التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِىءُ ٱلسَّحَابَ ٱلثِّقَالَ
١٢
وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَٱلْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ ٱلصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَٰدِلُونَ فِي ٱللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ ٱلْمِحَالِ
١٣
لَهُ دَعْوَةُ ٱلْحَقِّ وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى ٱلْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ ٱلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ
١٤
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ
١٥
-الرعد

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ } الآية لما خوَّف العباد بإنزال ما لا مرد له، أتبعه بذكر هذه الآيات المشتملة على قدرة الله ـ تعالى ـ وحكمته، وهي تشبه النعم والإحسان من بعض الوجوه، وتشبه العذاب، والقهر من بعض الوجوه.
قوله: "خوفاً وطمعاً" يجوز أن يكونا مصدرين ناصبهما محذوف، أي: يخافون خوفاً، ويطمعون طمعاً، ويجوز أن يكونا مصدرين في موضع نصب على الحالِ، وفي صاحب الحال حينئذ وجهان:
أحدهما: أنه مفعول: "يُرِيكُمْ" الأول، أي: خائفين طامعين، أي: تخافون صواعقه وتطمعون في مطره، كما قال المتنبي: [الطويل]

3170ـ فَتًى كالسَّحابِ الجُونِ يُخْشَى ويُرْتَجَى يُرجَّى الحَيَا مِنهَا وتُخْشَى الصَّواعِقُ

والثاني: أنَّه البرق، أي: يريكموه حالَ كيف ذا خوفٍ وطمعٍ، إذ هو في نفسه خوف وطمع على المبالغة، والمعنى كما تقدَّم.
ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله، ذكره أبو البقاء، ومنعه الزمخشريُّ لعدم اتِّحادِ الفاعل، يعني أنَّ "الإرادة" وهو الله ـ تعالى ـ غير فاعل الخوف، والطمع، وهو ضمير المخاطبين، فاخلتف فاعل الفعل المعلل، وفاعل العلة وهذا يمكن أن يجاب عنه: بأنَّ المفعول في قوَّة الفاعل، فإن معنى "يُرِيكُم" يجعلكم رائين، فتخافون، وتطمعون.
ومثله في المعنى قول النابغة الذبياني: [الطويل]

3171ـ وحَلَّتْ بُيوتِي في يَفاعٍ مُمنَّعٍ تَخالُ بهِ رَاعِي الحَمُولةِ طَائِرَا
حِذَاراً على ألاَّ تَنالَ مَقادَتِي ولا نِسْوتِي حتَّى يَمُتْنَ حَرائِرَا

فـ"حذارا" مفعول من أجله، فاعله هو المتكلم، والفعل المعلل الذي هو: "حَلَّت" فاعله "بُيُوتِي" فقد اختلف الفاعل، قالوا: لكن لما كان التقدير: وأحللت بيوتي حذاراً صحَّ ذلك. وقد جوَّز الزمخشريُّ ذلك أيضاً على حذف مضاف فقال: "إلاَّ على تقدير حذف مضاف، أي: إرادة خوفٍ، وطمع، وجوَّزه، أيضاً على أن بعض المصادر ناب عن بعض. يعني أن الأصل: يريكم البرق إخافة، وإطماعاً".
فإنَّ المرئي، والمخيف، والمطمع هو الله ـ تعالى ـ فناب خوف عن إخافة، وطمع عن إطماع، نحو:
{ أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } [نوح:17] على أنه قد ذهب ابن خروف، وجماعة على أنَّ اتحاد الفعل ليس بشرط.
فصل
في كون البرق خوفاً وطمعاً وجوه:
قيل: يخاف منه نزول الصَّواعق، وطمع في نزول الغيثِ. وقيل: يخافُ المطر من يتضرر به كالمسافر، ومن في جرابه التمر والزبيب، والحب، ويطمع فيه من له فيه نفعٌ.
وقيل: يخاف منه في غير مكانه، وأمانه، ويطمع فيه إذا كان في مكانه وأمانه، ومن البلدان إذا مطروا، قحطوا، وإذا لم يمطروا خصبوا.
