التفاسير

< >
عرض

سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ
١
-الإسراء

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً } الآية.
قال النحويُّون: "سُبْحَانَ" اسم علم للتَّسبيح يقال: سبحت تسبيحاً فالتسبيح هو المصدر، وسبحان اسم على للتسبيح؛ كقوله: "كَفَّرتُ اليمينَ تَكْفيراً وكُفْراناً"، وتقدَّم الكلام عليه في أول البقرة، ومعناه تنزيه الله عن كلِّ سوء.
والنصبُ على المصدر، كأنه وضع موضع "سبَّحت الله تسبيحاً" وهو مفرد، إذا أفرد، وفي آخره زائدتان: الألف والنون، فامتنع من الصرف؛ للتقدير والزيادتين.
وعن سيبويه أنَّ من العرب من ينكِّرهُ؛ فيقول: "سُبْحَاناً" بالتنزيه.
وقال أبو عبيدٍ: لا ينتصب على النِّداء، فكأنه قال: "يا سُبْحانَ الله، يا سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبدِه".
قال القرطبي: سُبْحانَ، اسم موضوع موضع المصدر، وهو غير متمكن؛ لأنَّه لا يجري بوجوه الإعراب، ولا يدخل فيه الألف واللام، ولم يجر منه فعلٌ، ولم ينصرف؛ لأنَّ في آخره زائدتين، ومعناه التنزيهُ، والبراءة لله، فهو ذكر؛ فلا يصلح لغيره، فأمَّا قول من قال: [السريع]

3373- أقُولُ لمَّا جَاءنِي فَخرُهُ سُبحَانَ مِنْ عَلْقمَةَ الفَاخِرِ

فإنما ذكره على طريق النَّادر.
روى طلحة بن عبيد الله أنه قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: "ما مَعْنَى سبحان لله" فقال: "تَنْزيهُ الله عن كُلِّ سُوءٍ".
وقال صاحبُ النظم: "السَّبح في اللغة التباعد؛ قال تعالى:
{ إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً } [المزمل: 7] أي: تباعداً طويلاً فمعنى "سَبح": تنزيهه عمَّا لا ينبغي".
وللتَّسبيح معانٍ أخر؛ قد يكون بمعنى الصلاة؛ كقوله:
{ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ } [الصافات: 143] أي المصلِّين والسبحة: صلاة النافلة، وإنما قيل للمصلِّي: "مُسَبِّح"؛ لأنه معظم لله بالصلاة، ومنزِّهٌ له عمَّا لا ينبغي.
وقد يرد التسبيح بمعنى الاستثناء؛ كقوله تعالى:
{ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } [القلم: 28] أي تستثنون.
وتأويله أيضاً يعود إلى تعظيم الله في الاستثناء بمشيئته، وجاء في الحديث:
"لأحْرقَتْ سُبحَاتُ وجْهِه" قيل: معناه: وجهه وقيل: معناه: نور وجهه الذي إذا رآه الرّائي، قال: "سبحان الله". ويكون "سُبْحَانَ الله" بمعنى التعجُّب.
وقوله: "أسْرَى" و "سَرَى" لغتان، وتقدَّم الكلام عليهما في سورة هود [آية: 81]، وأن بعضهم خصَّ "أسْرَى" باللَّيل.
قال الزمخشريُّ هنا: فإن قلت: الإسراء لا يكون إلاَّ ليلاً؛ فما معنى ذكر الليل؟.
قلت: أراد بقوله "ليلاً" بلفظ التنكير، تقليل مدَّة الإسراءِ، وأنه أسْرِي به في بعض الليل، من "مكَّة" إلى "الشام" مسيرة أربعين ليلة؛ وذلك أنَّ التنكير دلَّ على البعضيَّة، ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة "من اللَّيل"، أي: بعضه؛ كقوله:
{ { وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ } [الإسراء: 79]. انتهى.
فيكون "سَرَى" و "أسْرَى" كـ "سَقَى" و "أسْقَى" والهمزة ليست للتعدية؛ وإنما المعدَّى الباء في "بعبده"، وقد تقدَّم أنها لا تقتضي مصاحبة الفاعل للمفعول عند الجمهور، في البقرة، خلافاً للمبرِّد.
وزعم ابن عطية أنَّ مفعول "أسْرَى" محذوف، وأن التعدية بالهمزة؛ فقال: "ويظهر أنَّ"أسْرَى" معدَّاةٌ بالهمزة إلى مفعول محذوف، أي: أسرى الملائكة بعبده؛ لأنه يقلقُ أن يسند "أسْرَى" وهو بمعنى "سَرَى" إلى الله تعالى؛ إذ هو فعلٌ يقتضي النَّقلة؛ كـ "مَشَى، وجرى، وأحضر، وانتقل" فلا يحسن إسناد شيء من هذا مع وجود مندوحةٍ عنه، فإذا وقع في الشريعة شيء من ذلك، تأوَّلناهُ؛ نحو: أتَيْتهُ هَرْولةً.
وهذا كلُّه إنما بناهُ؛ اعتقاداً على أن التعدية بالباء تقتضي مصاحبة الفاعل للمفعول في ذلك، وتقدَّم الردُّ على هذا المذهب في أوَّل البقرة في قوله تعالى:
{ { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ } [البقرة: 20].
