التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَآءَهُ ٱلرَّسُولُ قَالَ ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ
٥٠
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوۤءٍ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ ٱلْعَزِيزِ ٱلآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ
٥١
ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ ٱلْخَائِنِينَ
٥٢
وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٥٣
-يوسف

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ } الآية.
"اعلم أنَّ الساقي لما رجع إلى الملك، وأخبره بما أفتاه يوسف من تأويل رؤياه، وعرف الملك أنَّ الذي قاله كائنٌ قال ائتُونِي به، فلمَّا جَاءه الرسُول قال: أجب الملكَ، فأبى أن يخرج مع الرسول، حتَّى تظهر براءته، فقال للرسول: ارْجِعْ إلى ربِّكَ، أي: سيِّدك، قال ـ عليه الصلاة السلام ـ: عَجِبْتُ مِن يُوسفَ وكَرمهِ وصَبْرهِ واللهُ يَغْفرُ لهُ حِينَ سُئِلَ عَنِ البَقراتِ العِجِافِ والسِّمانِ، ولوْ كُنْتُ مَكانَهَ ما أخْبرْتُهمْ حتَّى أشْترطَ أنْ يُخْرِجُونِي ولقَدْ عِجِبْتُ منهُ حِينَ أتاهُ الرَّسولُ فقَال لَهُ: ارْجِعْ إلى ربِّك، ولوْ كُنْتُ مَكَانَهُ ولَبِثْتُ في السِّجن طول ما لبِثَ لأسْرعْتُ إلى الإجَابةِ وبَادرتُهُم البَابَ" .
قال ابن الخطيب: الذي فعله يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ من الصَّبر، والتَّوقٌُّف إلى أن يفحص الملك عن حاله، هو الأليقُ بالحزم والعقل، وبيانه من وجوه:
الأول: أنه لو خرج في الحالِ، فربما كان يبقى في قلب الملك أثر ما، فلما التمس من الملكِ أن يفحص عن حال تلك الواقعةِ، دلَّ ذلك على براءته من التهمةِ، فبعد خروجه لا يقدر أحدٌ أن يلطِّخه بتلك الرذيلة، وأن يتوصل بها إلى الطعن فيه.
والثاني: أن الإنسان الذي يبقى في [السجن] اثنتي عشرة سنةً، إذا طلبه الملك، وأمر بإخراجه، فالظاهر أنه يبادرُ إلى الخروج، فحيث لم يخرج، عرف منه أنه في نهايةِ العقلِ، والصَّبر، والثباتِ؛ وذلك [يكون] سبباً لاعتقادِ البراءةِ فيه عن جميع أنواع التهم، وأن يحكم بأنَّ كلَّ ما قيل فيه، كان كذباً.
الثالث: أن التماسهُ من الملك أن يفحص عن حاله من تلك النسوةِ، يدل ـ أيضاً ـ على شدَّة طهارته، إذ لو كان ملوثاً بوجه ما، لكان يخاف أن يذكر ما سبق.
الرابع: أنه قال للشَّرابي: "اذكُرْنِي عندَ ربِّكَ" فبقي بسبب هذه الكلمة في السجن [بضع] سنين، وهنا طلبهُ الملك فلم يلتفت إليه، ولم يقمْ لطلبه وزناً، واشتغل بإظهار براءته من التُّهمةِ، ولعلَّه كان غرضه ـ عليه الصلاة والسلام ـ من ذلك ألاَّ يبقى في قلبه التفاتٌ إلى ردِّ الملك وقبوله، وكان هذا العمل جارياً مجرى التَّلافي، لما صدر منه من التوسُّلِ إليه، في قوله: "اذْكُرنِي عِندَ ربِّك"، وليظهر هذا المعنى لذلك الشرابي؛ فإنه هو الذي كان واسطةً في الحالين معاً.
قوله: { فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ } قرأ ابن كثير، والكسائي: "فَسَلهُ"، بغير همز، والباقون: بالهمز؛ وهما لغتان.
والعامة على كسر نونِ "النِّسوةِ" وضمها عاصم في رواية أبي بكرٍ ـ رضي الله عنهما ـ وليست بالمشهورة، وكذلك قرأها أبو حيوة.
