التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُوۤاْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَـٰذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
١٥
-يوسف

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ } الآية: لا بُدَّ من الإضمار في هذه الآية في موضعين:
الأول: التقدير: قالوا: لئن أكلهُ الثئب ونحن عصبةٌ إنَّا إذاً لخاسرون فأذن له، وأرسله معهم، ثم يتصل به قوله ـ تعالى ـ: { فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ }.
الثاني: في جواب { فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ } أوجه:
أحدها: أنه محذوف، أي: عرفناه، وأوصلنا إليه الطمأنينة، وقدره الزمخشريُّ: "فعلوا به ما فعلوا من الأذى" وقدره غيره: عظمت فتنتهم، وآخرون: جعلوه فيها، وهذا أولى؛ لدلالة الكلام عليه.
الثاني: أن الجواب مثبت، وهو قوله:
{ قَالُواْ يَأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا } [يوسف:17] أي:لمَّا كان كَيْتَ وكَيْتَ، قالوا. وفيه بعد؛ لبعد الكلام من بعضه.
الثالث: أن الجواب هو قوله: "وأوْحَيْنَا" والواو فيه زائدة، أي: فلما ذهبوا به أوحينا، وهو رأي الكوفيين، وجعلُوا من ذلك قوله ـ تعالى ـ:
{ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } [الصافات:103] أي: تله، "ونَاديْنَاهُ"، وقوله عز وجل: { حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [الزمر:73] وقول امرىء القيس: [الطويل]

3064ـ فَلَمَّا أحَزْنَا سَاحةَ الحَيِّ وانْتحَى بِنَا بَطْنُ حِقْفٍ [ذِي رُكامٍ عَقَنْقَلِ]

تقدم أي فلما أجزنا انتحى وهو كثيرٌ عندهم بعد "لمَّا".
قوله: "أن يَجعلُوهُ"مَفْعُول"أجْمعَوا" أي: عزمُوا على أن يجعلوه؛ لأنه يتعدَّى بنفسه، وبـ"عَلَى" فإنه يحتمل أن يكون على حذف الحرف، وألاّ يكون، فعلى الأول: يحتمل موضعه النصب والجرَّ، وعلى الثاني: يتعين النَّصب، والجعل يجوز أن يكون بمعنى: الإلقاء، وأن يكون بمعنى: التَّصيير فعلى الأول: يتعلَّق في "غَيَابةِ" بنفس الفعل قبله، وعلى الثاني: بمحذُوف، والفعل من قوله: "وأجْمَعُوا" يجوز أن يكُون معطوفاً على ما قبله، وأن يكُون حالاً، و"قَدْ" معه مضمرة عند بعضهم، والضمير في "إليْهِ" الظاهر عوده على يوسف، وقيل: يعود على يعقُوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ.
وقرأ العامَّة: "لتُنَبئَنَّهُمْ" بتاء الخطاب، وقرأ ابن عمر: بياء الغيبة، أي: الله ـ سبحانه وتعالى ـ.
قال أبو حيَّان: "وكذا في بعض مصاحف البصرة" وقد تقدَّم أن النقط حادث فإن قال: مصحف حادث غير مصحف عثمان رضي الله عنه فليس الكلام في ذلك.
وقرأ سلاَّم: "لنُنَبئَنَّهُمْ" بالنون، وهذا صفة لقولهم. وقيل: بدل. وقيل: بيان.
قوله: { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } جملة حالية، يجوز أن يكون العامل فيها "أوحينا" أي: أوحينا إليه من غير شعور إخوته ـ بالوحي، وأن يكون العامل فيها "لتُنَبئَنَّهُمْ" أي تخبرهم وهم لا يعرفونكم لبعد المدة وتغير الأحوال.
فصل
في المراد بقوله: { وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ } قولان:
الأول: المراد منه الوحي والنبوة والرسالة، وهو قول أكثر المحققين، ثم اختلف هؤلاء في أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ هل كان في ذلك الوقت بالغاً أو كان صبياً؟.
قال بعضهم: كان بالغاً وكان ابن سبع عشرة سنة. وقال آخرون: كان صغيراً إلا أن الله - تعالى ـ أكمل عقله وجعله صالحاً لقبول الوحي والنبوة كما في حق عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين قالوا:
{ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً } [مريم:29] فأجابهم بقوله: { إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً } [مريم:30].
والقول الثاني: أن المراد بهذا الوحي: الإلهام، كقوله
{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ } [القصص:7] { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ } [النحل:68]. والأول أولى؛ لأنه الظاهر من الوحي.
فإن قيل: كيف يجعله نبياً في ذلك الوقت وليس هناك أحد يبلغه الرسالة؟.
فالجواب: لا يمتنع أن يشرفه الله ـ تعالى ـ بالوحي ويأمره بتبليغ الرسالة بعد أوقات ويكون فائدة تقديم الوحي تأنيسه وزوال الغم والوحشة عن قلبه والفائدة في إخفاء ذلك [الوحي] عن إخوته: أنهم لو عرفوه فربما ازداد حسدهم فكانوا يقصدون قتله.
فصل
إنما حملنا كقوله ـ تبارك وتعالى ـ { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } بأنك يوسف، أي: لا يعرفونك لبعد المدة وتغير الأحوال، لأن هذا أمراً من الله تعالى ليوسف في أن يستر نفسه عن أبيه [وأن لا يخبره بأحوال نفسه، فلهذا السبب كتم أخبار نفسه عن أبيه] طول تلك المدة مع علمه بوجد أبيه عليه خوفاً من مخالفة أمر الله تعالى، فصبر على تجرع تلك المرارة، وكان الله سبحانه قد قضى على يعقوب أن يوصل إليه تلك الغموم الشديدة والهموم العظيمة ليوصله إلى الدرجات العالية التي لا يمكن الوصل إليها إلا بتحصيل المحن الشديدة.