ثم جوَّز أن يكون "أسْرَى" بمعنى "سَرَى" على حذف مضافٍ؛ كقوله:
{ { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } [البقرة: 17] يعني: فيكون التقدير: الذي أسْرِى ملائكته بعبده، والحامل له على ذلك ما تقدَّم من اعتقاد المصاحبة. والعبد هو محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله: "لَيْلاً" منصوب على الظرف، وقد تقدم فائدة تنكيره. و "مِنَ المسجد"مِنْ" لابتداء الغاية.
فصل في وقت الإسراء
قال مقاتل: "كان قبل الهجرة بستَّة عشر شهراً"، ونقل الزمخشري عن أنس والحسين: كان قبل البعثة، واختلفوا في المكان الذي أسْرِي به منه، فقيل: هو المسجد الحرامُ بعينه؛ لظاهر القرآن، وقوله - عليه الصلاة والسلام -:
"بَيْنَا أنَا في المَسْجدِ الحَرامِ عِندَ البَيْتِ بيْنَ النَّائمِ واليَقْظَانِ، إذْ أتَانِي جِبْريلُ عليه السلام بالبراقِ" .
وقيل: أسري به من دار أمِّ هانىء بنت أبي طالبٍ، وعلى هذا، فالمراد بالمسجد الحرام الحرمُ.
قال ابن عبَّاس: "الحرم كلُّه مَسْجِدٌ"، وهذا قول الأكثرين. وقوله: { إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى }.
اتفقوا على أنه بيتُ المقدس، وسمي بالأقصى؛ لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام.
وقوله: { بَارَكْنَا حَوْلَهُ }.
قيل: بالأزهار والثمار.
وقيل: لأنه مقرُّ الأنبياء، ومهبطُ الملائكةِ.
واعلم أنَّ كلمة: "إلى" لانتهاء الغاية، فمدلول قوله: { إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى } أنه وصل إلى ذلك، فأما أنه دخل المسجد أم لا، فليس في اللفظ دلالةٌ عليه، إلاَّ أنه ورد الحديثُ أنَّه صلى الله عليه وسلم صلَّى فيه.
قوله: "حولَه" فيه وجهان: أظهرهما: أنه منصوبٌ على الظَّرفِ، وقد تقدَّم في تحقيق القول فيه أوَّل البقرة. والثاني: أنه مفعولٌ. قال أبو البقاء: "أي: طيَّبْنَا ونَمَّيْنَا".
يعني ضمَّنه معنى ما يتعدَّى بنفسه، وفيه نظرٌ؛ لأنه لا يتصرَّفُ.
قوله: "لِنُريَهُ" قرأ العامة بنون العظمة؛ جرياً على "بَارَكْنَا" وفيهما التفات من الغيبة في قوله "الَّذي أسْرَى بعبده" إلى التكلُّم في "بَاركْنَا" و "لنُرِيَهُ"، ثم التفت إلى الغيبة في قوله: "إنه هُوَ" إن أعدنا الضمير إلى الله تعالى، وهو الصحيح، ففي الكلام التفاتان.
وقرأ الحسن "لِيُريَهُ" بالياء من تحت، أي: الله تعالى، وعلى هذه القراءة يكون في هذه الآية أربعةُ التفاتات: وذلك أنَّه التفت أوَّلاً من الغيبة في قوله "الَّذي أسْرَى بعبْدهِ" إلى التكلم في قوله "بَاركْنَا" ثم التفت ثانياً من التكلُّم في "باركْنَا" إلى الغيبة في "ليُرِيَهُ" على هذه القراءة، ثم التفت ثالثاً من هذه الغيبة إلى التكلم في "آيَاتِنَا"، ثم التفت رابعاً من هذا التكلم إلى الغيبة في قوله "إنَّهُ هُو" على الصحيح في الضمير؛ أنه لله، وأمَّا على قول نقله أبو البقاء أنَّ الضمير في "إنَّه هُو" للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يجيء ذلك، ويكون في قراءة العامة التفاتٌ واحدٌ، وفي قراءة الحسنِ ثلاثةٌ. وأكثر ما ورد الالتفاتُ فيه ثلاث مراتٍ على ما قاله الزمخشريُّ في قول امرىء القيس: [المتقارب]

3374- تَطَاولَ لَيْلُكَ بالأثْمُدِ ..................

الأبيات. وتقدَّم النزاعُ معه في ذلك، وبعض ما يجابُ به عنه أوَّل الفاتحة.
ولو ادَّعى مُدَّعٍ أنَّ ها هنا خمسة التفاتاتٍ لاحتيج في دفعه إلى دليلٍ واضحٍ، والخامس: الالتفاتُ من "إنَّهُ هُوَ" إلى التكلُّم في قوله
{ { وَءَاتَيْنَآ مُوسَى ٱلْكِتَابَ } [الإسراء: 2] الآية.
