التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا ٱلضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا ٱلْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ ٱللَّهَ يَجْزِي ٱلْمُتَصَدِّقِينَ
٨٨
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ
٨٩
قَالُوۤاْ أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـٰذَا أَخِي قَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَآ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٩٠
قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ
٩١
قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ
٩٢
ٱذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ
٩٣
-يوسف

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ } الآية اتفق المفسِّرون على أنَّ هنا محذوفاً، وتقديره: فخرجوا راجعين إلى مصر، ودخلوا على يوسف، فقالوا: يا أيُّها العزيزُ.
فإن قيل: إذا كان يقعوب أمرهم أن يتحسسوا من يوسف وأخيه، فلم عادوا إلى الشكوى؟.
فالجواب: أنَّ المتحسِّسَ يصل إلى مطلوبه بجميع الطُّرقِ، والاعترافِ بالعجز، وضموا رقَّة الحال، وقلَّة المال، وشدَّة الحاجة، وذلك ممَّا يرقِّقٌ القلب، فقالوا: نُجرِّبهُ في هذه الأمورِ، فإن رقَّ قلبه لنا ذكرنا له المقصود، وإلا سكتنا، فلهذا قدَّموا ذكر ذلك فقالوا: "يا أيُّها العزيزُ" والعزيزُ: الملكُ القادرُ الممتنع: "مسَّنَا وأهْلنَا الضُرُّ" وهو الفقر، والحاجة، وكثرة العيال وقلَّة الطَّعام، وعنوا بأهلهم من خلفهم.
قوله: "مُزجَاةٍ" أي مدفوعة يدفعها كلُّ أحدٍ عنه لزهادته فيها، ومنه:
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً } [النور:43] أي: يسوقها بالريح؛ وقال حاتم [الطويل]

3143ـ لِيََبْكِ على مِلحَان ضَيْفٌ مُدفَّعٌ وأرْمَلةٌ تُزْجِي مَعَ اللَّيْلِ أرْمَلاَ

ويقال: أزْجيتُ رَدِيء الدرهم فزُجِي، ومنه استعير زَجَا الجِرَاح تزْجُوا زجاً وجراح زَاج. وقول الشاعر: [البسيط]

