التفاسير

< >
عرض

الۤمۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ وَٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ٱلْحَقُّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ
١
ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّـى يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ
٢
وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ يُغْشِى ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
٣
وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلأُكُلِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
٤
-الرعد

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { الۤمۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ } قال ابن عبَّاس: معناه أنا الله أعلمُ.
وقال أيضاً في رواية عطاءٍ: أنَا اللهُ الملكُ الرَّحمنُ. وأمالها أبو عمرو والكسائي وفخمها عاصم، وجماعةٌ.
قوله { تِلْكَ آيَاتُ } يجوز في "تِلْكَ" أن تكون مبتدأ، والخبر "آيَاتُ"، والمشار إليه آيات السُّورةِ، والمراد بـ "الكِتَابِ": السُّورةُ.
وقيل: إشارة إلى ما قصَّ عليه من أنباء الرسل، وهذا الجملة لا محلَّ لها إن قيل: إن "المر" كلامٌ مستقلٌّ، أو قصد به مجرَّد التنبيه، وفي محل رفع على الخبر إن قيل: "المر" مبتدأ، ويجوز أن يكون "تِلْكَ" خبراً لـ"المر" و{ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ } بدل، أو بيان، وتقدم تقريرُ هذا أوَّل الكتابِ.
قوله: { وَٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ } يجوز في أوجه:
أحدها: أن يكون مبتدأ، و"الحَقُّ" خبره.
الثاني: أن يكون مبتدأ و"مِنْ ربِّكَ" خبره، وعلى هذا فـ "الحَقُّ" خبر مبتدأ مضمر، أي هو الحق.
الثالث: أن "الحَقَّ" خبر بعد خبرٍ.
الرابع: أن يكون "مِن ربِّك الحقُّ" كلاهما خبر واحد، قاله أبو البقاءِ، والحوفيُّ وفيه بعد، إذ ليس هو مثل: "حُلْوٌ حَامضٌ.
الخامس: أن يكون "الَّذي" صفة للكتاب.
قال أبو البقاءِ: "وأدخلت الواو في لفظه، كما أدخلت في "النَّازِلينَ والطيبين" يعني أنَّ الواو تدخل على الوصف، والزمخشري يجيزه، ويجعل الواو في ذلك تأكيداً، وسيأتي إن شاء الله ـ تعالى ـ في الحجر في قوله
{ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [الحجر:4].
وقوله: (في النازلين والطيبين) يشير إلى بيت الخرنقِ بنت هفّان في مدحها لقومها: [الكامل]

3160ـ لا يَبْعدَنْ قَوْمِي الَّذينَ هُمُ سُمُّ العُداةِ وَآفةُ الجُزْرِ
النَّازِلينَ بِكُلِّ مُعتَركٍ والطَّيبينَ مَعَاقِدَ الأُزْرِ

فعطف "الطَّيبين" على "النَّازلينَ" وهما صفتان لقومٍ معينين، إلاَّ أن القوم بين الآية، والبيت واضحٌ، من حيث إنَّ البيت فيه عطف صفةٍ على مثلها، والآية ليست كذلك.
وقال أبو حيَّان: أن تكون الآية مما عطف [فيه] وصف على مثله، فقال: وأجاز الحوفي أيضاً أن يكون "والَّذِي" في موضع رفع عطفاً على "آيَاتُ"، وأجاز هو، وابن عطيَّة: أن يكون "والَّذي" في موضع خفضٍ، وعلى هذين الإعرابين، يكون "الحقُّ" خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الحق، ويكون "والَّذي" ممَّا عطف فيه الوصفُ على الوصفِ، وهما لشيءٍ واحدٍ، كما تقول: جاءني الظريف العاقلُ، وأنت تريدُ شخصاً واحداً، من ذلك قول الشاعر: [المتقارب]

3161ـ إلى المَلكِ القَرْمِ وابنِ الهُمَامِ ولَيْثِ الكَتِيبةِ في المُزْدَحَمْ

قال شهابُ الدِّين: وأين الوصف المعطوف عليه؛ حتى نجعله مثل البيت الذي أنشده.
السادس: أن يكون "الَّذي" مرفوعاً نسقاً على "آيَاتُ" كما تقدَّمت حكايته عن الحوفي. وجوَّز الحوفي أيضاً: أن يكون "الحقُّ" نعتاً لـ "الَّذي" حال عطفه على "آيَاتُ الكِتَابِ".
فتلخَّص في "الحق" خمسة أوجه.
أنَّهُ خبرٌ أوَّل، أو ثان، أو هو ما قبله، أو خبراً لمبتدأ مضمر، أو صفة لـ "الَّذي" إذا جعلناه معطوفاً على "آيَاتُ".
فصل
قال ابن عبَّاسٍ ـ رضي الله عنه ـ: أراد بـ:الكِتابِ" القرآن ومعناه: هذه آيات الكتاب، يعني: القرآن، ثمَّ ابتدأ، وهذا القرآن { وَٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ٱلْحَقُّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } وهذا زجرٌ وتهديدٌ.
وقال مقاتلٌ: نزلت في مشركي مكَّة حين قالوا: إنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم يقوله من تلقاء نفسه فردَّ قولهم.
