التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً
٥٠
مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً
٥١
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً
٥٢
وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً
٥٣
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً
٥٤
-الكهف

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { وَإِذَ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لآدَمَ } الآية.
اعلم أنَّ المقصود في الآياتِ المتقدِّمة الردُّ على الذين افتخروا بأموالهم، وأعوانهم على فقراء المسلمين، وهذه الآية المقصود من ذكرها عين هذا المعنى؛ وذلك: أنَّ إبليس، إنما تكبَّر على آدم؛ لأنَّه افتخر بأصله ونسبه، فقال:
{ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [الأعراف: 13] فأنا أشرف منه أصلاً ونسباً، فكيف أسجد له، وكيف أتواضع له؟ وهؤلاء المشركون عاملوا فقراء المؤمنين بهذه المعاملة، فقالوا: كيف نجالسُ هؤلاء الفقراء، مع أنَّا من أنساب شريفة، وهم من أنساب نازلة، ونحن أغنياء، وهم فقراء؟ فذكر الله هذه القصة؛ تنبيهاً على أنَّ هذه الطريقة بعينها طريقة إبليس، ثم إنه تعالى حذَّر عنها، وعن الاقتضاء بها في قوله: { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ }، وهذا وجه النظم.
قوله: { وَإِذَ قُلْنَا }: أي: اذكر.
قوله: { كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ } فيه وجهان:
أحدهما: أنه استئناف يفيد التعليل؛ جواباً لسؤال مقدَّر.
والثاني: أن الجملة حالية، و "قَدْ" معها مرادة، قاله أبو البقاء.
قوله: "فَفسَقَ" السببية في الفاء ظاهرة، تسبَّب عن كونه من الجنِّ الفسقُ، قال أبو البقاء: إنما أدخل الفاء هنا؛ لأنَّ المعنى: "إلاَّ إبليس امتنع ففسق". قال شهاب الدين. إن عنى أنَّ قوله "كان من الجنِّ" وضع موضع قوله "امْتنعَ" فيحتمل مع بُعده، وإن عنى أنه حذف فعلٌ عطف عليه هذا، فليس بصحيحٍ؛ للاستغناء عنه.
قوله: "عَنْ أمْر"عَنْ" على بابها من المجاوزة، وهذ متعلقة بـ "فَسقَ"، أي: خرج مجاوزاً أمر ربِّه، وقيل: هي بمعنى الباء، أي: بسبب أمره؛ فإنه فعَّالٌ لما يريدُ.
قوله: "وذُرِّيتهُ" يجوز في الواو أن تكون عاطفة، وهو الظاهر، وأن تكون بمعنى "مع" و "مِنْ دُونِي" يجوز تعلقه بالاتِّخاذ، وبمحذوفٍ على أنَّه صفة لأولياء.
قوله: { وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } جملة حالية من مفعول الاتخاذ أو فاعله، لأن فيها مصححاً لكلٍّ من الوجهين، وهو الرابط.
قوله: "بِئْسَ" فاعلها مضمرٌ مفسَّر بتمييزه، والمخصوص بالذمِّ محذوف، تقديره: بِئْسَ البدل إبليس وذرِّيتهُ. وقوله "للظَّالمينَ" متعلق بمحذوفٍ حالاً من "بَدلاً" وقيل: متعلق بفعل الذمِّ.
فصل في الخلاف في أصل إبليس
اعلم أنه تعالى بيَّن في هذه الآية أنَّ إبليس كان من الجنِّ، وللنَّاس في الآية أقوالٌ:
الأول: قال ابن عبَّاس: كان من حيٍّ من الملائكةِ، يقال لهم الحنُّ، خلقوا من نار السَّموم، وكونه من الملائكة لا ينافي كونه من الجنِّ، لقوله:
{ وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَباً } [الصافات: 158] وقوله: { { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ } [الأنعام: 100] وسمِّي الجن جنًّا؛ لاستتارهم، والملائكة داخلون في ذلك.
وأيضاً: فإنه كان خازن الجنة، فنسب إلى الجنَّة؛ كقولهم: كوفيٌّ، وبصريٌّ.
وعن سعيد بن جبير، قال: كان من الجنَّانين الذين يعملون في الجنان، وهم حيٌّ من الملائكة، يصوغون حلية أهل الجنة منذ خلقوا.
