التفاسير

< >
عرض

قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُلِ ٱللَّهُ قُلْ أَفَٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي ٱلظُّلُمَاتُ وَٱلنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ ٱلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ ٱللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ
١٦
أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ
١٧
لِلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱلَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ سُوۤءُ ٱلْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ
١٨
-الرعد

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } الآية لما بيَّن أنَّ كلَّ من في السَّموات، والأرض ساجد لله بمعنى كونه خاضعاً له، عدل إلى الرَّد على عبدة الأصنام فقال: { قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ قُلِ ٱللَّهُ } ولمَّا كان هذا الجواب يقرّ به المسئولُ ويعترف به، ولا ينكره، أمره ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يكون هو الذاكر لهذا الجواب تنبيهاً على أنهم لا ينكرونه ألبتَّة.
قال القشيري: "ولا يبعد أن تكون الآية واردة فيمن لا يعترف بالصانع، أي: سلهم عن خالق السموات والأرض؛ فإنه يسهل تقرير الحجة عليهم ويقربُ الأمر من الضرورة، فإن عجز الجماد، وعجز كل مخلوق عن خالق السموات، والأرض معلوم".
ولما بين الله أنَّه هو الرب لكلِّ الكائنات [قاله له]: قل لهم على طريق الإلزام للحجة فلم اتخذتم من دونه أولياء، وهي جمادات، وهي لا تملكُ لأنفسها نفعاً، ولا ضرًّا، ولما كانت عاجزة عن تحصيل المنفعة [لأنفسها، ودفع المضرة عن نفسها، فلأن تكون عاجزة عن تحصيل المنفعة] لغيرها، ودفع المضرة عن غيرها بطريق الأولى، وإذا كانت عاجزة عن ذلك كانت عبادتها محض العبث، والسَّفه، ولما ذكر هذه الحجة الظاهرة بين أنَّ الجاهل بمثل هذه الحجة لا يساوي العالم بها.
فقال: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي ٱلظُّلُمَاتُ وَٱلنُّورُ } قرأ الأخوان، وأبو بكر عن عاصم: "يَسْتَوِي" بالياء من تحت، والباقون بالتاء من فوق، والوجهان واضحان باعتبار أن الفاعل مجازي التَّأنيث، فيجوز في فعله التذكير، والتأنيث، كنظائر له مرت. وهذه مثل ضربه اللهُ سبحانه وتعالى للكفَّار؟
قوله: "أمْ هَلْ" هذه أم المنقطعة، فتقدر بـ"بل"، والهمزة عند الجمهور، وبـ"بل" وحدها عند بعضهم، وقد تقدَّم تحريره، وهذه الآية قد يتقوى بها من يرى تقديرها بـ "بَلْ" فقط بوقوع: "هَلْ" بعدها، فلو قدَّرناها بـ "بَلْ" والهمزة لزم اجتماع حرفي معنى؛ فتقدرها بـ "بل" وحدها، "ولا" تقويةٌ له، فإن الهمزة قد جامعت: "هَلْ" في اللفظ، كقوله الشاعر: [البسيط]

3173ـ.................... أهَلْ رَأوْنَا بِوادِي القُفِّ ذي الأكَمِ

فأولى أن يجامعها تقديراً.
ولقائل أن يقول: لا نسلم أنَّ: "هَلْ" هذه استفهاميَّة، بل بمعنى: "قَدْ"، وإليه ذهب جماعةٌ، وإن لم تجامعها همزة، كقوله تعالى:
{ هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ } [الإنسان:1] أي: قد أتى، فههنا أولى، والسماع قد ورد بوقوع: "هَلْ" بعد: "أم" وبعدمه. فمن الأول هذه الآية، ومن الثاني: ما بعدها من قوله: "أمْ جَعلُوا". وقد جمع الشاعر بين الاستعمالين في قوله: [البسيط]

3175ـ هَلْ مَا عَلمْتَ ومَا اسْتُودعْتَ مكْتومُ أمْ حَبْلُهَا إذ نَأتْكَ اليَوْمَ مَصرُومُ
أمْ هَلْ كثيرٌ بَكَى لمْ يَقْضِ عَبرتَهُ إثْرَ الأحِبَّة يَوْمَ البَيْنِ مَشْكُومُ

فصل
قوله: { هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ } كذلك لا يستوي المؤمن، والكافر: { أَمْ هَلْ تَسْتَوِي ٱلظُّلُمَاتُ وَٱلنُّورُ } أي كما لا تستوي الظلمات والنور، لا يستوي الكفر، والإيمان.