فصل
تمسَّك نفاةُ القياس بهذه الآية وقالوا: الحكمُ المستنبطُ بالقياس غير ما نزل من عند الله ـ تعالى ـ وإلاَّ لكان من لم يحكم به كافر، لقوله تعالى
{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } [المائدة:44]، وبالإجماع لا يكفرُ، فثبت أنَّ الحكم المثبت بالقياس غير نازلٍ من عند الله ـ تعالى ـ، وإذا كان كذلك، وجب ألاَّ يكون حقًّا، وإذا لم يكن حقًّا، وجب أن يكون باطلاً، لقوله تعالى: { فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقِّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ } } [يونس:32] وأجيب: بأن الحكم المثبت بالقياس نازل أيضاً؛ لأنَّه ـ تعالى ـ أمر العملِ بالقياسِ، فكان الحكمُ الَّذي دلَّ عليه القياس نازلاً من عند الله ـ تعالى ـ.
قوله تعالى { ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } [الآية:2] لما ذكر أنَّ أكثر النَّاس لا يؤمنون، ذكر عقبهُ ما يدلُّ على صحَّة التَّوحيد، والمعاد، وهو هذه الآية.
قوله: "اللهُ" قال الزَّمخشريُّ: "اللهُ" مبتدأ، و{ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَاوَاتِ } خبره بدليل قوله تعالى: { وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلأَرْضَ } ويجوز أن يكون { ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَاوَاتِ } صفة، وقوله: { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ } خبراً".
وقوله: "بِغَيْرِ عمدٍ" هذا الجار في محلِّ نصب على الحال من "السَّمواتِ" أي: رفعها خالية من عمدٍ، ثمَّ في هذا الكلام وجهان:
أحدهما: انتفاء العمدِ، والرؤية جميعاً، أي: لا عمد؛ فلا رؤية، يعني: لا عمد لها؛ فلا ترى، وإليه ذهب الجمهور.
والثاني: أنَّ لها عمداً، ولكنها غير مرئيَّة.
وعن ابن عبَّاسٍ: ما يدريك أنَّها بعمدٍ لا ترى، وإليه ذهب مجاهد وهذا قريب من قولهم: "مَا رأيتُ رجُلاً صالحاً"، ونحو:
{ لاَ يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافاً } [البقرة:273] [الطويل]

3162ـ على لا حِبٍ لا يُهْتَدَى بِمنَارِهِ ...................

وقد تقدَّم هذا، إذا قلنا: إنَّ "تَروْنَهَا" صفة أمَّا إذا قلنا: إنَّها مستأنفةٌ كما سيأتي؛ فيتعيّن أن لا عمد لها.
والعامة على فتح العين، والميم، وهو اسم جمع، وعبارة بعضهم: أنه جمع نظراً إلى المعنى دون الصناعة، وفي مفرده احتمالان:
أحدهما: أنَّه عماد مثل "إهَاب وأهُب".
والثاني: أنه عمودٌ، كأدِيم وأدُم، وقَضِيتم وقُضُم، كذا قاله أبو حيَّان: وقال أبو البقاءِ: "جمع عماد، أو عمود مثل: أدِيم وأدُم، وأفِيق وأفُق، وإهَاب وأهُب، ولا خامس لها"، فجعلوا فعولاً كفعيل في ذلك.
وفيه نظر؛ لأنَّ الأوزان لها خصوصية، فلا يلزمُ من جمع "فعيل" على كذا أن يجمع عليه "فعول"، فكان ينبغي أن ينظروه بأن: "فَعُولاً" جمع على "فَعَل"، ثم قول أبي البقاءِ "ولا خامس لها" يعني أنه لم يجمع على: "فُعُل" إلاَّ هذه الخمسة "عِمادٌ وعَمُودٌ وأدِيمٌ وأفِيقٌ وإهَابٌ".
وهذا الحصرُ ممنوعٌ لما تقدَّم من نحو: قَضِيمٌ وقُضُمٌ، ويجمعان في القلَّة على أعمدة. وقرأ أبو حيوة، ويحيى بن وثاب: "عُمُد" بضمتين، ومفرده يحتمل أن يكون عِمَاداً، كشِهَاب، وشُهُب، وكِتَاب، وكُتُب، وأن يكون عَمُوداً، كرسُولٍ، ورُسُل وقد قرىء في السبع:
{ فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ } [الهمز:9] بالوجهين.
وقال ابن عطية في "عَمَد" اسم جمع عمود، والباب في جمعه "عُمُد" بضم الحروف الثلاثة، كرسول ورُسُلٌ.
قال أبو حيان: "وهذا وهمٌ، وصوابه: بضمِّ الحرفين؛ لأنَّ الثالث هو حرف الإعراب، فلا يعتبر ضمه في كيفية الجمعِ".
والعِمَادُ والعَمود: ما يعمدُ به، أي: يسند، ويقال: عمدت الحائطَ أعمدهُ عَمْداً، أي: أدْعمتهُ، فاعْتمدَ الحائطُ على العِمَادِ، والعَمَدُ: الأساطينُ قال النابغة: [البسيط]

3163ـ وخَيِّسِ الجِنَّ إنِّي قَدْ أذِنْتُ لَهُمْ يَبْنُونَ تَدْمُرَ بالصُّفَّاحِ والعمَدِ

والعَمْدُ: قصد الشيء، والاستناد إليه، فهو ضدُّ السَّهو، وعمودُ الصُّبْحِ: ابتداءُ ضوئهِ تشبيهاً بعمُودِ الحديدِ في الهَيئةِ، والعُمْدَة: ما يُعْتمدُ عليه من مالِ وغيرهِ والعَمِيدُ: السَّيِّد الذي يعمدهُ النَّاسُ، أي: يَقْصدُونَهُ.