والرؤيةُ هنا بصرية. وقيل: قلبية، وإليه نحا ابن عطيَّة، فإنه قال: "ويحتمل أن يريد: لنُرِيَ محمداً للنَّاس آية، أي: يكون النبي صلى الله عليه وسلم آية في أن يصنع الله ببشرِ هذا الصنيع" فتكون الرؤية قلبية على هذا.
فصل في معنى "لِنُريَهُ"
معنى الرُّؤية هو ما رأى في تلك الليلة من العجائب والآيات الدالَّة على قدرة الله تعالى.
فإن قيل: قوله: { لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَآ } يدلُّ على أنَّه تعالى ما أراه إلاَّ بعض الآيات؛ لأن كلمة "مِنْ" للتبعيض وقال في حقِّ إبراهيم:
{ وَكَذَٰلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [الأنعام: 75] فيلزم أن يكون معراج إبراهيم - عليه السلام - أفضل من معراج محمد صلى الله عليه وسلم قلنا: فالجواب أن الذي رآه إبراهيم ملكوت السموات والأرض، والذي رآه محمد بعض آياتِ الله، ولا شكَّ أن آيات الله أفضلُ.
ثم قال: { إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ } أي: السميعُ لأقوال محمدٍ صلى الله عليه وسلم أي: المجيبُ لدعائهِ البصير: أي: لأفعاله العالم بكونها خالصة عن شوائب الرياءِ، مقرونة بالصِّدق والصَّفاء.
فصل في كيفية الإسراء
اختلفوا في كيفيَّة ذلك الإسراء، فالأكثرون على أنه أسْرِي بجسد رسُول الله صلى الله عليه وسلم.
وروي عن عائشة وحذيفة: أن ذلك كان رُؤيا، قالا: ما فُقِد جَسَدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنَّ الله أسْرَى برُوحهِ. فالكلامُ في هذا الباب في مقامين.
الأول: في إثبات الجوازِ العقليِّ.
والثاني: في الوُقوعِ.
فالمقام الأول؛ وهو الجواز العقليُّ: فنقول: الحركة الواقعة في السُّرعة إلى هذا الحدِّ ممكنةٌ في نفسها، والله - تعالى - قادرٌ على جميع الممكنات، والدليل على أنَّ هذه الحركة السَّريعة ممكنة غير ممتنعةٍ تفتقر إلى مقدِّمتين:
الأولى: أنَّ الحركة الواقعة إلى هذا الحدِّ يدلُّ عليها وجوهٌ:
الأول: أنَّ الفلك الأعظم يتحرَّك من أوَّل الليل إلى آخره ما يقرب من نصف الدَّور، وثبت في الهندسة أنَّ نسبة القطر إلى الدَّور نسبة الواحد إلى ثلاثةٍ وسبعة فيلزم أن تكون نسبة نصف القطر إلى نصف الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة وسبعة فبتقدير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتفع من مكة إلى ما فوق الفلك الأعظم، فهو لم يتحرَّك إلا مقدار نصف القطر، فلمَّا حصل في ذلك القدر من الزمان حركة نصف الدَّور، كان حصول الحركةِ بمقدار نصفِ القطر أولى بالإمكان، فهذا برهانٌ قاطعٌ على أنَّ الارتفاع من مكَّة إلى ما فوق العرشِ في مقدار ثلث اللَّيل أمرٌ ممكنٌ في نفسه، وإذا كان كذلك، كان حصوله في كلِّ الليل أولى بالإمكان.
الثاني: ثبت في الهندسة أنَّ قرص الشمس يساوي كرة الأرض مائة وستين مرَّة، وكذا وكذا وكذا، ثم إنا نشاهد أنَّ طُلوعَ القرص يحصل في زمان لطيفٍ سريعٍ، فدلَّ على أنَّ بلوغ الحركة في السُّرعة إلى هذا الحدِّ أمرٌ ممكنٌ في نفسهِ.
الثالث: أنه كما يستبعدُ في العقلِ صعود الجسم الكثيف عن مركز العالم إلى ما فوق العرش، فكذلك يستبعد نزول الجسم اللَّطيف الرُّوحانِي من فوق العرش إلى مركز العالم، فإن كان القولُ بمعراج محمد صلى الله عليه وسلم في الليلة الواحدة ممتنعاً في العقول، فإن القول بنزول جبريل - عليه السلام - من العرشِ إلى مكَّة في اللحظة الواحدة ممتنعاً، ولو حكمنا بهذا الامتناع، كان ذلك طعناً في نُبوَّة جميع الأنبياء - عليهم السلام - والقول بثبوتِ المعراج فرعٌ على تسليم جواز أصل النبوة؛ فيلزم القائل بامتناع حصول حركةٍ سريعةٍ إلى هذا الحدِّ، القول بامتناع جبريل - عليه السلام - من الانتقال في اللَّحْظَة من العَرْشِ إلى مكة، ولمَّا كان ذلك باطلاً، كان ما ذكروا أيضاً باطلاً.
فإن قالوا: نحن لا نقول: إنَّ جبريل - عليه السلام - جسمٌ ينتقل من مكانٍ إلى مكانٍ، وإنما نقول: المراد من نزول جبريل- عليه السلام - هو زوالُ الحجبِ الجسمانيَّة عن جسمِ محمَّد صلى الله عليه وسلم حتَّى يظهر في روحه من المكاشفات والمشاهدات بعض ما كان حاضراً متجلِّياً في ذات جبريل - عليه السلام -.