3144ـ وحَاجَةٍ غَيْرِ مُزْجاةٍ مِن الحَاجِ

أي: غير يسيرة يمكنُ دفعها، وصرفها لقلَّة الاعتداد بها، فألف "مُزجَاةٍ" منقلبة عن واو.
فصل
وإنَّما وصفوا تلك البضاعة بأنها مزجاة إمَّا لنقصانها، أو لدناءتها أو لهما جميعاً، قال بعضهم: المُزْجَاةُ القليلة. وقيل: كانت رَدِيئةً.
وقال ابنُ عبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ كانت دراهم رديئة لا تقبل في ثمن الطَّعام وقيل: أمتعة رديئة. وقيل: متاع الأعراب الصُّوفُ والسَّمْن. وقيل: الحبة الخضراء، وقيل: الأقط، وقيل: النعال والأدم، وقيل: سويق المقل.
وقيل: إنَّ الدَّراهم كانت منقوشة عليها صورة يوسف، والدَّراهم الَّتي جاؤا بها، ما كان فيها صورة يوسف.
وإنَّما سميت البضاعة القليلة الرَّديئة مزجاة، قال الزجاج: من قولهم: فلانٌ يزْجِي العَيْشَ، أي: يدفع الزَّمان بالقليلِ، أي: إنَّا جئنا ببضاعة مزجاة ندافع بها الزَّمان، وليست مما ينتفعُ بها، وعلى هذا فالتقديرُ ببضاعة مزجاةٍ ندافع بها الأيام.
قال أبو عبيد: إنَّما قيل للدَّراهم الرّّديئةِ مزجاة؛ لأنَّها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممَّن ينفقها، قال: وهي من الإزجاء، والإزجاء عند العرب: الدَّفعُ.
وقيل: مزجاة، أي: مؤخرة مدفوعة عن الإنفاقِ لا يقبل مثلها إلاَّ من اضطر، واحتاج إليها لفقد غيرها ممَّا هو أجود منها.
وقال الكلبيُّ: "مزجاة لغة العجم، وقيل: هي من لفظ القِبْطِ".
قال ابن الأنباري: لا ينبغي أن يجعل لفظ عربي معروف الاشتقاق منسوباً إلى القبط.
وقرأ حمزة والكسائي: "مُزْجَاةٍ" بالإمالة؛ لأن أصله الياء، والباقون بالفتح والتفخيم.
ثمَّ لما وصفوا شدَّة حالهم، ووصفوا بضاعتهم بأنها مزجاة قالوا له: "فأوْفِ لنَا الكيْلَ: يجوز أن يراد به حقيقة من الآلة، وأن يراد به الكيل، فيكون مصدراً، والمعنى إنَّا نريدُ أن نقيم النَّاقص مقام الزَّائد أو نقيم الرَّديء مقام الجيِّد.
{ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ }: أي تفضل علينا بما بين الثمنين الجيّد، والرَّديء، وسامحنا ولا تنقصنا.
وقال ابن جريج، والضحاك، أي: تصدَّق علينا بردِّ أخينا لنا: { إِنَّ ٱللَّهَ يَجْزِي ٱلْمُتَصَدِّقِينَ } يثيب المتصدقين.
قال الضحاك: لم يقولوا: إنَّ الله يجزيك؛ لأنَّهم لم يعلموا أنَّه مؤمنٌ.
وسُئل سفيان بن عيينة: هل حرمت الصدقة على نبيّ من الأنبياء سوى نبيِّنا ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ؟.
قال سفيان: ألم تسمع قوله: { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ ٱللَّهَ يَجْزِي ٱلْمُتَصَدِّقِينَ }.
يريد: أنَّ الصَّدقة كانت حلالاً لهم، وأنكر الباقون ذلك، وقالوا: حالُ الأنبياء وحالُ أولادِ الأنبياء في طلب الصَّدقة سواء؛ لأنَّهم يأنفون من الخضوع إلى المخلوقين ويغلب عليهم الانقطاع إلى الله، والاستغناء به عمَّنْ سواه.
وروي عن الحسنِ ومجاهدٍ: أنَّهما كرها أن يقول الرَّجل في دعائه: اللَّهُمَّ تصدَّق علينا، قالوا: لأنَّ الله لا يتصدَّق، وإنَّما التَّصدُّق بمعنى الثَّواب، وإنما يقول اللَّهُمَّ أعطني وتفضَّل علينا.
فصل