قوله "تَرَوْنَها" في الضَّمير المنصُوب وجهان:
أحدهما: أنَّهُ عائدٌ على: "عَمَدٍ"، وهو أقرب مذكورٍ، وحينئذ تكون الجملة في محل جر صفة لـ "عَمَدٍ"، ويجيء فيه الاحتمالانِ المتقدِّمانِ من كون العمد موجودة لكنَّها لا ترى، أو غير موجودة ألبتَّة.
والثاني: أنَّ الضَّمير عائد على "السَّمواتِ"، ثمَّ في هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنَّها مستأنفة لا محلَّ لها، أي: استشهد برؤيتهم لها لذلك، ولم يذكر الزمخشري غيره.
والثاني: أنها في محل نصب على الحال من هاء: "تَرَوْنهَا" وتكون حالاً مقدرة؛ لأنها حين رفعها لم نكن مخلوقين، والتقدير: رفعها مرئية لكم.
وقرأ أبي: "تَرَوْنهُ" بالتَّذكير مراعة للفظ "عَمَدٍ" إذ هو اسمُ جمع، وهذه القراءة رجح بها الزمخشري كون الجملة صفة لـ"عَمَدٍ"، وزعم بعضهم أن "تَرَوْنَهَا" خبر لفظاً، ومعناه الأمر، أي روها، وانظروا إليها لتعتبروا بها، وهو بعيد؛ ويتعين على هذا أن يكون مستأنفاً، لأن الطَّلب لا يقع صفة، ولا حالاً.
و"ثُمَّ" في "ثُمَّ اسْتَوَى" لمجرَّدِ العطف لا للترتيب؛ لأنَّ الاستواء على العرشِ غير مرتب على رفع السموات.
قوله: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } علا عليه: { وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } لمنافع خلقه، فهما مقهوران يجريان على ما يريد الله ـ عزَّ وجلَّ ـ.
قال ابن عبَّاسٍ: للشَّمس مائة وثمانون منزلاً كُلَّ يوم لها منزلٌ، وذلك يتمُّ في ستَّة أشهرٍ، ثم تعود مرة أخرى إلى واحدٍ منها في ستَّة أشهر أخرى، وكذلك للقمر ثمانية وعشرون منزلاً، فهذا هو المراد من قوله سبحانه وتعالى: { كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّـى }.
وتحقيقه: أن الله قدَّر لكلِّ واحدٍ من هذه الكواكب سيراً خاصًّا إلى جهة خاصَّة بمقدارٍ خاص من السُّرعةِ، والبُطءِ، وإذا كان كذلك؛ لزم أن يكون لها بحسب كلِّ لحظة ولمحة حالة أخرى لم تكن حاصلة قبل ذلك.
وقيل: المراد بقوله: { كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّـى } كونهما متحركين إلى يوم القيامة فتنقطع هذه الحركات كما وصف ـ تعالى ـ في قوله:
{ إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوِّرَتْ } [التكوير:1] { إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتْ } [الانشقاق:1] و { إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنفَطَرَتْ } [الانفطار:1] { وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ } [القيامة:9] كقوله تعالى: { ثُمَّ قَضَىۤ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ } [الأنعام:2].
قوله: { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ } قرأ العامة هذين الحرفين بالياء من تحت جرياً على ضمير اسم الله ـ تعالى ـ وفيهما وجهان:
أظهرهما: أنهما مستأنفان للإخبار بذلك.
والثاني: أنَّ الأول حالٌ من فاعل "سخَّر"، والثاني حالٌ من فاعل: "يُدبِّرُ".
وقرأ النخعي، وأبان بن تغلب: (ندبر الأمر نفصل) بالنون فيهما، والحسن والأعمش: "نُفَصِّلُ" بالنون "يُدبِّرُ" بالياء.
قال المهدويُّ: لم يختلف في: "يُدبِّرُ" يعني أنَّه بالياء، وليس كما ذكر لما تقدَّم عن النخعي، وأبان بن تغلب.
فصل
قوله: { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ } يقضيه وحده، وحمل كل واحد من المفسرين التَّدبير على نوع آخر من أحوال العالم، والأولى حمله على الكل، فهو يدبِّرهم بالإيجاد، والإعدامِ والإحياءِ، والإماتةِ، والاعِتمادِ، والانقيادِ، ويدخل فيه إنزال الوحي، وبعث الرسلَ وتكليف العبادِ، وفيه دليلٌ عجيبٌ على كمال القدرةِ والرحمة؛ لأنَّ هذا العالم من أعلى العرش إلى أطباق الثَّرى يحتوي على أجناسٍ، وأنواع لا يحيطُ بها إلا الله ـ تعالى ـ.
