التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً
٨٣
فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً
٨٤
يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً
٨٥
وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْداً
٨٦
لاَّ يَمْلِكُونَ ٱلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً
٨٧
وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً
٨٨
لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً
٨٩
تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً
٩٠
أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَداً
٩١
وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَـٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً
٩٢
إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ آتِي ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْداً
٩٣
لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً
٩٤
وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَرْداً
٩٥
إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وُدّاً
٩٦
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً
٩٧
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً
٩٨
-مريم

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا } الآية.
لمَّا ذكر حال هؤلاء الكفار مع الأصنام في الآخرة ذكر بعده حالهم مع الشياطين في الدنيا، وأنهم يتولونهم وينقادون لهم، فقال: { أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا ٱلشَّٰاطِينَ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } احتج أهل السنة بهذه الآية على أنَّ الله - تعالى - سلَّطهم عليهم لإرادة أن يستولوا عليهم، ويتأكد هذا بقوله "تؤزُّهُم أزًّا" فإن معناه لتؤزُّهُمْ أزاً، ويتأكد بقوله:
{ { وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ } [الإسراء: 64].
قال القاضي: حقيقة اللفظ توجب أنه تعالى أرسل الشياطين إلى الكفار كما أرسل الأنبياء، بأن حملهم رسالة يؤدونها إليهم، ولا يجوز في تلك الرسالة إلا ما أرسل عليه الشياطين من الإغواء، فكان يجب في الكفار أن يكونوا بقبولهم من الشياطين مطيعين، وذلك كفر من قائله، ولأن من العجب تعلق المجبرة بذلك، لأن عندهم أن ضلالهم من قبله - تعالى - خلق فيهم الكفر وقدر الكفر، فلا تأثير لما لا يكون من الشياطين. وإذا بطل حمل اللفظ على ظاهره فلا بد من التأويل، فنحمله على أنه - تعالى - خلَّى بين الشياطين وبين الكفار، وما منعهم من إغوائهم، وهذه التخلية تسمى إرسالاً في سعة اللغة، كما إذا لم يمنع الرجل كلبه من دخول بيت جيرانه يقال: أرسل كلبه علينا، وإن لم يرد أذى الناس.
وهذه التخلية وإن لم يكن فيها تشديد للمحنة عليهم فهم متمكنون بأن لا يقبلوا منهم، ويكون ثوابهم على ترك القبول أعظم، والدليل عليه قوله تعالى:
{ { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُم } [إبراهيم:22].