قلنا: تفسير الوحي بهذا الوجه هو قول الحكماء، أمَّا جمهور المسلمين فيقولون: إنَّ جبريل - عليه السلام - جسمٌ، وأنَّ نزوله عبارة عن انتقاله من عالم الأفلاك [إلى مكَّة]، وإذا كان كذلك، كان الإلزام المذكور قويًّا.
"رُوِيَ أنه - عليه السلام - لما ذكر قصَّة المعراجِ كذَّبه الكلُّ، وذهبوا إلى أبي بكرٍ، وقالوا له: إنَّ صاحبك يقول كذا وكذا، فقال أبو بكرٍ: إنْ كَانَ قد قال ذلك، فهو صادقٌ، ثم أتى إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فذكر الرسول له تلك التفاصيل، وكلَّما ذكر شيئاً، قال أبو بكرٍ - رضي الله عنه-: صَدَقْتَ، فلمَّا تمَّ الكلام، قال أبو بكرٍ: أشْهَدُ أنَّك رسُولُ الله حقًّا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: وأشْهَدُ أنَّك صدِّيقٌ حقًّا" .
وحاصل الكلام أنَّ أبا بكرٍ كأنه قال: لمَّا سلمتُ رسالته فقد صدَّقتهُ فيما هُو أعْظَمُ من هذا، فكَيْفَ أكذِّبه في هذا؟!.
الرابع: أكثر أرباب الملل والنِّحل يُسلِّمُونَ وجود إبليس، ويسلِّمون أنه هو الذي يلقي الوسوسة في قلوب بني آدم، فلما جوَّزوا مثل هذه الحركة السريعة في حقِّ إبليس ويسلِّمون، فلأن يسلِّموا جوازها في حقِّ أكابرِ الأنبياءِ أولى، وهذا الإلزام قوي على من يسلِّم أنَّ إبليس جسمٌ ينتقل من مكانٍ إلى مكانٍ.
وأمَّا من يقول: إنه من الأرواحِ الخبيثة الشِّرِّيرة، وأنَّه ليس بجسم، ولا جسمانيٍّ، فلا يرد عليهم هذا الإلزامُ إلا أن أكثر أرباب الملل والنِّحل يوافقون على أنه جسمٌ لطيفٌ ينتقل.
فإن قالوا: إنَّ الملائكة والشياطين يصحُّ في حقِّهم مثل هذه الحركة السَّريعة، إلاَّ أنهم اجسامٌ لطيفةٌ، فلا يمتنع حصُولُ مثل هذه الحركة السريعة في ذواتها، أمَّا الإنسان فإنَّه جسم كثيف، وكيف يعقل حصول مثل هذه الحركة فيه؟ قلنا: نحن إنما استدللنا بأحوال الملائكة والشَّياطين على أن حصول حركةٍ منتهية في السُّرعة إلى هذا الحدِّ ممكن في نفس الأمر.
فأمَّا بيانُ أنَّ هذه الحركة، لمَّا كانت ممكنة الوجود في نفسها، كانت أيضاً ممكنة الحصول في جسم البدن الإنسانيِّ، فذاك مقام آخر يأتي تقريره إن شاء الله تعالى.
الخامس: أنه جاء في القرآن أنَّ الرياح كانت تسير بسليمان - صلوات الله عليه - إلى المواضع البعيدة في الأوقات القليلة؛ قال تعالى:
{ { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } [سبأ: 12] بل نقول: الحسُّ يدل على أنَّ الرياح تنتقل عند شدَّة هبوبها من مكانٍ إلى مكانٍ في غاية البعد في اللَّحظة الواحدة، وذلك أيضاً يدلُّ على أنَّ مثل هذه الحركةِ السريعة في نفسها ممكنةٌ.
السادس: أن القرآن يدلُّ على أنَّ الذي عنده علمٌ من الكتاب أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمنِ إلى أقصى الشَّام في مقدار لمحِ البصر، قال تعالى:
{ { قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ ٱلْكِتَابِ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } [النمل: 40].
وإذا كان ذلك ممكناً في حقِّ بعض النَّاس، علمنا أنه في نفسه ممكنٌ.
السابع: أن من الناس من يقول: إنَّ الحيوان إنما يُبْصِرُ المرئيَّات لأجل أن الشُّعَاع يخرج من عينيه ويتَّصِل بالمرئيَّات، فإذا فتحنا العين، ونظرنا إلى شخصٍ، رأيناه، فعلى قولِ هؤلاء انتقل شعاع العين من أبصارنا إلى الشخص في تلك اللحظة اللَّطيفة، وذلك يدلُّ على أنَّ الحركة الواقعة على هذا الحدِّ من السرعة من الممكنات لا من الممتنعات، فثبت بهذه الوجوه أن حصول الحركة المنتهية في السرعة إلى هذا الحدِّ أمرٌ ممكن الوجود في نفسه.