والدليل المذكور على تدبير كلِّ واحدٍ بوصفه في موضعه وطبيعته، ومن المعلوم أنَّ من اشتغل بتدبير شيءٍ، فإنَّهُ لا يمكنه تدبير شيء آخر، فإنه لا يشغله شأنٌ عن شأن، وإذا تأمَّل العاقل في هذه الآية علم أنَّهُ ـ تعالى ـ يدبِّر عالم الأجسام ويدبر عالم الأرواح، ويدبر الكبير كما يدبر الصغير، ولا يشغله شأن عن شأن، ولا يمنعه تدبيرٌ عن تدبير، وذلك يدل على أنه ـ تعالى ـ في ذاته، وصفاته، وعلمه، وقدرته غير مشابه للمخلوقات، والممكنات.
قوله { يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ } يبين الدلالات الدَّالة على إلاهيته، وعلمه، وحكمه.
واعلم أنَّ الدَّلائل الدالَّة على وجود الصَّانع قسمان:
أحدهما: الموجودات الباقية الدائمةُ كالأفلاكِ، والشمس، والقمر، والكواكب وهذا القسم تقدَّم ذكره.
والثاني: الموجودات الحادثة المتغيرة، وهي الموتُ بعد الحياة، والفقرُ بعد الغنى، والهرم بعد الصحَّة، وكون الأحمق في أهنأ العيش، والعاقل في أشد الأحوال، فهذا النَّوعُ من الموجودات، والأحوال دلالتها على وجود الصَّانع الحكيم ظاهرةٌ.
فقوله: { يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ } إشارة إلى أنَّه يحدث بعضها عقيب بعض على سبيل التمييز، والتفصيل.
ثم قال: { لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } لكي توقنوا بوعده، وتصدِّقوا.
واعلم أنَّ الدلائل الدالة على وجود الصَّانع الحكيم تدلُّ أيضاً على صحَّة القول بالحشرِ والنشر؛ لأنَّ من قدر على خلق هذه الأشياء، وتدبيرها على عظمها، وكثرتها فبأن يقدر على الحشر، والنشر أولى.
وروي أنَّ رجلاً قال لعليِّ بن أبي طالبٍ ـ كرَّم الله وجهه ـ: كيف بحاسب الله الخلق دفعة واحدة؟ قال: كما يرزقهم الآن دفعة واحدة، وكما يسمعُ نداءهم ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة.
واعلم أنَّهُ ـ تعالى ـ كما قدر على بقاء الأجرام الفلكيِّة، والنيرات الكوكبية في الجو العالي، وكما يمكنه تدبير ما فوق العرش إلى ما تحت الثَّرى لا يشغله شأنٌ عن شأنٍ، كذلك يحاسبُ الخلق بحيث لا يشغله شأنٌ عن شأنٍ.
واعلم أنَّ لفظ "اللِّقاءِ" يدل على رؤية اللهِ ـ تعالى ـ وقد تقدَّم تقريره.
{ وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلأَرْضَ } [الآية:3] لما قرر الدلائل السماوية أردفها بتقرير الدلائل الأرضية فقال: { وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلأَرْضَ } بسطها، قال الأصم: المد: البسط إلى ما لا يدرك منتهاه فقوله: { مَدَّ ٱلأَرْضَ } ليشعر بأنَّه تعالى جعل حجم الأرض حجماً عظيماً، لا يقع البصر على منتهاه، وقال قومٌ كانت الأرض مكورة فمدَّها، ودحاها من مكَّة من تحت البيت، فذهبت كذا وكذا ـ وقال آخرون: كانت مجتمعة عند بيت المقدس، فقال لها: اذهبي كذا، وكذا.
قال ابن الخطيب: وهذا القول إنَّما يتمٌّ إذا قلنا: الأرض مسطحةٌ لا كرةٌ وأصحاب هذا القول، احتجوا عليه بقوله تعالى:
{ وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [النازعات:30] وهو مشكل من وجهين:
الأول: أنَّه ثبت بالدليل أنَّ الأرض كرةٌ، فإن قالوا: قوله تعالى: مد الأرض ينافي كونها كرة.
قلنا: لا نسلم؛ لأنَّ الأرض جسم عظيم، والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان كل قطعة منها تشاهدُ كالسَّطح، والتَّفاوت الحاصل بينه، وبين السَّطح، لا يحصلُ إلاَّ في علم الله ـ تبارك وتعالى ـ إلا في قوله تعالى
{ وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً } [النبأ:7] مع أن العالم من النَّاس يستقرُّون عليه، فكذلك هنا.
والثاني: أنَّ هذه الآية إنَّما ذكرت ليستدلّ على وجود الصَّانع؛ والشرط فيه أن يكون ذلك أمراً مشاهداً معلوماً، حتى يصح الاستدلال به على وجود الصانع لأنَّ الشيء إذا رأيت حجمه، ومقداره، صار ذلك الحجم، وذلك المقدار عبرة؛ فثبت أنَّ قوله: { مَدَّ ٱلأَرْضَ } إشارة إلى أنه تعالى ـ هو الذي جعل الأرض مختصة بمقدار معيَّن لا يزيدُ ولا ينقص، والدليل عليه أن كون الأرض أزيد مقداراً ممَّا هو الآن، وأنقص منه أمر جائز ممكن في نفسه، فاختصاصه بذلك المقدار المعيَّن لا بدَّ وأن يكون بتخصيص مخصَّصِ، وتقدير مقدِّرٍ.
