التفاسير

< >
عرض

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً
٩
إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ إِلَى ٱلْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً
١٠
فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي ٱلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً
١١
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً
١٢
-الكهف

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ ءَايَاتِنَا عَجَباً } الآية.
معناها: أظننت، يا محمد، أنَّ أصحاب الكهف والرَّقيم كانوا من آياتنا عجباً.
وقيل: معناه أنَّهم ليسوا بأعجب من آياتنا؛ فإنَّ ما خلقت من السموات والأرض وما فيهن من العجائب أعجبُ منهم، فكيف يستبعدُ من قدرته ورحمته حفظ طائفة مدة ثلاثمائة سنةٍ وأكثر؟ هذا وجه النظم.
وقد تقدَّم سببُ نزولِ قصَّة أصحاب الكهف عند قوله:
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ } [الإسراء: 85].
والكهف هو الغار في الجبل وقيل: مطلق الغار، وقيل: هو ما اتسع في الجبل، فإن لم يتَّسِعْ، فهو غارٌ، والجمع "كُهُوف" في الكثرة، و "أكْهُفٌ" في القِلَّةِ.
والرَّقيم: قيل: بمعنى مرقوم.
وعلى هذا قال أهل المعاني: الرَّقيمُ الكتاب.
ومنه قوله:
{ { كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } [المطففين: 9] أي: مكتوب.
قال الفراء: الرقيم لوحٌ كان فيه أسماؤهم وصفاتهم، وسمِّي رقيماً؛ لأنَّ أسماءهم كانت مرقومة فيه.
قال سعيد بن جبيرٍ، ومجاهدٌ: كان لوحاً من حجارةٍ، وقيل: من رصاصٍ، كتبنا فيه أسماءهم وصفاتهم، وشدَّ ذلك اللَّوح على باب الكهف، وهو أظهر الأقوال.
وقيل: بمعنى راقم، وقيل: هو اسم الكلب الذي لأصحاب الكهفِ، وأنشدوا لأمية بن أبي الصَّلت: [الطّويل]

3486- وليْسَ بِهَا إلاَّ الرَّقيمُ مُجاوِراً وصِيدَهُمُ، والقَوْمُ بالكهْفِ هُمَّدُ

وروى عكرمة عن ابن عبَّاس أنَّه قال: كلُّ القرآن معلومٌ إلا أربعة: غسلين، وحناناً، والأوَّاه، والرَّقيم.
وروى عكرمة عن ابن عبَّاس أنه سئل عن الرَّقيم فقال: زعم كعبٌ أنَّها القرية التي خرجوا منها، وهو قول السديِّ.
وحكي عن ابن عباس: أنَّه اسمٌ للوادي الذي فيه أصحاب الكهف، وعلى هذا هو من رقمة الوادي، وهو جانبه.
وقيل: اسم للجبلِ الذي فيه الكهف.
قوله: { أَمْ حَسِبْتَ }: "أم" هذه منقطعة، فتقدَّر بـ "بل" التي للانتقال، لا للإبطال، وبهمزة الاستفهام عند جمهور النحاة، و "بل" وحدها أو بالهمزة وحدها عند غيرهم، وتقدَّم تحقيق القولِ فيها.
و "أنَّ" وما في حيِّزها سادَّةٌ مسدَّ المفعولين، أو أحدهما، على الخلافِ المشهور.
قوله: "عَجَباً" يجوز أن تكون خبراً، و "مِنْ آيَاتِنَا" حالٌ منه، وأن يكون خبراً ثانياً، و "مِنْ آيَاتِنَا" خبراً أوَّل، وأن يكون "عجباً" حالاً من الضمير المستتر في "من آيَاتِنَا" لوقوعه خبراً، ووحِّد، وإن كان صفة في المعنى لجماعة؛ لأن أصله المصدر قال ابن الخطيب: عجباً، و "العجب" ها هنا مصدر، سمِّي المفعول به، والتقدير: "كانوا معجوباً منهم" فسمُّوا بالمصدر. وقالوا: "عَجَباً" في الأصل صفة لمحذوفٍ، تقديره: آية عجباً، وقيل: على حذف مضافٍ، أي: آية ذات عجبٍ.
قوله: { إِذْ أَوَى }: يجوز أن ينتصب بـ "عَجَباً" وأن ينتصب بـ "اذْكُرْ"؛ لأنه لا يجوز أن يكون "إذْ" ههنا متعلقاً بما قبله على تقدير "أمْ حَسِبْتَ"؛ لأنَّه كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم مدة طويلة، فلم يتعلق الحسبان بذلك الوقت الذي أووا فيه إلى الكهف، بل يتعلق بمحذوفٍ.
والتقدير: اذكر إذ أوى الفتيةُ إلى الكهف، والمعنى صاروا إليه، وجعلوهُ مأواهم، فقالوا: { رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً } أي من خزائن رحمتك.
قوله: "وهَيِّىء": العامة على همزة بعد الياء المشددة، وأبو جعفر وشيبة والزهريُّ بياءين: الثانية خفيفة، وكأنَّه أبدل الهمزة ياء، وإن كان سكونها عارضاً، ورُوِيَ عن عاصم "وهيِّ" بياءٍ مشددة فقط، فيحتمل أن يكون حذف الهمزة من أول وهلةٍ تخفيفاً، وأن يكون أبدلها؛ كما فعل أبو جعفرٍ، ثم أجرى الياء مجرى حرفِ العلَّة الأصليِّ، فحذفه، وإن كان الكثير خلافه، ومنه:

3487- جَرِيءٍ مَتَى يُظلمْ يُعَاقِبْ بظُلمهِ سَرِيعاً وإلاَّ يُبْدَ بالظُّلمِ يَظلِمِ

معنى "هيِّىء لنا" أصلح من قولك "هيَّأت الأمرَ، فتهيَّأ".
وقرأ أبو رجاء "رُشداً" ها هنا بضم الراء وسكون الشين، وتقدم تحقيق ذلك في الأعراف، وقراءة العامة هنا أليق؛ لتوافق الفواصل.
والتقدير: هيِّىء لنا أمراً ذا رشدٍ؛ حتَّى نكون بسببه راشدين مهتدين.
وقيل: اجعل أمرنا رشداً كلَّهُ؛ كقولك: رَأيتُ منه رشداً.
قوله: { فَضَرَبْنَا }: مفعوله محذوف، أي: ضربنا الحجاب المانع، و "عَلَى آذانِهم" استعارة للزوم النوم؛ كقول الأسود: [الكامل]

3488- ومَن الحَوادثِ لا أبَا لكِ أنَّنِي ضُربَتْ عليَّ الأرضُ بالأسْدادِ

وقال الفرزدق: [الكامل]

3489- ضَربتْ عَليْكَ العَنْكبُوتَ بِنَسْجِهَا وقضَى عَليْكَ بِهِ الكِتابُ المُنزَلُ