المقدمة الثانية: في بيان أنَّ هذه الحركة، لمَّا كانت ممكنة الوجود في نفسها، وجب ألاَّ يمتنع حصولها في جسم محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه ثبت بالدَّلائل القطعيَّة أن الأجسام متماثلةٌ في تمام ماهيَّتها، فلما صحَّ حصول مثل هذه الحركة في حقِّ بعض الأجسام، وجب إمكان حصولها في سائر الأجسام، وذلك يوجب القطع بأنَّ حصول مثل هذه الحركة في جسد محمد صلى الله عليه وسلم أمر ممكن الوجود في نفسه.
وإذا ثبت هذا فنقول: ثبت بالدَّليل أنَّ خالق العالم قادرٌ على كلِّ الممكنات، وثبت أنَّ حصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحدِّ في جسد محمد صلى الله عليه وسلم ممكنٌ؛ فوجب كونه تعالى قادراً عليه، فلزم من مجموع هذه المقامات: أن القول بثبوت هذا المعراج أمرٌ ممكن الوجود في نفسه، أقصى ما في الباب أنَّه يبقى التعجُّب، إلاَّ أن التعجُّب غير مخصوص بهذا المقام، بل هو حاصلٌ في جميع المعجزات، فانقلابُ العصا ثعباناً يبلع سبعين ألف حبلٍ من الحبالِ والعصيِّ، ثم تعودُ في الحال عصاً صغيرة، كما كانت أمرٌ عجيبٌ، وخروج الناقة من الجبلِ الأصمِّ أمرٌ عجيبٌ، وإظلال الجبل في الهواء أمرٌ عجيبٌ، وكذا سائر المعجزات، فإن كان مجرَّد التعجب يوجبُ الإنكار والدفع، لزم الجزم بفساد القول بنبوة كل الأنبياء عليهم السلام، لكن القول بإثبات المعجزات فرع على تسليم أصل النبوة، وإن كان مجرد التعجب لا يوجب الإنكار والإبطال، فكذا هنا.
فصل في ترجيح القول بالإسراء بالجسد والروح
قال المحقِّقُون: إنه تعالى أسْرَى بروح محمَّد صلى الله عليه وسلم وجسده من مكَّة إلى المسجد الأقصى؛ ويدلُّ عليه القرآن والخبر: أما القرآن، فهذه الآية؛ وتقرير الدليل أن العبد اسم لمجموع الجسد والرُّوح، قال تعالى:
{ { أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يَنْهَىٰ عَبْداً إِذَا صَلَّىٰ } [العلق: 9-10] وقال تعالى: { { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ } [الجن: 19].
وأما الخبرُ، فما روى أنس بن مالكٍ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"فُرِجَ عَن سَقْفِ بَيْتِي وأنَا بِمكَّة، فَنزَلَ جِبْريلُ - عَليْهِ السَّلامُ - فَفُرِجَ صَدْري، ثُمَّ غَسلَهُ بِمَاءِ زَمْزَم، ثُمَّ جَاءَ بِطسْتٍ مِنْ ذَهبٍ مُمْتلِىءٍ حِكْمةً وإيماناً، ففرَّغهُ فِي صَدْرِي، ثمَّ أطْبَقهُ" .
وروى مالك بن صعصعة أنَّ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة الإسراء به قال: "بَيْنَا أنَا فِي الحطِيم - ورُبَّما قال: في الحِجْرِ - بيْنَ النَّائمِ واليَقْظانِ، فأتيتُ بِطسْتٍ من ذَهب مَمْلُوءةٍ حِكمةً وإيماناً، فشُقَّ من النَّحْرِ إلى مراق البَطْن واسْتُخرجَ قَلْبي، فغُسِلَ، ثُمَّ حُشِيَ، ثُمَّ أعِيدَ" .
وفي رواية سعيد وهشام: "ثُمّ غُسلَ البَطْنُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ مُلِىءَ إيماناً وحِكْمَةً، ثُمَّ أتِيتُ بالبُراقِ، وهو دَابَّةٌ أبْيضُ طَويلٌ فوقَ الحِمارِ، ودُونَ البَغْلِ، تقَعُ حَافِرهُ عند مُنْتهَى طَرْفهِ، فَرَكبْتهُ فانْطَلقْتُ مَعَ جِبْريل عليه السلام، حتَّى أتيت البيْتَ المقدس قال: فَربَطْتهُ في الحَلْقةِ الَّتِي تَرْبطُ بِهَا الأنْبِيَاءُ قال: ثُمَّ دخلتُ المسجدَ، فَصلَّيْتُ فِيهِ ركْعَتينِ، ثمَّ خَرجْتُ، فجَاءَنِي جِبريلُ بإنَاءٍ مِنْ خَمْر وإنَاءٍ من لبَنٍ، فأخَذْتُ اللَّبنَ، فقال جِبْريلُ: أخَذْتَ الفِطْرَة، فانْطلقَ بِي جِبْريلُ؛ حتَّى أَتَى السَّماء الدُّنْيَا.." الحديث.
واحتجَّ المنكرون بوجوهٍ عقليَّةٍ ونقليَّةٍ:
أما العقلية: فأوَّلها: أن الحركة البالغة في السُّرعة إلى هذا الحدِّ غيرُ معقولةٍ.
