التفاسير

< >
عرض

أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ
١
يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوۤاْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱتَّقُونِ
٢
-النحل

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } في "أتَى" وجهان:
أشهرهما: أنه ماضٍ لفظاً مستقبل معنى، إذ المراد به يوم القيامة، وإنَّما أبرز في صورة ما وقع وانقضى تحقيقاً له ولصدق المخبر به.
والثاني: أنَّه على بابه.
والمراد به مقدماته وأوائله، وهو نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: جاء أمر الله ودنا وقرب.
وقال ابن عرفة: "تقول العرب: أتاك الأمرُ وهو متوقَّع بعد أي: أتى أمر الله وعداً فلا تستعجلوه وقوعاً".
وقال قومٌ: المراد بالأمر ههنا عقوبة المكذِّبين والعذاب بالسيف وذلك أنَّ النَّصر بن الحارث قال:
{ { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [الأنفال: 32] فاستعجل العذاب فنزلت هذه الآية، وقتل النضر يوم بدر صبراً.
وقال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -: قوله تعالى:
{ { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ } [القمر: 1] قال الكفار بعضهم لبعض: إنَّ هذا يزعمُ أنَّ القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتَّى [ننظر] ما هو كائن، فلما لم ينزل، قالوا: ما نرى شيئاً، [فنزل قوله تعالى] { { ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } [الأنبياء: 1] فأشفقوا، فلما امتدَّت الأيام، قالوا: يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوِّفنا به، فنزل قوله تعالى { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رءوسهم وظنُّوا أنها قد أتت حقيقة، فنزل قوله { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } فاطمأنُّوا.
والاستعجال: طلب الشيء قبل حينه. واعلم أنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - لمَّا كثر تهديده بعذاب الدنيا والآخرة ولم يروا شيئاً نسبوه إلى الكذب فأجابهم الله - تعالى - بقوله { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } وتقرير هذا الجواب من وجهين:
أحدهما: أنه وإن لم يأتِ العذاب ذلك الوقت إلاَّ أنه واجب الوقوعِ، والشيءُ إذا كان بهذه الحالة والصِّفة فإنه يقال في الكلام المعتاد: إنه قد أتى ووقع إجراء لما يجب وقوعه مجرى الواقع، يقال لمن طلب الإغاثة وقرب حصولها جاء الفوت.
والثاني: أن يقال: إنَّ أمر الله بذلك وحكمه قد أتى وحصل ووقع، فأمَّا المحكوم به فإنَّما لم يقع، لأنَّ الله - تعالى - حكم بوقوعه في وقتٍ معينٍ فلا يخرج إلى الوجود قبل مجيء ذلك الوقت، والمعنى: أن أمر الله وحكمه بنزولِ العذاب قد وجد من الأزلِ إلى الأبدِ إلاَّ أنَّ المحكومَ إنَّما لم يحصل، لأنَّه - تعالى - خصَّص حصوله بوقتٍ معيَّنٍ { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } قبل وقته، فكأنَّ الكفار قالوا: سلَّمنا لك يا محمد صحة ما تقول: من أنَّه - تعالى - حكم بإنزال العذاب علينا إمَّا في الدنيا وإمَّا في الآخرة، إلاَّ أنا نعبد هذه الأصنام لتشفع لنا عند الله فنتخلص من العذاب المحكوم به فأجابهم الله - تعالى - بقوله { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ }.
قوله: { عَمَّا يُشْرِكُونَ } يجوز أن تكون "ما" مصدرية فلا عائد لها عند الجمهور أي: عن إشراكهم به غيره، وأن تكون موصولة اسمية.
وقرأ العامة { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } بالتاء خطاباً للمؤمنين أو للكافرين وقرأ ابن جبير بالياء من تحت عائداً على الكفار أو على المؤمنين.
وقرأ الأخوان "تُشْرِكُونَ" بتاء الخطاب جرياُ على الخطاب في "تَسْتَعْجِلُوهُ" والباقون بالياء عوداً على الكفار، وقرأ الأعمش وطلحة والجحدري وجم غفير بالتاء من فوق في الفعلين.
قوله { يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ } قد تقدم الخلاف في "يُنَزِّلُ" بالنسبة إلى التشديد والتخفيف في البقرة.
وقرأ زيد بن عليٍّ والأعمش وأبو بكر عن عاصم "تُنَزَّلُ" [مشدداً] مبنيًّا للمفعول وبالتاء من فوق. "المَلائِكَةُ" رفعاً لقيامه مقام الفاعل، وقرأ الجحدري: كذلك إلا أنه خفَّف الزَّاي.
وقرأ الحسن، والأعرج، وأبو العالية - رحمهم الله - عن عاصم بتاء واحدة من فوق، وتشديد الزاي مبنياً للفاعل، والأصل تتنزل بتاءين.
وقرأ ابن أبي عبلة: "نُنَزِّلُ" بنونين وتشديد الزَّاي "المَلائِكةَ" نصباً، وقتادة كذلك إلاَّ أنَّه بالتخفيف.
قال ابن عطية: "وفيهما شذوذٌ كبيرٌ" ولم يبين وجه ذلك.
ووجهه أنَّ ما قبله وما بعده ضمير غائبٌ، وتخريجه على الالتفات.
قوله: "بِالرُّوحِ" يجوز أن يكون متعلقاً بنفس الإنزالِ، وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الملائكة، أي: ومعهم الروحُ.