قال القرطبيُّ: "استدلَّ العلماء بهذه الآية على أنَّ أجرة الكيال على البائع، لقولهم ليوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ "فأوْفِ لَنَا الكَيْلَ" فكان يوسفُ هو الذي يكيل، وكذلك الوزَّانُ، العدَّادُ وغيرهم؛ لأنَّ الرَّجُلَ إذا باع عدّة من طعامه معلومة، وأوجب العقد عليه؛ وجب عليه أن يبرزها، ويُمَيِّز حقَّ المشتري من حقِّه إلا إن كان المبيعُ فيه معيناً صبره، أو ما ليس فيه حق موفيه، فيخلي ما بينه وبينه، وما جرى على المبيع فهو ضمان المبتاع، وليس كذلك ما يتعلَّق به حقُّ موفيه من كيل أو وزنٍ، ألا ترى: أنَّه لا يستحقُّ البائع الثمن إلاَّ بعد التَّوفية، كذلك أجرة النقد على البائع أيضاً؛ لأنَّ المتباع الدَّافع لدراهمه يقول: إنَّها طيبة فأنت الذي تدّعي الرَّداءة، فانظر لنفسك، ليقع له فكان الأجرُ عليه، وكذلك لا يجبُ أجرة القاطع على من يجب عليه القصاص لأنه لا يجب عليه أن يقطع نفسه، ولا أن يمكن من ذلك طائعاً؛ ألا ترى أنَّ فرضاً عليه أن يفدي يده، ويصالح عليه، إذا طلب المقتص ذلك.
وقال الشَّافعيُّ: إن الأجرة على المقتص منه كالبائع؛ لأنَّه يجب عليه تسليم يده.
فصل
روي: أنهم لما قالوا: { مَسَّنَا وَأَهْلَنَا ٱلضُّرُّ } وتضرَّعُوا إليه، أدركته الرِّقَّة، فارفضَّ دمعه، فباح بالذي كان يكتمُ، فقال: { هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ } وقيل: دفعوا إليه كتاب يعقوب، فلما قرأ الكتاب ارتعدت مفاصله واقشعرَّ جلدهُ، ولانَ قلبه، وكثر بكاؤه؛ فصرح بأنه يوسف.
قوله: { هَلْ عَلِمْتُمْ } يجوز أن تكون استفهامية للتَّوبيخ، وهو الأظهر وقيل: هو خبر و"هَلْ" بمعنى "قَدْ".
وقال الكلبيُّ: "إنما قال: { هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ } حين حكى لإخوته أنَّ مالك بن دعر قال: إنِّي وجدت غلاماً في بئر من حاله كَيْتَ وكيْتَ فأبتعته بكذا وكذا درهماً، فقالوا أيُّها الملك: نحن بِعْنَا ذلك الغلام منه؛ فغاظ يوسف ـ عليه السلام ـ ذلك، وأمر بقتلهم، فذهبوا بهم ليقتلوهم، فولى يَهُوذا وهو يقول: كان يعقوب قد حزن لِفقْدِ واحدة منَّا حتَّى كفَّ بصره، فكيف إذا أتاهُ قتل بنيه كلِّهم، ثم قالوا له: إن فعلت ذلك، فابعثْ بأمتعتنا إلى أبينا، فإنَّه بمكان كذا وكذا، فذلك حين رحمهم وبكى، وقال ذلك القول".
وفي هذه الآية تصديق قوله تعالى:
{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَـٰذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [يوسف:15]، وأمَّا قوله: "وَأخِيهِ" فالمراد ما فعلتم من تعريضه للغمِّ بسبب إفراده عن أخيه لأبيه وأمِّه، وأيضاً: كانوا يؤذونه، ومن جملة الإيذاء، قالوا في حقه: { إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ } [يوسف:77] وأما قوله: { إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ } فهو يجرى مجرى الغدرِ لهم كأنه قال: أنتم أقدمتم على ذلك الفعل القبيح المنكر حال كونكم من حالة الصِّبا، وفي جهالة الغرور، يعني: والآن لستُم كذلك، ونظيره قوله تعالى: { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ } [الانفطار:6] وقيل: إنما ذكر ـ تعالى ـ ذلك الوصف ليكون ذلك جارياً مجرى الجواب، فيقول العبدُ: يا ربِّ غرَّنِي كرَمُكَ، فكذا ههنا إنَّما قال لهم يوسف ذلك الكلام إزالة للخجل عنهم، وتخفيفاً للأمر عليهم.
وقيل: المعنى: إذ أنتم جاهلون بما يئول إليه أمر يوسف صلوات الله وسلامه عليه. فإن قيل: كيف قال: { مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ }، ولم يكن منهم إلى أخيه شيء، ولم يسعوا في حبسه؟.