وقرىء "اللاَّئِي" بالهمز، وكلاهما جمع لـ:"الَّتي"، و"الخَطْبُ": الأمْرُ والشَّأن الذي فيه خطرٌ؛ وأنشد [الطويل]

3115ـ ومَا المَرْءُ ما دَامتْ حُشَاشَةُ نَفْسهِ بمُدْرِك أطرْافِ الخُطوبِ ولا آلِ

وهو في الأصل مصدر: خَطَبَ يُخْطبُ وإنَّما يُخْطَبُ في الأمور العظام.
فصل ما في الآية من لطائف
أولها: أنَّ المعنى؛ قوله تعالى { فَاسْأَلْهُ } سئل الملك { مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ } ليعلم براءتي من تلك التهمة إلا أنَّه اقتصر على سؤال الملك عن تلك الواقعة؛ لئلاًَ يشتمل اللفظ على ما يجرى مجرى أمر الملك بعمل أو فعلٍ.
وثانيها: أنَّه لم يذكر سيدته مع أنها التي سعت في إلقائه في السجن الطويل، بل اقتصر على ذكر سائر النسوة.
وثالثها: أنَّ الظاهر أن أولئك النسوة نسبنه إلى عملٍ قبيحٍ عند الملك، فاقتصر يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ على مجرَّد قوله: { مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ }، وما شكى منهم على سبيل التَّعيين، والتفصيل.
ثم قال يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ { إنّ ربي بكيدهن عليم }.
وفي المراد بقوله "إنَّ ربِّي" وجهان:
أحدهما: أنه هو الله ـ تعالى ـ فإنه هو العالم بخفيَّات الأمور.
والثاني: المراد به الملك، وجعله ربًّا؛ لكونه مربِّياً، وفيه إشارةٌ إلى كون ذلك الملك عالماً بمكرهنَّ وكيدهنَّ.
واعلم أنَّ كيدهن في حقه يحتمل وجوهاً:
أحدها: أنَّ كل واحدٍ منهن طمعت فيه، فلما لم يجدن المطلوب أخذن يطعن فيه، وينسبنه إلى القبيح.
وثانيها: لعلَّ كلَّ واحدةٍ منهن بالغت في ترغيب يوسف في موافقته سيدته على مرادها، ويوسف علم أنَّ مثل هذه الخيانة في حقِ السَّيِّد المنعم لا تجوزُ.
وأشار بقوله: { إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } إلى مبالغتهنَّ في الترغيب في تلك الخيانة.
وثالثها: أنه استخرج منهنَّ وجوهاً من المكرِ والحيل في تقبيح صورة يوسف عند الملك، فكان المراد منهم اللفظ ذلك.
ثم إنه ـ تعالى ـ حَكَى أنَّ يوسف عليه السلام لما التمس من الملك ذلك، أمر الملكُ بإحْضَارهنَّ، وقال لهُنَّ: "مَا خَطْبُكُنَّ": ما شَأنُكُنَّ، وأمركنَّ "إذْ رَاودتُّنَّ يوسف عَنْ نَفْسِهِ"، وفيه وجهان:
الأول: أن قوله { إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ }، وإن كان صيغة جمع، فالمراد منها الواحد؛ كقوله ـ جلَّ ذكره:
{ ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } [آل عمران:173].
والثاني: أنَّ المراد منه خطابُ الجماعة، ثم هاهنا وجهان:
الأول: أنَّ كلَّ واحدة منهنَّ راودتْ يوسف عن نفسه.
والثاني: أنَّ كلَّ واحدةٍ منهنَّ راودتْ يوسف؛ لأجل امرأة العزيز، فاللفظ محتمل لكل هذه الوجوه.
وعند هذا السؤال { قلن حاشا لله ما علمنا عليه من سوء }، وهذا كالتأكيد؛ لما ذكرنا في أوَّل الأمر في حقه، وهو قولهنَّ:
{ مَا هَـٰذَا بَشَراً إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } [يوسف:31].
وقوله "إذْ رَوادتنَّ"، هذا الظرف منصوبٌ بـ "خَطْبُكُنَّ"؛ لأنه في معنى الفعل إذ المعنى: ما فعلتُنَّ، وما أردتنَّ به في ذلك الوقتِ.
وكانت امرأةُ العزيز حاضرة، وكانت تعلم أن هذه المناظرات، والتفحصات، إنما وقعت بسببها، ولأجلها. وقيل: إنَّ النسوة أقبلن على امرأة العزيز يقررنها.