قوله: { أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ } الجملة من قوله: "خَلقُوا" صفة لـ: "شُرَكاءَ"، { فَتَشَابَهَ ٱلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ }، أي: اشتبه ما خلقوه بما خلقه الله ـ عزَّ وجلَّ ـ فلا يدرون ما خلق الله، وما خلق آلهتهم.
والمعنى: أنَّ هذه الأشياء الَّتي زعموا أنها شركاء لله ليس لها خلق يشبه خلق الله حتَّى يقولوا: إنها تشارك الله في الخالقيَّة؛ فوجب أن تشاركه في الإلهيَّة بل هؤلاء المشركون يعلمون بالضرورة أنَّ هذه الأصنام لم يصدر عنها فعلٌ، ولا خلق، ولا أثر ألبتة، وإذا كان كذلك كان حكمهم بكونها شركاء لله في الإلهيَّة محض السَّفه، والجهل.
فصل
قال ابن الخطيب: "زعمت المعتزلة أنَّ العبد يخلق حركات، وسكنات مثل الحركات، والسكنات التي يخلقها الله، وعلى هذا التقدير: فقد { جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ } والله ـ تعالى ـ إنما ذكر هذه الآية في معرض الذَّم، والإنكارِ؛ فدلت على أنَّ العبد لا يخلق أفعال نفسه".
قال القاضي: "نحن وإن قلنا: إنَّ العبد يخلق إلاَّ أنَّا لا نطلق القول بأنه يخلق كخلق الله؛ لأن أحداً ما يفعل كقدرة الله، وإنما يفعل لجلب منفعة، ودفع مضرة، والله ـ تعالى ـ منزه عن ذلك؛ فثبت أنَّ بتقدير كون العبدِ خالقاً إلا أنَّه لا يكون خلقه كخلق الله، وأيضاً: فهذا الإلزامُ للمجبرة أيضاً؛ لأنَّهم يقولون عين ما هو خلق الله ـ تعالى ـ فهو كسبٌ للعبد، وفعلٌ له، وهذا عين الشرك؛ لأنَّ الإله، والعبد في ذلك الكسب كالشريكين اللذين لا مال لأحدهما إلا وللآخر فيه أيضاً نصيبٌ، وهو أنه ـ تعالى ـ إنَّما ذكر هذا الكلام عيباً للكفَّار أن يقولوا: إنَّ الله ـ تعالى ـ خلق هذا الكفر فينا؛ فلم يذمنا، ولم ينسبنا للجهل، والتقصير، مع أنه حصل فينا بغير فعلنا، ولا باختيارنا".
والجواب عن الأول: هو أنَّ لفظ الخلق عبارة عن الإخراج من العدم إلى الوجود، أو عبارة عن التقديرين، وعلى الوجهين: فبتقدير أن يكون العبد محدثاً، فإنه لا بد أن يكون حادثاً، أما قوله: والعبد وإن كان خالقاً إلاَّ أنه ليس خلقه كخلق الله ـ تعالى ـ.
قلنا: الخلق عبارةٌ عن الإيجاد والتكوين والإخراج من العدم إلى الوجود، ومعلومٌ أنَّ الحركة الواقعة بقدرة العبد لما كانت مثلاً للحركة الواقعة بقدرة الله ـ تعالى ـ كان أحد المخلوقين مثلاً للمخلوق الثاني، وحينئذ يصحُّ أن يقال: إنَّ هذا الذي هو مخلوقٌ للعبد مثل لما هو مخلوق لله ـ تعالى ـ، ولا شك في حصول المخالفة في سائر الاعتبارات، إلاَّ أنَّ حصول المخالفة في سائر الوجوه لا يقدح في المماثلة من هذا الوجه، وهذا القدر يكفي في الاستدلال.
وأما قوله: "هذا لازم على المجبرة حيث قالوا: إنَّ فعل العبد مخلوق لله ـ تعالى ـ".
