التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوۤءُ ٱلدَّارِ
٢٥
ٱللَّهُ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ
٢٦
وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ
٢٧
ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ
٢٨
ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ
٢٩
-الرعد

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ } مبتدأ، والجملة من قوله { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱللَّعْنَةُ } خبره، والكلام في "اللعنة" تقدم في "عُقْبَى الدَّارِ".
ولما ذكر صفة السعداء وما يترتب عليها من الأحوال الشريفة، ذكر صفة الأشقياء وما يترتب عليها من الأحوال المخزية، وأبتع الوعد بالوعيد فقال عز وجل { وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ } وقد تقدم أن عهد الله ما ألزم عباده مما يجب الوفاء به وهذا في الكفار، والمراد من نقض العهد: ألا ينظر في الأدلة وحينئذ لا يكون العمل بموجبها أو ينظر ويعلم صحتها ثم يعاند فلا يعمل بعمله أو ينظر في الشبهة فيعتقد خلاف الحق، والمراد من قوله: "مِن بَعْدِ ميثاقهِ" أن وثق الله تلك الأدلة وأحكامها.
فإن قيل: العهد لا يكون إلا مع الميثاق، فما فائدة اشتراطه بقوله: { مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ }؟.
فالجواب: لا يمتنع أن يكون المراد بالعهد هو ما كلف العبد به والمراد بالميثاق الأدلة؛ لأنه ـ تعالى ـ قد يؤكد [العهد] بدلائل أخر سواء كانت تلك المؤكدات دلائل عقلية أو سمعية.
ثم قال { وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } فيدخل فيه قطع كل ما أوجب الله وصله مثل: أن يؤمنوا ببعض الأنبياء ويكفرون ببعض، ويقطعون وصل الرسول بالموالاة والمعاونة، ووصل المؤمنين ووصل الأرحام وسائر ما تقدم.
ثم قال: { وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ } إما بالدعاء إلى غير دين الله وإما بالظلم كما في النفوس والأموال وتخريب البلاد ثم قال: { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱللَّعْنَةُ } وهي الإبعاد من خيري الدنيا والآخرة { وَلَهُمْ سُوۤءُ ٱلدَّارِ } وهي جهنم.
قوله { ٱللَّهُ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ } الآية لما حكى عن ناقضي العهد في التوحيد والنبوة بأنهم ملعونون ومعذبون في الآخرة فكأنه قيل: لو كانوا أعداء الله لما أنعم عليهم في الدنيا؟ فأجاب الله ـ تعالى ـ عنه بهذه الآية وهو أنه ـ تعالى ـ يبسط الرزق على البعض، وبسط الرزق لا تعلق له بالكفر والإيمان، فقد يوجد الكافر موسعاً عليه دون المؤمن، والدنيا دار امتحان.
قال الواحدي: "ومعنى القدر في اللغة: قطع الشيء على مساواة غيره من غير زيادة ولا نقصان".
وقال المفسرون في معنى "يَقْدرُ" ههنا: يضيق، لقوله
{ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [الطلاق:7] ومعناه: أنه يعطيه بقدر كفايته لا يفضل عنه شيء.
وقرأ زيد بن علي: "ويَقْدُر" بضم العين.
قوله: "وفَرِحُوا" هذا استئناف إخبار. وقيل: بل هو عطف على صلة "الذين" قبل.
وفيه نظر؛ من حيث الفصل بين أبعاض الصلة بالخبر، وأيضاً: فإن هذا ماض وما قبله مستقبل ولا يدعي التوافق في الزمان إلا أن يقال: المقصود استمرارهم بذلك أو أن الماضي متى وقع صلة صلح [للماضي] والاستقبال. قوله "فِي الآخِرَةِ"، أي في جنب الآخرة.
"إلاَّ مَتاعٌ" وهذا الجار في موضع الحال تقديره: وما الحياة القريبة الكائنة في جنب الآخرة إلا متاع ولا يجوز تعلقه بالحياة ولا بالدنيا لأنهما لا يقعان إلا في الآخرة.
ومعنى الآية: أن [مشركي] مكة أشروا وبطروا، والفرح: لذة في القلب بنيل المشتهى وفيه دليل على أن الفرح بالدنيا حرام محال { وَمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ } أي قليل ذاهب.
قوله: { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } الآية اعلم أن كفار مكة قالوا: يا محمد إن كنت رسولاً فأتنا بآية ومعجزة مثل معجزات موسى وعيسى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ فأجابهم الله بقوله { إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ }.
وبيان كيفية هذا الجواب من وجوه:
أحدها: كأنه يقول: إن الله أنزل عليه آيات ظاهرة ومعجزات قاهرة، لكن [الإضلال] والهداية من الله فأضلهم عن تلك الآيات وهدى إليها آخرين، فلا فائدة في تكثير الآيات والمعجزات.
وثانيها: أنه كلام يجري مجرى التعجب من قولهم، وذلك لأن الآيات الباهرة المتكاثرة التي ظهرت على رسول الله ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ كانت أكثر من أن تصير مشتبهة على العاقل فلما طلبوا بعدها آيات أخر كان في موضع التعجب والاستنكار، فكأنه قيل لهم: ما أعظم عنادكم { إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ } من كان على صنيعكم من التصميم على الكفر فلا سبيل إلى هدايتكم وإن نزلت كل آية: "ويَهْدِي" من كان على خلاف صنيعكم.