قال ابن الخطيب: "البرقُ جسمٌ مركبٌ من أجزاء رطبة مائية، ومن أجزاء هوائية ولا شك أنَّ الغالب عليه الأجزاء المائية، والماء جسمٌ باردٌ رطبٌ، والنَّار جسم حار يابس فظُهورُ الضدِّ من الضد التام على خلافِ العقل، فلا بد من صانع مختار يظهر الضدّ من الضدّ".
ثم قال: "ويُنْشِىءُ السَّحاب الثِّقَال" بالمطر، ويقال: أنشأ الله السحابة، فنشأت، أي: أبدأها فبدأت.
قال الزمخشري: "السَّحابُ: اسم جنس الواحدة سحابة، والثقال: جمع ثقيلة؛ لأنَّك تقول: سحابةٌ ثقيلةٌ وسحابٌ ثِقَال، كما تقول: امرأةٌ كريمة، ونساءٌ كِرام".
وقال البغوي: "السَّحاب جمع، واحدتها: سحابة، ويقال في الجمع: سُحُبٌ وسَحَائِبُ أيضاً، قال عليٌّ: السحاب غربال الماءِ".
فصل
قال ابن الخطيب: "وهذا من دلائل القدرة والحكمة، وذلك لأنَّ هذه الأجزاء المائية إمَّا أن يقال: حدثت في جو الهواءِ أو تصاعدت من وجه الأرض، فإن كان الأوَّل وجب أن يكون [حدوثها] بأحداث محدث حكيم قادر، وهو المطلوب، وإن كان الثاني هو أن يقال: تلك الأجزاء تصاعدت من الأرض، فلمَّا وصلت إلى الطبقة الباردة من الهواء بردت، فثقلت، فرجعت إلى الأرض.
فنقول: هذا باطلٌ؛ لأن الأمطار مختلفة، فتارة تكون القطرات كبيرة، وتارة تكون صغيرة، وتارة تكون متقاربة، وأخرى تكون متباعدة، وتارة تطول مدة نزول المطر، وتارة تقصر واختلاف الأمطار في هذه الصِّفات مع أنَّ طبيعة الأرض واحدة، وطبيعة الشمس واحدة فلا بد وأن يكون تخصيص الفاعل المختار، وأيضاً فالتَّجربة دلَّت على أنَّ للدعاء، والتَّضرع في نزول الغيث أثراً عظيماً كما في الاستسقاء ومشروعيته، فعلمنا أنَّ المؤثر فيه [قدرة] الفاعل لا الطبيعة، والخاصية".
قوله: { وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ } قال أكثر المفسرين: الرَّعدُ اسم ملكٍ يسوقُ السَّحاب، والصوت المسموع تسبيحه.
قال ابن عبَّاسٍ ـ رضي الله عنه ـ: "مَنْ سَمِعَ صوتَ الرَّعدِ فقال: سُبْحانَ الَّذي يُسبِّحُ الرَّعْدُ بحَمْدهِ والمَلائِكةُ مِنْ خِيفتهِ وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قدير، فإنْ أصَابهُ صَاعِقةٌ فَعَلى دِينه".
وعن ابن عبَّاس: أنَّ اليهود سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الرَّعدِ ما هو؟. فقال صلى لله عليه وسلم
"ملكٌ من الملائكةِ وُكِلَ بالسَّحابِ معهُ مخَارِيق من نَارِ يسُوقُ بِهَا السَّحابَ حيثُ شَاء اللهُ، قالوا: فَمَا الصَّوتُ الذي نَسْمَع؟ قال: زَجْرةُ السَّحابِ" .
وعن الحسن: أنَّه خلق من خلق الله ليس بملكٍ.
قال ابن الخطيب: فعلى هذا القولِ: الرَّعدُ هو الملكُ الموكل بالسحاب، وذلك الصَّوت يسمّى بالرَّعدِ، ويؤكد هذا ما روي عن النبيِّ صلى الله عليه سلم أنه قال:
"إنَّ اللهَ يُنشِىءُ السَّحاب، فتَنْطِقُ أحسنَ النُّطقِ وتَضحَكُ أحسن الضِّحكِ فنُطقه الرَّعدُ وضِحْكهُ برق" .