قوله: { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ } وهي الجبالُ الثَّوابت، وقاعدة هذا الوصف لا تطَّرد إلا الإناث إلا أن المكسر مما لا يعقل يجري مجرى جمع الإناث، وأيضاً كثرة استعماله كالجوامد، فجمع حائط حوائط، وكاهل كواهل. وقيل: هو جمع راسية، والهاء للمبالغة، والرسوُّ: الثبوت، قال الشاعر: [الطويل]

3164ـ بِهِ خَالدَاتٌ مَا يرِمْنَ وهَامِدٌ وأشْعَثُ أرْسَتْهُ الوَلِيدةُ بالفِهْرِ

فصل
قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ: كان أبو قبيسٍ أوَّل جبلٍ وضع على وجه الأرض.
واعلم أنَّ الاستدلال بوجود الجبال على وجود الصَّانع القادر الحكيم من وجوه:
أولها: أنَّ طبيعة الأرض واحدة، فحصول الجبل في بعض جوانبها دون البعضِ لا بدّ وأن يكون بتخليق القادر العليم.
قالت الفلاسفة: الجبال إنَّما تولّدت من البخارات؛ لأنَّ البخارات كانت في هذا الجانب من العالمِ، كان تتولدُ في البحر طيناً لزجاً، ثم يقوى فيه تأثير الشمس؛ فينقلب حجراً كما نشاهده، ثمَّ إنَّ الماء كان يفور ويقلّ؛ فلهذا السبب تولّدت هذه الجبالُ وإنما حصلت هذه الجبالُ في هذا الجانب من العالم: لأن في الدّهر الأقدم كان حضيض الشمس في جانب الشمال، والشمس متى كانت في حضيضها كانت أقرب إلى الأرض، فكان التسخين أقوى، وشدّة والسُّخونة توجب انجذاب الرطوبات، فحين كان الحضيض في جانب الشمالِ، كان البخارُ في جانب الشمال، ولما انتقل الأوج إلى جانب الشمال، والحضيض إلى جانب الجنوب انتقلت البحار إلى جانب الجنوب فبقيت هذه الجبالُ في جانب الشمال. وهذا ضعيفٌ من وجوه:
الأول: أنَّ حصول الطِّين في البحر أمر عام، ووقوع الشَّمس عليها أيضاً أمر عامٌّ، فلم حصل هذا الجبل في بعض الجوانب دون البعضِ؟.
الثاني: أنَّا نشاهدُ بعض الجبال كأنَّ تلك الأحجار موضوعة أقساماً كأن البنَّاءَ بناه من لبِنَاتٍ كثيرة موضوع بعضها فوق بعضٍ، ويبعدُ حصول مثل هذا التركيب من السَّبب الذي ذكروه.
الثالث: أنَّ أوج الشَّمس الآن قريب من أوَّل السَّرطان، فعلى هذا من أوَّل الوقت الذي انتقل أوجُ الشمس إلى الجانب الشَّمالي مضى قريباً من تسعة آلاف سنة، وبهذا التقدير: أنَّ الجبال في هذه المدَّة الطويلة كانت في التفتت، فوجب أن لايبقى من الأحجار شيءٌ، لكن ليس الأمرُ كذلك؛ فعلمنا أنَّ السبب الذي ذكروه ضعيف.
الوجه الثاني من الاستدلال بأحوال الجبالِ على وجود الصَّانع: ما يحصلُ فيها من المعادن، ومواضع الجواهر النفيسة، وما يحصل فيها من معادن الدخان ومعادن النفط، والكبريت، فتكون طبيعة الأرض واحدة، وكون الجبل واحداً في الطَّبع وكون تأثير الشمس واحداً في الكل يدلُّ ظاهراً على أنَّ بتقدير قادر قاهر متعال عن مشابهة المحدثات.
الوجه الثالث من الاستدلال بأحوال الجبال: وذلك أنَّ بسببها تتولدُ الأنهار على وجه الأرض؛ لأنَّ الحجر جسمٌ صلبٌ، فإذا تصادعت الأبخرة من قعْرِ الأرض، ووصلت إلى الجبال انحبست هناك، فلا تزال تتكامل، فيحصل بسبب الجبل مياه عظيمة ثمَّ إنَّها لكثرتها، وقوتها تثقب، وتخرج، وتسيل على وجه الأرض، فمنفعة الجبال في تولدِ الأنهارِ هو من هذا الوجه، ولهذا السَّبب ما ذكره الله الجبال إلاَّ وذكر بعدها الأنهار في أكثر الأمر كهذه الآية، وقوله تعالى:
{ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً } [المرسلات:27].
فصل
قال القرطبي: في هذه الآية ردٌّ على من زعم أنَّ الأرض كالكرةِ لقوله: { مَدَّ ٱلأَرْضَ }، ورد على من زعم أن الأرض تهوي أبداً بما عليها، وزعم ابنُ الرَّوانديُّ: أنَّ تحت الأرض جسماً صاعداً كالرِّيحِ الصعادة، وهي منحدرة فاعتدل الهاوي، والصعَّادي في الجرم والقوة فتوافقا.