قوله "مِنْ أمْرهِ" حال من الروح، و "مِنْ" إمَّا لبيانِ الجنس، وإما للتبعيض.
قوله "أنْ أنْذِرُوا" في "أنْ" ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنَّها المفسرة؛ لأن الوحي فيه ضرب من [القول]، والإنزال بالروح عبارةٌ عن الوحي؛ قال تعالى:
{ { وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [الشورى: 52] وقال: { يُلْقِي ٱلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [غافر: 15].
الثاني: أنها المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، تقديره: أنَّ الشأن أقول لكم: أنه لا إله إلا أنا، قاله الزمخشري.
الثالث: أنها المصدرية التي من شأنها نصب المضارع، ووصلت بالأمر؛ كقولهم: كتبت إليه بأن قُمْ، وتقدم البحث فيه.
فإن قلنا: إنَّها المفسرة فلا محلَّ لها، وإن قلنا: إنها المخففة، أو الناصبة ففي محلّها ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنَّها مجرورة المحل بدلاً من "الرُّوحِ" لأنَّ التوحيد روحٌ تحيا به النفوس.
الثاني: أنَّها في محل جرٍّ على إسقاطِ الخافض؛ كما هو مذهب الخليل.
الثالث: أنَّها في محلِّ نصبٍ على إسقاطه؛ وهو مذهب سيبويه.
والأصل: بأن أنذروا؛ فلما حذف الجار جرى الخلاف المشهور.
قوله: { أَنَّهُ لآ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ } هو مفعول الإنذار، والإنذار قد يكون بمعنى الإعلام؛ يقال: أنْذرتهُ، وأنْذَرتهُ بكذا، أي: أعلموهم بالتوحيد.
وقوله: "فاتَّقُونِ" التفاتٌ إلى التكلم بعد الغيبة.
فصل
وجه النَّظم: أنَّ الله - تعالى - لما أجاب الكفار عن شبهتهم؛ تنزيهاً لنفسه - سبحانه وتعالى - عما يشركون؛ فكأنَّ الكفار قالوا: هب أنَّ الله قضى على بعض عبيده بالشرِّ، وعلى آخرين بالخير، ولكن كيف يمكنك أن تعرف هذه الأمور التي لا يعلمها إلا الله؟ وكيف صرت بحيث تعرف أسرار الله وأحكامه في ملكه وملكوته؟.
فأجاب الله - تعالى - بقوله: { يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوۤاْ أَنَّهُ لآ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱتَّقُونِ } وتقرير هذا الجواب: أنَّه - تعالى - ينزل الملائكة على من يشاء من عباده، ويأمر ذلك العبد أن يبلغ إلى سائر الخلق أن إله الخلق كلفهم بالتوحيد، وبالعبادة، وبين لهم أنَّهم إن فعلوا، فازوا بخيرِ الدنيا والآخرة، فهذا الطريق ضربٌ مخصوصٌ بهذه المعارف من دون سائر الخلق.
فصل
روى عطاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: يريد بـ "المَلائِكة" جبريل وحده.
وقال الواحديُّ: يسمَّى الواحد بالجمع؛ إذا كان ذلك الواحد رئيساً مقدَّماً جائز، كقوله تعالى:
{ { إِنَّآ أَرْسَلْنَا } [القمر: 19]، و { إنَّآ أَنزَلْنَا } [النساء: 105]، و { { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا } [الحجر: 9].
والمراد بالروح الوحي كما تقدم، وقيل: المراد بالروح هنا النبوة، وقال قتادةرحمه الله تعالى: الرحمة، وقال أبو عبيدة: إنَّ الروح ههنا جبريل عليه السلام.
والباءُ في قوله "بِالرُّوحِ" بمعنى "مع" كقولهم: "خَرجَ فلانٌ بِثيَابهِ" أي: ومعه ثيابهُ.
والمعنى: نُنزِّلُ الملائكة مع الروح؛ وهو جبريل، وتقرير هذا الوجه: أنَّه - تعالى - ما أنزل على محمدٍ - صلوات الله وسلامه عليه - جبريل وحدهُ في أكثر الحوالِ؛ بل كان يُنزِّلُ مع جبريل - عليه السلام - أقواماً من الملائكة؛ كما في يوم بدرٍ، وفي كثيرٍ من الغزواتِ، وكان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة ملك الجبال، وتارة ملك البحار، وتارة رضوان، وتارة غيرهم.
وقوله "مِنْ أمْرهِ" أي أنَّ ذلك النُّزُولَ لا يكون إلا بأمر الله؛ كقوله:
{ { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } [مريم: 64] وقوله تعالى: { وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [الأنبياء: 27]، وقوله: { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم: 6].
وقوله: { عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } يريد الأنبياء المخصوصين برسالته: "أنْ أنْذِرُوا" قال الزجاج: "أنْ" بدلٌ من "الرُّوحِ".
والمعنى: ينزِّل الملائكة بأن أنذروا، أي: أعلموا الخلائق، أنَّه لا إله إلا أنا، والإنذار هو الإعلامُ مع التخويف.
"فاتَّقُون" فخافون. يروى أن جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - نزل على آدم - عليه الصلاة والسلام - اثنتي عشرة مرة، وعلى إدريس أربع مراتٍ، وعلى نوح - عليه الصلاة والسلام - خمسين مرَّة، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة وعلى موسى أربع مرات، وعلى عيسى عشر مراتٍ، وعلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم وعلى سائر الأنبياء أربعة وعشرين ألف مرَّةٍ.