وهذا القول غير مستبعد؛ لأن ـ عند أهل السنة ـ البنية ليست شرطاً لحصولِ الحياةِ، فلا يبعد من الله ـ تعالى ـ أن يخلق الحياة، والعلم، والقدرة، والنُّطق في أجزاء السَّحاب، فيكون هذا الصوت المسموع فعلاً له، وكيف يستبعد ذلك، ونحن نرى أنَّ السمندل يتولد في النَّار، والضفادع تتولّد في الماءِ، والدُّودة العظيمة ربما تولدت في الثلوج القديمة، وأيضاً: فإذا لم يبعد تسبيحُ الجِبالِ في زمن داود ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ولا تسبيح الحصى في زمن محمد صلى الله عليه وسلم فكيف يبعدُ تسبيحُ السَّحاب؟.
وعلى هذا القول ففي هذا المسموع قولان:
أحدهما: أنه ليس بملك؛ لأنَّه عطف عليه الملائكة فقال: { وَٱلْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ } والمعطوف عليه مغايرٌ للمعطوف.
والثاني: لا يبعد أن يكون من جنس الملائكة، وإنَّما أفرده بالذِّكر تشريفاً كقوله تعالى:
{ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [البقرة:98] وقوله تعالى: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } [الأحزاب:7].
وقيل: الرعدُ اسم لهذا الصوت المخصوص، ومع ذلك فإنَّه يسبحُ، قال تعالى
{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ } [الإسراء:44].
وقيل: المراد من كون الرَّعد مسبحاً، أن من يسمع الرَّعد فإنَّه يسبح الله ـ تعالى ـ فلهذا المعنى أضيف التسبيح إليه.
قوله: { وَٱلْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ }، أي: والملائكة يسبحون من خيفة الله، وخشيته، وقيل: أراد بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد جعل الله ـ تعالى ـ له أعواناً، فهم خائفون خاضعون طائعون.
قال ابن عباسٍ ـ رضي الله عنهما ـ: "خائفون من الله لا كخوف بني آدم، فإنَّ أحدهم لا يعرف من على يمينه، ومن على يساره لا يشغله عن عبادة الله طعامٌ، ولا شراب ولا شيء".
قال ابن الخطيب: "والمحققون من الحكماء يقولون: إنَّ هذه الآثار العلوية إنَّما هي تتمُّ بقوى روحانية فلكيَّة، فللسَّحاب روح معيَّن في الأرواح الفلكيَّة يدبره، وكذا الرِّياح، وسائر الآثار العلوية، وهذا عين ما قلنا: إنَّ الرعد اسمٌ لملك من الملائكة يسبِّح الله ـ تعالى ـ.
فالذي قاله المفسِّرون بهذه العبارة، هو عين ما ذكره المحققون من الحكماء، فكيف يليق بالعاقل الإنكار؟".
قوله: { وَيُرْسِلُ ٱلصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ } كما أصاب أربد بن ربيعة.
"الصَّواعِقَ" جمع صاعقة، وهي العذاب المهلك ينزل من البرقِ، فتحرق من تصيبه وتقدَّم الكلام عليه في أوَّل البقرةِ.
قال المفسرون: نزلت هذه الآية في عامر الطُّفيل، وأربد بن ربيعة أخي أسد بن ربيعة كما قدمنا.
واعلم أنَّ أمر الصاعقة عجيبٌ جدًّا؛ لأنَّها نارٌ تتولَّد في السَّحاب، وإذا نزلت من السَّحاب فربما غاصت في البحرِ، وأحرقت الحيتان.
قال محمدُ بن عليّ الباقر: "الصَّاعقة تصيبُ المسلم، وغير المسلمِ، ولا تصيب الذَّاكر".
قوله: { وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي ٱللَّهِ } يجوز أن تكون الجملة مستأنفة أخبر عنهم بذلك ويجوز أن تكون حالاً.
وظاهر كلام الزمخشري أنَّها حال من مفعول "تَصِيبُ" فإنَّه قال: "وقيل: الواو للحال، أي: يصيب بها من يشاء في حال جدالهم" وجعلها غيره: حالاً من مفعول "يَشَاء".