قيل: هو قولهم حين أخرجوا الصواع من رحله، ما رأينا منكم يا بني راحيل إلاَّ البلاء.
وقيل: تفريقهم بينه، وبين أخيه يوسف، وكانوا يؤذونه بعد فقد يوسف.
قوله: "أئِنَّكَ" قرأ ابن كثير، وأبو جعفر: "إنَّكَ" بهمزة واحدة على الخبر والباقون بهمزتين استفهاماً، وقد تقدَّم قراءتهم في هاتين الهمزتين تخفيفاً، وتسهيلاً وغير ذلك، فأمَّا قراءة ابن كثير، فيحتمل أن تكون خبراً محضاً واستبعد هذا من حيث تخالف القراءتين مع أنَّ القائل واحد.
وقد أجيب عن ذلك بأنَّ بعضهم قاله استفهاماً، وبعضهم قاله خبراً، ويحتمل أن يكون استفهاماً حذف منه الأداة لدلالة السِّياق، والقراءة الأخرى عليه، وقد تقدَّم نحو هذا في الإعراب.
وقرأ أبيّ (أَوَأَنْتَ يوسف) فمن قرأ بالاستفهام قالوا: إنَّ يوسف لما قال لهم: { هل علمتم ما فعلتم } تبيَّنوا يوسف، فأبصروا ثناياه كاللّؤلؤ المنظُوم.
وروى الضحاكُ عن ابنِ عبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ لما قال هذا القول تبسَّم فرأوْا ثناياه كاللّؤلؤ، فشبهوه بيوسف، ولم يعرفوه، فقالوا استفهاماً: { أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ } ويدلُّ على أنه استفهام قوله: "أنَا يُوسفُ"، وإنَّما أجابهم عما اسْتَفْهَمُوا عنه، ومن قرأ على الخبر فحجته ما روى الضحاك عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنَّه قال: إنَّ أخوة يوسف لم يعرفوه حتّى وضع التَّاج عن رأسه، وكان في قرنه شامة وكان لإسحاق، ويعقوب مثلها تشبه التَّاج عرفوه بتلك العلامة.
وقال ابن إسحاق: "كان يتكلَّم من وراء ستر، فلما قال: { هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ } رفع الحجاب فعرفوه" وقيل: قالوه على التَّوهُّمِ.
"واللام في: "لأنْتَ" لام الابتداء، و"أنْتَ" مبتدأ، و"يُوسفُ" خبره والجملة خبر "إنَّ" ويجوز أن تكون "أنْتَ" فصلاً، ولا يجوز أن يكن تأكيداً لاسم "إنَّ" لأنَّ هذه اللام لا تدخل على التوكيد".
وقرأ أبي: (أئنك أو أنت يوسف) وفيها وجهان:
أحدهما: قال أبُوا الفتح: إنَّ الأصل: أئنك لغير يوسف، أو أنت يوسف فحذف خبر "إن" لدلالة المعنى عليه.
والثاني: ما قاله الزمخشريُّ: المعنى: أئنَّك يوسف، أو أنت يوسف فحذف الأول لدلالته، وهذا كلام متعجب مستغرب لما يسمع، فهو يكرِّر الاستثبات فقال: { أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـٰذَا أَخِي } وإنَّما صرَّح بالاسم تعظيماً لما نزل به من ظلم إخوته، وما عوضه الله من الظَّفر والنَّصر، فكأنه قال: أنا الذي ظلمتموني على أعظم الوجوه، والله أوصلني إلى أعظم المناصب، أنا ذلك العاجزُ الذي قصدتم قتله، وإلقاءه في الجبِّ، ثمَّ صرتُ كما ترون، ولهذا قال: "وهَذا أخِي" مع أنَّهم كانوا يعرفونه؛ لأن مقصوده أن يقول: وهذا أيضاً كان مظلوماً كما كنت، ثم إنه صار منعماً عليه من قبل الله كما ترون. { قَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَآ } قال ابنُ عباسٍ ـ رضي الله عنه ـ بكلِّ عزِّ في الدنيا والآخرة.. وقيل: بالجمع بيننا بعد الفرقة.
قوله: { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ } قرأ قنبل "يتقي" بإثبات الياء وصلاً ووقفاً، والباقون بحذفها فيهما.
فأمَّا قراءة الجماعة فواضحة؛ لأنَّه مجزومٌ، وأمَّا قراءة قنبلٍ، فاختلف فيها النَّاس على قولين:
أحدهما: أنَّ إثبات حرف العلَّة في الجزم لغة لبعض العرب؛ وأنشدوا: [الوافر]