فنقول: هذا غير لازم؛ لأنَّ هذه الآية [دالة] على أنَّه لا يجوز أن يكون العبد مثلاً كخلق الله ـ تعالى ـ ونحن لا نثبت للعبد خلقاً ألبتَّة، فكيف يلزمنا ذلك؟.
وأما قوله: "لو كان فعل العبد خلقاً لله لما حسن ذمُّ الكفَّار على هذا المذهب".
قلنا: حاصلة يرجع إلى أنَّه لما حصل الوجود، وجب أن يكون العبد مستقلاً بالفعل وهو منقوض؛ لأنَّه ـ تعالى ـ ذمَّ أبا لهب على كفره مع أنَّه علم منه أنَّه يموت على الكفر، وخلاف المعلوم محال الوقوع.
قوله: { قُلِ ٱللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } وهذا يدلُّ على أنَّ فعل العبد مخلوق لله ـ تعالى ـ؛ لأنَّ فعل العبد شيء، فوجب أن يكون خالقه هو الله ـ تعالى ـ وأيضاً: فقوله: { وَهُوَ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } لا يقال فيه: إنه تعالى واحد في أي المعاني، بل الواحد في الخالقية؛ لأن المذكور السابق هو الخالقية، فوجب أن يكون المراد هو الواحد في الخالقية، القهار لكل ما سواه.
فصل
زعم جهم أن الله ـ تعالى ـ لا يقع عليه اسم الشيء.
قال الخطيب: "وهذا الخلاف ليس إلا في اللفظ، وهو أن اسم الشيء هل يقع عليه أم لا؟ فزعم قوم أنه لا يقع، وجوّزه قومٌ".
واحتج المانعون: بأنه لو كان شيئاً لوجب أن يكون خالقاً لنفسه، لقوله تعالى:
{ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } [الزمر:62] وذلك محالٌ؛ فثبت أنه لا يقع عليه اسم الشيء، ولا يقال: إنَّ هذا عام دخله التخصيص؛ لأنَّ العام المخصوص إنَّما يحسن إذا كان المخصوص أقل من الباقي، وأحسن منه، كما يقال: أكلت هذه الرُّمَّانة مع أنَّه سقطت حبات ما أكلها، وههنا ذات الله أعلى الموجودات، وأشرفها، فكيف يمكن ذكر اللفظ العام الذي يتناوله مع كون الحكم مخصوصاً في حقِّه.
واستدلُُّوا أيضاً بقوله تعالى:
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى:11]ٍ والمعنى: ليس مثل مثله شيء، ومعلوم أن كل حقيقة [فإنها] مثل مثل نفسها، فالباري ـ تعالى ـ مثل مثل نفسه مع أنه ـ تعالى ـ نصَّ على أنَّ مثل مثله ليس بشيء، فهذا تنصيصٌ على أنه تعالى غير مسمى باسم الشيءِ.
واستدلُّوا أيضاً بقوله تعالى:
{ وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا } [الأعراف:180] قالوا: دلَّت على أنه لا يجوز أن يدعى الله إلا بالأسماء الحسنى، ولفظ الشيء يتناول أحد الموجودات، فلا يكون هذا اللفظ مشعراً بمعنى حسن؛ فوجب ألاَّ يجوز دعاء الله بهذا اللفظ.
وتمسك من جوَّز إطلاق هذه التسمية عليه بقوله تعالى:
{ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ ٱللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } [الأنعام:19].
وأجاب الأولون: بأنَّ هذا سؤال متروك الجواب، وقوله:
{ قُلِ ٱللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } [الأنعام:19] مبتدأ مستقل بنفسه لا تعلق له بما قبله.
فصل
تمسَّك المعتزلة بهذه الآية في أنَّه ـ تعالى ـ عالم لذاته لا بالعلم وقادر لذاته لا بالقدرة، وقالوا: لأنه لو حصل لله ـ تعالى ـ علم، وقدرة وحياة لكانت هذه الصفات إمَّا أن تحصل بخلق الله ـ تعالى ـ أو لا تحصل بخلق الله والأول باطل، وإلا لزم التسلسل، والثاني باطلٌ؛ لأنَّ قول الله تعالى:
{ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } [الزمر:62] يتناول الذات، والصفات حكمنا بدخول التخصيص في ذات الله ـ تعالى ـ؛ فوجب أن يبقى على عمومه في سائر الأشياء، والقرآن ليس هو الله؛ فوجب أن يكون مخلوقاً لدخوله في هذا العموم.