فصل
معنى الكلام: أنه ـ تعالى ـ بيَّن دلائل العلم بقوله:
{ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ } [الرعد:8]، ودلائل كمال القدرة في هذه الآية، ثم قال تعالى: { وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي ٱللَّهِ } يعنى أنَّ الكفار مع ظهور هذه الدلائل يجادلون في الله.
قيل: المراد بها الرَّد على الكافر يعني أربد بن ربيعة الذي قال: أخبرنا عن ربِّنا، أهو من نحاسٍ، أم من حديد، أم من درٍّ، أم من ياقوت، أم من ذهب؟ فنزلت الصاعقة من السماء؛ فأحرقته.
وقيل: المراد جدالهم في إنكار البعث، وقيل المراد الرد على جدالهم في طلب سائر المعجزات.
وقيل: المراد الرد عليهم في استنزال عذاب الاستئصال.
"وسئل الحسن عن قوله: { وَيُرْسِلُ ٱلصَّوَاعِقَ } الآية قال: كان رجلٌ من طواغيت العرب بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم يقرّ بدعوته إلى الله ورسوله، فقال لهم: أخبروني عن رب محمدٍ، هذا الذي تدعُوني إليه، مِمَّ هو؟ من ذهبٍ، أو فضةٍ، أو حديدٍ أو نحاس؟ فاستعظم القوم مقالته، فانصرفوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله: ما رأينا رجُلاً أكفر قلباً، ولا أعتى على الله منه، فقال: صلى الله عليه وسلم: ارجعوا إليه فرجعوا إليه؛ فجعل لايزيدهم على مثل مقالته الأولى، وقال: أجيب محمداً إلى رب لا أراه، ولا أعرفه! وانصرفوا، وقالوا: يا رسول الله: ما زادنا على مقالته الأولى، وأخبث. فقال صلى الله عليه وسلم: ارجعوا إليه، فرجعوا إليه، فبينما هم عنده ينازعونه ويدعونه، وهو يقول هذه المقالة، إذا ارتفعت سحابة، فكانت فوق رءوسهم، فرعدت، وبرقت ورمت بصاعقة؛ فأحرقت الكافر، وهم جلوسٌ، فجاءوا يسعون؛ ليخبروا رسول الله صلى الله عليه سلم؛ فاستقبلهم قومٌ من أصحاب رسول الله صلى لله عليه وسلم فقالوا: احْترَقَ صَاحبُكُم فقالوا: من أين علمتم؟ فقالوا: أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم { وَيُرْسِلُ ٱلصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي ٱللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ ٱلْمِحَالِ }" .
قوله: { وَهُوَ شَدِيدُ ٱلْمِحَالِ } هذه الجملة حال من الجلالة الكريمة، ويضعف استنافها.
وقرأ العامة: بكسر الميم وهو القوَّة والإهلاكُ.
قال عبدالمطلب: [الكامل]

3172ـ لا يَغْلبَنَّ صَلِيبُهُمْ ومِحَالُهُمْ عَدواً مِحَالَك

وقل الأعشى: [الخفيف]

3173ـ فَرْغُ نَبْغٍ يَهتزٌّ في غُصُنِ المَجْـ ـدِ عَظيمُ النَّدى شديدُ المحالِ

والمحال أيضاً: أشدُّ المكايدة، والمماكرة، يقال: ما حله، ومنه تمحَّل فلان بكذا أي: تكلَّف له استعمال الحيلة.
وقال أبو زيدٍ: هو النِّقمةُ. وقال ابن عرفة: هو الجدالُ، وفيه على هذا مقابلة معنوية كأنه قيل: وهم يجادلون في الله، وهو شديد المحالِ.
وقال عليٌّ ـ رضي الله عنه ـ: شديد الأخذ. وقال ابن عباسٍ ـ رضي الله عنه ـ شديد المحول. وقال الحسن: شديد الحقدِ.