وثانيها: أنَّ صعود الجرمِ الثقيل إلى السَّموات غير معقول.
وثالثها: أنَّ صعودهُ إلى السماوات يوجب انخراق الأفلاك، وذلك محالٌ، ولأنَّ هذا المعنى، لو صحَّ، لكان أعظم من سائر معجزاته، فكان يجب أن يظهر ذلك عند اجتماع النَّاس حتَّى يستدلُّوا به على صدقه في ادعاء النبوَّة، فأما أن يحصل ذلك في وقتٍ لا يراه أحدٌ، ولا يشاهده يكون عبثاً؛ وذلك لا يليق بالحكيم.
وأمَّا النقل: فقوله تعالى: { لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَآ } [الإسراء: 1] وقوله:
{ وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّؤْيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } [الإسراء: 60] وما تلك الرؤيا إلاَّ حديث المعراج، والرؤيا لما في المنام، وإنما كانت فتنة للنَّاس؛ لأنَّ كثيراً ممَّن آمن به، لمَّا سمع هذا الكلام كذَّبهُ وكفر، وكان حديث المعراج سبب فتنة الناس.
وأيضاً: فحديث المعراج اشتمل على أشياء بعيدة.
منها: ما رُوِيَ من شقِّ بطنه وتطهيره بماءِ زَمْزَم، وهو بعيد؛ لأن الذي يمكن غسله بالماءِ هو النَّجاسات العينيَّة، ولا تأثير لذلك في تطهير القلب عن العقائد الباطلة، والأخلاق الذَّميمة.
وأيضاً: فما رُوِيَ من ركوب البُراق - وهو بعيد - لأنَّه تعالى، لمَّا سيَّره من هذا العالم إلى عالم الأفلاك، فأيُّ حاجةٍ إلى البراق.
وما رُوِيَ أنه تعالى أوجب خمسين صلاة، ثم إنَّ محمَّداً صلى الله عليه وسلم لا زال يتردَّد بين يدي الله، وبين موسى عليه السلام.
قال القاضي: وهذا يقتضي نسخ الحكم قبل حضور وقته، فإنه يوجبُ البداء، وذلك على الله محالٌ؛ فثبت أنَّ ذلك الحديث مشتملٌ على ما لا يجوز قبوله، فكان مردوداً.
فالجواب عن الوجوه العقليَّة قد سبق.
وأمَّا قوله: { لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَآ }، فهذا كلام مجمل، وفي شرحه وجوه:
الأول: أن خيرات الجنَّة عظيمة، وأهوال النَّار شديدة، فلو أنه - عليه السلام - ما شاهدهما في الدنيا، ثمَّ شاهدهما في ابتداء يوم القيامة، فربَّما رغب في خيرات الجنة، أو خاف من أهوال النَّار، أمَّا لمَّا شاهدهما في الدنيا في ليلة المعراج، فحينئذ لا يعظم وقعهما في قلبه يوم القيامة، فلا يبقى مشغول القلب بهما، وحينئذ يتفرّغ للشَّفاعة.
الثاني: لا يمتنع أن تكون مشاهدته ليلة المعراج للأنبياء والملائكة سبباً لتكامل مصلحته أو مصلحتهم.
الثالث: لا يبعد أنه إذا صعد الفلك، وشاهد أحوال السماوات، والكرسيِّ، والعرش، صارت مشاهدة أحوال هذا العالم وأهواله حقيرة في عينه، فيحصل له زيادة قوَّةٍ في القلب، باعتبارها يكون شروعه في الدعوةِ إلى الله تعالى أكمل، وقلَّة التفاته إلى أعداء الله أقوى، يبين ذلك أنَّ من عاين قدرة الله في هذا الباب لا يكون حاله في قوَّة النَّفسِ وثبات القلب على احتمال المكاره في الجهاد وغيره إلا أضعاف ما يكون لمن لم يعاين، فقوله: { لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَآ } كالدَّلالة على أن فائدة ذلك الإسراء مختصَّة به، وعائدة إليه؛ على سبيل التعيين وأما قوله:
{ وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّؤيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ } [الإسراء: 60] فيأتي الجواب عند تفسير تلك الآية في هذه السورة، ونبيِّن أن تلك الرؤيا رؤيا عيانٍ لا رؤيا منامٍ.
وأما حديث المعراج، فلا اعتراض على الله - تعالى - في أفعاله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
واعلم أن العروج إلى السَّماء، وإلى ما فوق العرش، فهذه الآية لا تدلُّ عليه، ومنهم من استدلَّ عليه بأوَّل سورة النجم، ومنهم من استدل عليه بقوله:
{ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } [الانشقاق: 19] وسيأتي تفسيرها في موضعه إن شاء الله تعالى.