3145ـ أَلَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي بِمَا لاقَتْ لبُونُ بَنِي زِيَادِ

وقول الآخر: [البسيط]

3146ـ هَجَوْتَ زبَّان ثُمَّ جِئْتَ مُعْتَذِراً مِنْ هَجْوِ زبَّان لَمْ تَهْجُوا ولَمْ تَدعِ

وقول الآخر: [الرجز]

3147ـ إذَا العَجُوزُ غَضِبَتْ فَطلِّقِ ولا تَرضَّاهَا ولا تَملَّقِ

وقول الآخر: [الرجز]

3148ـ إنِّي إذَا مَا ما القَوْمُ كَانُوا أنْجِيَهْ واضْطَربَ القَوْمُ اضطرابَ الأرْشِيَهْ
هُنَاكَ أوْصِينِي ولا تُوصِي بِيَهْ

ومذهب سيبويه: أنَّ الجازم بحذف الحركة المقدرة، وإنَّما تبعها حرف العلَّة في الحذف تفرقة بين المرفوع، والمجزوم.
واعترض عليه: بأنَّ الجازم يبين أنَّه مجزوم، وعدمه يُبيِّنُ أنه غيرُ مجوزم.
وأجيب: بأنه في بعض الصُّورِ يلتبس فاطرد الحذف، بيانه: أنَّك إذا قلت "زُرْنِي أعْطِتكَ" بثبوت الياءِ، احتمل أن يكون "أعْطِيكَ" جزاء الزيارة، وأن يكون خبراً مستأنفاً، فإذا قلت: "أعْطِكَ" بحذفها تعين أن يكون جزاء له؛ فقد وقع اللَّبس بثبوت حرف العلِّة، وفقد بحذفه، فيقالُ: حرف العلَّة يحذف عند الجازمِ لا به.
ومذهب ابنِ السَّراج: أنَّ الجازم أثَّر في نفس الحرف فحذفه، وفيه البحثُ المتقدم.
والثاني: أنَّه مرفوعٌ غير مجزومٍ و"مَنْ" موصولةٌ، والفعل صلتها؛ فلذلك لم يحذف لامه.
واعترض على هذا بأنَّهُ قد عطف عليه مجزوم وهو قوله: "ويَصْبِرْ" فإنَّ قُنْبُلاً لم يقرأ إلا بإسكان الرَّاء.
وأجيب عن ذلك: بأنَّ التَّسكين لتوالي الحركات، وإن كان من كلمتين كقراءة أبي عمرو { يَنصُرْكُمُ } [آل عمران:160]، و { يَأْمُرَكُمْ } [آل عمران:80]، وأجيب أيضاً: بأنه جزم على التوهم يعني لما كانت "مَنْ" الموصولة تشبه "مَنْ" الشرطية، وهذه العبارة فيها غلط على القرآن، فينبغي أن يقال فيها مراعاة للشَّبهة اللَّفظي، ولا يقال للتَّوهُّم.
وأجيب أيضاً: بأنه سكن للوقف ثم أجرى الوصل مُجْرَى الوقف.
وأجيب أيضاً: بأنه إنما جزم حملاً لـ"مَنْ" الموصولة على "مَنْ" الشَّرطيَّة؛ لأنَّها مثلها في المعنى، ولذلك دخلت [الفاء] في خبرها.
قال شهابُ الدِّين: وقد يقالُ على هذا: يجوز أن تكون "مَنْ" شرطيَّة، وإنَّما ثبتت الياء، ولم تجزم "من" لشبهها بـ"مَنْ" الموصولة ثمَّ لم يعتبر هذا الشبه في قوله: "ويَصْبِرْ"، فلذلك جزمه، إلاَّ أنه يبعد من جهة أنَّ العامل لم يؤثر فيما بعده، ويليه، ويؤثر فيما هو بعيد منه، وقد تقدَّم الكلام على مثل هذه المسألة أوَّل السُّورة في قوله:
{ يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } [يوسف:12].
وقوله: { فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ } الرَّابطُ بين جملة الشَّرط، وبين جوابها: إمَّا العموم في "المُحْسِنيِنَ"، وإمَّا الضمير المحذوف، أي: المحسنين منهم، وإمَّا لقيام: "ألْ" مقامه، والأصل: محسنيهم، فقامت "ألْ" مقام ذلك الضَّمير.
فصل
معنى الآية: من يتَّق معاصي الله، ويصبر على أذى النَّاسِ.
وقيل: من يتَّق بأداء الفرائض، واجتناب المعاصي ويصبر على ما حرم الله عليه.
وقال ابنُ عبَّاسٍ ـ رضي الله عنه ـ: يتّقي في الزِّنا، ويصبر على العُزوبةِ، وقال مجاهدٌ: يتقي المعصية، ويصبر على السجن.
{ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } قال ابن الخطيب: "واعلم أنَّ يوسف ـ عليه السلام ـ وصف نفسه في هذا المقام الشَّريف بكونه متقِياً، ولو أنه أقدم على المعصية كما قالوه في حق زليخا، لكان هذا القول كذباً منه، وذكر الكذب في مثل هذا المقام الذي يؤمن فيه الكافر، ويتوب فيه العاصي لا يليق بالعقلاء".
قوله: { تَٱللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ ٱللَّهُ عَلَيْنَا } أي تفضَّل عليك، والإيثارُ: التفضيل بأنواع جميع العطايا، آثرهُ يُؤثِرهُ إيثَاراً، وأصله من الأثر، وهو تتبع الشيء، فكأنه يَسْتقْصِي جميع أنواع المَكارمِ، وفي الحديث:
"سَتكُون بعدي أثرةٌ" أي: يستأثر بعضكم على بعض، ويقال: اسْتأثَر بكذا، أي: اختص به، واستأثر اللهُ بفلان، كناية عن اصطفائه له.
وقال الشاعر: [الرجز]