قال ابن الخطيب: وهذا لا يمكن حمله على ظاهره، فإنَّ قوله: الشياطين لو أرسلهم الله - تعالى - إلى الكفار "لكان الكفار مطيعين له بقبول قول الشياطين.
قلنا: الله - تعالى - ما أرسل الشياطين إلى الكفار" بل أرسلهم عليهم، والإرسال عليهم هو التسليط لإرادة أن يصير مستولياً عليه، فأين هذا من الإرسال إليهم.
وقوله: ضلال الكافر من قبل الله - تعالى -، فأي تأثير للشياطين فيه.
قلنا: لِمَ لا يجوز أن سماع الشياطين إياه تلك الوسوسة يوجب في قلبه الضلال بشرط سلامة فهم السامع، لأن كلام الشياطين "من خلق الله - تعالى - فيكون ذلك الضلال الحاصل في قلب الكافر منتسباً إلى الشيطان، وإلى الله - تعالى - من هذين الوجهين. وقوله: لِمَ لا يجوز أن يكون بالإرسال التخلية.
قلنا: كما خلَّى بين الشياطين والكفرة" فقد خلَّى بينهم وبين الأنبياء، ثم إنه - تعالى - خص الكافر بأنه أرسل الشياطين عليه، فلا بد من فائدة زائدة ههنا.
ولأن قوله "تؤزُّهُمْ أزًّا" أي: تحركهم تحريكاً شديداً، فالغرض من ذلك الإرسال موجب أن يكون ذلك الأزُّ مراداً لله - تعالى - إذ يحصل المقصود منه.
قوله: "أزًّا" مصدر مؤكد. والأزُّ، والأزيزُ، والاستفزاز. قال الزمخشري: أخوات وهو التهيج وشدة الإزعاج، أي: تغريهم على المعاصي، وتهيجهم لها بالوساوس.
قال ابن عباس: "تَؤزُّهُمْ أزًّا" أي: تزعجهم في المعاصي إزعاجاً من الطاعة إلى المعصية.
والأزُّ أيضاً: شدة الصوت، ومنه: أزَّ المِرْجَلُ أزًّا وأزيزاً، أي: غلا واشتد غليانه حتى سمع له صوت، وفي الحديث "فكَانَ له أزيزٌ" أي للجذع حين فارقه النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: { فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ } أي: لا تعجل بطلب عقوبتهم، يقال: عجلت عليه بكذا إذا استعجلت منه "إنِّا نعدُّ لهُمْ عدًّا".
قال الكلبي: يعنى الليالي والأيام والشهور والأعوام.
وقيل: الأنفاس التي يتنفّسون بها في الدنيا إلى الأجل الذي أجِّل لعذابهم.
وقيل: نَعُدُّ أنفاسهم وأعمالهم فنجازيهم على قليلها وكثيرها.
وقيل: نَعُدُّ الأوقات، أي: الوقت الأجل المعين "لكل أحد" الذي لا يتطرق إليه الزيادة والنقصان.
قوله: "يَوْم نَحْشُرُ" منصوب بـ "سَيَكْفُرونَ"، أو بـ "يَكونُونَ "عليْهِمْ ضدًّا" أو بـ "نَعُد" لأن "نَعُدُّ" تضمن معنى المجازاة، أو بقوله: "لا يَمْلِكُونَ" الذي بعده، أو بمضمر وهو "اذكُرْ" أو "احْذَرْ".
وقيل: هو معمول لجواب سؤال مقدر كأنه قيل: "متى يكون ذلك؟ فقيل": يكون يوم نحشر.
وقيل: تقديره: يوم نحشر ونسوق: نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف.
قوله: "وفداً" نصب على الحال، وكذا "ورْداً".
والوَفْدُ: الجماعة الوافدون، يقال: وَفَدَ يَفِدُ وَفْداً ووفوداً ووفَادَةً، أي: قدم على سبيل التكرمة، فهو في الأصل مصدر ثم أطلق على الأشخاص كالضيف.
وقال أبو البقاء: وفد جمع وافد مثل راكب ورَكْب، وصاحب وصَحْب.
وهذا الذي قاله ليس مذهب سيبويه، لأن فاعلاً لا يجمع على فعل عند سيبويه. وأجازه الأخفش.
فأمَّا رَكْب وصَحْب فاسما جمع لا جمع بدليل تصغيرها على ألفاظها، قال:

3625- أخْْشَى رجَيْلاً وَرُكَيْباً عَادِيَا

فإن قيل: لعل أبا البقاء أراد الجمع اللغوي.
فالجواب: أنه قال بعد قوله هذا: والوِرْد اسم لجمع وارد. فدل على أنه قصد الجمع صناعة المقابل لاسم الجمع. والوِرْد اسم للجماعة العطاش الواردين للماء، وهو أيضاً في الأصل مصدر أطلق على الأشخاص، يقال: وَرَد الماء يردُه وِرْداً وورُوداً، قال الشاعر:

3626- رِدِي رِدِي وِرْدَ قَطَاةٍ صَمَّا كَدريَّةٍ أعْجَبْهَا بَرْدُ الْمَا

وقال أبو البقاء: هو اسم لجمع وارد، "وقيل: هو بمعنى وارد" وقيل: هو محذوف من وراد، وهو بعيد. يعني أنه يجوز أن يكون صفة على فَعْل. وقرأ الحسن والجحدري "يُحْشَرُ المتَّقُونَ"ويُسَاقُُ المُجْرِمُون" على ما لم يسم فاعله.
فصل
قال المفسرون: اذكر لهم يا محمد اليوم الذي يجمع فيه من اتقى الله في الدنيا بطاعته إلى الرحمن إلى جنته وفْداً، أي جماعات، جمع وافد مثل راكب ورَكْب وصاحب وصَحْب. وقال ابن عباس: رُكْبَاناً: وقال أبو هريرة: على الإبل.
وقال علي بن أبي طالب - "رضي الله عنه" -: ما يُحْشَرون والله على أرجلهم، ولكن على نوق رجالها الذهب، ونجائب سروجها ياقوت إن هموا بها سارت وإنْ همُّوا طارت. { وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْداً } أي: مُشاة، وقيل: عطاشاً قد تقطعت أعناقهم من العطش.
وقوله "ونَسُوقُ المجرمينَ" يدل على أنهم يساقون إلى النار بإهانة واستخفاف كأنهم عطاش تساق إلى الماء، والوِرْدُ للعطاش وحقيقة الوِرْد الميسرُ إلى الماء، فسمي به "الواردون".
فصل
طعن الملاحدة في قوله: { يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ } فقالوا: هذا إنما يستقيم أن لو كان الحشر عند غير الرحمن، أما إذا كان الحشر عند الرحمن، فهذا الكلام لا ينتظم. وأجاب المسلمون: بأنَّ التقدير: يوم نحشُر المتَّقين إلى محلِّ كرامةِ الرحمن.
قوله: "لا يَمْلِكُونَ" في هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها مستأنفة سيقت للإخبار بذلك.
والثاني: أنَّها في محل نصب على الحال مما تقدم.
وفي هذه الواو قولان:
أحدهما: أنها علامة للجمع ليست ضميراً ألبتة، وإنما هي علامة، كهي في لغة أكلُوني البراغيثُ والفاعل "من اتَّخَذَ" لأنه في معنى الجمع قاله الزمخشري وفيه بعدٌ، وكأنه قيل: لا يملكُون الشفاعةَ إلاَّ المتَّخِذُون عَهْداً.
قال أبو حيَّان: ولا ينبغي حملُ القرآن على هذه اللغة القليلة، مع وضوح جعل الواو ضميراً. وقد قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: إنَّها لغةٌ ضعيفة.
قال شهابُ الدين: قد قالوا ذلك في قوله:
{ { عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } [المائدة: 71] { { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } [الأنبياء: 3] فلهذا الموضع بهما أسوة. ثم قال أبو حيان: وأيضاً فالألف، والواو، والنون التي تكون علامات لا ضمائر لا يحفظ ما يجيء بعدها فاعلاً إلا بصريح الجمع، وصريح التثنية، "أو العطف"، أما أن يأتي بلفظ مفرد ويطلق على جمع أو مثنى، فيحتاج في إثبات مثل ذلك إلى نقل، وأما عودُ الضمائر مثناة أو مجموعة على مفرد في اللفظ يراد به المثنى والمجموع فمسموع معروف في لسان العرب، على أنه يمكن قياس هذه العلامات على تلك الضمائر ولكن الأحوط أن لا يقال إلا بسماع.
والثاني: أن الواو ضميرٌ، وفيما يعود عليه حينئذ أربعة أوجه:
أحدها: أنها تعود على الخلق جميعهم، لدلالة ذكر الفريقين المتقين والمجرمين عليهم، إذ هما قسماه.
والثاني: أنه يعود على المتقين والمجرمين، وهذا لا يظهر مخالفته للأول أصلاً. لأن هذين القسمين الخلقُ كلُّه.
والثالث: أنَّه يعود على المتقين فقط، أو المجرمين فقط، وهو تحكُّم.
قوله: { إلاَّ من اتَّخَذَ } هذا الاستثناء يترتب على عود الواو على ماذا؟ فإن قيل بأنها تعود على الخلق، أو على الفريقين المذكورين "أو على المتقين فقط".
فالاستثناء حينئذ متصل، وفي محل المستثنى الوجهان المشهوران إما الرفع على البدل، وإما النصب على أصل الاستثناء. وإن قيل: إنه يعود على المجرمين فقط كان استثناء منقطعاً، وفيه حينئذ اللغتان المشهورتان: لغةُ الحجاز التزام النصب، ولغةُ تميم جوازه مع جواز البدل "كالمتصل". وجعل الزمخشري هذا الاستثناء من الشفاعة على وجهي البدل وأصل الاستثناء نحو: ما رأيت أحداً إلا زَيْداً.
وقال بعضهم: إن المستثنى منه محذوف، والتقدير: لا يملكون الشفاعة لأحدٍ إلاَّ اتَّخذ عن الرحمن عهداً، فحذف المسثنى "منه للعلم" به، فهو كقول الآخر:

3627- نَجَا سَالِمٌ والنَّفْسُ مِنْهُ بِشدقهِ ولَمْ يَنْجُ إلاَّ جَفْنَ سَيْفٍ ومِئزَرا

أي: ولَمْ يَنْجُ بشَيْءٍ.
وجعل ابنُ عطية الاستثناء متصلاً، وإن عاد الضمير في "لا يَمْلِكُونَ" على المجرمين فقط على أن يراد بالمجرمين الكفرة والعصاة من المسلمين. قال أبو حيان: وحمل المجرمين على الكفار والعصاة بعيد. قال شهاب الدين: ولا بعد فيه، وكما استبعد إطلاق المجرمين على العصاة كذلك يستبعد غيره إطلاق المتقين على العصاة، بل إطلاق المجرم على العاصي أشهر من إطلاق المتقي عليه.
فصل
قال بعضهم: لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم كما يملك المؤمنون.
وقال آخرون: لا يملك غيرهم أن يشفع لهم. وهذا أولى، لأن الأول يجري مجرى إيضاح الواضح. وإذا ثبت ذلك دلت الآية على حصول الشفاعة لأهل الكبائر. لأنه قال عقيبه { إلاَّ من اتَّخذَ عندَ الرَّحمن عَهْداً }، والتقدير: لا يشفع الشافعون إلا لمن اتَّخذَ عند الرَّحمن عهداً، يعني للمؤمنين، كقوله:
{ { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } [الأنبياء: 28] فكل من اتخذ عند الرحمن عهداً وجب دخوله فيه، وصاحب الكبيرة اتخذ عند الرحمن عهداً، وهو التوحيد، فوجب دخوله تحته، ويؤكده ما روى ابن مسعود أنه - عليه السلام - "قال لأصحابه يوماً: أيَعْجَزُ أحدكُمْ أن يتَّخذ عندَ كُلِّ صباح ومساء عند الرَّحمن عهداً قالوا: وكيف ذلك؟ قال: يقُولُ عِنْدَ كُلِّ صباحٍ ومساء: اللَّهُمَّ فاطرَ السَّمواتِ والأرضِ عالمِ الغَيْبِ والشَّهادة إنِّي أعْهَدُ إليكَ بأنِّي أشْهَدُ أنَّ لا إله إلاَّ أنْتَ وحْدَكَ لا شرِيكَ لَكَ، وأنَّ مُحَمَّداً عبدُكَ ورسُولُكَ، فإنَّك إنْ تكلني إلى نفسِي تُقرِّبْنِي من الشَّر، وتُباعدني من الخَيْر، وإنِّي لا أثقُ إلاَّ برحْمتكَ، فاجْعَلْ لي عهداً تُوفنيه يَوْمَ القيامة إنَّك لا تُخْلِفُ الميعَاد. فإذا قال ذلِكَ طُبعَ عليه بطابعٍ وَوُضع تحت العرش، فإذا كان يومُ القيامةِ نادَى مُنَادٍ: أيْنَ الذين لهُم عِندَ الرَّحمن عهد؟ فيَدْخُلونَ الجنَّة" .
فظهر أن المراد من العهد كلمة الشهادة، وظهر وجه الدلالة على ثبوت الشفاعة لأهل الكبائر.
قوله تعالى: { وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً } تقدم خلافُ القراء في قوله "ولداً" بفتح اللام وسكونها، وأنهما لغتان مثل العَرَب والعُرْب والعَجَم والعُجْم.