وقيل: خَافتْ أن يَشْهدْنَ عليها؛ فأقرَّت، وقالت: { ٱلآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ } أي: ظهر، وتبيَّن: { أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ }، في قوله:
{ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } [يوسف:26].
هذه شهادةٌ جازمةٌ من تلك المرأة أنَّ يوسفَ ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ راعى جانب العزيز حيثُ قال: { ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن }؛ ولم يذكر تلك المرأة ألبتة؛ فعرفت المرأةُ أنَّهُ ترك ذكرها؛ رعايةً، وتعظيماً لجانبها، وإخفاءً للأمر عليها؛ فأرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن، فلا جرم كشفت الغطاء، واعترفت بأنَّ الذنب كُلَّه من جانبها، وأنَّ يوسف كان مُبَرّأ عن الكل.
حُكِيَ أنَّ امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي، فادَّعت عليه المهر، فأمر القَاضِي أن يَكْشفَ عَنْ وَجْهِها؛ حتَّى يتمَكَّنَ الشُّهودُ من إقَامةِ الشَّهادةِ، فقال الزَّوحُ: لا حَاجةَ إلى ذلِكَ؛ فإنِّي مقرٌّ بصَداقِهَا في دَعْواهَا، فقالت المرأةُ: أكْرمْتَنِي إلى هذا الحد؟ اشْهَدُوا أنِّي أبْرَأتُ ذمَّتهُ من كُلِّ حقِّ لِي عليْهِ.
قوله "الآنَ" منصوب بما بعده، و"حَصْحَصَ" معناه: تبيَّن وظهر بعد خفاءٍ، قاله الخليل ـرحمه الله ـ.
وقال بعضهم: هو مأخوذٌ من الحصَّة، والمعنى: بانتْ حصَّةُ الحق من حصَّة الباطل، كما تتميَّزُ حِصَصُ الأرَاضِي وغيرها، وقيل: بمعنى ثبت واستقرَّ.
وقال الرَّاغب: "حَصْحَصَ الحقُّ"، أي: وضَحَ ذلِكَ بانكِشافِ ما يُقهِره، وحصَّ وحَصْحَصَِ، نحو: كفَّ وكَفْكَفَ، وكَبَّ وكَبْكَبَ، وحصَّه: قطعهُ؛ إمَّا بالمباشرة وإمَّا بالحكمِ؛ فمن الأولِ قول الشاعر: [السريع].

3116ـ قَدْ حَصَّتِ البَيْضَةُ رَأسِي فَمَا .........................

ومنه: رجُلٌ أحَصّ: انقطع بعض شعره، وامرأةٌ حصَّاءُ، والحَصَّةُ: القطعة من الجملة، ويستعمل استعمال النصيب.
وقيل: هو مِنْ حَصْحَصَ البعير، إذا ألقى ثفناته؛ للإناخَةِ؛ قال الشاعر: [الطويل]

3117ـ فَحَصْحَصَ في صُمِّ القَنَا ثَفِنَاتِهِ ونَاءَ بِسلمَى نَوْءَة ثُمَّ صَمَّمَا

قوله تعالى: "ذَلِكَ" خبرُ مبتدإٍ مضمرٍ، أي: الأمرُ ذلك، و"لِيَعْلمَ"، متعلقٌ بضميرٍ، أي: أظهر ذلك؛ ليعلم، أو مبتدأ، وخبره محذوفٌ، أي: ذلك الذي صرَّحتُ به عن براءته، أمرٌ من الله لا بُدَّ منه، و"لِيَعْلمَ" متعلقٌ بذلك الخبر، أو يكون "ذَلِكَ" مفعولاً لفعلٍ مقدَّرٍ يتعلق به هذا الجار أيضاً، أي: فعل الله ذلك، أو فعلته أنا بتيسير الله.
قوله: "بِالغَيْبِ" يجوز أن تكون الباءُ ظرفية قال الزمخشريُّ: أي مكان الغيب، وهو الخفاء، والاستتارُ وراء الأبواب السبعة المغلقةِ، ويجوز أن تكون الباءُ للحالِ، إمَّا من الفاعل، على معنى: وأنا غائبٌ عنه خفي عن عينه.
وإمَّا من المعفولِ على معنى: وهو غائب عني خفي عن عيني.
"وأنَّ اللهَ" نسقٌ على "أنِّي"، أي: ليعلم الأمرينِ، وهذا من كلام يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وبه بدأ الزمخشري، كالمختار له.