وزعم آخرون: أن الأرض مركبة من جسمين.
أحدهما: منحدرٌ، والآخر: مصدع فاعتدلا، فلذلك وقفت، والذي عليه المسلمون، وأهل الكتاب القول بوقوف الأرض، وسكونها، ومدِّها، وأنَّ حركتها إنَّما تكونُ في العادةِ بزلزلةٍ تصيبها والله أعلم.
قوله: { وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ } يجوز فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يتعلق بـ "جَعَلَ" [بعده]، أي: وجعل فيها زوجين اثنين من كلِّ صنفٍ من أصناف الثمرات، وهو ظاهرٌ.
والثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حالٌ من:"اثْنَيْنِ"؛ لأنَّه في الأصل صفة لهُ.
الثالث: أن يتمَّ الكلام على قوله: { وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ } فيتعلق بـ "جَعَلَ" الأولى على أنه من باب عطف المفردات، يعني عطف على معمول "جعل" الأولى تقديره: أنه جعل في الأرض كذا، وكذا ومن كل الثمرات.
قال أبو البقاء: ويكون "جَعل" الثاني مستأنفاً، و"يُغْشِي اللَّيْلَ" تقدَّم الكلام فيه، وهو إمَّا مستأنفٌ، وإمَّا حال من فاعل الأفعال.
فصل
المعنى: ومن كلِّ الثمرات جعل فيها زوجين، أي: صنفين اثنين: أصفر، وأحمر، وحلواً، وحامضاً.
وهذا النوعُ الثالث في الاستدلال بعجائب خلقة النبات.
واعلم أن الحبَّة إذا وقعت في الأرض ربت وكبرت؛ فبسبب ذلك ينشقُّ أعلاها وأسفلها، فيخرج من الشق الأعلى الشجرة الصَّاعدة، ويخرج من الشق الأسفل العروق الغائصة في الأرض، وهذا من العجائب؛ لأنَّ طبيعة تلك الحبَّة واحدة وتأثير الطبائع، والأفلاك، والكواكب فيها واحد، ثم إنه يخرج من الجانب الأعلى من تلك الحبَّة جرمٌ صاعدٌ إلى الهواء، ومن الجانب الأسفل جرمٌ غائصٌ في الأرض، ومن المحال أن يتولَّد من الطبيعة الواحدة طبيعتان متضادتان، فعلمنا أنَّ ذلك إنَّما كان بتدبير المدبِّر العليم الحكيمِ لا بسبب الطَّبع، والخاصة، ثم إنَّ الشجرة النَّامية في تلك الجهة بعضها يكون خشباً، وبعضها يكون نوراً، وبعضها يكون ثمرة، ثم إن تلك الثمرة أيضاً يحصل فيها أجسامٌ مختلفة الطَّبائع مثل الجوز ففيه أربعة أنواع من القشور، فالقشرة الأعلى، وتحته القشرة الخشبية، وتحته القشرة المحيطة باللبَّ، وتحت تلك القشرة قشرة أخرى في غاية الرَّقة تمتازُ عمَّا فوقها حال كون الجوز واللوز رطباً وأيضاً: فقد يحصل في الثمرة الواحدة الطبائع المختلفة فالأترج قشرهُ جارّ يابس ولحمه حارٌّ رطب، وحامضه بارد يابس وبذره حار يابس، وكذلك العنب قشره وعجمه باردان يابسان ولحمه وماؤه حارّان رطبان؛ فثبت أنَّ هذه الطَّبائع المختلفة من الحبة الواحدة مع تساوي تأثيرات الطبائع، وتأثيرات الأنجم، والأفلاك ـ على زعم من يدعيه ـ لا بد وأن يكون بتدبير العليمِ القدير.
فإن قيل: الزَّوجان لا بدَّ وأن يكونا اثنين، فما الفائدة في قوله: "زَوْجيْنِ اثْنَيْنِ"؟.
فالجواب: أنه ـ تعالى ـ أوَّل ما خلق العالم، وخلق فيه الأشجار، خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط، فلو قال: "زَوْجَيْنِ" لم يعلم أنَّ المراد النوع، أو الشخص فلما قال: "اثْنَيْنِ" علمنا أنه ـ تعالى ـ أوَّل ما خلق من كل زوجين اثنين [لا أقل ولا أزيد، والحاصل أن الناس فيهم الآن كثرة، إلا أنهم ابتدءوا من زوجين اثنين] بالشَّخص وهما: آدم وحواء ـ عليهما السلام ـ وكذلك القول في جميع الأشجار، والزروع، والله أعلم.
النوع الرابع: الاستدلال بأحوال الليل، والنهار، وإليه الإشارة بقوله: { يُغْشِي ٱلْلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ } وقد سبق الكلام فيه فأغنى عن الإعادة.
ثم قال تعالى: { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } فيستدلون، والتَّفكر: تصرف القلب في طلب المعاني.
قوله: { وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ } العامة على رفع: "قِطَعٌ"وجَنَّاتٌ" إمَّا على الابتداء، وإما على الفاعلية بالجار قبله.
وقرىء "قِطَعاً متَجَاورَاتٍ" بالنصب، وكذلك هي في بعض المصاحف على إضمار جعل. وقرأ الحسن: "وجَنَّاتِ" بكسر التَّاءِ وفيها أوجهٌ:
أحدها: أنه جر عطفاً على "كُلِّ الثَّمراتِ".
