التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ ٱلدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً
٥
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً
٦
-الإسراء

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { وَعْدُ } أي: موعود، فهو مصدر واقع موقع مفعول، وتركه الزمخشريُّ على حاله، لكن بحذف مضافٍ، أي: وعدُ عقاب أولاهما. وقيل: الوعدُ بمعنى الوعيد، وقيل: بمعنى الموعد الذي يراد به الوقت، فهذه أربعة أوجهٍ، والضمير عائدٌ على المرَّتينِ.
قوله: "عِبَاداً لَنَا" العامة على "عِبَاد" بزنة فِعَال، وزيد بن عليٍّ والحسن "عَبِيداً" على فعيل، وتقدَّم الكلام على ذلك.
وقوله: "فَجاسُوا" عطف على "بَعثْنَا"، أي: ترتَّب على بعثنا إياهم هذا. وجُوس بفتح الجيم وضمها مصدر جاسَ يَجُوسُ، أي: فتَّش ونقَّب، قاله أبو عبيدٍ، وقال الفراء: "قَتلُوا" قال حسان: [الطويل]

3376- ومِنَّا الَّذي لاقَى بِسيْفِ مُحمَّدٍ فَجَاسَ بِهِ الأعْداءُ عَرْضَ العَساكرِ

وقال أبو زيد: "الجُوسُ والجَوْسُ والحَوْسُ والهَوْسُ طلب الطَّوف باللَّيْلِ". وقال قطربٌ: "جَاسُوا: نَزلُوا". وأنشد: [المتقارب]

3377- فَجُسْنَا دِيَارهُمْ عَنْوَةً وأبْنَا بِسَاداتِهمْ مُوثَقِينَا

وقيل: "جَاسُوا بمعنى دَاسُوا"، وأنشد: [الرجز]

3378- إلَيْكَ جُسْنَا اللَّيْلَ بالمَطِيِّ

وقيل: الجَوْسُ: التردُّد. قال الليث: الجَوْس، والجوسان: التردُّد وقيل: طلب الشيءِ باستقصاءٍ، ويقال: "حَاسُوا" بالحاءِ المهملة، وبها قرأ طلحةُ وأبو السَّمَّال، وقُرِىء "فجُوِّسُوا" بالجيم، بزنة نُكِّسُوا.
و "خلال الدِّيارِ" العامة على "خِلال" وهو محتملٌ لوجهين:
أحدهما: أنه جمعُ خللٍ؛ كجِبال في جبل، وجمال في جَمل.
والثاني: أنه اسمٌ مفردٌ بمعنى وسطٍ، ويدل له قراءة الحسن "خَلَلَ الدِّيارِ".
قوله: "وكان وعْداً"، أي: وكان الجوسُ، أو وكان وعْدُ أولاهما، أو وكان وعدُ عقابهم.
قوله تعالى: { ٱلْكَرَّةَ }: مفعول "رَدَدْنَا" وهي في الأصل مصدر كرَّ يكُرُّ، أي: رجع، ثم يعبَّر بها عن الدَّولةِ والقهر.
قوله: "عَليْهِم" يجوز تعلُّقه بـ "رَدَدْنَا"، أو بنفس الكرَّة؛ لأنه يقال: كرَّ عليه، فتتعدَّى بـ "عَلَى" ويجوز أن تتعلق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من "الكرَّة".
قوله: "نَفِيراً" منصوبٌ على التمييز، وفيه أوجهٌ:
أحدها: أنه فعيلٌ بمعنى فاعل، أي: أكثر نافراً، أي: من يَنْفِرُ معكم.
الثاني: أنه جمع نفرٍ؛ نحو: عَبْدٍ وعبيدٍ، قاله الزجاج؛ وهم الجماعة الصَّائرُون إلى الأعداء.
الثالث: أنه مصدر، أيك أكثر خروجاً إلى الغزو؛ قال الشاعر: [المتقارب]

