التفاسير

< >
عرض

خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٣
خَلَقَ ٱلإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ
٤
وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
٥
وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ
٦
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ
٧
وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٨
وَعَلَىٰ ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ
٩
-النحل

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ تَعَالَىٰ } ارتفع { عَمَّا يُشْرِكُونَ } اعلم أنَّ دلائل الإلهيات وقعت في القرآن على نوعين:
أحدهما: أن يتمسَّك بالأظهر مترقياً إلى الأخفى، فالأخفى كما ذكره في سورة البقرة في قوله تعالى:
{ يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ } [البقرة: 21] فجعل تغير أحوال الإنسان دليلاً على احتياجه إلى الخالق.
ثم استدل بتغير أحوال الآباءِ، والأمهاتِ؛ قال تعالى:
{ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [البقرة: 21].
ثم استدلَّ بأحوال الأرض؛ فقال تعالى:
{ { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً } [البقرة: 22] لأن الأرض أقرب إلينا من السماء.
ثُمَّ استدلَّ بأحوال السماء بعد الأرض؛ فقال تعالى:
{ وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً } [البقرة: 22].
ثم استدلَّ بالأحوال المتولدة من تركيب السماء، والأرض؛ فقال سبحانه:
{ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ } [البقرة: 22].
النوع الثاني: أن يستدل بالأشرف، فالأشرف نازلاً إلى [الأدون فالأدون]؛ كما ذكر في هذه الآية، فاستدل على وجود الإله المختار بذكر الأجرام الفلكية العلوية، فقال: { خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } وقد تقدم الكلام على الاستدلال بذلك أول الأنعام، ثم استدل ثانياً بخلق الإنسان، فقال عز وجل: { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ }.
واعلم أنَّ أشرف الأجسام بعد الأفلاكِ والكواكبِ هو الإنسانُ.
واعلمْ أنَّ الإنسان مركبٌ من بدنٍ ونفسٍ، فقوله تعالى: { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ } إشارةٌ إلى الاستدلال ببدنه على وجود الصانع الحكيم سبحانه.
وقوله عز وجل: { خَصِيمٌ مُّبِينٌ } إشارة إلى الاستدلال بأحوال نفسه على الصانع الحكيم جل ذكره، أمَّا الاستدلال ببدنه فإنه النطفة متشابهة الأجزاءِ بحسب المشاهدة؛ إلاَّ أنَّ بعض الأطباءِ يقول: إنه مختلف الأجزاءِ في الحقيقة؛ لأنَّ النطفة تتولد من فضلة الهضم.
الثالث: أنَّ الغذاء يحصل له: في المعدةِ هضم أولٌ، وفي الكبد هضمٌ ثانٍ، وفي العروق هضم ثالثٌ، وعند وضوله إلى جواهر الأعضاء هضم رابعٌ.
ففي هذا الوقت حصل بعض أجزاءِ الغذاء إلى العظمِ، وظهر فيه أثرٌ من [الطبيعة] العظيمة، وكذا يقول في اللحمِ والعصبِ والعروقِ، و غيرها.
ثم عند استيلاء الحرارة على البدن عند هيجان الشَّهوة ويحصل ذوبان من جملة ذلك الأعضاء؛ وذلك هو النطفة، وعلى هذا التقدير تكون النطفة جسماً مختلف الأجزاء والطبائع.
وإذا عُرف هذا، فالنطفةُ: إمَّا أن تكون جسماً متساوي الأجزاءِ في الطبيعةِ، والماهيةِ، أو مختلف الأجزاءِ، فإن كان الأول لم يجز أن يكون المقتضي لتوليدِ البدن منها هو الطبيعة الحاصلة في جوهر النطفة ودمِ الطَّمثِ؛ لأنَّ الطبيعة تأثيرها بالذات والإيجاب لا بالتدبير والاختيار، والقوة الطبيعية إذَا عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون فعلها هو الكره.
وعلى هذا الحرف عوَّلوا في قولهم: البَسائطُ يجب أن يكون شكلها الكرة؛ وحيث لم يكن الأمر كذلك؛ علمنا أنَّ المقتضي لحدوث الأبدان الحيوانية ليس هو الطبيعة؛ بل فاعل مختار، وهو يخلق بالتَّدبير، والحكمة، والاختيار، وإن قلنا: إنَّ النطفة جسمٌ مركبٌ من أجزاء مختلفة في الطبيعةِ والماهيةِ، فنقول: بتقدير أن يكون الأمر كذلك، فإنه يجب أن يكون تولد البدنِ منها تدبير فاعل مختار حكيم، وبيانه من وجهين:
