التفاسير

< >
عرض

قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً
٦٢
-الإسراء

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { أَرَءَيْتَكَ }: قد تقدم مستوفى في الأنعام [الآية: 40]. وقال الزمخشريُّ: "الكافُ للخطاب، و "هذا" مفعولٌ به، والمعنى: أخبرني عن هذا الذي كرَّمته عليَّ، أي: فضَّلته، لِمَ كرَّمتهُ، وأنا خيرٌ منه؟ فاختصر الكلام". وهذا قريبٌ من كلام الحوفيِّ -رحمه الله -.
قال ابن عطيَّة: "والكاف في "أرَأيْتَكَ" حرف خطابٍ، لا موضع لها من الإعراب، ومعنى "أرَأيْت" أتأمَّلت ونحوه، كأنَّ المخاطب يُنبِّه المخاطب؛ ليستجمع لما ينصُّ عليه بعد. وقال سيبويه: "هي بمعنى أخبرني"، ومثل بقوله: "أرَأيْتكَ زيداً، أبو من هُوَ؟" وقول سيبويه صحيحٌ؛ حيث يكون بعدها استفهام كمثاله، وأمَّا في الآية فهو كما قلت، وليست التي ذكر سيبويه" قلت: وهذا الذي ذكره ليس بمسلَّمٍ، بل الآية كمثاله، غاية ما في الباب: أنَّ المفعول الثاني محذوفٌ، وهو الجملة الاستفهامية المقدَّرة؛ لانعقادِ الكلام من مبتدأ وخبر، لو قلت: هذا الذي كرَّمته عليَّ، لم كرَّمتهُ؟.
وقال الفرَّاء: "الكاف في محلِّ نصبٍ، أي: أرَأيْتَ نفسك؛ كقولك: أتدبَّرْتَ آخِرَ أمرك، فإني صانعٌ فيه كذا، ثم ابتدأ: هذا الذي كرَّمت عليَّ".
وقال ابن الخطيب: يمكن أن يقال: "هذا" مبتدأ محذوف عنه حرفُ الاستفهام، و "الَّذي" مع صلته خبره، تقديره: أخبرني، أهذا الذي كرَّمتهُ عليَّ؛ وهذا على وجه الاستصغار، والاستحقار، وإنَّما حذف حرف الاستفهام؛ لأنَّه حصل في قوله: "أرَأيْتكَ" فأغنى عن تكريره.
وقال أبو البقاء: "والمفعول الثاني محذوفٌ، تقديره: تفضيله أو تكريمه". قال شهاب الدين: وهذا لا يجوز؛ لنَّ المفعول الثاني في هذا الباب لا يكون إلا جملة مشتملة على استفهام.
قال أبو حيَّان: "ولو ذهب ذاهبٌ إلى أنَّ الجملة القسميَّة هي المفعول الثاني، لكان حسناً". قال شهاب الدين: يردُّ ذلك التزامُ كون المفعولِ الثاني جملة مشتملة على استفهامٍ، وقد تقرَّر جميع ذلك في الأنعام، فعليك باعتباره ههنا.
قوله: { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ } قرأ ابن كثيرٍ بإثبات ياءِ المتكلِّم وصلاً ووقفاً، ونافعٌ وأبو عمرو بإثباتها وصلاً، وحذفها وقفاً، وهذه قاعدةُ من ذكر في الياءاتِ الزائدةِ على الرَّسم، والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً، وكل هذا في حرف هذه السورة، أمَّا الذي في المنافقين [الآية: 10] في قوله
{ { لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ } فأثبته الكلُّ؛ لثبوتها في الرسم الكريم.
قوله "لأحْتَنِكَنَّ" جواب القسم الموطَّأ له باللام، ومعنى "لأحْتَنِكَنَّ" لأستولينَّ عليهم استيلاء من جعل في حنكِ الدَّابة حبلاً يقودها به، فلا تأبى ولا [تشمسُ] عليه، يقال: حَنكَ فلانٌ الدَّابة، واحتنكها، أي: فعل بها ذلك، واحْتَنكَ الجرادُ الأرض: أكل نباتها، قال: [الرجز]

3434- نَشْكُو إليْكَ سَنةً قَدْ أجْحَفتْ جَهْداً إلى جَهْدٍ بِنَا فأضْعَفتْ
واحْتَنكَتْ أمَوالنَا وجلَّفَتْ

وحكى سيبويه -رحمه الله -: "أحْنَكُ الشَّاتينِ"، أي: آكلهما، أي: أكثرهما [أكْلاً].
وذكر المفسرون في الاحتناك قولين:
أحدهما: أنه عبارةٌ عن الأخذِ بالكليَّة، يقال: احتنك فلانٌ مال فلانٍ: إذا استقصاه، فأخذهُ الكلِّيَّة، واحتنك الجراد الزَّرع: إذا أكلهُ بالكليَّة.
والثاني: أنه من قول العرب: حنَّك الدابَّة يحنكها، إذا جعل في حنكها الأسفل حبلاً يقودها به.
فعلى الأوَّل معناه: لأستأصلنهم بالإغواء.
وعلى الثاني: لأقُودنَّهم إلى المعاصي، كما تقادُ الدَّابة بحبلها.
ثم قال: "إلاَّ قليلاً" وهم المعصومون الذين استثناهم الله تعالى في قوله تعالى:
{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [الحجر: 42].
فإن قيل: كيف ظنَّ إبليسُ اللَّعين هذا الظنَّ الصَّادق بذريَّة آدم - صلوات الله عليه -؟.
قيل: فيه وجهان:
الأول: أنه سمع الملائكة يقولون:
{ { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ } [البقرة: 30] فعرف ذلك.
والثاني: أنه وسوس إلى آدم - صلوات الله عليه - فلم يجدْ له عزماً، فقال: الظاهر أنَّ أولاده يكونون مثله في ضعف العزم.
وقيل: لأنه عرف أنه مركب من قوَّة بهيمية شهوانية، وقوَّة وهميَّة شيطانية، وقوة عقليَّة ملكيَّة، وقوَّة سبعيَّة غضبيَّة، وعرف أنَّ بعض تلك القوى تكون هي المستولية في أوَّل الخلقة، ثم إنَّ القوَّة العقلية إنما تكمل في آخر الأمر، ومتى كان الأمر كذلك، كان ما ذكره إبليس لازماً.