وثالثها: لما طلبوا سائر الآيات والمعجزات فكأنه قال لهم: لا فائدة في ظهور الآيات والمعجزات، فإن الإضلال والهداية من الله ـ تعالى ـ فلو حصلت الآيات الكثيرة ولم تحصل الهداية من الله فإنه لم يحصل الانتفاع بها.
ورابعها: قال الجبائي: المعنى: أنه يضل من يشاء عن رحمته وثوابه عقوبة له على كفره فلستم ممن يجيبه الله ـ تعالى ـ إلى ما يسأل لاستحقاقكم الإضلال عن الثواب { وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ }، أي: يهدي إلى جنته من [تاب] وآمن، قال: وهذا يبين أن الهدى هو الثواب من حيث إنه عقبه بقوله: "من أناب"، أي: من تاب.
والهدى الذي يفعله بالمؤمن هو الثواب؛ لأنه يستحقه على إيمانه وذلك يدل على أنه ـ تعالى ـ إنما يضل عن الثواب بالعقاب لا عن الدين بالكفر على ما ذهب إليه من خالفنا هذا تمام كلام الجبائي.
والضمير في "إليه" عائد على الله، أي: إلى دينه وشرعه. وقيل على الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ. وقيل: على القرآن.
قوله: { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } يجوز فيه خمسة أوجه:
أحدها: أن يكون مبتدأ خبره الموصول الثاني وما بينهما اعتراض.
الثاني: أنه بدل من "مَنْ أنَابَ".
والثالث: أنه عطف بيان له.
الرابع: أنه خبر مبتدأ مضمر.
الخامس: أنه منصوب بإضمار فعل.
فصل
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا سمعوا القرآن خشعت قلوبهم واطمأنت.
فإن قيل: أليس قال في سورة الأنفال:
{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } [الأنفال:2] والوجل ضد الاطمئنان، فكيف وصفهم هنا بالاطمئنان؟.
فالجواب من وجوه:
أحدها: أنهم إذا ذكروا العقوبات ولم يأمنوا أن [يقربوا] المعاصي فهناك الوجل وإذا ذكروا ما وعد الله به من الثواب والرحمة سكنت قلوبهم، فإن أحد الأمرين لا ينافي الآخر؛ لأن الوجل هو بذكر العقاب والطمأنينة بذكر الثواب.
وثانيها: أن المراد أن يكون القرآن معجزاً يوجب حصول الطمأنينة لهم في كون محمد صلى الله عليه وسلم نبياً حقاً من عند الله، ولما شكوا في أنهم أتوا بالطاعات كاملة فيوجب حصول الوجل في قلوبهم.
وثالثها: أنه حصل في قلوبهم أنهم هل أتوا بالطاعات الموجبة للثواب أم لا؟ وهل احترزوا عن المعصية الموجبة للعقاب أم لا؟.
وقيل: الوجل عند ذكر الله: الوعيد والعقاب، الطمأنينة عند ذكر الله عزّ وجل: الوعد والثواب، فالقلوب توجل إذا ذكرت عدل الله وشدة حسابه، وتطمئن إذا ذكرت فضل الله وكرمه { أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } تسكن قلوب المؤمنين ويستقر فيه اليقين.
قال ابن عباس ـرحمه الله ـ: "هذا في الحلف، يقول: إذا حلف السملم بالله على شيء تسكن قلوب المؤمنين إليه".
قوله { بِذِكْرِ ٱللَّهِ } يجوز أن يتعلق بـ "تَطْمئِنُّ" فتكون الباء سببية، أي: بسبب ذكر الله.
وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون مفعولاً به، أي: الطمأنينة تحصل لهم بذكر الله.
الثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من "قلوبهم"، أي: تطمئن وفيها ذكر الله.
قوله: { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } فيه أوجه:
أن يكون بدلاً من "القُلوب" على حذف مضاف أي: قلوب الذين أمنوا وأن يكون بدلاً من "مَنْ أنَابَ"، وهذا على قول من لم يجعل الموصول الأول بدلاً من "مَنْ أنَابَ" وإلا كان يتوالى بدلان، وأن يكون مبتدأ، و"طُوبَى" جملة خبرية، وأن تكون خبر مبتدأ مضمر، وأن يكون منصوباً بإضمار فعل، والجملة من "طُوبى لَهُمْ" على هذين الوجهين حال مقدرة، العامل فيها "ءامَنُوا" و"عَمِلُوا".
قوله "طُوبى لَهُم" واو "طُوبَى" منقلبة عن ياء، لأنها من الطيب وإنما قلبت لأجل الضمة قبلها، كموسر وموقن من اليسر واليقين واختلفوا فيها، فقيل: هي اسم مفرد مصدر، كبُشْرَى ورُجْعَى من طَابَ يطِيبُ.
وقيل: بل هي جميع طيبة، كما قالوا: كوسى في جمع كيسة، وضُوقَى في جمع ضِيقَة.
ويجوز أن يقال: طِيبى، بكسر الباء، وكذلك الكِيسَى والضِّيقَى. وهل هي اسم شجرة بعينها أو اسم للجنة بلغة الهند أو الحبشة؟.
وجاز الابتداء بـ "طُوبَى" إما لأنها علم لشيء بعينه، وإما لأنها نكرة في معنى الدعاء، كسلام عليك، وويل لك، كذا قال سيبويه.
وقال ابن مالك ـرحمه الله ـ: "إنه يلتزم رفعها بالابتداء، ولا يدخل عليها نواسخه" وهذا يرد عليه: أن بعضهم جعلها في هذا الآية منصوبة بإضمار فعل، أي: وجعل لهم طوبى، وقد تأيد ذلك بقراءة عيسى الثقفي "وحُسْنَ مآبٍ" بنصب النون، قال: إنه معطوف على "طُوبَى" وأنها في موضع نصب.
قال ثعلب: و"طُوبَى" على هذا مصدر، كما قال: "سقيا".
وخرج هذه القراءة صاحب اللوامح على النداء، كيا أسَفَى على الفوت، يعنى أن "طُوبَى" مضاف للضمير معه واللام مقحمة؛ كقوله: [البسيط]