الأول: أن النطفة رطوبة سريعة الاستحالة، وإذا كان كذلك؛ كانت الأجزاء الموجودة فيها لا تحفظ الوضع والنسبة، فالجزء الذي هو مادة الدماغ قد يصير أسفل، والجزء الذي هو مادة القلب قد يحصل فوقُ، وإذا كان كذلك وجب اختلاف أعضاءِ الحيوان وحيث لم يكن الأمر كذلك وجب أن لا تكون أعضاء الحيوانِ على هذا الترتيب المعيَّن أمراً دائماً؛ علمنا أنَّ حدوث هذه الأعضاء على هذا الترتيب الخاصِّ ليس إلا بتدبير الفاعل المختار.
الوجه الثاني: أنَّ النطفة بتقدير أنَّها جسمٌ مركبٌ من أجسامٍ مختلفة الطبائع إلاَّ أنَّه يجب أن ينتهي تحليل تركيبها إلى آخر يكون كل واحدٍ منها في نفسه جسماً بسيطاً.
وإذا كان كذلك، فلو كان المدبِّر لها قوة طبيعية لكان كل واحدٍ من تلك البسائطِ يجب أن يكون شكله هو الكرة فيلزم أن يكون الحيوان على شكل كراتٍ مضمومة بعضها إلى بعض.
وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أنَّ مدبِّر أبدان الحيوانات ليس هي الطبائع، ولا تأثيرات النجوم والأفلاك، لأنَّ تلك التأثيرات متشابهة؛ فعلمنا أنَّ مدبر أبدانِ الحيوانات فاعلٌ مختارٌ حكيمٌ.
قوله تعالى: { مِن نُّطْفَةٍ } متعلق بـ "خَلَقَ" و "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ.
والنُّطفَةُ: القطرة من الماءِ؛ نطَفَ رَأسهُ مَاءً، أي: قطر، وقيل: هي الماء الصافي، ويعبر بها عن ماءِ الرجل، ويكنى بها عن اللؤلؤةِ، ومنه: صَبِي منَطَّفٌ إذا كان في أذنه لؤلؤة، ويقال: ليلةٌ نطوفٌ إذا جاء فيها المطر، والنَّاطفُ: ما سال من المائعات يقال: نَطَفَ يَنطفُ، أي: سال فهو نَاطِف، وفلانٌ يُنْطَفُ بسُوءٍ.
قوله: { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ } عطف هذه الجملة على ما قبلها، فإن قيل: الفاءُ تدل على التعقيب، ولا سيَّما وقد وجد معها "إذا" التي تقتضي المفاجأة، وكونه خصيماً مبيناً لم يعقب خلقه من نطفةٍ، إنما توسَّطتْ بينهما وسائطُ كثيرةٌ.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنه من باب التعبير عن حال الشيء بما يؤولُ إليه، كقوله تعالى:
{ أَعْصِرُ خَمْراً } [يوسف: 36].
والثاني: أنه أشار بذلك إلى سرعة نسيانهم مبدأ خلقهم.
وقيل: ثمَّ وسائط محذوفة.
والذي يظهر أن قوله "خَلقَ" عبارة عن إيجاده، وتربيته إلى أن يبلغ حدَّ هاتين الصفتين.
و "خَصِيمٌ": فعيلٌ مثالُ مبالغةٍ من خَصِمَ بمعنى اخْتَصَمَ، ويجوز أن يكون بمعنى مخاصم، كالخَليطِ والجَليسِ، ومعنى "خَصِيمٌ" جدولٌ بالبَاطلِ.
فصل
اعلم أنَّه - سبحانه وتعالى - إنَّما يخلق الإنسان من نطفة بواسطة تغيراتٍ كثيرةٍ مذكورة في قوله:
{ { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [المؤمنون: 12] الآيات إلاَّ أنِّه - تعالى - اختصرها ها هنا استغناء بذكرها هناك.
قال الواحديُّرحمه الله : الخصيمُ بمعنى المخاصم. وقال أهل اللغة: خصِيمُكَ الذي يُخاصِمُك، وفعيل بمعنى مفاعل معروف، كالنَّسيبِ والعَشيرِ.
ووجه الاستدلال بكونه خصيماً على وجود الإله المدبِّر الحكيم: أنَّ [النفوس] الإنسانيَّة في أولِ الفطرة أقلُ فهماً وذكاءً من نفوس سائر الحيوانات؛ ألا ترى أنَّ ولد الدجاجة حالما يخرج من قشر البيضةِ يميِّزُ التصديق والعدوَّ، ويهرب من الهرَّةِ، ويلتجيءُ إلى الأمِّ ويميزُ الغذاء الموافق، والغذاء الذي لم يوافق.
وأمَّا ولد الإنسان فإنَّه حال انفصاله من بطنِ الأمِّ لا يميزُ البتَّة بين العدوِّ والصديق ولا بين الضارِّ والنافع، فظهر أن الإنسان في أول الحدوثِ أنقص حالاً، وأقلُّ فطنة من سائر الحيوانات.
ثم إنَّ الإنسان بعد كبره يقوى عقله ويعظم فهمه، ويصير بحيث يقوى على مساحة السماوات والأرض، ويقوى على معرفة الله - عزَّ وجلَّ - وصفاته، وعلى معرفة أصناف المخلوقات من الأرواح والأجسام والفلكيات والعنصريات، ويقوى على إيراد الشبهات القوية في دين الله - تعالى - والخصومات الشديدة في كل المطالب، فانتقال نفس الإنسان من تلك البلادة المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لا بدَّ وأن يكون بتدبير مدبر مختارٍ حكيم بنقل الأرواحِ من نقصانها إلى كمالاتها، ومن جهالاتها إلى معارفها بحسب الحكمةِ والاختيارِ فهذا هو المراد من قوله تعالى: { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ }.