رواه القاضي في تفسيره عن هشام عن سعيد بن جبيرٍ.
وقال الحسن: كان من الجنِّ، ولم يكن من الملائكةِ، فهو أصل الجنِّ، كما أنَّ آدم أصل الإنس.
وقيل: كان من الملائكة، فمسخ وغيِّر، وكما يدلُّ على أنه ليس من الملائكة قوله تعالى: { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي } والملائكة ليس لهم نسلٌ، ولا ذرِّيَّة.
بقي أن يقال: لو لم يكن من الملائكة، لما تناوله الأمر بالسجود، فكيف يصحُّ استثناؤه منهم؟.
تقدَّم الكلام على ذلك في البقرة.
ثم قال تعالى: { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ }.
قال الفراء: { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ }، أي: خرج من طاعته، تقول العرب: فسقتِ الرطبة عن قشرها، أي خرجت، وسميت الفأرة فويسقة؛ لخروجها من جحرها.
قال رؤبة: [الرجز]

3537- يَهْويْنَ في نَجْدٍ وغَوْراً غَائِرَا فَواسِقاً عَنْ قَصْدِهَا جَوائِرَا

وحكى الزجاج عن الخليل وسيبويه، أنه قال: لما أمر فعصَى، كان سبب فسقه هو ذلك الأمر، والمعنى: أنه لولا ذلك الأمر السابق، لما حصل ذلك الفسق، فلهذا حسن أن يقال: { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } كقوله: { وسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا } [يوسف: 82].
ثم قال: "أفَتَتَّخِذُونَهُ" يعني: يا بني آدم { وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ }، أي: أعداء.
روى مجاهد عن الشعبيِّ قال: إنِّي قاعدٌ يوماً؛ إذ أقبل رجل فقال: أخبرني، هل لإبليس زوجة؟ قال: إنَّه لعرسٌ ما شَهدتُّه، ثُم ذكرتُ قول الله عزَّ وجلَّ: { أفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي } فعلمت أنَّه لا يكون ذريَّة إلا من زوجة، فقلت، نعم.
وقال قتادة: يتوالدون، كما يتوالد بنو آدم.
وقيل: إنَّه يدخل ذنبه في دبره، فيبيض، فتنفلق البيضة عن جماعة من الشَّياطين.
ثم قال: { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً }.
قال قتادة: بئس ما استبدلوا طاعة إبليس، وذريته بعبادة ربِّهم.
قوله: { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَاتِ }: أي: إبليس وذريته، أو ما أشهدت الملائكة، فكيف يعبدونهم؟ أو ما أشهدت الكفار، فكيف ينسبون إليَّ ما لا يليق بجلالي؟ أو ما أشهدت جميع الخلقِ.
وقرأ أبو جعفر، [وشيبة] والسختياني في آخرين: "ما أشهدناهم" على التعظيم.
والمعنى: ما أحضرناهم { خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ } أي: ولا أشهدت بعضهم خلق بعض، يعني: ما أشهدتهم؛ لأعتضد بهم.
قوله: { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } أي: ما كنت متَّخذهم، فوضع الظاهر موضع المضمر؛ بياناً لإضلالهم؛ وذمًّا لهم وقوله: "عَضُدًا" أي: أعواناً.
قال ابن الخطيب: والأقرب عندي أنه الضمير الرَّاجع على الكفَّار الذين قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: إن لم تطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء، لم نؤمن بك، فكأنه - تعالى - قال: إنَّ هؤلاء الذين أتوا بالاقتراح الفاسد، والتعنُّت الباطل، ما كانوا شركاء في تدبير العالم؛ لأنِّي ما أشهدتهم خلق السموات والأرض، ولا خلق أنفسهم، ولا أعتضد بهم في تدبير الدنيا والآخرة، بل هم كسائر الخلق، فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد؟.
ويؤكِّد هذا أن الضمير يجب عوده على أقرب مذكور، وهو هنا { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً }.
قوله: { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } وضع الظاهر موضع المضمر؛ إذ المراد بـ "المُضلِّينَ" من نفى عنهم إشهاد خلق السموات، وإنما نبَّه بذلك على وصفهم القبيح.