الثاني: أنه نصب نسقاً على: "زَوحَيْنِ اثْنَينِ" قاله الزمخشري.
الثالث: أنه نصبه نسقاً على: "رَواسِيَ".
الرابع: أنه نصبه بإضمار جعل، وهو أولى لكثرة الفواصل في الأوجه قبله.
قال أبو البقاء: "ولم يقرأ أحد منهم "وزَرْعاً" بالنصب".
قوله: { وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ } قرأ ابن كثيرٍ، وأبو عمرو، وحفص: بالرفع في الأربعة، والباقون بالخفض، فالرفع في "زَرْعٌ ونَخِيلٌ" للنسق على "قِطَعٌ" وفي "صِنْوانٌ" لكونه تابعاً لـ"نَخِيلٌ"، و"غَيْرُ" لعطفه عليه.
وعاب أبو حيَّان على ابن عطيَّة قوله: "عطفاً على: قِطَعٌ". قال: وليست عبارة محررة؛ لأنَّ فيها ما ليس بعطفٍ، وهو "صِنوانٌ".
قال شهابُ الدين: "ومثل هذا [غير معيب]؛ لأنَّه عطف محقق غاية ما فيه أنَّ بعض ذلك تابع، فلا يقدحُ في هذه العبارة، والخفض مراعاة لـ "أعنابٍ".
وقال ابن عطيَّة: عطفاً على "أعْنابٍ"، وعابها أبو حيان بما تقدَّم وجوابه ما تقدَّم.
وقد طعن قومٌ على هذه القراءة، وقالوا: ليس الزَّرعُ من الجنَّات، وروي لك عن أبي عمر.
وقد أجيب عن ذلك: بأنَّ الجنَّة احتوت على النَّخيل، والأعناب، لقوله ـ تعالى ـ
{ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً } [الكهف:32].
وقال أبو البقاءِ: "وقيل: المعنى، ونبات زرع فعطفه على المعنى".
قال شهاب الدين: "ولا أدري ما هذا الجوابُ؛ لأنَّ الذي يمنعُ أن يكون الجنة من الزَّرعِ يمنع أن يكون من نبات الزَّرعِ، وأي فرق". والصنوان: جمع صنوٍ كقنوان جمع قنو، وقد تقدَّم تحقيق هذا التّنبيه في الأنعام.
و"الصِّنْوُ": الفرع يجمعه وفرعاً آخر أصل واحد، وأصله المثل، وفي الحديث:
"عمُّ الرَّجل صِنْوُ أبيه" ، أي: مثله؛ أو لأنهما يجمعهما أصل واحدٌ والعامة على كسر الصاد.
وقرأ السلميُّ، وابن مصرف، وزيد بن عليٍّ: بضمها، وهي لغة قيسٍ، وتميم كذئب، وذُؤبان.
وقرأ الحسنُ، وقتادة: بفتحها، وهو اسم جمعٍ لا جمع تكسير؛ لأنه ليس من أبنية "فعلان"، ونظير "صنْوان" بالفتح "السَّعْدَان" هذا جمعه في الكثرةِ، وأمَّا في القلَّة، فيجمع على"أصْنَاء" كـ"جَمَل، وأجْمَال".
قوله: { يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ } قرأ ابنُ عامرٍ، وعاصمٌ "يُسْقَى" بالياء من تحت أي يسقى بما ذكرنا، والباقون بالتاء من فوق مراعاة للفظ ما تقدَّم، وللتأنيث في قوله "وجَنَّاتٍ"، ولقوله: "بَعْضَهَا".
قوله "ونُفَضِّلُ" قرأه بالياء من تحت مبنيًّا للفاعل: الأخوان، والباقون بنون العظمة، ويحيى بن يعمر، وأبو حيوة: "يُفَضَّلُ" بالياء منبيًّا للمفعول و"بَعضُهَا" رفعاً.
وقال أبو حاتم: وجدته كذلك في مصحف يحيى بن يعمر، وهو أوَّل من نقط المصاحف، وتقدَّم [الخلاف] في الأكل في البقرةِ.
وفي "الأكلِ" وجهان:
أظهرهما: أنَّه ظرفٌ [لـ"نُفَضِّلُ"].
والثاني: أنه حال من "بَعْضِهَا"، أي: نُفَضِّلُ بعضها مأكولاً، أي: وفيه الأكل، قاله أبو البقاءِ.
وفيه بعد جهة المعنى، والصناعة.
فصل
قوله: { وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ } قال الأصمُّ: أرضٌ قريبةٌ من أرض أخرى واحدة طيبة، وأخرى سبخة، وأخرى رملة، وأخرى حصباء وحصى، وأخرى تكون حمراء، وأخرى تكونُ سوداء.
وبالجملة: فاختلافُ بقاع الأرضِ في الارتفاع، والانخفاضِ، والطبعِ، والخاصيةِ أمر معلوم.
"وجَنَّاتٍ" بساتين: { مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ } تقدَّم الكلام على الصنو، والصنوان، وهي النخلات يجمعهن أصلٌ واحد، "وغيْرُ صِنْوانٍ" هي النَّخلةُ المنفردةُ بأصلها.