فصل
رُوِيَ لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أسري به فكان بـ "ذِي طُوًى" قال:
"يا جبريل: إنَّ قَوْمِي لا يُصدِّقُونَني، قال: يُصدِّقُكَ أبو بكرٍ، وهُو الصِّدِّيقُ"
قال ابن عبَّاس وعائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لمَّا كَانتْ لَيْلة أسْرِي بِي، فأصْبَحْتُ بِمكَّةَ، فضِقْتُ بأمْرِي، وعَرفْتُ النَّاس مُكذِّبينَ، فروي أنه - عليه السلام - قعد مُعتزِلاً حزيناً، فمرَّ به أبو جهلِ بنُ هِشام، فجَلسَ إليْهِ، فقال كالمُستهزىء: هَل اسْتفَدت مِنْ شَيْءٍ؟ قال: نَعَمْ، أسْرِي بِي اللَّيلةَ، قَالَ: إلى أيْنَ؟ قال: إلى بَيْتِ المقْدسِ، قال: ثُمَّ أصْبَحْتَ بين ظهْرَانيْنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قال أبُو جهْلٍ: يا مَعْشرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤيٍّ هَلُمَّ، فانفَضَّتْ إليه المجَالِسُ، فَجَاءُوا حتَّى جَلسُوا إليْهمَا قَالَ: قحَدِّثْ قوْمَكَ ما حدَّثْتَنِي، قَالَ: نَعَمْ، إنِّي أسْرِي بِي اللَّيْلةَ، قَالُوا: إلى أيْنَ؟ قَالَ: إلى بَيْتِ المقْدسِ، قالُوا: ثُمَّ أصْبَحْتَ بيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ قَالَ: نعم قَالَ: فمن بَيْن مُصفِّقٍ، ومِنْ بَينِ واضعِ يدَهِ على رَأسهِ مُتعجِّباً، وارْتَدَّ ناسٌ ممَّنْ كان آمَنَ بِهِ وصَدَّقهُ، وسَعَى رجُلٌ من المُشْركينَ إلى أبِي بَكْرٍ، فقَالَ: هَلْ لَكَ في صَاحِبكَ يَزْعمُ أنَّهُ أسْرِي به إلى بَيْتِ المَقْدسِ؟ قال: أو قَدْ قَالَ؟ قَالُوا: نَعمْ، قَالَ: لَئِن قَالَ ذلِكَ، لقَدْ صَدقَ، قَالُوا: وتُصدِّقهُ أنَّه ذهَبَ إلى بَيْتِ المَقدِسِ في لَيْلةٍ، وجَاءَ قَبْلَ أنْ يُصْبحَ؟ قَالَ: نَعَمْ إنِّي لأصَدِّقهُ بِمَا هُوَ أبْعَدُ من ذلِكَ، أصَدِّقهُ بِخبَرِ السَّماءِ بغُدْوةٍ أو رَوْحَةٍ، ولِذلِكَ سُمِّي أبُو بكرٍ الصِّديق، قال: وفِي القوْمِ مَنْ قَدْ أتَى المَسْجدَ الأقْصَى، فقَالُوا: هَلْ تَسْتَطيعُ أنْ تَنْعَتَهُ لَنَا؟ قَالَ: نَعمْ، قَالَ: فَذهَبْتُ أنْعَتُ وأنْعَتُ، فمَا زِلتُ أنْعَتُ حتَّى التبسَ عليَّ، فَجيءَ بالمسْجِدِ، وأنَا أنْظرُ إليْهِ، فقَالَ قَوْمٌ: أمَّا النَّعْتُ فواللهِ لَقدْ أصَابَ، ثُمَّ قالوا: يا مُحمَّد، أخبرنا عن عيرنَا، فَهِيَ أهَمُّ إلَيْنَا، هَلْ لَقيتَ مِنْهَا شَيْئاً؟ قَالَ: نَعمْ، مَررْتُ عَلى عِير بَنِي فُلانٍ، وهِيَ بالرَّوحَاءِ، وقَدْ أضلُّوا بَعِيراً لهُم، وهُمْ فِي طَلبهِ، وفي رِحَالهِمْ قَدحٌ مِنْ ماءٍ، فَعطِشْتُ فأخَذتهُ فَشربْتهُ، ثُمَّ وضَعْتهُ، فَسَلوهُمْ: هَلْ وجَدُوا المَاء فِي القَدحِ حِينَ رَجعُوا إليْهِ، قالوا: هَذهِ آيةٌ.
قَالَ: ومررْتُ بِعير بَنِي فُلانٍ وفُلانٍ وفُلانٍ رِاكِبانِ قَعُوداً لهُمَا بِذي مَوضعٍ، فنَفرَ بعَيرهُمَا منِّي فَرمَى فُلاناً، فانْكَسرَتْ يَدهُ، فسَلُوهُمَا عَنْ ذلِكَ قالوا: وهَذهِ آيةٌ.