وفي معنى كونه خصيماً مبيناً وجهان:
الأول: أنه يجادل عن نفسه منازعاً للخصوم بعد أن كان نطفة قذرة وجماداً، لا حسَّ فيه ولا حركة، والمقصود منه أنَّ الانتقال من تلك الحالةِ الخسيسة إلى هذه الحالةِ العالية الشريفة لا يحصل إلا بتدبير مدبرٍ حكيم.
والثاني: فإذا هو خصيمٌ لربِّه، منكر على خالقه، قائل:
{ مَن يُحيِ ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } [يس: 78] والغرض وصف الإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل والتَّمادي في كفران النِّعمة.
كما نقل أنَّها نزلت في أبي بن خلفٍ الجمحي؛ وكان ينكر البعث جاء بعظمٍ رميمٍ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أتقول إنَّ الله - تعالى - يحيي هذه بعدما قد رُمّ؟.
والصحيح أنَّ الآية عامة؛ لأنَّ هذه الآيات ذكرت لتقرير الاستدلال على وجودِ الصَّانع الحكيم لا لتقرير وقاحةِ النَّاسِ وتماديهم في الكفر والكفران.
قوله تعالى: { وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ } الآية هذه الدلالة الثالثة؛ لأنَّ أشرف الأجساد الموجودة في العالم السفليِّ بعد الإنسان سائرُ الحيوانات لاختصاصها بالقوى الشريفة، وهي الحواسُّ الظاهرة والباطنة والشهوةُ والغضب.
قوله: { وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا } العامة على النصب، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه نصب على الاشتغال وهو أرجح من الرفع لتقدم جملة فعليَّة.
والثاني: أنه نصب على عطفه على "الإنْسانَ"، قاله الزمخشريُّ، وابن عطيَّة فيكن "خَلقَهَا" على هذا مؤكداً، وعلى الأول مفسراً.
وقرئ شاذًّا "والأنْعَامُ" رفعاً وهي مرجوحةٌ.
قوله: { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } يجوز أن يتعلق "لكم" بـ "خلقها"، أي: لأجلكم ولمنافعكم، ويكون "فيها" خبراً مقدماً، و "دفء" مبتدأ مؤخرٌ، ويجوز أن يكون "لَكُمْ" هو الخبر، أو يكون "فِيهَا" هو الخبر، و "لَكمْ" متعلق بما تعلَّق به الخبر، أو يكون "فيها" حالاً من "دِفْءٌ" لأنه لو تأخر لكان صفة له، أو يكون "فيها" هو الخبر، و "لكم" متعلق بما تعلق به، أو يكون حالاً من "دفء" قاله أبو البقاء.
وردَّه أبو حيَّان: بأنَّه إذا كان العاملُ في الحال معنويًّا، فلا يتقدم على الجملة بأسرها، ولا يجوز "قَائماً في الدَّارِ زيْدٌ" فإن تأخَّرت نحو "زَيْدٌ في الدَّارِ قَائِماً" جاز بلا خلافٍ، أو توسَّطت بخلاف أجازه الأخفش ومنعه غيره.
ولقائل أن يقول: لما تقدم العامل فيها، وهي معه جاز تقديمها عليه بحالها إلا أن نقول: لا يلزم من تقديمها وهو متأخر تقديمها عليه وهو متقدم لزيادة الفتح.
وقال أبو البقاء أيضاً: "ويجوز أن يرتفع "دِفْءٌ" بـ "لَكُمْ" أو بـ "فِيهَا" والجملة كلُّها حالٌ من الضمير المنصوب".
قال أبو حيان "ولا يسمَّى جملة، لأنَّ التقدير: خلقها كائنٌ لكم فيها دفءٌ، أو خلقها لكم كائناً فيها دفءٌ".
قال شهابُ الدِّين: "قد تقدم الخلاف في تقدير متعلق الجار إذا وقع حالاً أو صفة أو خبراً، هل يقدر فعلاً أو اسماً، ولعلَّ أبا البقاءِ نحا إلى الأول فتسميته له جملة صحيحٌ على هذا".
والدِّفءُ: اسم لما يدفأ به، أي: يسخنُ.
قال الأصمعيُّ: ويكون الدفءُ السخونة، يقال: اقعد في دفء هذا الحائط، أي: في كنفه، وجمعه أدفَاء، ودَفِىءَ يومنا فهو دَفيءٌ، ودَفِىءَ الرَّجلُ يَدْفأ دَفَأة فهو دَفْآنُ، وهي دَفْأى، كَسَكْران، وسَكْرَى.
والمُدفِّئَةُ بالتخفيف والتشديد، الإبل الكثيرة الوبر والشَّحم، وقيل: الدِّفْءُ: نِتاجُ الإبل وألبَانُهَا وما ينتفعُ به منها.
وقرأ زيد بن علي: "دِفٌ" بنقل حركة الهمزة إلى الفاءِ، والزهريُّ: كذلك إلاَّ أنَّه شدَّد الفاء، كأنَّه أجرى الوصل مجرى الوقف، نحو قولهم: هذا فرخٌّ بالتشديد وقفاً.
وقال صاحب اللَّوامحِ: "ومنهم من يعوض من الهمزة فيشدِّد الفاء وهو أحد وجهي حمزة بن حبيبٍ وقفاً".
قال شهابُ الدِّين: والتشديد وقفاً: لغة مستقلة وإن لم يكن ثمَّ حذف من الكلمة الموقوف عليها.