ونصَّ على الآذان؛ لأنَّ بالضَّرب عليها خصوصاً يحصل النُّومُ. وأمال "آذانهم".
قوله: { فِي ٱلْكَهْفِ } وهو ظرف المكان، ومعنى الكلام: إنَّما هم في الكهف، واسمه خيرم، واسم الجبل الذي هو فيه [مخلوس].
وقوله: "سِنينَ" ظرف "زمان" لـ "ضَربْنَا" و "عَدداً" يجوز فيه أن يكون مصدراً، وأن يكون "فعلاً" بمعنى مفعول، أي من باب تسمية المفعول باسم المصدر، كالقبض والنَّقض.
فعلى الأول: يجوز نصبه من وجهين:
احدهما: النعت لـ "سنين" على حذف مضافٍ، أي: ذوات عدد، أو على المبالغة على سبيل التأكيد والنصب بفعلٍ مقدرٍ، أي: تعدُّ عدداً.
وعلى الثاني: نعتٌ ليس إلا، أي: معدودة.
فصل
[ذكر العدد هنا على سبيل التأكيد] قال الزجاج: ذكر العدد ها هنا يفيد كثرة السِّنين، وكذلك كل شيءٍ ممَّا يعدُّ إذا ذكر فيه العددُ، ووصف به، أريد كثرته؛ لأنَّه إذا قلَّ، فهم مقداره بدون التعديد، أمَّا إذا كثر فهناك يحتاج إلى التعديد، فإذا قلت: أقمتُ أيَّاماً عدداً، أردتَّ به الكثرة.
قوله: { ثُمَّ بَعَثنَاهُمْ لِنَعْلَمَ }.
اللام لامُ الغرض؛ فيدل على أن أفعال الله تعالى معلَّلة بالأغراض، وقد تقدم الكلام فيه، ونظير هذه الآية في القرآن كثير، منها ما سبق في هذه السورة، وفي سورة البقرة:
{ { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ } [البقرة: 143] وفي آل عمران: { { وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ } [آل عمران: 142] وقوله: { { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ } [محمد: 31].
فصل
وقال بعض العلماء: "لِنعلمَ" أي: علم المشاهدة.
وقوله: { لِنَعْلَمَ }: متعلق بالبعث، والعامة على نون العظمة؛ جرياً على ما تقدم وقرأ الزهريُّ "ليَعْلم" بياء الغيبة، والفاعل الله تعالى، وفيه التفاتٌ من التكلم إلى الغيبة، ويجوز أن يكون الفاعل "أيُّ الحِزبينِ" إذا جعلناها موصولة، كما سيأتي.
وقرىء "ليُعلمَ" مبنيًّا للمفعول، والقائم مقام الفاعل، قال الزمخشريُّ: "مضمون الجملة، كما أنه مفعول العلم". وردَّه أبو حيان بأنه ليس مذهب البصريين، وتقدم تحقيق هذا أول البقرة.
وللكوفيين في قيام الجملة مقام الفاعل أو المفعولِ الذي لم يسمَّ فاعله: الجواز مطلقاً، و التفصيل بين ما تعلق به؛ كهذه الآية فيجوز، فالزمخشريُّ نحا نحوهم على قوليهم، وإذا جعلنا "أيُّ الحزبَينِ" موصولة، جاز أن يكون الفعل مسنداً إليه في هذه القراءة أيضاً؛ كما جاز إسناده إليه في القراءة قبلها.
وقرىء "ليُعْلِمَ" بضم الياء، والفاعل الله تعالى، و المفعول الأول محذوف، تقديره: ليعلم الله الناس، و "أيُّ الحِزْبيْنِ" في موضع الثاني فقط، إن كانت عرفانية، وفي موضع المفعولين إن كانت يقينيَّة.
وفي هذه القراءة فائدتان:
إحداهما: أنَّ على هذا التقدير: لا يلزم إثبات العلم المتجدَّد لله، بل المقصود أنَّا بعثناهم؛ ليحصل هذا العلمُ لبعض الخلقِ.
والثانية: أنَّ على هذا التقدير: يجب ظهور النَّصب في قوله "أيُّ" لكن لقائلٍ أن يقول الإشكال باقٍ؛ لأنَّ ارتفاع لفظة "أيُّ" بالابتداء لا بإسناده "ليُعْلِمَ" إليه.
ولمجيبٍ بأن يجيب؛ فيقول: لا يمتنعُ اجتماعُ عاملين على معمولٍ واحدٍ؛ لأنَّ العوامل النحوية علاماتٌ ومعرفاتٌ، ولا يمتنع اجتماع معرفاتٍ كثيرة على شيءٍ واحد.
قوله: "أحْصَى" يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أنه أفعلُ تفضيلٍ، وهو خبر لـ "أيُّهُم" و "أيُّهُم" استفهامية، وهذه الجملة معلقة للعلم قبلها، و "لِمَا لَبثُوا" حال من "أمَداً"، لأنه لو تأخَّر عنه، لكان نعتاً له، ويجوز أن تكون اللامُ على بابها من العلَّة، أي: لأجل، قاله أبو البقاء، ويجوز أن تكون زائدة، و "ما" مفعولة: إمَّا بـ "أحْصَى" على رأي من يعمل أفعل التفضيل في المفعول به، وإما بإضمار فعلٍ، و "أمداً" مفعول "لبثُوا" أو منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ يدلُّ عليه أفعل عند الجمهور، أو منصوب بنفس أفعل عند من يرى ذلك.
والوجه الثاني: أن يكون "أحْصَى" فعلاً ماضياً [أي: أيهم ضبط أمداً لأوقات لبثهم] و "أمداً" مفعوله، و "لما لبثُوا" متعلق به، أو حال من "أمداً" أو اللام فيه مزيدة، وعلى هذا: فـ "أمداً" منصوب بـ "لبثُوا" و "ما" مصدريَّة، أو بمعنى "الذي" واختار الأول - أعني كون "أحْصى" للتفضيل - الزجاج والتبريزيُّ، واختار الثاني أبو عليٍّ والزمخشري وابن عطية، قال الزمخشري: "فإن قلت: فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل؟ قلت: ليس بالوجه السديد، وذلك أن بناءه من غير الثلاثيِّ ليس بقياسٍ، ونحو "أعْدَى من الجَربِ" و "أفلسُ من ابنِ المُذلَّقِ" شادٌّ، و القياس على الشاذِّ في غير القرآن ممتنعٌ، فكيف به؟ ولأنَّ "أمَداً": إمَّا أن ينتصب بأفعل، وأفعلُ لا يعمل، وإمَّا أن ينتصب بـ "لَبِثُوا" فلا يسدُّ عليه المعنى، فإن زعمت أني أنصبه بفعلٍ مضمرٍ، كما أضمر في قوله:

3490- ................. وأضْرَبَ منَّا بالسُّيُوفِ القَوانِسَا

فقد أبعدتَّ المتناول؛ حيث أبَيْتَ أن يكون "أحْصَى" فعلاً، ثم رجعت مضطراً إلى تقديره".
وناقشه أبو حيان فقال: "أمَّا دعواه أنَّه شاذٌّ، فمذهب سيبويه خلافه، وذلك أنَّ أفعل فيه ثلاثةُ مذاهب: الجواز مطلقاً، ويعزى لسيبويه، والمنع مطلقاً، وهو مذهبُ الفارسيِّ، والتفصيل: بين أن يكون همزته للتعديةِ، فيمتنع، وبين ألاَّ تكون، فيجوز، وهذا ليست الهمزة فيه للتعدية، وأما قوله: "أفْعَلُ لا يَعْملُ" فليس بصحيح؛ لأنه يعمل في التمييز، و "أمَداً" تمييزٌ لا مفعولٌ به، كما تقول: زيدٌ أقطع النَّاس سيفاً، وزيدٌ أقطع للْهَامِ سَيْفاً".
فصل
قال شهاب الدين: الذي أحوج الزمخشريَّ إلى عدمِ جعله تمييزاً، مع ظهوره في بادىء الرأي عدم صحَّة معناه، وذلك: أنَّ التمييز شرطه في هذا الباب: أن تصحَّ نسبةُ ذلك الوصفِ الذي قبله إليه، ويتَّصف به؛ ألا ترى إلى مثاله في قوله: "زَيْدٌ أقطعُ النَّاس سَيْفاً" كيف يصحُّ أن يسند إليه، فيقال: زيدٌ قطع سيفه، وسيفه قاطعٌ، إلى غير ذلك، وهنا ليس الإحصاء من صفة الأمدِ، ولا تصحُّ نسبته إليه، وإنَّما هو من صفات الحزبين، وهو دقيق.
وكان أبو حيان نقل عن ابي البقاء نصبه على التمييز، وأبو البقاء لم يذكر نصبه على التمييز حال جعله "أحْصَى" أفعل تفضيلٍ، وإنما ذكر ذلك حين ذكر أنه فعل ماضٍ، قال أبو البقاء: في أحصى وجهان:
أحدهما: هو فعلٌ ماضٍ، و "أمَداً" مفعوله. و "لما لبثُوا" نعتُ له، قدِّم، فصار حالاً، أو مفعولاً له، أي: لأجل لبثهم، وقيل: اللام زائدة و "ما" بمعنى "الذي" و "أمداً" مفعول "لَبِثُوا" وهو خطأ، وإنما الوجه أن يكون تمييزاً، والتقدير: لما لبثوهُ.
والوجه الثاني: هو اسم، و "أمداً" منصوب بفعلٍ دلَّ عليه الاسم انتهى، فهذا تصريح بأنَّ "أمَداً" حال جعله "أحْصَى" اسماً، ليس بتمييز بل مفعول به بفعل مقدر، وأنه جعله تمييزاً عن "لبثُوا" كما رأيت.
ثم قال أبو حيَّان: "وأمَّا قوله وإمَّا أن ينصب بـ "لبثُوا" فلا يسدُّ عليه المعنى، أي: لا يكون معناه سديداً، فقد ذهب الطبريُّ إلى أنه منصوب بـ "لبِثوا" قال ابن عطيَّة: "وهو غير متَّجهٍ" انتهى، وقد يتَّجه: وذلك أنَّ الأمد هو الغاية، ويكون عبارة عن المدَّة من حيث إنَّ المدَّة غاية هي أمد المدَّة على الحقيقة، و "ما" بمعنى "الذي" و "أمداً" منصوب على إسقاط الحرف، وتقديره: لما لبثوا من أمدٍ، أي: من مدة، ويصير "مِنْ أمدٍ" تفسيراً لما أبهم من لفظ "ما" كقوله:
{ { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } [البقرة: 106] { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } [فاطر: 2] ولمَّا سقط الحرف، وصل إليه الفعل".
قال شهاب الدين: يكفيه أنَّ مثل ابن عطيَّة جعله غير متَّجهٍ، وعلى تقدير ذلك، فلا نسلِّم أن الطبري عنى نصبه بـ "لَبِثُوا" مفعولاً به، بل يجوز أن يكون عنى نصبه تمييزاً؛ كما قاله أبو البقاء.
ثم قال: وأمَّا قوله: فإنْ زَعَمْتَ إلى آخره، فنقول: لا يحتاج إلى ذلك؛ لأنَّ لقائل ذلك أن يذهب مذهب الكوفيين في أنَّه ينصب "القَوانِسَ" بنفس "أضْرَبُ" ولذلك جعل بعض النحاة أنَّ "أعْلَمُ" ناصب لـ "مَنْ" في قوله:
{ { أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ } [الأنعام: 117]، وذلك لأنَّ أفعل مضمَّن لمعنى المصدر؛ إذ التقدير: "يزيدُ ضَرْبنَا القَوانِسَ على ضَرْبِ غَيْرنا".
قال شهاب الدين: هذا مذهبٌ مرجوحٌ، وأفعل التفضيل ضعيف، ولذلك قصر عن الصفةِ المشبهة باسم الفاعل؛ حيث لم يؤنَّث، ولم يثنَّ، ولم يجمع.
وإذا جعلنا "أحْصَى" اسماً فجوَّز أبو حيان في "أي" أن تكون الموصولة، و "أحْصَى" خبر لمبتدأ محذوف، هو عائدها، وأنَّ الضمة للبناء على مذهب سيبويه لوجود شرط البناء، وهو إضافتها لفظاً، وحذف صدر صلتها، وهذا إنما يكون على جعل العلم بمعنى العرفان؛ لأنَّه ليس في الكلام إلا مفعولٌ واحدٌ، وتقدير آخر لا حاجة إليه، إلا أنَّ في إسناد "عَلِمَ" بمعنى عرف إلى الله تعالى إشكالاً تقدَّم تحريره في الأنفالِ وغيرها، وإذا جعلناه فعلاً، امتنع أن تكون موصولة؛ إذ لا وجه لبنائها حينئذ، وهو حسن.
فصل في المراد بالحزبين
روى عطاءٌ عن ابن عبَّاس أنَّ المراد بالحزبين الملوك الذين تداولوا المدينة ملكاً بعد ملك، فأصحاب الكهف حزبٌ، والملوك حزبٌ.
وقال مجاهدٌ: "الحزبين" من قوم الفتية؛ لأنَّهم لما انتبهوا، اختلفوا في أنَّهم كم ناموا؛ لقوله تعالى:
{ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } [الكهف: 19].
وكأنَّ الذين قالوا: "ربُّكُمْ أعلم بِمَا لَبثْتُم" هم الذين علمُوا بطول مكثهم.
وقال الفراء: هم طائفتان من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدَّة لبثهم.
وقولهم: { أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُواْ } أي: أحفظ لما مكثُوا في كهفهم نياماً { أَمَدًا } أي: غاية.
وقال مجاهد: عدداً.