وقال غيره: إنه من كلام امرأة العزيزِ، وهو الظَّاهرُ.
فإن قلنا: هو من كلام يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ فمتى قالهُ؟.
وروى عطاءٌ، عن ابن عبَّاسٍ ـ رضي الله عنهم ـ: أنَّ يوسف لما دخل على الملك، قال "ذلكَ"، وإنما ذكره بلفظِ الغيبة تعظيماً للملك عن الخطاب.
قال ابنُ الخطيب: "والأولى أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إنما قال ذلك عند عود الرسول إليه، لأنَّ ذكر هذا الكلام في حضرةِ الملك، سوء أدبٍ".
فإن قيل: هذه الخيانة لو وقعت، كانت في حقِّ العزيزِ، فكيف قال: { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ }؟.
فالجوابُ: قيل: المرادُ ذلك ليعلم الملك أنِّي لم أخنِ العزيز بالغيبِ، فتكون الهاءُ في "أخُنْهُ" تعود على العزيز.
وقيل: إنَّه إذا خان وزيره، فقد خانه من بعض الوجوه.
وقيل: إن الشرابي لما رجع إلى يوسف ـ عليه السلام ـ وهو في السجن ـ، قال: { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ }، العزيزُ { أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ }.
ثم ختم الكلام بقوله: { وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ ٱلْخَائِنِينَ }، ولعلَّ المراد منه: أني لو كنت خائناً، لما خلَّصني الله من هذه الورطةِ، وحيث خلصني منها، ظهر أنِّي كنت بريئاً مما نسبوني إليه.
وإن قلنا: إن قوله: { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ } كلام امرأة العزيز، فالمعنى: أني ولو أدخلت الذنب عليه عند حضوره، لكنني لم أدخل الذنب عليه عند غيبته؛ لأني لم أقلْ فيه وهو في السجن خلاف الحقِّ، ثم إنها بالغت في تأكيد هذا القول وقالت: { وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ ٱلْخَائِنِينَ }، أي: لما أقدمتُ على الكيدِ، والمكرِ، لا جرم افتضحْتُ؛ فإنه لمَّا كان بريئاً، لا جرم أظهره الله ـ عز وعلا ـ.
قال صاحبُ هذا القولِ: الي يدلُّ على صحَّتهِ: أنَّ يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ما كان حاضراً في ذلك المجلس حتَّى يقال: لمَّا ذكرتِ المرأةُ قولها: { ٱلآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ }، ففي تلك الحالة قال يوسف: { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ }، بل يحتاج فيه إلى أن يرجع الرسول عن ذلك المجلس إلى السجن، ويذكر تلك الحكاية.
ثم إنَّ يوسف يقول ابتداء: { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ } ومثلُ هذا الوصل بين الكلامين الأجنبيين، ما جاء ألبتة في نثر ولا نظم؛ فعلمنا أن هذا من تمام كلام المرأة.
قال القرطبي: وهو متصلٌ بقولِ امرأة العزيز: "الآنَ حَصْحَصَ الحقٌّ" أي: أقررتُ بالصدقِ؛ { لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ } بالكذب عليه، ولم أذكره بسوءٍ، وهو غائبٌ، بل صدقتُ، وزجرت عنه الخيانة، ثم قالت: "ومَا أبرِّىءُ نَفسِي"؛ بل أنا راودته، وعلى هذا هي كانت مقرة بالصانع؛ ولهذا قالت: { إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
وقيل:{ ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ }، مِنْ قولِ العزيز، وإنِّي لم أغفل عن مجازاته على أمانته.
{ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ ٱلْخَائِنِينَ } معناه: إنَّ الله لا يهدي الخائنين بكيدهم.
فصل
دلَّت هذه الآية على طهارةِ يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ من الذنب من وجوه:
الأول: أن الملك لما أرسل إلى يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وطلبه، فلو كان يوسف متهماً بفعلٍ قبيحٍ، وقد كان صدر منه ذنبٌ، وفحشٌ؛ لاستحال بحسب العرفِ والعادةِ، أن يطلب من الملك أن يفحص عن تلك الواقعة، وكان ذلك سعياً منه في فضيحةِ نفسه، وفي حمل الأعداءِ على أن يبالغوا في إظهار عيوبه.