قوله "ومَنافِعُ" أراد النَّسْل، والدَّرَّ، والركوب، والحملَ، وغيرها، فعبر عن هذا الوصف بالمنفعة؛ لأنَّه الأعمُّ، والدر والنسل قد ينتفع به بالبيع بالنقودِ، وقد ينتفع به بأن تبدَّل بالثياب، وسائر الضَّرورياتِ، فعبَّر عن جملة الأقسامِ بلفظ المنافع ليعمَّ الكل.
فصل
الحيوانات قسمان:
منها ما ينتفع به الإنسان، ومنها ما لا يكون كذلك، والقسم المنتفع به [أفضل] من الثاني، والمنتفع به إمَّا أن ينتفع به الإنسان في ضروراته، مثل الأكلِ واللبسِ أو في غير ضروراته، والأول أشرف وهو الأنعام، فلهذا بدأ بذكره فقال: { وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ } وهي عبارة عن الأزواج الثمانية، وهي الضَّأنُ والمعز والبقر والإبل.
قال الواحديُّ: تمَّ الكلام عند قوله: { وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا } ثم ابتدأ وقال: { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ }.
قال صاحبُ النَّظم: أحسنُ الوجهين أن يكون الوقف عند قوله: "خَلَقَهَا"؛ لأنه عطف عليه { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } والتقدير: لكم فيها دفءٌ ولكم فيها جمالٌ.
ولما ذكر الأنعام، أتبعه بذكر المنافع المقصودة منها، وهي إما ضرورية، أو غير ضرورية، فبدأ بذكر المنافع الضرورية؛ فقال: { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } وقد ذكر هذا المعنى في آية أخرى، فقال سبحانه:
{ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ } [النحل: 80].
والمعنى: ملابسُ ولحفاءُ يستدفئون بها، ثم قال: "ومَنافِعُ" والمراد ما تقدم من نسلها ودرِّها.
ثم قال: { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ }، "مِنْ" ها هنا لابتداء الغاية، والتبعيض هنا ضعيفٌ.
قال الزمخشري: "فإن قلت: تقديم الظرف مؤذنٌ بالاختصاص، وقد يؤكل من غيرها، قلت: الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس، وأمَّا غيرها من البط والدجاج ونحوها من الصَّيد، فكغير المعتد به؛ بل جارٍ مجرى التَّفكُّهِ".
قال ابن الخطيب: "ويحتمل أن غالب أطعمتكم منها؛ لأنَّكم تحرثون بالبقر، والحب والثّمار التي تأكلونها، وتكتسبون بها، وأيضاً بإكراء الإبل وتبيعون نتاجها، وألبانها، وجلودها، وتشترون بها جميع أطعمتكم".
فإن قيل: منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللَّبس، فلم أخَّر منفعة الأكْلِ في الذكر؟.
فالجواب: أنَّ الملبوس أكثر من المطعوم؛ فلهذا قدِّم عليه في الذِّكر فهذه المنافع الضرورية الحاصلة من الأنعام، وأمَّا المنافع غير الضرورية الحاصلة من الأنعام فأمورٌ:
الأول: قوله { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } كقوله { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ }.
و "حِينَ" منصوب بنفس "جمالٌ" أو بمحذوفٍ، على أنه صفة له، أو معمولٌ لما عمل في "فِيهَا" أو في "لَكُمْ".
وقرأ عكرمة، والضحاك، والجحدري - رحمهم الله -: "حِيناً" بالتنوين؛ على أنَّ الجملة بعده صفة له، والعائد محذوف، أي: حيناً تريحون فيه وحيناً تسرحون فيه، كقوله:
{ وَٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ } [البقرة: 281] وقدِّمت الإراحة على [السرح]؛ لأنَّ الأنعام فيها أجمل لملءِ بطونها وتحفُّل ضروعها، بخلاف التسريح؛ فإنها عند خروجها إلى المرعى تخرج جائعة عادمة اللَّبن ثم تتفرق وتنتشر.
فصل
قد ورد الحين على أربعة أوجهٍ:
الأول: بمعنى الوقت كهذه الآية.
الثاني: منتهى الأجل، قال:
{ { وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ } [يونس: 98]، أي: إلى منتهى آجالهم.
الثالث: إلى ستة اشهر، قال تعالى:
{ تُؤْتِيۤ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } [إبراهيم: 25].
الرابع: أربعون سنة، قال تعالى:
{ { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ } [الإنسان: 1].
أي: أربعون سنة، يعني آدم - صلوات الله وسلامه عليه - حين خلقه من طينٍ قبل أن ينفخ فيه الروح.
والجمالُ: مصدر جَمُلَ بضمِّ الميم يجمُل فهو جَمِيلٌ وهي جَمِيلةٌ، وحكى الكسائي: جَمْلاء كحَمْرَاء؛ وأنشد: [الرمل]