والجواب أن يقال: أقصى ما في الباب أنَّ الصِّيغة عامة؛ لأن تخصيصها في حق صفات الله ـ تعالى ـ بالدلائل العقليَّة.
قوله تعالى: { أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } الآية لما شبَّه المؤمن والكافر، والإيمان، والكفر بالأعمى، والبصير، والظلمات، والنور، ضرب للإيمان، والكفر مثلاً آخر فقال: { أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } "أنْزلَ" يعني الله: { مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } يعني المطر "فَسَالتْ" من ذلك الماء: { أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } أي: في الصغر، والكبر { فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ } الذي حدث من ذلك الماء: { زَبَداً رَّابِياً } الزّبد: الخبث الذي يظهر على وجه الماء وكذلك على وجه القدر "رَابِياً" أي: عالياً مرتفعاً فوق الماءِ، فالماءُ الصَّافي الباقي هو الحق، والذاهب الزائل الذي يتعلق بالأشجار، وجوانب الأودية هو الباطل.
وقيل: هذا مثل القرآن: { أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } وهو القرآن، والأودية: قلوب العباد، يريد: ينزل القرآن، فيحتمل منه القلوب على قدر اليقينِ، والعقل والشك وكما أنَّ الماء يعلوهُ زيدٌ، والأجساد يخالطها خبثٌ، ثمَّ إنَّ ذلك الزبد، والخبث يذهب، ويضيع، ويبقى جوهر الماء، وجوهر الأجساد السبعة، كذلك ههنا بيانات القرآن يختلط بها شكوك وشهبات، ثمَّ إنها تزول بالآخرة وتضيع ويبقى العلم والدين والحكمة في العاقبة كذلك ههنا.
قوله: "أوْديَةٌ" جمع وادٍ، وجمع فاعل على أفعلة، قال أبو البقاءِ: "شاذٌّ، ولم نسمعه في غير هذا الحرف. ووجهه: أنَّ فاعلاً قد جاء بمعنى فعيل، وكما جاء فعيل وأفعلة كَجرِيب وأجْرِبَة كذلك فاعل".
قال شهابُ الدين: "قد سمع فَاعِلَة، وأفْعِلَة في حرفين آخرين:
أحدهما: قولهم جَائِر وِأجْوِرَة.
والثاني: نَاجٍ وأنْجِيَة".
وقال الفارسي: "أودية: جع واد ولا نعلم فاعلاً جمع على أفْعِلَة"، قال: "ويشبه أن يكون ذلك لتعاقب فاعل، وفعيل على الشيء الواحد، كعَالِم وعَلِيم، وشَاهِد وشَهِيد، ونَاصِر ونَصِير، ووزن فاعل يجمع على أفعالٍ كصاحب وأصحابٍ، وطائرٍ وأطيارٍ، [ووزن] فعيلٍ يجمع على أفْعِلَة كجَرِيبٍ، وأجْرِبَة، ثم لما حصلت المناسبة المذكورة بين فاعل، وفعيل لا جرم يجمع الفاعل جمع الفعيل، فيقال: وادٍ وأودية، ويجمع الفعيل على جمع الفاعل فيقال: يَتِيمٌ وأيْتامٌ، وشَرِيفٌ وأشْرافٌ".
وقال غيره: نظير وادٍ، وأوْدِيَة: نادٍ، وأنْديَة للمجالس وسمي وادِياً: لخروجه وسيلانه، والوادي على هذا اسم للماء السَّائل.
وقال أبو علي: "سَالتْ أوْديةٌ" فيه توسع، أي: يسالُ ماؤها فحذف، ومعنى "بِقدَرِهَا" أي: بقدر مياهها؛ لأنَّ الأودية ما سالت بقدرِ نفسها.
قوله: "بِقَدِرهَا" فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلقٌ بـ "سَالَتْ".
والثاني: أنَّه متعلق بمحذوف؛ لأنه صفةٌ للأودية.
وقرأ العامة بفتح الدال، وزيد بن عليّ، والأشهب العقيلي، وأبو عمرو في رواية بسكونها، وقد تقدَّم في البقرة.