قالوا: وهذا لا يصلح للحقد؛ لأن الحقد لا يمكن في حق الله ـ تعالى ـ إلاَّ أنَّه تقدم أنَّ أمثال هذه الكلمات إذا وردت في حقِّ الله ـ تعالى ـ فإنَّها تحمل على نهايات الأغراض لا على مبادي الأعراض، فيكون المراد بالحقد ههنا: هو أنه ـ تعالى ـ يريد إيصال الشَّر إليه، مع أنه أخفى عنه تلك الإرادة.
وقال مجاهدٌ: شديد القوَّة. وقال أبو عبيدة: شديد العقوبة.
وقيل: شديد المكرِ، والمحال، والمماحلة، والمماكرة، والمغالبة.
واختلفوا في ميمه: فالجمهور على أنَّها أصلية من المحل، وهو المكر، والكيد، وزنها فعال: كمِهَاد.
وقال القتبيُّ: إنَّه من الحيلةِ، وميمه مزيدة، كـ"مكان" من الكون، ثم يقال: تمكنت، وقد غلَّطه الأزهريُّ، وقال: لو كان:"مِفْعَلاً" من الحيلة لظهرت الواو، مثل: مرودٍ، ومحولٍ، ومحودٍ. وقرأ الأعرج والضحاك بفتحها والظاهر أنه لغة في المكسورة، وهو مذهب ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ فإنه فسره بالحول كما تقدم، وفسره غيره: بالحيلة.
وقال الزمخشري: "وقرأ الأعرج بفتح الميم على أنه مفعل من: من حال يحول محالاً إذا احتال، ومنه: "أحْوَل مِنْ ذئْبٍ" أي: أشد حيلة، ويجوز أن يكون المعنى شديد الفقار، ويكون مثلاً في القوة، والقدرة كما جاء: فساعد الله أشد، وموساه أحد؛ لأن الحيوان إذا اشتد محاله كان منعوتاً بشدة القوَّة، والإضطلاع بما يعجز عنه غيره ألا ترى إلى قولهم: فقَرَتْهُ الفَواقِر، وذلك أنَّ الفقار عمود الظَّهر، وقوامه".
قوله: { لَهُ دَعْوَةُ ٱلْحَقِّ } من باب إضافة الموصوف إلى الصفة، والأصل له الدعوة الحق، كقوله
{ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ } [يوسف:109] على أحد الوجهين.
وقال الزمخشري فيه وجهان:
أحدهما: أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيضُ الباطل، كما يضاف الكلمة إليه في قوله: "كَلمةُ الحَقِّ".
الثاني: أن تضاف إلى "الحقِّ" الذي هو "الله" على معنى: دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب.
قال أبو حيَّان: "وهذا الوجه الثاني لا يظهر؛ لأنه مآله إلى تقدير: لله دعوة الله، كما تقول: "لزيد دعوة زيد"، وهذا التركيب لا يصحُّ".
قال شهاب الدين: "وأين هذا ممَّا قاله الزمخشريُّ حتى يرد عليه به"؟.
فصل
معنى قوله: "دَعْوةُ الحقِّ"، أي لله دعوة الصدق.
قال عليُّ: دَعْوةُ الحقِّ: التَّوحيد. وقال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل: الدُّعاء بالإخلاص عند الخوف، فإنَّه لا يدعى فيه إلا أياه، كما قال:
{ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [الإسراء:67].
قال الماورديُّ: وهو أشبه لسياق الآية؛ لأنه قال: { وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ } يعنى الأصنام: { لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ }، أي لا يجيبون لهم دعاء، ولا يسمعون لهم نداء. { إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى ٱلْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ }. ضرب الله ـ عزَّ وجلَّ ـ الماء مثلاً لما يأتيهم من الإجابة لدعائهم.
قوله: { وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ } يجوز أن يراد بـ"الَّذينَ" المشركون، فالواو في: "يَدعُونَ" عائدة، ومفعوله محذوف، وهو الأصنام، والواو في "لا يستجيبون" عائدة على مفعول "تَدْعَونَ" المحذوف، وعاد عليه الضمير كالعقلاء لمعاملتهم إيّاه معاملتهم، والتقدير: والمشركون الذي يدعون الأصنام لا تستجيب لهم الأصنام وإلا استجابة كاستجابة باسط كفيه أي: كاستجابة الماء من بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه، والماء جماد، ولا يشعر ببسط كفيه، ولا بعطشه، ولا يقدر أن يجيبه، ويبلغ فاه، قال معناه الزمخشريُّ.