3297- فَهْيَ جَمْلاءُ كَبَدْرٍ طَالعٍ بذَّتِ الخَلْقَ جَمِيعاً بالجَمالِ

ويقال أراح الماشية وهراحها بالهاء بدلاً من الهمزة، وسرح الإبل يسرحها سرحاً، أي: أرسلها، وأصله أن يرسلها لترعى، والسَّرحُ: شجرٌ له ثمرٌ، الواحدة سرحةٌ، قال أبيّ: [الطويل]

3298- أبَى الله إلاَّ أنَّ سَرحَة مَالكٍ عَلي كُلِّ أفْنانِ العِضاهِ تَرُوقُ

وقال: [الكامل]

3299أ- بَطلٌ كَأنَّ ثِيَابَهُ في سَرْحَةٍ يُحْذَى نِعَالَ السِّبْتِ ليْسَ بِتَوْءَمِ

ثم أطلق على كلِّ إرسالٍ، واستعير أيضاً للطلاق، يقال: سَرحَ فلانٌ امْرأتهُ كما استعير الطلاقُ أيضاً من إطلاق الإبل من عقلها، واعتبر من السَّرح المضي فقيل: ناقة [سرحٌ]، أي: سريعة، وقيل: [الكامل]

3299ب- سُرُحُ اليَديْنِ كَأنَّهَا... ......................

وحذف مفعولي "تُرِيحُونَ وتَسْرَحُونَ" مراعاة للفواصل مع العلم بها.
فصل
الإراحةُ: ردُّ الإبل بالعشيّ إلى مراحها حيث تأوي إليه ليلاً، وسرح القوم إبلهم سرحاً، إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى.
قال أهل اللغة: هذه الإراحةُ أكثر ما تكون أيَّام الربيع إذا سقط الغيث، وكثر الكلأُ، وخرجت العرب للنّجعةِ، وأحسن ما يكون النعمُ في ذلك الوقت.
ووجهُ التجملِ بها أنَّ الراعيَ إذا روحها بالعشيَّ وسرَّحها بالغداة تزينت عند تلك الإراحة والتسريح الأفنية، وكثر فيها النفاء والرغاء، وعظم وقعهم عند الناس لكونهم مالكين لها.
والمنفعة الثانية قوله: { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ }.
الأثقالُ: جمع ثِقَل، وهو متاع السَّفر إلى بلدٍ. قال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما-: "يريد من مكة إلى [المدينة] والشام ومصر".
وقال الواحديُّ -رحمه الله -: "والمراد كلُّ بلدٍ لو تكلفتم بلوغه على غير إبلٍ لشقَّ عليكم".
وخصَّ ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - هذه البلاد لأنَّها متاجر أهل مكة.
قوله { لَّمْ تَكُونُواْ } صفة لـ "بَلدٍ"، و "إلاَّ بشقِّ" حال من الضمير المرفوع في "بَالغِيهِ"، أي: لم تبلغوه إلا ملتبسين بالمشقةِ.
والعامة على كسر الشِّين. وقرأ أبو جعفر ورويت عن نافع، وأبي عمرو بفتحها؛ فقيل: هما مصدران بمعنى واحد، أي: المشقَّة فمن الكسرِ قول الشاعر: [الطويل]