قال الواحديرحمه الله : القَدْرُ والقَدَر: مبلغ الشَّيء، يقال: كم قَدْر هذه الدَّراهم وقَدَرُهَا ومِقْدَارُها؟ أي: كم بلغ في القدر وما يكون مساوياً لها في الوزن فهو قَدرُهَا".
والمَعنى: بقدرها، من الماء فإن صغر الوادي قل الماء، وإن اتَّسع الوادي كثر الماء.
و"احْتَمَلَ" بمعنى حَمَلَ فافتعل بمعنى المجرَّد، وإنَّما نكَّر الأودية، وعرف السيل؛ لأنَّ المطر ينزلُ في البقاع على المناوبة، فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض، وعرف السيل؛ لأنه قد فهم من الفعل قبله، وهو قوله: "فَسَالَتْ"، وهو لو نُكِّر لكان نكرة، فلمَّا أعيد أعيد بلفظ التَّعريف نحو "رَأيْتَ رجُلاً فأكْرَمْتُ الرَّجُلَ".
والزَّبدُ: وضرُ الغليان وخبثه؛ قال النابغة: [البسيط]

3176ـ فَمَا الفُرَاتُ إذا هَبَّ الرِّياحُ لَهُ تَرْمِي غَوارِبهُ العِبْرَيْنِ بالزَّبدِ

وقيل: هو ما يحمله السَّيل من غثاءٍ ونحوه، وما يرمى به ضَفَّتاه من الحباب، وقيل: هو ما يطرحه الوادي إذا [سال] ماؤه، وارتفعت أمواجه، وهي عباراتٌ متقاربةٌ.
والزَّبدُ: المستخرج من اللَّبن. قيل: هو مشتقٌّ من هذه لمشابهته إيَّاه في اللون، ويقال: زبدته زبداً، أي: أعطيته مالاً كالزَّبدِ يضرب به المثل في الكثرةِ، وفي الحديث:
"غُفِرتْ ذُنوبُهُ، ولوْ كَانتْ مِثْلَ زَبدِ البَحْرِ" .
وقوله تعالى: "رَابِياً" قال الزجاج: طافياً عالياً فوق الماءِ".
وقال غيره: زائداً بسبب انتفاخه، يقال: رَبَا يربُو إذا زاد.
قوله { وَمِمَّا يُوقِدُونَ } هذا الجار خبر مقدم، و"زَبدٌ" مبتدأ، و"مثْلُهُ" صفة المبتدأ، والتقدير: ومن الجواهر التي هي كالنُّحاسِ، والذهب، والفضة زبد، أي: خبث مثله، أي: "مِثْل زبدِ الماءِ".
و"مِنْ" في قوله: { وَمِمَّا يُوقِدُونَ } تحتمل وجهين:
[أحدهما]: أن تكون لابتداء الغاية، أي: ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماءِ.
والثاني: أنَّها للتبعيض بمعنى: وبعض زبد، هذا مثل آخر.
فالأول: ضرب المثل بالزَّبد الحاصل من المثال، ووجه المماثلة: أنَّ كلاَّ منهما ناشىء من الأكدار.
وقرأ الأخوان، وحفص: "يُوقدُون" بالياء من تحت، أي: النَّاس، والباقون بالتاء من فوق على الخطاب، و"عَليْهِ" متعلق بـ:"تُوقِدُونَ".
وأمَّا "فِي النَّار" ففيه وجهان:
أحدهما: أنَّه متعلق بـ"تُوقِدُونَ" وهو قول الفارسي، والحوفي، وأبي البقاء.
والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوف، أي: كائناً، أو ثابتاً، قاله مكيٌّ، وغيره ومنعوا تعلُّقه بـ"يُوقِدُونَ"؛ لأنهم زعموا أنَّه لا يوقد على الشَّيء إلا وهو في النَّار، وتعليق حرف الجر بـ"تُوقِدُونَ" يقتضي تخصيص حال من حال أخرى، وهذا غيرُ لازمٍ.
قال أبو عليرحمه الله تعالى: وقد يُوقَدُ على الشَّيء، وِإن لم يكن في النَّار، كقوله تعالى:
{ فَأَوْقِدْ لِي يٰهَامَانُ عَلَى ٱلطِّينِ } [القصص:28] فالطينُ لم يكن [فيها]، وإنَّما يصيبه لهبها، وأيضاً: فقد يكون ذلك على سبيل التَّوكيد، كقوله تعالى: { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [الأنعام:38]. والمراد بالحيلةِ: الذهب، والفضة، والمتاع: كل ما يتمتع به.
