقينِ لم يمتنع بقاؤهم على الكفر وإذا صارت يقينيَّة قطعيَّة، فقد انتهى الأمرُ إلى حدِّ الإلجاء، والإيمان في ذلك الوقت غير مقبول.
قوله { فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } أي: عذابنا، وتقدَّم الكلامُ على مثله.
قوله: { ومِنْ خِزْيِ } متعلِّقٌ بمحذوفٍ، أي: ونجَّيْنَاهم من خزي. وقال الزمخشريُّ: فإن قلت: علام عطف؟ قلت: على "نَجَّيْنَا"؛ لأنَّ تقديره: ونجَّيناهم من خزي يومئذٍ كما قال: { { وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [هود:58] أي: وكانت التنجيةُ من خزي. وقال غيرهُ: "إنَّه متعلقٌ بـ "نَجَّيْنَا" الأول".
وهذا لا يجُوزُ عند البصريين غير الأخفش؛ لأنَّ زيادة الواو غيرُ ثابتة.
وقرأ نافعٌ والكسائيُّ بفتح ميم "يومئذٍ" على أنَّها حركةُ بناءٍ لإضافته إلى غير متمكن؛ كقوله: [الطويل]
2982- عَلَى حينَ عَاتَبْتُ المشيبَ على الصِّبَا فقُلْتُ ألمَّا أصْحُ والشَّيبُ وَازعُ
وقرأ الباقون: بخفض الميم.
فمن قرأ بالفتح فعلى أنَّ "يَوْم" مضاف إلى "إذْ"، و "إذْ" مبني، والمضاف إلى المبني يجوزُ جعله مبنياً، ألا ترى أنَّ المضاف يكتسب من المضاف إليه التعريف فكذا ههنا، وأمَّا الكسرُ: فالسَّبب فيه أنَّهُ يضاف إلى الجملة من المبتدأ والخبر، تقولُ: "جئتك إذ الشَّمس طالعة"، فلمَّا قطع عنه المضاف إليه نون ليدل التنوين على ذلك ثمَّ كسرت الذَّال لسكونها وسكون التنوين.
وأما قراءةُ الكسر فعلى إضافة "الخِزْيِ" إلى "اليوم"، ولم يلزم من إضافته إلى المبني أن يكون مبنيّاً لأنَّ إضافته غير لازمة.
وكذلك الخلافُ جارٍ في { { سَأَلَ سَآئِلٌ } [المعارج:11].
وقرأ طلحة وأبانُ بن تغلب بتنوين "خِزْي" و "يَوْمَئِذ" نصب على الظَّرف بـ "الخِزْي"، وقرأ الكوفيون ونافع في النَّمل { { مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ } [الآية:89] بالفتح أيضاً، والكوفيون وحدهم بتنوين "فَزَعٍ" ونصب "يَومئذ" به.
ويحتملُ في قراءة من نوَّن ما قبل "يومئذ" أن تكون الفتحةُ فتحة إعرابٍ، أو فتحة بناء، و "إذْ" مضافةٌ لجملة محذوفة عُوِّض عنها التَّنوينُ تقديره: إذ جاء أمرنا.
وقال الزمخشريُّ: ويجوزُ أن يراد يومُ القيامة، كما فُسِّرَ العذاب الغليظ بعذاب الآخرة.
قال أبُو حيان: وهذا ليس بجيِّدٍ؛ لأنه لم يتقدَّم ذكرُ يومِ القيامة، ولا ما يكونُ فيها، فيكون هذا التَّنوين عوضاً عن الجملةِ التي تكون يومَ القيامةِ.
قال شهابُ الدِّينِ -رحمه الله -: قد تكونُ الدَّلالةُ لفظيةً، وقد تكون معنويةً، وهذه من المعنوية.
والخِزْي: الذّل العظيم حتى يبلغ حدَّ الفضيحة كما قال الله تعالى في المحاربين: { ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي ٱلدُّنْيَا } [المائدة:33].
ثم قال: { إِنَّ رَبَّكَ هو القوي العزيز } وإنَّما حسن ذلك، لأنَّه تعالى بيَّن أنه أوصل العذاب إلى الكافر وصان أهل الإيمان عنه، وهذا لا يصحُّ إلاَّ من القادر الذي يقدر على قَهْرِ طبائع الأشياءِ، فيجعل الشَّيء الواحد بالنِّسبة إلى إنسان بلاء وعذاباً، وبالنسبة إلى إنسان آخر راحة وريحاناً.
قوله: { وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ }: حُذِفت تاءُ التَّأنيث: إمَّا لكونِ المؤنث مجازياً، أو للفصلِ بالمفعولِ أو لأنَّ الصَّيحة بمعنى الصياح، والصَّيْحةُ: فعله يدل على المرَّة من الصِّياح، وهي الصوتُ الشديدُ: صاح يصيح صِيَاحاً، أي: صوَّت بقوة.
قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما -: المُرادُ الصَّاعقة. وقيل: صيحة عظيمة هائلةٌ سمعوها فهلكوا جميعاً فأصبحوا جاثمين في دورهم.
وجثومهم: سقوطهم على وجوههم.
وقيل: الجثومُ: السُّكون، يقالُ للطَّيْرِ إذا باتَتْ في أوكارها إنها جثمت، ثم إنَّ العرب أطلقوا هذا اللفظ على ما لا يتحرك من الموات.
فإن قيل: ما السَّببُ في كون الصَّيْحةِ موجبة للموت؟.
فالجوابُ من وجوه: أحدها: أنَّ الصَّيحة العظيمة إنما تحدثُ عن سببٍ قوي يوجب تموج الهواء، وذلك التموج الشديد ربما يتعدَّى إلى صمخ الإنسان فيُمزق غشاء الدِّماغِ فيورثُ الموت.
وثانيها: أنَّه شيء مهيب فتحدث الهيبة العظيمة عند حدوثها والأعراض النَّفسانية إذا قويت أوجبت الموت.
وثالثها: أنَّ الصَّيحة العظيمة إذا حدثت من السحاب فلا بد وأن يصحبها برقٌ شديدٌ محرق، وذلك هو الصَّاعقة التي ذكرها ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -.
ثم قال تعالى: { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ } كأنَّهُم لم يُوجدوا. والمغنى المقام الذي يقيمُ الحي فيه يقال: غني الرَّجُلُ بمكان كذا إذا أقام به.
قوله: { أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ } قرأ حمزة وحفص هنا { أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ }، وفي الفرقان: { { وَعَاداً وَثَمُودَاْ } [الآية:38] وفي العنكبوت: { { وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم } [الآية:37]، وفي النجم: { { وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَىٰ } [الآية:51] جميعُ ذلك بمنع الصرف، وافقهم أبو بكر على الذي في النَّجْم.
وقوله: { أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ } منعه القراء الصرفَ إلاَّ الكسائيَّ فإنَّهُ صرفه، وقد تقدَّم أنَّ من منع الصرف جعله اسماً للقبيلةِ، ومن صرف جعله اسماً للحيِّ، أو إلى الأبِ الأكبرِ؛ وأنشد على المنع: [الوافر]
2983- ونَادَى صالحٌ يَا ربِّ أنْزِلْ بآلِ ثمُودَ مِنْكَ غداً عَذَابَا
وأنشد على الصَّرف قوله: [الطويل]
2984- دَعَتْ أمُّ عَمْرٍو أمْرَ شرٍّ عَلِمْتُهُ بأرْضِ ثمُودٍ كُلِّهَا فأجَابَهَا
وقد تقدَّم الكلامُ على اشتقاق هذه اللفظة في سورةِ الأعراف.