والثاني: أنَّ النسوة شهدن في المرة الأولى بطهارته، ونزاهته،
{ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَـٰذَا بَشَراً إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } [يوسف:31]، وفي المرة الثانية: { قُلنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوۤءٍ }.
والثالث: أنَّ امرأة العزيز اعترفت في المرة الأولى بطهارته، حيثُ قالت:
{ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَٱسَتَعْصَمَ } [يوسف:32]، وفي المرة الثانية قولها: { الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين }، وهذا إشارةٌ إلى أنَّه صادقٌ في قوله: { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } [يوسف:26].
والرابع قول يوسف { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ }.
قال ابن الخطيب: "والحشويَّةُ يذكرون أنَّه لما قال هذا الكلام، قال جبريل ـ عليه السلام ـ: ولا حين هَمَمْتَ، وهذا من رواياتهم الخبيثة، وما صحَّت هذه الروايةُ في كتابٍ معتمدٍ، بل هم يلحقونها بهذا الموضع سعياً منهم في تحريفِ ظاهر القرآن".
والخامس: قوله: { وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ ٱلْخَائِنِينَ }، يقتضي أن الخائن لا بدَّ أن يفتضح، فلو كان خائناً، لوجب أن يفتضح؛ ولما خلصه الله من هذه الورطة، دلَّ ذلك على أنه لم يكن من الخائنين.
ووجه آخر: وهو أنَّ ـ في هذا الوقت ـ تلك الواقعة صارت مندرسةً، فإقدامه في قوله { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ }، مع أنَّهُ [خانه] بأعظم وجوه الخيانة وأقدم على فاحشةٍ عظيمةٍ، وعلى كذبٍ عظيمٍ من غير أن يتعلق به مصلحة بوجهٍ ما، والإقدامُ على مثل هذه الوقاحة من غير فائدة أصلاً؛ لا يليق بأحدٍ من العقلاءِ، فكيف يليق إسناده إلى سيِّد العقلاء، وقدوة الأصفياء، فثبت أنَّ هذه الآية تدلُّ دلالة قطعيَّة على براءته مما يقول الجُهَّال.
قوله تعالى: { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ } الآية اعلمْ أنَّ تفسير هذه الآية يختلف باخلاف ما قبلها؛ لأنَّه إن قلنا قوله { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ }، كلام يوسف، كان هذا ـ أيضاً ـ كلام يوسف، وإن قلنا::إنه من تمام كلام المرأة، كان هذا ـ أيضاً ـ كذلك، وإذا قلنا: إنه من كلام يوسف ـ عليه الصلاة والسلام، فقالوا: إنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لما قال: { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ }، قال جبريلُ ـ عليه السلامُ ـ ولا حين هَمَمْتَ، فعند هذا، قال يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ: { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ }، أي: بالزِّنا، { إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ } أي عصم، { إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ } لِلْهمِّ الذي همَّ به، "رَحِيمٌ"، أي لو فعلته، لتابَ عليَّ.
قال ابنُ الخطيب ـرحمه الله ـ: "هذا ضعيفٌ؛ فإنَّا بينا في الآية الأولى برهاناً قاطعاً على براءته من الذنب".
فإن قيل: ما جوابكم عن هذه الآية؟.
فنقول: فيه وجهان:
الأول: أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لما قال { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ }، كان ذلك جارياً مجرى المدحِ لنفسه، وتزكيتها؛ وقال ـ سبحانه ـ
{ فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ } [النجم:32] فاستدركه على نفسه بقوله: { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ }، والمعنى: فلا أزكِّى نفسي؛ { إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ }، ميَّالةٌ إلى القبائحِ، راغبٌ في المعصيةِ.
الثاني: أنَّ الآية لا تدلُّ ألبتة على شيءٍ مما ذكروه؛ لأنَّ يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لما قال: { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ }، بيَّن أنَّ ترك الخيانة ما كان لعدمِ الرغبة، ولعدم ميل النفس، والطبيعةِ؛ لأنَّ النفس أمَّارة بالسوءِ، توَّاقةٌ إلى اللذات، فبيَّن بهذا الكلام أن ترك الخيانة، ما كان لعدم الرغبةِ، بل لقيام الخوف من الله ـ تعالى ـ.
وإذا قلنا: إنَّ هذا الكلام من بقية كلامِ المرأةِ، ففيه وجهان:
الأول: { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ }، عن مراودته، ومرادها تصديقُ يوسف في قوله:
{ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } [يوسف:26].