3379- فَأكْرِمْ بقَحْطانَ مِنْ والِدٍ وحِمْيَرَ أكْرِمْ بقَوْمٍ نَفِيرَا

والمفضل عليه محذوفٌ، فقدره بعضهم: أكثر نفيراً من أعدائكم، وقدَّره الزمخشريُّ: أكثر نفيراً ممَّا كنتم.
فصل في معنى الآية
معنى الآية: { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا } يعني أوَّل المرَّتين.
قال قتادة: "إفسادهم في المرَّة الأولى ما خالفوا من أحكام التوراة وركبوا المحارم".
وقال ابن إسحاق: "إفسادهم في المرَّة الأولى قتل شعيا في الشجرة، وارتكابهم المعاصي".
{ بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ }.
قال قتادة: "يعني جالوت وجنوده، وهو الذي قتلهُ داود، فذاك هو عودُ الكرَّة".
وقال سعيد بن جبيرٍ: "سنحاريب من أرض نينوى" وقال ابن إسحاق: "بُخْتَنصَّر البابليّ وأصحابه" وهو الأظهر، فقتل منهم أربعين ألفاً ممَّن يقرأ التوراة، وذهب بالبقيَّة إلى أرضه، فبقوا هناك في الذلِّ إلى أن قيَّض الله ملكاً آخر من أهل بابل، واتَّفق أن تزوَّج بامرأةٍ من بني إسرائيل، فطلبت تلك المرأةُ من ذلك الملك أن يردَّ بني إسرائيل إلى بيت المقدس، ففعل، وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء، ورجعوا إلى أحسن ما كانوا، وهو قوله: { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ }.
وقال آخرون: يعني بقوله: { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ } هو أنه تعالى ألقى الرُّعب من بني إسرائيل في قلوب المجوس، فلما كثرت المعاصي فيهم، أزال ذلك الرعب عن قلوب المجوس، فقصدوهم، وبالغوا في قتلهم، وإفنائهم، وإهلاكهم.
واعلم أنه لا يتعلق كثير غرضٍ في معرفة الأقوام بأعيانهم، بل المقصود هو أنهم لمَّا أكثروا من المعاصي، سلَّط الله عليهم أقواماً قتلوهم وأفنوهم.
فصل في الاحتجاج على صحة القضاء والقدر
احتجُّوا بهذه الآية على صحَّة القضاء والقدر من وجهين:
الأول: أنه تعالى قال: { وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ }، وهذا القضاءُ أقلُّ احتمالاته الحكم الجزم والخبر الحتم، فثبت أنَّه تعالى أخبر عنهم أنهم سيقدمون على الفساد والمعاصي خبراً وجزماً، حتماً، لا يقبل النَّسخ؛ لأنَّ القضاء معناه الحكم الجزم، ثم إنه الله تعالى أكَّد القضاء بقوله: { وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً }.
فنقول: عدم وقوع ذلك الفساد منهم يستلزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً، وانقلاب حكمه الجازم باطلاً، وانقلاب علمه الحقِّ جهلاً، وكل ذلك محال، فكان عدم إقدامهم على ذلك الفساد محالاً، وكان إقدامهم عليه واجباً ضرورياً، لا يقبل النَّسخ والرفع، مع أنَّهم كلِّفُوا بتركه، ولعنوا على فعله؛ وذلك يدل على أن الله قد يأمر بالشيء ويصدُّ عنه وقد ينهى عن الشيء ويسعى فيه.
الثاني: قوله: { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } والمراد به الذين تسلطوا على بني إسرائيل بالقتل والنَّهب والأسر، فبيَّن تعالى أنَّه هو الذي بعثهم على بني إسرائيل، ولا شكَّ أن قتل بني إسرائيل ونهب أموالهم وأسر أولادهم كان مشتملاً على الظلم الكبير والمعاصي العظيمة.
ثم إنه تعالى أضاف كلَّ ذلك إلى نفسه بنفسه بقوله: { ثُمَّ بَعَثْنَا } وذلك يدلُّ على أن الخير والشر والطاعة والمعصية من الله تعالى. أجاب الجبائيُّ عنه من وجهين:
الأول: قوله: "بَعَثْنَا" هو أنَّه تعالى أمر أولئك القوم بغزو بني إسرائيل؛ لما ظهر فيهم من الفساد، فأضيف ذلك الفعل إلى الله من حيث الأمرُ.
والثاني: أنَّ المراد: خَلَّيْنَا بينهم وبين بني إسرائيل، وما ألقينا الخوف من بني إسرائيل في قلوبهم، فالمراد من هذا البعث التخليةُ وعدم المنع.
والجواب الأوَّل ضعيفٌ؛ لأن الذين قصدوا تخريب بيت المقدس، وإحراق التوراة، وقتل حفَّاظ التوراة لا يجوز أن يقال: إنهم فعلوا ذلك بأمر الله.
والجواب الثاني أيضاً ضعيفٌ؛ لأنَّ البعث عبارةٌ عن الإرسال، والتخلية عبارةٌ عن عدم المنع، فالأول فعلٌ، والثاني تركٌ، فتفسير البعث بالتخلية تفسير لأحد الضدَّين بالآخر، وإنه لا يجوز، فثبت صحَّة ما ذكرناه.