3300- رَأى إبلاً تَسْعَى ويَحْسِبُهَا لَهُ أخِي نَصبٍ مِنْ شِقِّهَا ودُءُوبِ

أي: من مشقّتها.
وقيل: المفتوح المصدر، والمكسور الاسم.
وقيل: بالكسر نصف الشيء. وفي التفسير: إلاَّ بنصف أنفسكم، كما تقول: لَمْ تَنلهُ إلا بقطعه من كيدك على المجاز.
فصل
أذا حملنا الشقَّ على المشقَّةِ كان المعنى: لم تكونوا بالغيه إلاَّ بالمشقَّة، وإن حملناها على نصف الشيء كان المعنى: لم تكونوا بالغيه إلا عند ذهاب نصف قوتكم ونقصانها.
قال بعضهم: المراد من قوله تعالى { وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ } الإبل فقط، لأنه وصفها في آخر الآية بقوله - عز وجل - { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ } وهذا لا يليق إلاَّ بالإبل فقط.
والجواب: أنَّ هذه الآيات وردت لتعديدِ منافع الأنعام، فبعض تلك المنافع حاصل في الكلِّ، وبعضها يختص بالبعض، لأنَّ قوله تعالى: { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } حاصل في البقر والغنم أيضاً.
{ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } بخلقه حيث جعل لهم هذه المنافع.
فصل
احتجَّ منكرو كرامات الأولياءِ بهذه الآية، لأنَّ هذه الآية دلت على أنَّ الإنسان لا يمكنه الانتقال من بلدٍ إلى بلدٍ إلا بشقِّ الأنفس، وحملِ الأثقالِ على [الجمال]، فيكون الانتقال من بلدٍ إلى بلدٍ بعيدٍ في ليلةٍ واحدةٍ من غير تعبٍ، وتحمُّل مشقة خلاف هذه الآية، فيكون باطلاً.
ولمَّا بطل القول بالكرامات في هذه الصورة، بطل القول بها في سائر الصُّورِ؛ لأنه لا قائل بالفرق.
والجواب: أنَّا نَخُصُّ هذه الآية بالأدلَّة الدالة على وقوع الكرامات.
قوله: { وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ } العامة على نصبها؛ نسقاً على الأنعام، وقرأ ابن أبي عبلة برفعها على الابتداء، والخبر محذوف، أي: مخلوقةٌ ومعدَّة لتركبوها، وليس هذا ممَّا ناب فيه الجارُّ مناب الخبر لكونه كوناً خاصًّا.
قال القرطبي: "وسُمِّيت الخيل خيلاً لاختيالها في مشيها، وواحد الخيل خائل، كضَائن واحد ضأن. وقيل: لا واحد له، ولما أفرد - سبحانه وتعالى - الخيل، والبغال، والحمير، بالذكر؛ دلَّ على أنَّها لم تدخل في لفظ الأنعام. وقيل: دخلتْ؛ ولكن أفردها بالذكر لما يتعلق بها من الركوب، فإنَّه يكثر في الخيل والبغال والحمير".
قوله: "وَزِينَةً" في نصبها أوجهٌ:
أحدها: أنه مفعولٌ من أجله وإنَّما وصل الفعل إلى الأول باللام في قوله تعالى: { لِتَرْكَبُوهَا } وإلى هذا بنفسه لاختلاف الشَّرط في الأول، وعدم اتحاد الفاعل، وأنَّ الخالق الله والراكب المخاطبون.
الثاني: أنَّها منصوبة على الحال، وصاحبُ الحال إمَّا مفعول "خَلَقَهَا" وإمَّا مفعول "لِترْكَبُوهَا" فهو مصدر، وأقيم مقام الحالِ.
الثالث: أن ينتصب بإضمار فعلٍ، فقدره الزمخشريُّ -رحمه الله - وخلقها زينة.
وقدره ابن عطيَّة وغيره: وجعلها زينةً.
الرابع: أنَّه مصدرٌ لفعلٍ محذوف أي: "ولتتَزيَّنُوا بِهَا زينةً".
وقرأ قتادة عن ابن أبي عامر: "لتَرْكَبُوهَا زِينَةً" بغير واوٍ، وفيها الأوجه المتقدمة؛ ويريد أن يكون حالاً من فاعل "لِترْكبُوهَا" متزينين.
فصل
لمَّا ذكر منافع الحيوان التي ينتفع بها من المنافع الضرورية، ذكر بعده منافع الحيوانات التي ليست بضرورية فقال: { وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً }، والخيل اسم جنسٍ لا واحد له من لفظه كالإبل.
واحتجَّ القائلون بتحريمِ لحومِ الخيلِ؛ وهو قول ابن عباسٍ، والحكم، ومالك، وأبي حنيفة - رضي الله عنهم - بهذه الآيةِ، قالوا: منفعة الأكل أعظم من منفعة الركوب، فلو كان أكل لحوم الخيل جائزاً؛ لكان هذا المعنى أولى بالذِّكر، وحيث لم يذكره الله - تعالى - علمنا تحريم أكله.