والثاني: أنها لما قالت: { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ }، قالت: { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ }، من الخيانة مطلقاً؛ فإنٍّي قد خنته حين أحلت الذنب عليه، وقلت:
{ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوۤءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [يوسف:25]؛ وأودعته في السِّجن، كأنَّها أرادت الاعتذارَ مما كان.
فإن قيل: أيُّهما أولى، جعل هذا الكلام كلاماً ليوسف، أم جعله كلاماً للمرأة.
قلنا: جعله كلاماً ليوسف مشكل؛ لأنَّ قوله: "قالت امرأةُ العَزيزِ الآن حَصْحَصَ الحقٌّ" كلامٌ موصولٌ بغضه ببعضٍ إلى آخره، فالقول بأنَّ بعضه كلام المرأةِ، والبعض كلام يوسف، تخلُّل الفواصل الكثيرة بين القولين، وبين المجلسين بعيد.
فإن قيل: جعله كلاماً للمرأة مشكل أيضاً؛ لأن قوله { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ } كلامٌ لا يحسنُ صدوره إلاَّ ممَّن احترز عن المعاصِي، ثم يذكر هذا الكلام على سبيل كسر النَّفس، ولا يليق ذلك بالمرأةِ التي استفرغت جهدها في المعصية.
قوله: { إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ } فيه أوجهٌ:
أحدها: أنه مستثنى من الضمير المستكنِّ في "أمَّارةٌ" كأنه قيل: إن النفس لأمارةٌ بالسوءِ إلاَّ نفساً رحمها ربِّي، فيكون أراد بالنفس الجنس؛ فلذلك ساغ الاستثناء منها؛ لقوله تعالى:
{ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [العصر:2، 3] وإلى هذا نحا الزمخشريُّ ـرحمه الله ـ فإنه قال: "إلا البعض الذي رحمهُ ربِّي بالعصمة؛ كالملائكة".
وفيه نظرٌ؛ من حيث إيقاع "ما" على من يعقل، والمشهور خلافه.
قال ابن الخطيب: "ما" بمعنى "مَنْ" أي: إ لا من رحم ربي، و"مَا" و"مَنْ" كلُّ واحدٍ منهما يقوم مقام الآخر؛ قال تعالى:
{ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } [النساء:3]، وقال: { وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ } [النور:45].
والثاني: أنَّ "مَا" في معنى الزمان؛ فيكون مستثنى من الزمنِ العامِّ المقدر، والمعنى: إنَّ النَّفس لأمارة بالسوءِ في كل وقتٍ وأوانٍ، إلاَّ ـ وقت رحمة ـ ربِّي إيَّاها بالعصمةِ. ونظره أبو البقاءِ بقوله:
{ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } [النساء:92]، وقد تقدَّم [النساء:92] أنَّ الجمهور لا يجيزون أن تكون "أنْ" واقعة موقع ظرف الزمان.
والثالث: أنه مستثنى من معفولِ "أمَّارةٌ"، أي: لأمَّارة صاحبها بالسُّوءِ إلا الذيرحمه الله ، وفيه إيقاع "مَا" على العاقل.
والرابع: أنه استثناء منقطع، قال ابن عطيَّة: وهو قول الجمهور. وقال الزمخشريُّ: ويجوز أن يكن استثناء منقطعاً، أي: ولكن رحمةُ ربي التي تصرفُ الإساءة؛ كقوله:
{ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا } [يس:43، 44].
فصل في أن الإيمان والطاعات لا يحصلان للعبد إلا برحمة الله له
هذه الآية تدل على أن الطاعات والإيمان لا يحصلان إلا من الله تعالى؛ لقوله ـ تعالى ـ: { إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ } فدلَّ ذلك على أنَّ انصراف النفس من السوءِ لا يكون إلا برحمة الله، ودلَّت الآية على أنَّ من حصلت تلك الرحمةُ له، حصل ذلك الانصرافُ، ولا يمكن تفسيرُ هذه الرحمة بإعطاءِ العقل، والقدرةِ، والألطافِ، كما قاله القاضي ـرحمه الله ـ؛ لأنَّ كلَّ ذلك مشتركٌ بين الكافر والمؤمن، فوجب تفسيرها بشيءٍ آخر، وهو ترجيحُ داعية الطاعة على داعيةِ المعصيةِ.