واعلم أنَّه لمَّا ردَّ على عبدة الأوثان عاد إلى الردِّ على من أثبت له ولداً.
فقالت اليهود: عزيزٌ ابنُ الله، وقالت النصارى: المسيحُ ابن الله، وقالت العرب: الملائكةُ بناتُ الله. وههنا الرد على الذين قالوا: الملائكة بنات الله، وهم العرب الذين يعبدون الأوثان، لأن الرد على النصارى تقدم أول السورة.
قوله: { لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً }. العامة على كسر الهمزة من "إدَّا"، وهو الأمر العظيم المنكر المتعجب منه. قاله ابن عباس. "وقال مجاهد: عظيماً" وقرأ أمير المؤمنين والسلمي بفتحها. وخرَّجُوه على حذف مضاف، أي شيئاً ذا أَدّ "لأنَّ الأدَّ - بالفتح - يقال: أدَّ الأمر وأدَّني يؤدُّنِي أدًّا. أي: أثقلني.
وكان أبو حيان ذكر: أنَّ الأدَّ والإدّ - بفتح الهمزة وكسرها - هو العجب، وقيل:". هو العظيم المنكر، والإدَّة: الشدَّة. وعلى قوله: إنَّ الأدّ والإدّ بمعنى واحد ينبغي أن لا يحتاج إلى حذف مضاف "إلا أن يريد أنَّه أراد بكونهما بمعنى العجب في المعنى لا في المصدرية وعدمها، والإدَد في كلام العرب الدواهي.
قوله: "تَكَادُ". قرأ نافع والكسائي بالياء من تحت. والباقون بالتاء من فوق وهما واضحتان، إذ التأنيث مجازي. وكذا في سورة الشورى.
وقرأ أبو عمرو: وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وحمزة "يَنْفَطرن" مضارع انفطرَ، لقوله تعالى:
{ { إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنفَطَرَتْ } [الانفطار:1] والباقون: "يتَفَطّرْن"مضارع تفطَّر" بالتشديد في هذه السورة، وأما التي في الشورى فقرأها حمزة وابن عامر بالياء والتاء وتشديد الطاء. والباقون على أصولهم في هذه السورة. فتلخص من ذلك أن أبا بكر وأبا عمرو يقرآن بالياء والنون في السورتين. وأن نافعاً وابن كثير والكسائي وحفصاً عن عاصم يقرءون بالياء والتاء وتشديد الطاء فيهما، وأن حمزة وابن عامر في هذه السورة بالياء والنون، وفي الشورى بالياء والتاء وتشديد الطاء" فالانفطار من فطرهُ إذا شقه، "والتفطُّر من فطَّره إذا شقَّقهُ"، وكرر فيه الفعل.
قال أبو البقاء: وهو هنا أشبه بالمعنى، أي: التشديد.
و "يَتَفَطَّرْنَ" في محل نصب "خبراً لـ "كَانَ" وزعم الأخفش أنها هنا بمعنى الإرادة، وأنشد:

3628- كَادَتْ وكِدْتُ وتِلْكَ خَيْرُ إرَادةٍ لَوْ عَادَ مِنْ زمنٍ الصَّبابةِ مَا مَضَى