3149ـ واللهُ اسْماكَ سُماً مُبَاركَا آثَركَ الله بِهِ إيثَاركَا

قال الأصمعيُّ: يقالُ: آثَرَكَ الله إيثاراً، أي: فضَّلك، والمعنى: لقد فضلك الله علينا بالعلمِ، والعملِِ، والحسنِ، والملكِ.
فصل
احتجَّ بعضهم بهذه الآية على أنَّ إخوة يوسف ما كانوا أنبياء؛ لأنَّ جميع المناصب المغايرة لمنصب النبوة كالعدم بالنِّسبة لمنصب النُّبوة فلو كانوا شاركوه في منصب النبوة لما قالوا: { تَٱللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ ٱللَّهُ عَلَيْنَا }، وعلى هذا يذهب سؤال من يقول: آثره عليهم بالملك، وإن شاركوه في النبوة؛ لأنَّا بيَّنا أنَّ سائر المناصب لا تعتبر في جنب منصب النُّبوَّة.
ثم قالوا: { وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ } والخَاطِىءُ: هو الذي أتى بالخطيئة عمداً وهذا هو الفرقُ بين الخَاطىءِ، ولهذا يقالُ للمُجْتهدِ الذي لمْ يُصِبْ أنَّهُ مخطىءٌ، ولا يقال: إنه خاطىءٌ.
فصل
أكثر المفسرين على أن الذي اعتذروا منه هو إقدامهم على إلقائه في الجُبِّ وبيعه وتبعيده عن أبيه.
وقال أبو عليّ الجبائيٌّ: لم يعتذروا من ذلك؛ لأنَّ ذلك كان منهم قبل البلوغ، فلا يكون ذنباً، فلا يعتذر منه، وإنَّما اعتذروا من حيثُ إنهم أخطئوا بعد ذلك بأن لم يظهروا لأبيهم ما فعلوه ليعلم أنَّه حي، وأنَّ الذِّئب لم يأكله.
وأجاب ابنُ الخطيب عن ذلك: "بأنَّه لا يجوز أن يقال: إنهم أقدموا على ذلك الفعل في زمن الصِّبا؛ لأنه من البعيد في [مثل] يعقوب جمعاً غير بالغين من غير أن يبعث معهم رجلاً عاقلاً يمنعهم عمَّا لا ينبغي، ويحملهم على ما ينبغي".
قوله: { لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ } عليكم يجوز أن يكون خبر "لاَ" و"اليَوْمَ" يحتمل أن يتعلق بما تعلَّق به هذا الخبر أي: لا تثريب مستقرٌ عليكم ويجوز أن يكون "اليَوْمَ" خبر "لاَ"، و"عَليْكُمْ" متعلق بما تعلق به هذا الظرف ويجوز أن يكون: "عليكم" صفة لاسم: "لا"، و"اليَوْمَ" خبرها أيضاً ولا يجوز أن يتعلق كل من الظرف، والجار بـ: "تَثْرِيب"؛ لأنه يصيرُ مطولاً شبيهاً بالمضاف ومتى كان كذلك أعرب ونُوِّن، نحو: "لا خَيْراً من زَيْدٍ عندكَ" ويزيدُ عليه الظرف بأنه يلزم الفصل بين المصدر المؤول بالموصول، ومعموله بأجنبي وهو: "عَليْكُمْ" لأنه إما خبر وإما صفة.
وقد جوَّز الزمخشريُّ: أن يكون الظَّرف متعلقاً بـ: تَثْرِيبَ" فقال: فإن قلنا: بم يتعلق "اليوم"؟ قلت: بالتثريب، أو بالمقدر في "عَليْكُم" من معنى الاستقرار أو بـ:يَغْفِرُ"، فجعله أنه متعلق بـ "تَثْرِيب" وفيه ما تقدَّم.
وقد أجرى بعضهم الاسم العامل مجرى المضاف لشبهه به، فنزع ما فيه من تنوين أو نون؛ وجعل الفارسيُّ من ذلك قول الشَّاعر: [الطويل]