وقرأ العامة "كُنْتُ" بضمِّ التاء؛ إخباراً عنه تعالى وقرأ الحسن، والجحدري، وأبو جعفر بفتحها؛ خطاباً لنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم وقرأ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - { مُتّخِذاً المُضِلِّينَ } نوَّن اسم الفاعل، ونصب به، إذ المراد به الحال، أو الاستقبال.
وقرأ عيسى "عَضْداً" بفتح العين، وسكون الضاد، وهو تخفيف سائغ، كقول تميمٍ: سبْع ورجْل في: سبُعٍ ورجُلٍ وقرأ الحسن "عُضداً" بالضم والسكون؛ وذلك أنه نقل حركة الضاد إلى العين بعد سلب العين حركتها، وعنه أيضاً "عضداً" بفتحتين، و "عضداً" بضمتين، والضحاك "عضداً" بكسر العين، وفتح الضاد، و هذه لغات في هذا الحرف.
والعضدُ من الإنسان وغيره معروف، ويعبِّر به عن العون والنصير؛ يقال: فلان عضدي، ومنه
{ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } [القصص: 35] أي: سنقوِّي نصرتك ومعونتك.
قوله: { وَيَوْمَ يَقُولُ }: معمول لـ "اذْكُرْ" أي: ويوم نقول، يجري كيت وكيت وقرأ حمزة "نقُول" بنون العظمة؛ مراعاة للتكلُّم في قوله: "مَا أشْهدتهُمْ" إلى آخره، والباقون بياء الغيبة؛ لتقدم اسمه الشريف العظيم الظاهر.
أي: يقول الله يوم القيامة: { نَادُواْ شُرَكَآئِيَ } يعني الأوثان.
وقيل: للجنِّ، ولم يذكر تعالى أنَّهم كيف دعوهم في هذه الآية الكريمة، بيَّن ذلك في آية أخرى، وهو أنَّهم قالوا:
{ { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ } [إبراهيم: 21].
{ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ } أنهم شركاء { فَدَعَوْهُمْ } فاستغاثوا بهم، { فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ }، أي: لم يجيبوهم، ولم ينصروهم، ولم يدفعوا عنهم ضرراً، ثم قال: { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً } أي: مهلكاً. قاله عطاء والضحاك.
فصل في بيان الموبق
قال الزمخشري وغيره: والمَوْبِقُ: المهلك، يقال: وَبِقَ يَوبِقُ وَبَقاً، أي: هَلَكَ ووَبَقَ يَبِقُ وُبُوقاً أيضاً: هلك وأوبقه ذنبه، وعن الفراء: "جعَل اللهُ تواصُلهمْ هَلاكاً" فجعل البين بمعنى الوصل، وليس بظرفٍ؛ كقوله:
{ { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُم } [الأنعام: 94] على قراءة من قرأ بالرفع، فعلى الأول يكون "موبقاً" مفعولاً أول للجعل، والثاني الظرف المتقدِّم، ويجوز أن تكون متعدية لواحدٍ، فيتعلق الظرف بالجعلِ أو بمحذوفٍ على الحال من "مَوْبِقاً".
وعلى قول الفراء ليكون "بينهم" مفعولاً أول و "مَوبقاً" مفعولاً ثانياً، والمَوْبِقُ هنا: يجوز أن يكون مصدراً، وهو الظاهر، ويجوز أن يكون مكاناً.
قال ابن عباس: وهو وادٍ في النَّار.
وقال ابن الأعربيِّ: كل حاجزٍ بين الشيئين يكون المَوبِقَ.
وقال الحسن: "مَوْبقاً" أي: عداوة، هي في شدَّتها هلاك؛ كقولهم: لا يكن حُبك كلفاً.
وقيل: الموبقُ: البَرْزَخُ البعيد.
وجعلنا بين هؤلاء الكفَّار وبين الملائكة وعيسى برزخاً بعيداً، يهلك فيه النصارى؛ لفرط بعده؛ لأنَّهم في قاع جهنَّم، وهو في أعلى الجنان.
قوله: { وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ } الآية.
{ وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا }، في هذا الظنِّ قولان:
الأول: أنه بمعنى العلم واليقين.
والثاني: قال ابن الخطيب: الأقرب إلى المعنى: أن هؤلاء الكفار يرون النَّاس من مكانٍ بعيدٍ، فيظنُّون أنهم مواقعوها في تلك السَّاعة، من غير تأخير من شدَّة ما يسمعون من تغيُّظها وزفيرها، كقوله:
{ إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } [الفرقان: 12].
