التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً
٤١
-الإسراء

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا }: العامة على تشديد الراء، وفي مفعول "صرَّفنا" وجهان:
أحدهما: أنه مذكورٌ، و "في" مزيدة فيه، أي: ولقد صرفنا هذا القرآن؛ كقوله:
{ { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ } [الفرقان: 50]، ومثله: [الطويل]

3424-................. يَجْرَحُ في عَراقيبها نَصْلِي

وقوله تعالى: { { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ } [الأحقاف: 15] أي: يجرح عراقيبها، وأصلح لي ذريتي، وردَّ هذا بأنَّ "في" لا تزاد، وما ذكر متأوَّل، وسيأتي إنْ شاء الله تعالى في الأحقاف.
الثاني: أنه محذوفٌ تقديره: ولقد صرَّفنا أمثاله، ومواعظه، وقصصه، وأخباره، وأوامره.
وقال الزمخشريُّ في تقدير ذلك: "ويجوز أن يراد بـ "هَذَا القرآنِ" إبطال إضافتهم إلى الله البنات؛ لأنه ممَّا صرفه، وكرَّر ذكره، والمعنى: ولقد صرَّفنا القول في هذا المعنى، وأوقعنا التصريف فيه، وجعلناه مكاناً للتكرير، ويجوز أن يريد بـ "هَذا القُرآنِ" التنزيل، ويريد: ولقد صرَّفناهُ، يعني هذا المعنى في مواضعَ من التنزيل، فترك الضمير؛ لأنَّه معلوم"، وهذا التقدير الذي قدَّره الزمخشري أحسنُ؛ لأنه مناسب لما دلَّت عليه الآية وسيقت لأجله، فقدَّر المفعول خاصًّا، وهو: إمَّا القولُ، وإمَّا المعنى، وهو الضمير الذي قدَّره في "صَرَّفناه" بخلاف تقدير غيره، فإنه جعله عامًّا.
وقيل: المعنى: لم نُنَزِّلهُ مرةً واحدة، بل نجوماً، والمعنى: أكثرنا صرف جبريل إليك، فالمفعول جبريل - عليه السلام -.
وقرأ الحسن بتخفيفِ الرَّاء، فقيل: هي بمعنى القراءةِ الأولى، وفعَل وفعَّل قد يشتركان، وقال ابن عطيَّة: "أي: صرفنا النَّاس فيه إلى الهدى".
والصَّرْفُ في اللغة: عبارة عن صرف الشيء من جهة إلى جهة؛ نحو: تصريف الرياح، وتصريف الأمور، هذا هو الأصل في اللغة، ثم جعل لفظ التَّصريف كناية عن التَّبيين؛ لأنَّ من حاول بيان شيءٍ، فإنه يصرف كلامه من نوعٍ إلى نوع آخر، ومن مثالٍ إلى مثالٍ آخر؛ ليكمل الإيضاح، ويقوي البيان، فقوله تعالى: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } أي: بيَّنَّا.
قوله: "لِيَذَّكَّرُوا" متعلق بـ "صَرَّفْنَا" وقرأ الأخوان هنا، وفي الفرقان بسكون الذَّال، وضمِّ الكاف مخففة مضارع "ذكر" من الذِّكر أو الذُّكر، والباقون بفتح الذال، والكاف مشددة، والأصل: يتذكَّروا، فأدغم التاء في الذَّال لقرب المخرج وهو من الاعتبار والتَّدبُّر.
قال الواحديُّ: والتذكُّر هنا أشبه من الذِّكر؛ لأنَّ المراد منه التدبُّر والتفكُّر، وليس المراد منه الذِّكر الذي يحصل بعد النسيان، ثم قال: وأمَّا قراءة حمزة والكسائي، ففيها وجهان:
الأول: أنَّ الذكر قد جاء بمعنى التَّأمُّل والتدبُّر؛ كقوله سبحانه جلَّ ذكره:
{ { خُذُواْ مَآءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ } [البقرة: 63]. والمعنى: وافهموا ما فيه.
والثاني: أن يكون المعنى: صرفنا هذه الدلائل في هذا القرآن؛ لتذكروه بألسنتكم؛ فإنَّ الذكر بألسنتكم قد يؤدِّي إلى تأثر القلب بمعناه.
فصل
قال الجبائيُّ -رحمه الله تعالى -: قوله عزَّ وجلَّ: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانِ لِيَذَّكَّرُواْ } يدل على أنَّه تعالى يفعل أفعاله لأغراضٍ حكميةٍ، ويدلُّ على أنَّه تعالى أراد الإيمان من الناس، سواءٌ آمنوا، أو كفروا.
قوله: { وَمَا يَزِيدُهُمْ }، أي: التصريفُ، و "نُفوراً" مفعول ثانٍ وهذه الآية تدلُّ على أنَّه تعالى ما أراد الإيمان من الكفَّار؛ لأنَّه تعالى عالمٌ بأن تصريف القرآن لا يزيدهم إلا نفوراً، فلو أراد الإيمان منهم، لما أنزل عليهم ما يزيدهم نفرة عنه؛ لأنَّ الحكيم، إذا أراد تحصيل أمرٍ من الأمور، وعلمَ أنَّ الفعل الفلانيَّ يصير سبباً للعسر والتعذُّر والنفرة؛ فإنَّه عند محاولة تحصيل ذلك المقصود يحترزُ عما يوجب النُّفرة، فلمَّا أخبر تعالى أنَّ هذا التصرُّف يزيدهم نفُوراً، علمنا أنَّه ما أراد الإيمان منهم.