ويقوِّي هذا الاستدلال: أنَّه قال - تعالى - في صفة الأنعام { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } وهذه الكلمة تفيد الحصر، فيقتضي أن لا يجوز الأكل من غير الأنعامِ فوجب أن يحرَّم أكل لحوم الخيل بمقتضى هذا الحصرِ.
ثمَّ إنَّه - تعالى - ذكر بعد هذا الكلام الخيل والبغال والحمير، وذكر سبحانه أنها مخلوقة للركوب، وهذا يقتضي أن منفعة الأكلِ مخصوصة بالأنعام.
وأيضاً قوله تعالى: { لِتَرْكَبُوهَا } يقتضي أنَّ تمام المقصود من خلق هذه الأشياء الثلاثة، هو الركوبُ والزينةُ، ولو حلَّ أكلها لما كان تمامُ المقصود من خلقها هو الركوب، بل كان حلُّ أكلها أيضاً مقصوداً؛ وحينئذٍ يخرج جواز ركوبها عن أن يكون تمام المقصودِ؛ بل يصير بعض المقصودِ.
وأجاب الواحديُّ -رحمه الله -: بأنَّه لو دلَّت هذه الآية على تحريم أكل الخيل؛ لكان تحريم أكلها معلوماً في مكَّة؛ لأنَّ هذه السورة مكية.
ولو كان الأمر كذلك لكان قول عامة المفسرين والمحدِّثين إنَّ تحريم لحوم الحمر الأهلية كان عام خيبر باطلاً؛ لأنَّ التحريم لما كان حاصلاً قبل هذا اليوم، لم يبق لتخصيص هذا التَّحريم بهذه [السنة] فائدة.
وأجاب غيره: بأنه ليس المراد من الآية بيان التَّحليل والتحريم؛ بل المراد منه أن يعرِّف الله - تعالى - عباده نعمه، وتنبيههم على كمالِ قدرته وحكمته.
واحتجُّوا بقولِ جابر - رضي الله عنه-: "نَهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبرٍ عَنْ لَحومِ الحُمرِ ورخَّصَ في لُحومِ الخَيْلِ".
ولمَّا ذكر - تعالى - أصناف الحيوانات المنتفع بها، ذكر بعده الأشياء التي لا ينتفع غالباً بها فذكرها على سبيل الإجمال.
فقال سبحانه وتعالى: { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وذلك لأنَّ أنواعها وأصنافها خارجة عن الإحصاء؛ فذكر ذلك على سبيل الإجمال.
وروى عطاء ومقاتل والضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "إنَّ عَنْ يَمِينِ العَرْشِ نَهْراً مِنْ نُورٍ مِثلَ السَّمواتِ السَّبْع والبِحارِ السَّبعَة والأرضين السبع يَدخُل فيه جِبْريلُ - عليه الصلاة والسلام - كُلَّ سحرٍ فيزْدادُ نُوراً إلى نُورهِ وجَمالاً إلى جَمالهِ، ثُمَّ ينتفِضُ فيَخْلقُ الله - سبحانه وتعالى - مِنْ كُلِّ نُقْطَة تقع مِن رِيشهِ كذا وكذا ألْفَ مَلك، يَدخلُ مِنهُم كُلَّ يَومٍ سَبعُونَ ألفاً البيتَ المَعْمُورَ، وفي الكَعْبةِ أيضاً سَبْعُون ألفاً لا يعُودُونَ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ".
قوله: { وَعَلَى ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ } الآية والمعنى: إنما ذكرت هذه الدلائل وشرحتها؛ إزاحةً للعذرِ؛ وإزالة للعلَّة
{ { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } [الأنفال: 42].
قوله: { وَمِنْهَا جَآئِرٌ } الضمير يعود على السبيل؛ لأنَّها تؤنث
{ { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي } [يوسف: 108] أو لأنَّها في معنى سُبلٍ، فأنَّث على معنى الجمع، والقَصْدُ مصدرٌ يوصف به فهو بمعنى قاصد، يقال: سبيلٌ قصدٌ وقاصدٌ، أي: مستقيمٌ، كأنه يَقْصِدُ الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه.
وقيل: الضمير يعود على الخلائق؛ ويؤيده قراءة عيسى، وما في مصحف عبد الله: "ومِنْكُمْ جَائِرٌ"، وقراءة عليّ: "فَمِنكُمْ جَائِرٌ" بالفاء.
وقيل: "ألْ" في "السَّبيلِ" للعهد؛ وعلى هذا يعود الضمير على السبيل التي تتضمنها معنى الآية؛ لأنَّه قيل: ومن السبيل فأعاد عليها، وإن لم يجر له ذكر؛ لأنَّ مقابلها يدلُّ عليها، وأما إذا كانت "ألْ" للجنس فيعود على لفظها.
والجَوْرُ: العدول عن الاستقامة؛ قال النابغة: [الطويل]