3150ـ أرَانِي ولا كُفْرانَ للهِ أيَّةً لِنفْسِي لقَدْ طَالبْتُ غَيْرَ مُنِيلِ

قال: فأية منصوب بـ: "كُفْرانَ" أي: أكفر الله أية لنفسي، ولا يجوز أن تنصب "أيَّةً" بـ: "أوَيْتُ" مضمراً، لئلا يلزم الفصل بين مفعولي: "أرَى" بجملتين أي: بـ"لاَ"، وما في خبرها، وبـ"أوَيْتُ" المقدرة، ومعنى "أوَيْتُ" رققت وجعل منه ابنُ مالكٍ ما جاء في الحديث: "لا صُمْتَ يومٌ إلى اللَّيلِ" برفع "يَوْمٌ" على أنه مرفوعٌ بالمصدر المنحل لحرف مصدريّ، وفعل مبني للمفعول وفي بعض ما تقدَّم خلافٌ، وأمَّا تعليقه بالاستقرار المقدَّر فواضح، ولذلك وقف أكثرُ القراء عليه، وابتدأ بـ:"يَغفِرُ اللهُ لكُمْ" وأما تعليقه بـ:"يَغْفِرُ" فواضحٌ أيضاً ولذلك وقف بعض القراء على: "عَليْكُمْ"، وابتدأ: "اليَوْم يغفرُ اللهُ لكُمْ" وجوَّزوا أن يكون "عليكم" بياناً كـ "لَكَ" في قولهم: "سقياً لَكَ" فعلى هذا يتعلق بمحذوفٍ؛ ويجوز أن يكون خبر: "لا" محذوفاً، و"عَلَيْكُمْ"، و"اليَوْمَ" كلاهما متعلقان بمحذوف آخر يدلُّ عليه: "تَثْريبَ"، والتقدير: لا تثريبَ يتثرب عليكم اليوم كما قدروا في: { لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } [هود:43] لا عاصم يعصمُ اليوم.
قال أبو حيَّان: "لو قيل به لكان قويًّا"، وقد يفرَّق بينهما: بأنّ هنا يلزم كثرة المجاز، وذلك أنَّك تحذف الخبر، وتحذف هذا الذي تعلق به الظرف وحرف الجر، وتنسب الفعل إليه، لأنَّ التثريب لا يثرب إلا مجازاً، كقولهم: "شِعرٌ شاعرٌ" بخلاف: "لا عَاصِمَ يَعْصِم" فإن نسبة الفعل إلى العاصم حقيقة، فهناك حذف شيءٍ واحد من غير مجاز، وهنا حذف شيئين مع مجاز.
والتَّثْرِيبُ: العَتبُ، والتَّأنيب، وعبَّر بعضهم عنه بالتَّعيير من عيَّرته بكذا إذا عتَبْته وفي الحديث:
"إذَا زَنَتْ أمَةٌ أحدكُم، فليَجْلدْهَا، ولا يُثرِّبْ" أي: لا يعيِّر، وأصله من الثَّرب، وهو ما تغشى الكرش من الشَّحم، ومعناه: إزالةٌ الثَّرب، كما أنَّ التَّجليد إزالةٌ الجلدِ، فإذا قلت: ثرَّبتُ فلاناً، فكأنَّك لشدَّة عتبك له أزلت ثربه، فضرب مثلاً في تزيق الأعراض.
وقال الرَّاغب: "ولا يُعْرَفُ من لفظه إلاَّ قولهم: الثَّرْبُ، وهو شحمةٌ رقيقةٌ وقوله تعالى:
{ يٰأَهْلَ يَثْرِبَ } [الأحزاب:13] يصحُّ أن يكون أصله من هذا الباب، والياء فيه مزيدة".
فصل
قال المفسرون: التَّثْريبُ: التَّوبيخُ، قال عطاءٌ الخراسانيُّ: طلب الحوائج إلى الشَّباب أسهل منها إلى الشُّيوخ ألا ترى إلى قول يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ "لا تَثْريب عَليْكُمْ"، وقول يعقوب عليه الصلاة والسلام
{ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيۤ } [يوسف:98].
واعلم أنَّا إذا جعلنا: "اليَوْمَ" متعلِّقاً بـ:"لا تَثْريبَ" أي: لا أثرِّبُكمُ اليوم وهو اليوم الذي مظنته التَّثريب، فما ظنُّكم بسائر الأيَّام، ويحتمل أنِّي حكمت في هذا اليوم ألاّ تثريب مطلقاً؛ لأنَّ قوله: "لا تَثْرِيبَ" نفي للماهيَّة، ونفي الماهيَّة يقتضي نفي أفراد جميع الماهية، فكان ذلك مفيداً للنَّفي المتناول لكلِّ الأوقات والأحوال.
ثمَّ إنَّه أزال عنهم ملامة الدُّنيا طلب من اللهِ أن يزيل عنهم عقاب الآخرةِ، فدعا لهم بقوله: { يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ }.