وما ذكره أبو البقاء قريب من هذا، وقدر التقدير المذكور، قال: "والمصدر في هذا التقدير مضاف إلى المفعول، كقوله:
{ لاَّ يَسْأَمُ ٱلإِنْسَانُ مِن دُعَآءِ ٱلْخَيْرِ } [فصلت:49] وفاعل هذا المصدر مضمر، وهو ضمير الماءِ أي: لا يجيبونهم إلا كما يجيب الماء باسط كفيه إليه، والإجابة هنا كناية عن الانقياد".
وقيل: ينزلون في قلَّة فائدة دعائهم لآلهتهم منزلة من أراد أن يغرف الماء بيده؛ ليشرب، فيبسطها ناشراً أصابعه، ولم تصل كفاه إلى ذلك الماء، ولم يبلغ مطلوبه من شربه.
قال الفراء: المراد بالماء هاهنا: البئر؛ لأنَّها معدن الماءِ، ويجوز أن يراد بـ"الَّذينَ" الأصنام أي: والآلهة، والذين يدعونهم من دون الله لا يستجيبون لهم بشيءٍ إلا استجابة، والتقدير: كما تقدَّم في الوجه قبله.
وإنَّما جمعهم جمع العقلاء؛ إمَّا للاختلاط، لأنَّ آلهتهم عقلاء وجماد، وإمَّا لمعاملتهم إيَّاها معاملة العقلاء في زعمهم، قالوا: الواو في "يَدعُونَ" للمشركين والعائد المحذوف للأصنام، وكذا واو: "يَسْتَجِيبون".
وقرأ اليزيديُّ عن أبي عمرو: "تَدْعُونَ" بالخطاب: "كبَاسِطٍ كَفَّيْهِ" بالتنوين وهي مقوية للوجه الثاني، ولم يذكر الزمخشريُّ غيره.
قوله: "ليَبْلُغَ" اللام متعلقة بـ "بَاسط"، وفاعل: "يَبلُغَ" ضمير الماء.
قوله: { وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } في "هُوَ" ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه ضمير الماءِ، والهاء في: "بِبَالغِه" للفم، أي: وما الماء ببالغ فيه.
الثاني: أنه ضمير الفم، والهاء في "بِبالغِهِ" للماء، أي: وما الفم ببالغ الماء إذ كل واحد منهما لا يبلغ الآخر على هذه الحالِ، فنسبةُ الفعلِ إلى كل واحد وعدمه صحيحان.
الثالث: أن يكون ضمير الباسط، والهاء في: "بِبالغِهِ" للماء، أي: وما باسط كفيه إلى الماء ببالغ الماء.
ولا يجوز أن يكون "هُوَ" ضمير "البَاسط"، وفاعل "بِبَالغهِ" مضمراً والهاء في "بِبَالغهِ" للماء؛ لأنَّه حينئذٍ يكون من باب جريان الصِّفة على غير من هي له، ومتى كان كذلك لزم إبراز الفاعل، فكان التركيب هكذا: وما هو ببالغ الماء، فإن جعلنا الضمير في "ببَالغهِ" للماء؛ جاز أن يكون: "هُوَ" ضمير الباسط كما تقدَّم تقريره.
والكاف في "كباسط" إما نعت لمصدر محذوف، وإما حال من ذلك المصدر، كما تقدم تقريره.
وقال أبو البقاء: "والكاف في "كَباسطِ" إن جعلتها حرفاً كان فيها ضمير يعودُ على الموصوف المحذوف، وإن جعلتها اسماً لم يكن فيها ضمير".
قال شهابُ الدِّين: "وكون الكاف اسماً في الكلام، لم يقل به الجمهور، بل الأخفش. ويعني بالموصوف ذلك المصدر، والذي قدره فيما تقدَّم".

ثم قال: { وَمَا دُعَآءُ ٱلْكَافِرِينَ } أصنامهم: { إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } يضلّ عنهم إذا احتاجوا إليه، كقوله تعالى:
{ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ } [فصلت:48].