3301-..................... يَجُورُ بِهَا المَلاَّحُ طَوْراً ويَهْتَدِي

وقال آخر: [الكامل]

3302- ومِنَ الطَّريقَةِ جَائِرٌ وهُدًى قَصْدُ السَّبيلِ ومِنْهُ ذُو دَخْلِ

وقال أبو البقاء: و "قَصْدُ" مصدرٌ بمعنى إقامة السَّبيل، أو تعديل السبيل، وليس مصدر قصدته بمعنى أتَيْتهُ.
فصل
قوله: { وَعَلَى ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ } يعني بيان طريق الهدى من الضَّلالة، وقيل: بيان الحقِّ من الباطل بالآيات والبراهين، والقصد: الصراط المستقيم.
{ وَمِنْهَا جَآئِرٌ } يعني: ومن السَّبيل جائر عن الاستقامة معوجّ، والقصد من السبيل دينُ الإسلامِ، والجائر منها: اليهوديَّة والنَّصرانيةُ وسائر مللِ الكفرِ.
قال جابر بن عبد الله: "قَصْدُ السَّبيلِ" بيانُ الشَّرائع والفرائض.
وقال ابن المبارك وسهل بن عبد الله: "قَصْدُ السَّبيلِ" السنة، "ومِنْهَا جَائِرٌ" الأهواء والبدع؛ لقوله تعالى:
{ { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ } [الأنعام: 153].
فصل
قالت المعتزلة: دلت الآية على أنَّه يجب على الله الإرشاد والهداية إلى الدِّين وإزالةُ العلل [والأعذار]؛ لقوله { وَعَلَىٰ ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ } وكلمة "عَلَى" للوجوب، قال تعالى:
{ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } [آل عمران: 97] ودلت الآية أيضاً على أنه تعالى لا يضلُّ أحداً ولا يغويه ولا يصده عنه، لأنه لو كان - تعالى - فاعلاً للضَّلال؛ لقال { وَعَلَى ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ } وعليه جائرها، أو قال: وعليه الجائر فلمَّا لم يقل ذلك، بل قال في قصد السبيل أنه عليه، ولم يقل في جور السبيل أنه عليه، بل قال: "ومِنْهَا جَائِرٌ" دلَّ على أنَّه - تعالى - لا يضلُّ عن الدينِ أحداً.
وأجيب: بأنَّ المراد على أنَّ الله - تعالى - بحسب الفضلِ والكرمِ؛ أن يبين الدِّين الحق، والمذهب الصحيح، فأما أن يبين كيفية الإغواء والإضلال؛ فذلك غير واجب.
قوله تعالى: { وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } يدل على أنَّه - تعالى - ما شاء هداية الكفار، وما أراد منهم الإيمان؛ لأنَّ كلمة "لَوْ" تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، أي: ولو شاء هدايتكم لهداكم أجمعين، وذلك يفيد أنه - تعالى - ما شاء هدايتهم فلا جرم ما هداهم.
وأجاب الأصمُّ: بأنَّ المراد: لو شاء أن يلجئكم إلى الإيمان لهداكم، وهذا يدل على أنَّ مشيئة الإلجاءِ لم تحصل.
وأجاب الجبائيُّ: بأنَّ المعنى: ولو شاء لهداكم إلى الجنَّة وإلى نيل الثواب؛ لكنَّه لا يفعل ذلك إلا بمن يستحقه، ولم يرد به الهدى إلى الإيمان؛ لأنَّه مقدور جميع المكلَّفين.
وأجاب بضعهم؛ فقال المراد: ولو شاء لهداكم إلى الجنَّة ابتداء على سبيل التفضل، إلاَّ أنَّه - تعالى - [عرَّفكمُ] للمنزلة العظيمة بما نصب من الأدلة وبيَّن، فمن تمسَّك بها فاز، ومن عدل عنها فاتته وصار إلى العذاب. وتقدم الجواب عن ذلك مراراً.