قَالُوا: فأخْبِرْنَا عَنْ عِيرنَا، قَالَ: مَررْتُ بِهَا بالتَّنعِيم، قالوا: فمَا عِدَّتُهَا وأحْمالُهَا، وهَيْئَتُهَا، ومَنْ فِيهَا؟ فقال: نعم هَيْئَتُهَا كَذَا وكذَا، وفِيهَا فُلانٌ، يَقدمُهَا جملٌ أوْرقُ، عليهِ غِرارتَان مَخِيطتَانِ، تَطْلعُ عَليْكُم عِند طُلُوعِ الشَّمْسِ، قالوا: وهذه آيةٌ أخرى، ثمَّ خَرجُوا يَشْتدُّونَ نحو الثَّنيَّةِ يقولون: لقَدْ قَصَّ مُحمَّد بَيْننا وبَيْنهُ، حتَّى أتَوْا كُدًى فجلسُوا عليْهَا، فجَعلُوا يَنْتظرُون مَتَى تَطلعُ الشَّمسُ فيُكَذِّبُونَهُ، إذ قال قَائلٌ منهم: والله هذه الشَّمسُ قد طَلعَتْ وقال آخرون: والله، هذه الإبلُ قد طلعتْ، يَقْدمُها بعيرٌ أورق، وفيها فلانٌ كما قال لهُم فلمْ يُؤمِنُوا، وقالوا: إنْ هذَا إلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ"
.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ رَأيْتُني فِي الحِجْرِ، وقُريْشٌ تَسْألُنِي عَنْ مَسْرايَ، فَسألَتْنِي عَنْ أشْياءَ مِنْ بَيتِ المقْدسِ، لَمْ أثْبِتْهَا فَكرِبْتُ كَرَباً ما كَربْتُ مِثْلهُ قَطُّ، قَالَ: فَرفَعهُ الله إليَّ أنْظرُ إليْهِ، مَا يَسْألُونني عَنْ شَيءٍ إلاَّ أنْبَأتُهمْ بِهِ، وقَدْ رَأيْتُني في جَماعَةٍ مِنَ الأنْبِياءِ، فإذا مُوسَى قَائمٌ يُصلِّي، فَإذا رَجلٌ بثَوْبٍ جَعْدٌ، كأنَّهُ مِنْ رِجالِ شَنُوءة، وإذَا عيسَى قائمٌ يُصلِّي، أقْربُ النَّاس بِهِ شَبَهاً عُروَةُ بنُ مسْعُودٍ الثَّقفيُّ، وإذا إبْراهيمُ قَائمٌ يصلِّي، أشبهُ النَّاس به شبهاً صَاحِبكُمْ - يَعْنِي نَفسَهُ - فحَانَتِ الصَّلاة، فأممْتُهُمْ فلمَّا فَرغْتُ مِنَ الصَّلاة، قَال لِي قَائِلٌ: هَذَا مَالكٌ صَاحبُ النَّار، فَسلِّمْ عَليْهِ، فالتَفَتُّ إليْهِ فَبَدأنِي بالسَّلام"
فصل
اختلفوا في الرؤية، فقال ابن عباس: رآهُ بفؤاده مرَّتين، وأبو هريرة أطلق الرؤية، وصرَّح ابن خزيمة وآخرون بالرُّؤية بالعينين، وهو اختيار أبي الحسن الأشعريِّ والنَّوويِّ في فتاويه، واستدلَّ من منع ذلك بما روى مسلم
"عن أبي ذرٍّ قال: قُلت: يا رسول الله، هَلْ رَأيْتَ ربَّك قال: نُورٌ وفي رواية: رأيْتُ نُوراً" .
وقالوا: لم يمكن رؤية الباقي بالعين الفانية، ولهذا قال تعالى لموسى فيما رُوِيَ في الكتب الإلهية: "يا مُوسَى، إنَّه لا يَرانِي حيٌّ إلاَّ مَاتَ ولا يابس إلا تَدَهْدَهَ".
قالت عائشة وجماعة: "إنَّ ذلك كان رُؤيا منامٍ".
وقال غيرهما من الصحابة: إنَّ ذلك كان في اليقظة، فإنَّه صلى الله عليه وسلم كان لا يرى رؤيا إلاَّ جَاءتْ مثلَ فلقِ الصُّبْحِ.
واختلف العلماءُ في أنَّ الإسراء والمعراج، هل كانا في ليلةٍ واحدةٍ، أو كل واحدٍ في ليلةٍ؟ فمنهم من زعم أن الإسراء في اليقظة، والمعراج في المنام، وذهب آخرون إلى أنَّ الإسراء كان مرتين، مرَّة بروحه مناماً، ومرة بروحه وجسده يقظة، وذهب آخرون إلى تعدُّد الإسراء في اليقظة، وقالوا: "إنَّها أربع إسراءات" لتعدُّد الروايات في الإسراء، واختلاف ما يذكر فيها، فبعضهم يذكر شيئاً لم يذكره الآخر، وبعضهم يذكر شيئاً ذكره الآخر، وهذا لا يدلُّ على التعدُّد؛ لأنَّ بعض الرواة قد يحذف بعض الخبر؛ للعلم به، أو ينساهُ، أو يذكر ما هو الأهمُّ عنده، أو يبسطُ تارة، فيسوقه كلَّه، وتارة يحدث المخاطب بما هو الأنفع له، ومن جعل كلَّ رواية إسراء على حدةٍ، فقد أبعد هذا؛ لأنَّ كل السياقات فيها السلام على الأنبياء، وفي كلِّ منها تعريفه بهم، وفي كلِّها تفرض عليه الصلوات، فكيف يمكنُ أن يدعى تعدد ذلك؛ وما عدد ذلك؟ هذا في غاية البعد والاستحالة، والله أعلم، ذكر هذا الفصل ابن كثير.