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ: { وَمَا دُعَآءُ ٱلْكَافِرِينَ } ربهم: { إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ }؛ لأن أصواتهم محجوبة عن الله ـ عزَّ وجلَّ.
وقيل: { إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ }؛ في ضياع لا منفعة فيه؛ لأنَّ الله لم يجبهم، وإن دعوا الآلهة لم تستطع إجابتهم.
قوله: { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } الآية في المراد بهذا السجود قولان:
أحدهما: السجود بوضع الجبهة على الأرض، وعلى هذا القول، ففيه وجهان:
أحدهما: أنَّ اللفظ، وإن كان عامًّا إلا أنَّ المراد المؤمنون، فبعضهم يسجدُ لله طوعاً بنشاط، وبعضهم يسجد لله كرهاً لصعوبة ذلك عليه، ويتحمل مشقَّة العبادة.
وقيل: المراد بقوله: "طَوْعاً" الملائكة، والمؤمنون، و"كَرْهاً" المنافقون، والكافرون الذين أكرهوا على السجود بالسَّيف.
والثاني: أنَّ اللفظ عام.
فإن قيل: ليس المراد: { مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } يسجد لله؛ لأن الكفَّار لا يسجدون.
فالجواب من وجهين:
الأول: أن المعنى أنه يجب على كلٍّ من في السموات، والأرض أن يعترف بعبودية الله، كما قال:
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [الزمر:38].
والقول الثاني: أنَّ السُّجود عبارة عن الانقياد، والخضوع، وترك الامتناع، وكلُّ من في السموات، والأرض ساجد لله بهذا المعنى؛ لأنَّ قدرته، ومشيئته نافذة في الكُل.
قوله: { طَوْعاً وَكَرْهاً } إمَّا مفعول من أجله، وإمَّا حال، أي: طائعين، وكارهين وإمَّا منصوب على المصدر المؤكد بفعل مضمر.
قوله: { وَظِلالُهُم بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ } قرأ أبو مجلز: والإيصال، بالياء قبل الصَّاد وخرَّجها ابن جني على أنه مصدر "آصل"، كضارب، أي: دخل في الأصيل، كأصبح أي: دخل في الصَّباح، و"ظِلالُهمْ" عطف على "من"، و"بِالغُدوِّ" متعلق بـ"يَسْجدُ" والباء بمعنى "فِي"، أي: في هذين الوقتين.
قال المفسرون: كل شخص سواء كان مؤمناً، أو كافراً فإنَّ ظله يسجد للَّه.
قال مجاهد: ظل المؤمن يسجد لله طوعاً، وهو طائع، وظل الكافر يسجد لله كرهاً وهو كاره.
وقال الزجاج: "جاء في التفسير أن الكافر يسجد لغيرِ الله، وظله يسجد لله".
وعند هذا قال ابن الأنباري: لا يبعد أن يخلق ـ تعالى ـ للظلال عقولاً، وأفهاماً تسجد بها، وتخشع كما جعل للجبال أفهاماً حتى اشتغلت بتسبيح الله وظهر اسم التجلي فيها، كما قال تعالى:
{ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً } [الأعراف:143].
قال القشيري ـرحمه الله ـ: "وفي نظر؛ لأن الجبل عين، فيمكنُ أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة، وأمَّا الظلال، فآثار وأعراض، ولا يتصور تقدير الحياة لها".
وقيل: المراد من سجود الظلال [ميلانها] من جانب إلى جانب، وطولها بسبب انحطاطِ الشمس، وقصرها بسبب ارتفاع الشمس، وهي منقادة [مستسلمة] في طولها، وقصرها وميلها من جانب إلى جانب، وإنَّما خص الغدو، والآصال بالذِّكر؛ لأنَّ الظلال إنما تعظم، وتكثر في هذين الوقتين.
و"الآصَال" جمع الأُصُل، والأُصل: جمع الأصيل، وهو ما بين العصر إلى غروب الشمس.
وقيل: "ظِلالُهمْ"، أي: أشخاصهم بالغدو، والآصال بالبكر والعشايا.