وقوله: { مُّوَاقِعُوهَا } أي: مخالطوها؛ فإنَّ مخالطة الشيء لغيره، إذا كان تامَّة قويَّة، يقال لها: مواقعة.
قوله: "مَصْرِفاً" المصرف المعدل، أي: لم يجدوا عنها معدلاً.
قال الهذليُّ: [الكامل]

3538- أزُهَيْرُ هَلْ عَن شَيْبةٍ مِنْ مصْرفِ أمْ لا خُلودَ لبَاذلٍ مُتكلِّفِ

والمصرف يجوز أن يكون اسم مكانٍ، أو زمانٍ، وقال أبو البقاء: "مَصْرِفاً: أي انصرافاً، ويجوز أن يكون مكاناً". قال شهاب الدين: وهذا سهوٌ، فإنه جعل المفعل بكسر العين مصدراً لما مضارعه يفعل بالكسر من الصحيح، وقد نصُّوا على أنَّ اسم مصدر هذا النوع مفتوح العين، واسم زمانه ومكانه مكسوراً، نحو: المَضْرَبُ والمَضْرِبُ.
وقرأ زيد بن عليٍّ "مَصْرَفاً" بفتح الراء جعله مصدراً؛ لأنه مكسور العين في المضارع، فهو كالمضرب بمعنى الضَّرب، وليت أبا البقاء ذكر هذه القراءة ووجَّهه بما ذكره قبل.
قوله: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } بينَّا { فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ }.
اعلم أن الكفَّار، لما افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم وأتباعهم، وأبطل الله أقوالهم الفاسدة، وذكر المثلين المتقدِّمين، ذكر بعده: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } وهو إشارة إلى ما سبق، والتصريف يقتضي التكرير، والأمر كذلك؛ لأنه تعالى أجاب عن شبهتهم التي ذكروها من وجوهٍ كثيرةٍ، والكفار مع تلك الجوابات الصَّافية، والأمثلة المطابقة لا يتركون المجادلة الباطلة؛ فقال: { وَكَانَ ٱلإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً }.
قوله: { مِن كُلِّ مَثَلٍ }: يجوز أن تكون "مِنْ كلِّ" صفة لموصوف محذوف، وهو مفعول "صرَّفنا"، أي: صرَّفنا مثلاً من كلِّ مثلٍ، ويجوز أن تكون "مِنْ" مزيدة على رأي الأخفش والكوفيين.
قوله: "جَدَلاً" منصوب على التمييز، وقوله: { أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } أي: أكثر الأشياء التي يتأتَّى منها الجدالُ، إن فصَّلتها واحداً واحداً، يعني أنَّ الإنسان أكثر جدلاً من كلِّ شيء يجادلُ، فوضع "شيءٍ" موضع الأشياء، وهل يجوز أن يكون جدلاً منقولاً عن اسم كان؛ إذ الأصل: وكان جدلُ الإنسان أكثر شيء؟ فيه نظر، وكلام أبي البقاء يشعر بجوازه؛ فإنه قال: "فيه وجهان:
أحدهما: أنًَّ شيئاً ههنا في معنى فجادل، لأنَّ أفعل يضاف إلى ما هو بعضٌ له، وتمييزه بـ "جدلاً" يقتضي أن يكون الأكثر مجادلاً، وهذا من وضع العام موضع الخاص.
والثاني: أن في الكلام محذوفاً، تقديره: وكان جدل الإنسان أكثر شيءٍ، ثم ميَّزه". فقوله: "تقديره: وكان جدل الإنسان" يفيد أنَّ إسناد "كان" إلى الجدلِ جائز في الجملة، إلا أنه لا بدَّ من تتميم لذلك: وهو أن تتجوَّز، فتجعل للجدلِ جدلاً؛ كقولهم: "شِعرٌ شَاعرٌ" يعني أنَّ لجدل الإنسان جدلاً هو أكثر من جدلِ سائر الأشياءِ.
وهذه الآية دالَّة على أنَّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - جادلوهم في الدِّين حتَّى صاروا مجادلين؛ لأنَّ المجادلة لا تحصل إلاَّ من الطرفين.