قال المفسريون: الصنوان: المجتمع، وغير الصنوان متفرق، ولا فرق في الصنوانِ، والقنوان بين التثنية والجمع إلاَّ في الإعرابِ، وذلك أنَّ النُّونَ في التثنية مكسورةٌ غير منونة وفي الجمع منونة.
{ يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ } والماء: جسم رقيق مائع به حياة كلِّ نامٍ.
{ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلأُكُلِ } في الثَّمر، والطَّعم، جاء في الحديث: "ونُفصِّلُ بعضهَا على بَعْضٍ في الأكلِ" قال: "الفارسي والدقلُ والحلوُ والحَامضُ".
قال مجاهد: كمثل بني آدم صالحهم وخبيثهم وأبوهم واحد.
وحكى الواحديُّ عن الزجاج: أنَّ الأكل: الثَّمر الذي يؤكل، وحكى عن غيره أنَّ الأكل: المهيّأ للأكل.
قال ابنُ الخطيب: "وهذا أولى؛ لقوله تعالى في صفة الجنة:
{ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا } [الرعد:35]: وهو عامٌّ في جميع المطعومات".
قال الحسن: هذا مثلٌ ضرب لقلوب بني آدم، كانت الأرض طينة واحدة في يد الرحمن، فسطحها؛ فصارت قطعاً متجاورات، فينزل عليها الماءُ من السَّماءِ فتخرج هذه زهرتها، وشجرتها، ونباتها، وثمرها، وتخرجُ هذه سبخها وملحها وخبيثها، وكلٌّ يسقى بماء واحد، كذلك النًّاسُ خلقوا من آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ فتنزل عليهم من السَّماءِ تذكرة، فترق قلوب قوم، فتخشع، وتقْسُو قلوب قوم فتلهو.
قال الحسنُ: والله ما جالس القرآن أحدٌ، إلاَّ قام من عنده بزيادة، أو نقصان، قال الله تعالى:
{ وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً } [الإسراء:82] { إِنَّ فِي ذٰلِكَ } الذي ذكر: { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }.
فصل
قال ابنُ الخطيب: المقصُودُ من هذه الآية: إقامة الدَّلالة على أنه لا يجوز أن يكون حدوث الحوادث في هذا العالم لأجل الاتصالات الفلكية والحركات الكوكبية من وجهين:
الأول: أنه جعل الأرض قطعاً مختلفة في الماهيَّة والطبيعة، وهي مع ذلك متجاورةٌ، فبعضها سبخةٌ، وبعضها طيِّبةٌ، وبعضها صلبة وبعضها حجريةٌ، وبعضها رمليةٌ، وتأثير الشمس، وتأثير الكواكب في تلك القطع على السَّويَّة؛ فدلَّ ذلك على أن اختلافها في صفاتها بتقدير العليم القدير.
الثاني: أنَّ القطعة الواحدة من الأرض تسقى بماءٍ واحدٍ، ويكون تأثير الشمس فيها [متساوياً]، ثمَّ إنَّ تلك الثمار تجيءُ مختلفة في اللَّون، والطَّعم، والطَّبيعة، والخاصية؛ حتى أنَّك قد تأخذ عنقوداً واحداً من العنب، فتكون جميع حبَّاته ناضجة حلوة إلاَّ حبة واحدة منه، فإنها تبقى حامضة يابسة، ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة الطبائع والأفلاك إلى الكل على السوية، بل نقول ههنا ما هو أعجب منه، وهو أنَّه يوجد في بعض أنواع الورد ما يكون في أحد وجهيه في غاية الحمرة، والوجه الثاني في غاية السَّواد، مع أنَّ ذلك الورد يكون في غاية الرقة والنُّعومة، ويستحيل أن يقال: وصل تأثير الشمس إلى أحد طرفيه دون الثاني، وهذا يدلُّ دلالة [قطعية] على أنَّ الكل بتقدير الفاعل المختار لا بسبب الاتِّصالات الفلكيَّة، وهذا هو المراد بقوله تعالى: { يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلأُكُلِ }، ولهذا قال: { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }.
فصل
قال القرطبي: هذه الآية تدلُّ على بطلان القول بالطبع، إذ لو كان ذلك بالماء، والتراب، والفاعل له الطبيعة؛ لما وقع الاختلاف.
وذهب الكفرةُ ـ لعنهم الله ـ إلى أنَّ كلَّ حادث يحدث من نفسه لا من صانع وادعوا ذلك في الثِّمار الخارجة من الأشجار، وأقرُّوا بحدوثها، وأنكروا الأعراض، وقالت فرقةُ بحصول الثِّمار لا من صانع، وأثبتوا للأعراض فاعلاً.
والدَّليل على أنَّ الحادث لا بد له من محدثٍ: أنَّه يحدثُ في وقت، ويحدث ما هو من جنسه في وقت آخر، فلو كان حدوثه في وقته لاختصاصه به؛ لوجب أن يحدث في وقته كل ما هو من جنسه، وإذا بطل اختصاصه بوقته صح أنَّ اختصاصه لأجل مخصص خصصه به، لولا تخصيصه إيَّاه لم يكن حدوثه في وقته أولى من حدوثه قبل ذلك أو بعده.