وإن قلنا: "اليَوْمَ" متعلق بقوله: { يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ } كأنه لما نفى الذَّنب عنهم مطلقاً بشَّرهم بأنَّ الله يغفر ذنبهم في ذلك اليوم، وذلك أنَّهم لما خجلوا، واعترفوا وتابوا، فالله ـ تعالى ـ قَبِلَ توبتهم، وغفر ذنوبهم؛ فلذلك قال: { ٱلْيَوْمَ يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ }.
"روي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بعِضَادتي الكعبة يوم الفتحِ وقال لقريش: ما تَرونَ؟
قالوا: خيراً أخٌ كريمٌ، وابنُ أخٍ كريمٍ، وقد قدرتَ، قال: أقُولُ ما قَالَ أخي يوسف: لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُم"
.
وروي أنَّ أبا سفيان لما جاء ليُسلم، قال لهُ العبَّاس ـ رضي الله عنه ـ: "إذا أتيت رسُول الله صلى الله عليه وسلم فاتْلُ عليه: { قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ } ففعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم غفر الله لَكَ ولمن علَّمك" .
وروي: أنَّ أخوة يوسف لما عرفوه أرسلوا إليه: إنَّا نستحي منك لما صدر منَّا من الإساءة إليك، فقال يوسف: إنَّ أهل مصر لو ملكت فيهم، فإنهم ينظرون إليَّ بالعين الأولى، ويقولون: سبحان الذي بلغ عبداً بِيعَ بِعشرينَ درهماً ما بلغ، ولقد شَرُفتُ بإتيانكم، وعظُمتُ في العيون لما جئتم، علم النَّاس أنكم إخوتي، وأنِّي من حفدةِ إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ثم سألهم عن أبيه، فقال: ما فعل أبي من بعدي قالوا: ذهبت عيناه؛ فأعطاهم قميصه وقال: { اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً } أي يعيده مبصراً، وقيل: يأتيني بصيراً.
قال الحسنُ رضي الله عنه: لم يعلم أنه يعود بصيراً إلا بالوحي؛ لأنَّ العقل لا يدلُّ عليه وقال الضحاك: كان ذلك القميص من نسيج الجنَّة.
وعن مجاهدٍ: أمره جبريل ـ صلوات الله عليه ـ أن يرسل قميصه، وكان ذلك القميص قميص إبراهيم ـ عليه السلام ـ وذلك أنه جُرِّد من ثيابه، وألقي في النَّار عرياناً، فآتاه جبريل بقميص من حرير الجنَّة، فألبسه إياه، فكان ذلك عند إبراهيم فلما مات إبراهيم عليه السلام ورِثهُ إسحاق، فلما مات إسحاق ورثهُ يعقوب، فلمَّا شبَّ يوسف ـ عليه السلام ـ جعل ذلك يعقوب في قصبةٍ من فضة وسد رأسها، وعلقها في عنقه لما كان يخافُ عليه من العين وكانت لا تفارقه، فلمَّا ألقى في الجُبِّ عُرياناً جاءهُ جبريلُ ـ عليه السلام ـ وعلى يوسف ذلك التَّعويذُ؛ فأخرج القميص منه، وألبسه، ففي ذلك الوقت جاءهُ جبريل، وقال: أرسل ذلك القميص فإنَّ فيه ريحَ الجنَّة لا يقع على مبتلى، ولا سقيم إلا عُوفِي، فدفع يوسف ذلك القميص إلى إخوته، وقال: { فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً } أي: مبصراً وإنَّما أفرد بالذِّكر تعظيماً له، وقال في الباقين: { وائتوني بأهلكم أجمعين }.
قال ابن الخطيب: "ويمكن أن يقال: لعلَّ يوسف علم أنَّ أباهُ ما صار أعمى إلاَّ من كثرة البكاءِ، وضيق القلب، وذلك يضعفُ البصر، وإذا ألقي عليه قميصه، فلا بد وأن ينشرح صدره، وأن يحصل في قلبه الفرحُ الشديد، وذلك يقوِّي الرُّوحَ، ويزيلُ الضَّعف عن القوى فحينئذ يقوى بصره، ويزول عنه ذلك، فهذا القدرُ ممَّا يُمِكنُ معرفته بالقلبِ فإنَّ القوانين الطبيَّة تدلُّ على صحَّة هذا المعنى".
قوله: "بِقَمِيصِي" يجوز أن يتعلَّق بما قبله على أنَّ الباء معدِّية كهي في"ذَهَبتُ بهِ" وأن تكون للحال فتتعلق بمحذوف، أي: اذهبوا معكم بقميصي، و"هَذَا" نعتٌ له، أو بدلٌ، أو بيانٌ، و"بَصِيراً" حالٌ، و"أجْمَعِينَ" توكيد له، وقد أكد بِهَا دُون كل، ويجوز أن تكون حالاً.