قوله: "ابْتِغاءَ حِليَةٍ" فيه وجهان:
أظهرهما: أنه مفعول من أجله.
والثاني: أنه مصدر في موضع الحالِ، أي: مبتغين حلية، و "حِليَةٍ" مفعولٌ [في] المعنى، "أوْ مَتاعٍ" نسق على "حِلْيةٍ".
فالحِليَةُ: ما تتزين به. والمتَاعُ: ما يقضون به حوائجهم كالمساحي من الحديد ونحوها.
قوله: "جُفَاءً" حالٌ، والجفاء: قال ابن الأنباري: المتفرق، يقال: جفأتِ الرِّيح السَّحاب، أي: قطعته وفرقته، وقال الفراء: الجفاءُ: الرَّمي، والاطراحُ.
يقال: جَفَا الوادي، أي: غُثَاءه يجفوهُ: جفاءً، إذا رماه، والجفاء اسم للمجتمع منه [المنضمّ] بعضه إلى بعض، ويقال: جفَأتِ القِدرُ بزُبْدِهَا تَجْفَأ، وحفاءُ السَّيل: زبده، وأجْفَأ وأجْفَلَ وباللام قرأ رؤبة بن العجاج.
قال أبو حاتم: لا يقرأ بقراءة رؤبة؛ لأنَّه كان يأكل الفأر، يعني أنه أعرابي جاف وقد تقدم ثناء الزمخشري عليه أوَّل البقرة، وذكروا فصاحته، وقد وجَّهوا قراءته بأنها من أجفأت الرِّيح الغيم، أي: فرقته قطعاً، فهي في المعنى كقراءة العامة بالهمزة.
وفي همزة "جَفَأ" وجهان:
أظهرهما: أنها أصل لثبوتها في تصاريف هذه المادة.
والثاني: أنه بدل من واو، وكأنه مختار أبي البقاء.
وفيه نظر؛ لأن مادة "جَفَا يَجْفُو" لا يليقُ معناها، والأصل: عدم الاشتراك.
فصل
المعنى: أنَّ الباقي الصَّافي من هذه الجواهر مثل الحق، والزَّبد الذي لا ينتفعُ به مثل الباطل، فأمَّا الزَّبد الذي علا السيل والفلز، فيذهب جفاء، أي: ضائعاً باطلاً، والجفاء، ما رمى به الوادي من الزَّبد، والقدر إلى جنباته.
والمعنى: أنَّ الباطل، وإن علا في وقت فإنه يضمحلُّ، ويبقى الحق ظاهراً لا يشوبه شيء من الشُّبهات.
قوله: { كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ } الكاف في محل نصب، أي: مثل ذلك الضَّرب يضربُ.
قيل: إنَّما تمَّ الكلام عند قوله: { كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ } ثم استأنف الكلام بقوله تعالى: { لِلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ ٱلْحُسْنَىٰ } ومحله الرفع بالابتداء، و"للذين" خبره، وتقديره: لهم الخصلة الحسنى، أو الحالة الحسنى.
وقيل: متصل بما قبله، والتقدير: كأنه الذي يبقى، وهو مثل المستجيب، والذي يذهب جفاء مثل الذي لا يستجيب، ثمَّ بين الوجه في كونه مثلاً، أي: لمن يستجيب "الحُسْنَى" وهي الجنَّة، ولمن لا يستجيب الحسرة والعقوبة.
وفيه وجه آخر: وهو أنَّ التقدير: كذلك يضرب الله الأمثال للذين استجابوا لربهم الحسنى، أي: الاستجابة الحسنى.
واعلم أنه تعالى ذكر هاهنا أحوال السعداء، وأحوال الأشقياء، أما أحوال السعداء، فهي قوله جل ذكره: { لِلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ ٱلْحُسْنَىٰ }، أي: أنَّ الذين أجابوه إلى ما دعاهم إليه من التوحيد، والتزام الشرائع، فلهم الحسنى.
قال ابن عبَّاس: "الحُسْنَى" الجنَّة.