3178ـ.............. يَا بُؤسَ لِلجَهْلِ ضَرَّاراً الأقْوامِ

وقوله: [مجزوء الكامل]

3179ـ يَا بُؤسَ لِلحَرْبِ الَّتِي وضَعْتْ أرَاهِطَ قاستراحُوا

ولذلك سقط التنوين من "بُؤسَ" كأنه قيل: يا طيبا، أي: ما أطيبهم وأحسن مآبهم.
قال الزمخشري: ومعنى "طُوبَى لَكَ": أصبت خيراً، و"طيبا" ومحلها النصب أو الرفع، كقولك: طيبا لك وطيبٌ لك، وسلاماً لك وسلام لك والقراءة في قوله "وحُسن مَآبٍ" بالنصب والرفع يدل على محلها، واللام في "لَهُمْ" للبيان مثلها في "سقيا لك" فهذا يدل على أنها تتصرف، ولا يلزم الرفع بالابتداء.
وقرأ مكوزة الأعرابي: "طِيبَى" بكسر الطاء لتسلم الياء، نحو: بيض ومعيشة.
وقرىء: "وحُسْنَ مَآبٌ" بفتح النون ورفع "مآبٌ" على أنه فعل ماض، أصله حَسُنَ فنقلت ضمة العين إلى الفاء قصداً للمدح، كقوله: حسن ذا أدب، و"مَآبُ" فاعله.
فصل
قال ابن عباس رضي الله عنهما: طوبى، فرح لهم وقرة عين.
وقال عكرمة: نعم ما لهم. وقال قتادة: حسنى لهم.
وقال معمر عن قتادة: هذه كلمة عربية، يقول الرجل: طوبى لك، أي: أصبت خيراً.
وقال إبراهيم ـرحمه الله ـ: خير لهم وكرامة. وقال الفراء: وفيه لغتان: تقول العرب: طوباك، وطوبى لك، أي لهم الطيب "وحُسْنُ مَآبٍ" أي: حسن المنقلب.
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: "طُوبَى" اسم الجنة بالحبشية.
وقال الربيع: البستان بلغة الهند. وقال الزجاج: العيش الطيب لهم وروي عن أبي أمامة وأبي هريرة وأبي الدرداء قالوا: طوبى شجرة في الجنة تظل الجنان كلها وقيل فيها غير ذلك.