وأمَّا أحوال الأشقياء، فهي قوله ـ عزَّ وجلَّ ـ: { وَٱلَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ }، أي لبذلوا ذلك يوم القيامة افتداءً من النار.
قوله: { لِلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ } فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه متعلقٌ بـ"يَضْرِبُ"، وبه بدأ الزمخشري قال: "أي: كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا؛ وللكافرين الذين لم يستجيبوا، و"الحُسْنَى" صفة لمصدر "اسْتَجابُوا"، أي: استجابوا الاستجابة الحسنى، وقوله { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ } كلام مبتدأ في ذكر ما أعدّ لغير المستجيبين".
قال أ بو حيان: "والتفسير الأول أولى" يعني به أن "لِلَّذينَ" خبرٌ مقدمٌ و"الحُسْنَى" مبتدأ مؤخَّر كما سيأتي.
إيضاحه قال: "لأن فيه ضرب الأمثال غير مقيد بمثل هذين، والله ـ تعالى ـ قد ضرب أمثالاً كثيرة في هذين وفي غيرهما؛ ولأنَّ فيه ذكر ثواب المتسجيبين بخلاف قول الزمخشري، فكما ذكر ما لغير المستجيبين من العقاب ذكر للمستجيبين من الثواب؛ ولأن تقديره: الاستجابة الحسنى مشعرٌ بتقييد الاستجابةِ ومقابلها ليس نفي الاستجابة مطلقاً، إنما مقابلها نفي الاستجابة الحسنى، والله ـ سبحانه وتعالى ـ قد
نفى الاستجابة مطلقاً، ولأنه على قوله يكون قوله: { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } كلاماً مفلتا ممَّا قبله، أو كالمفلتِ، إذ يصير المعنى: كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين، والكافرين لو أنَّ لهم ما في الأرض، فلو كان التركيب بحذفِ رابط "لو" بما قبلها زال التفلت، وأيضاً: فتوهم الاشتراك في الضمير، وإن كان تخصيص ذلك بالكافرين معلوماً".
قال شهاب الدين: "قوله: "لأن فيه ضرب الأمثال غير مقيَّد" ليس في قول الزمخشري ما يقتضي التّقييد، وقوله: لأن فيه ذكر ثواب المستجيبين إلى آخر ما ذكره الزمخشري أيضاً. على أن يؤخذ من فحواه ثوابهم، وقوله: "والله تعالى نفي الاستجابة مطلقاً" ممنوع، بل نفى تلك الاستجابة الأولى لا يقال: فثبتت لنا استجابة غير حسنى؛ لأنَّ هذه الصفة لا مفهوم لها، إذ الواقع أنَّ الاستجابة لله لا تكون إلا حسنى.
وقوله: "يصيرُ مُفْلتاً" كيف يكون ـ مع قولِ الزمخشريِّ مبتدأ ـ في ذكر ما أعدَّ لهم، وقوله "وأيضاً فيتوهَّم الاشتراك" كيف يتوهّم هذا بوجه من الوجوه؟ وكيف يقول ذلك مع قوله: وإن كان تخصيصُ ذلك بالكافرين معلوماً؟ فإذا علم كيف يتوهَّم؟".
والوجه الثاني: أن يكون "لِلَّذينَ" خبراً مقدماً، والمبتدأ "الحُسْنَى"، و{ وَٱلَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ } مبتدأ، و خبره الجملة الامتناعيَّة بعده.
وإنَّما خصَّ بضرب الأمثال الذين استجابوا لانتفاعهم دون غيرهم ومفعول "افتَدَوا" محذوف، تقديره: لا فتدوا به أنفسهم، أي: جعلوه فداء أنفسهم من العذاب، والهاء في "بِهِ" عائدة إلى: "مَا" في قوله: "مَا في الأرضِ".
ثم قال: { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ سُوۤءُ ٱلْحِسَابِ }.
[قال الزجاج: وذلك لأن كفرهم أحبط أعمالهم.
وقال إبراهيم النخعي ـ رضي الله عنه ـ: سوء الحساب] أن يحاسب الرجل بذنبه كله، ولا يغفر له منه شيء "ومَأوَاهُمْ" في الآخرة: { جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } والفراشُ، أي: بئس ما مهد لهم.