فصل
يقال: انفطر الشيء وتفطَّر أي تشقَّق. وقرأ ابن مسعود "يتَصدَّعْنَ".
و "تَنْشَقُّ الأرْضُ" أي تخسفُ بهم، والانفطار في السماء، أي: تسقط عليهم.
{ وتخُرُّ الجِبَالُ هدّاً } أي: تُهَدَّ هَداً، بمعنى: تنطبق عليهم. فإن قيل من أين يؤثر القول بإثبات الولد لله في انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور الجبال؟ فالجوابُ من وجوه:
"الأول: أنَّ الله - تعالى - يقول: كدت أفعل هذا بالسموات والأرض والجبال عند وجود" هذه الكلمة غضباً منِّي على من تفوَّه بها، لولا حلمي، وإني لا أعجِّل بالعقوبة، كقوله - تعالى -:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } [فاطر: 41].
الثاني: أن يكون استعظاماً للكلمة، وتهويلاً من فظاعتها، وهدمها لأركان الدين وقواعده.
الثالث: أنَّ السمواتِ والأرضِ والجبال تكاد أن تفعل ذلك لو كانت تعقل من غلظ هذا القول، وهذا تأويل أبي مسلم.
الرابع: أنَّ السموات والأرض والجبال كانت سليمة من كل العيوب، فلما تكلم بنو آدم بهذا القول ظهرت العيوب فيها.
قوله: "هدًّا" فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّه مصدر وفي مضع الحال، أي: مهدودة، وذلك على أن يكون هذا المصدر من هدَّ زيدٌ الحائط يهدُّه هدًّا، أي: "هدمهُ".
والثاني: وهو قول أبي جعفر: أنه مصدر على غير المصدر لما كان في معناه، لأن الخرور: السقوطُ والهدمُ، وهذا على أن يكون من هدَّ الحائطُ يَهِدُّ - بالكسر - انهدم، فيكون لازماً.
الثالث: أن يكون مفعولاً من أجله، قال الزمخشري: أي: لأنها تهد.
قوله: "أنْ دَعَواْ" في محله خمسة أوجه:
أحدها: أنه في محل نصب على المفعول من أجله، قاله أبو البقاء، والحوفي، ولم يُبيِّنَا ما العامل فيه، ويجوز أن يكون العامل "تَكَادُ"، أو "تَخُرُّ"، أو "هَدًّا"، أي: تَهُدُّ لأن دعوا، ولكن شرطُ النصب هنا مفقود، وهو اتحاد "الفاعل في المفعول له والعامل فيه، فإن عنيا على أنه على إسقاط اللام مطرد في "أنْ" فقريب". وقال الزمخشري: وأن يكون منصوباً بتقدير سقوط اللام "وإفضاء الفعل، أي هدًّا لأن دعوا"، علل الخرور بالهدِّ، والهدُّ بدعاء الولد للرحمن.
فهذا تصريح منه على أنه بإسقاط الخافض. "وليس مفعولاً له صريحاً.
الوجه الثاني: أن يكون مجروراً بعد إسقاط الخافض" كما هو مذهب الخليل والكسائي.
والثالث: أنه بدل من الضمير في "مِنْهُ" كقوله:

3629- عَلَى حَالةٍ لوْ أنَّ في القَوْمِ حَاتِماً عَلى جُودهِ لضن بالمَاءِ حاتمِ

بجر "حاتم" الأخير بدلاً من الهاء في "جوده".
قال أبو حيان: وهو بعيد لكثرة الفصل بين البدل والمبدل منه بجملتين.
الوجه الرابع: أن يكون مرفوعاً بـ "هَدًّا". قال الزمخشري: أي هدَّهَا دعاءُ الولدِ للرحمن. قال أبو حيان: وفيه بعدٌ، لأن الظاهر في "هَدًّا" أن يكون مصدراً توكيدياً، والمصدر التوكيدي لا يعمل، ولو فرضناه غير توكيدي لم يعمل بقياس إلا إذا كان أمراً، أو مستفهماً عنه نحو ضرباً زيداً، وأضربا زيداً؟ على خلاف فيه، وأما إن كان خبراً كما قدَّره الزمخشري، أي: هدَّها دعاء الولد للرحمن. فلا ينقاس، بل ما جاء من ذلك هو نادر كقول امرىء القيس:

3630- وقُوفاً بِهَا صَحْبِي عَليَّ مَطِيُّهُمْ يقُولُونَ لا تَهْلَكْ أسًى وتجمَّلِ

أي: وقَفَ صَحْبِي.
الخامس: أنَّه خبر مبتدأ محذوفٍ، تقديره: الموجب لذلك دعاؤهم. كذا قدره أبو البقاء. و "دَعَا" يجوز أن يكون بمعنى سمَّى، فيتعدى لاثنين، ويجوز جر ثانيهما بالباء، قال الشاعر:

3631- دَعَتْنِي أخَاهَا أمُّ عَمْرٍو ولمْ أكُنْ أخَاهَا ولَمْ أرْضَعْ لهَا بِلبَانِ
دَعَتْنِي أخَاهَا "بَعْدمَا كَانَ بَيْنَنَا مِنَ الفِعْلِ ما لا يفعلُ الأخوانِ"

وقول الآخر:

3632- ألا رُبَّ مَنْ يُدْعَى نَصِيحاً وإن تَغِبْ تَجِدْهُ بِغَيْبٍِ مِنْكَ غَيْرَ نَصِيحِ

وأولهما في الآية محذوف، قال الزمخشري: طلباً للعموم والإحاطة بكل ما يدعى له ولد، ويجوز أن يكون من "دَعَا" بمعنى نسب الذي مطاوعه ما في قوله - عليه السلام -: "مَنِ ادَّعى إلى غَيْرِ موالِيهِ" ، وقول الشاعر:

3633- إنَّا بَنِي نَهْشَلٍ لا نَدَّعِي لأب عَنْهُ ولا هُوَ بالأبْنَاءِ يَشْرِينَا

أي: لا ننتَسِبُ إليه.
"يَنْبَغي" مضارع انْبَغَى، وانْبَغَى مطاوعٌ لبغى، أي: طلب، و "أنْ يتَّخِذَ" فاعله. وقد عد ابن مالك "يَنْبَغِي" في الأفعال التي لا تتصرف.
وهو مردودٌ عليه، لأنه قد سُمِع فيه الماضي قالوا: انْبَغَى. وكرَّر لفظ "الرَّحْمَنِ" تنبيهاً على أنه - تعالى - هو الرحمنُ وحدهُ، لأن أصول النعم وفروعها ليست إلا منه.
فصل
قال ابن عباس وكعب: فَزِعَت السَّمواتُ والأرضُ والجبالُ وجميعُ الخلائق إلا الثقلين، وكادت أن تزول، وغضبت الملائكةُ، واستعرت جهنم حين قالوا: لله ولدٌ، ثم نفى الله - تعالى - عن نفسه فقال: { وما يَنْبَغِي للرَّحمنِ أن يتَّخذَ ولداً } أي: ما يليق به "اتِّخَاذُ الولد"، لأنة ذلك محال؛ أما الولادة المعروفة فلا مقالة في امتناعها، وأما التبني، فلأن الولد لا بد وأن يكون شبيهاً بالوالد، ولا شبيه لله - تعالى -، ولأن اتخاذ الولد إنَّما يكون لأغراض إما لسرور، أو استعانةٍ، أو ذكرٍ جميلٍ، وكلُّ ذلك لا يصح في الله - تعالى -.
قوله: { إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ }. يجوز في "مَنْ" أن تكون نكرة موصوفة، وصفتها الجار بعدها، ولم يذكر أبو البقاء غير ذلك، وكذا الزمخشري إلا أن ظاهر عبارته تقتضي أنه لا يجوز غير ذلك، فإنه قال: "مَنْ" موصوفة فإنها وقعت بعد "كُل"نكرة أشبهت وقوعها بعد "رُبَّ" في قوله:

3634- ربَّ مَنْ أنْضَجَتْ غَيْظاً صَدْرَهُ

انتهى".
ويجوز أن تكون موصولة. قال أبو حيان: ما كُل الذي في السموات، و "كلُّ" تدخل على الذي، لأنها تأتي للجنس كقوله - تعالى -:
{ { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } [الزمر: 33] ونحوه:

3635- "وكُلُّ الذي" حَمَّلْتَنِي أتحَمَّلُ

يعني أنه لا بد "من تأويل" الموصول بالعموم حتى تصح إضافة "كُل" إليه، ومتى أريد به معهود بعينه لشخص استحال إضافة "كُلّ" إليه.
و "آتِ الرَّحْمَنِ" خبر "كل" جعل مفرداً حملاً على لفظها، ولو جمع لجاز، وقد تقدم أول الكتاب: أنها متى أضيفت لمعرفة جاز الوجهان. وقد تكلم السهيلي في ذلك فقال: "كُلُّ" إذا ابتدئت وكانت مضافة لفظاً يعني لمعرفة فلا يحسن إلا إفراد الخبر حملاً على المعنى، تقول: كُلكم ذاهب، أي: كل واحد منكم ذاهب، هكذا هذه المسألة في القرآن والحديث والكلام الفصيح. فإن قلت في قوله: { وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ }: إنما هو حمل على اللفظ، لأنه اسم مفرد. قلنا: بل هو اسم للجمع، واسم الجمع لا يخبر عنه بإفراد، تقول: القوم ذاهبُون، ولا تقول: ذاهب، وإن كان لفظ "القَوْم" لفظ المفرد، وإنما حسن "كُلكُم ذاهِبٌ" لأنهم يقولون: كل واحد منكم ذاهب، فكان الإفراد مراعاة لهذا المعنى.
قال أبو حيان: ويحتاج "كُلكُمْ ذاهِبُون" ونحوه إلى سماع ونقل عن العرب.
قال شهاب الدين: وتسمية الإفراد حملاً على المعنى غير الاصطلاح بل ذلك حمل على اللفظ والجمع هو الحمل على المعنى.
وقال أبو البقاء: ووحد "آتِي" حملاً على لفظ "كُل"، وقد جمع في موضع آخر حملاً على معناها.
قال شهاب الدين: قوله: في موضع آخر. إن عنى في القرآن فلم يأت الجمع إلا و "كُل" مقطوعة عن الإضافة نحو
{ { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [الأنبياء: 33] { { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } [النمل: 87]، وإن عنى في غيره فيحتاج إلى سماع عن العرب كما تقدم.
والجمهور على إضافة "آتي" إلى "الرَّحْمَن".
وقرأ عبد الله بن الزبير وأبو حيوة وطلحة وجماعة بتنوينه ونصب "الرَّحْمَن" وانتصب "عَبْداً" و "فَرْداً" على الحال.
فصل
المعنى: أن كل معبود من الملائكة في السموات وفي الأرض من الناس إلا يأتي الرحمن يلتجىء إلى ربوبيته عبداً منقاداً مطيعاً ذليلاً خاضعاً كما يفعل العبيد. ومنهم من حمله على يوم القيامة خاصة.
والأول أولى، لأنه لا تخصيص فيه.
{ لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً } أي: عدَّ أنفاسهم وأيامهم وآثارهم، فكلهم تحت تدبيره وقهره محيط بهم لا يخفى عليه شيء من أمورهم، { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ } أي: كل واحد منهم يأتيه { يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ فَرْداً } وحيداً ليس معه من الدنيا شيء "ويبرأ المشركون منهم".
قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } إلى آخر السورة.
لمَّا ردَّ على الكفرة، وشرح أقوالهم في الدنيا والآخرة ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين. قوله: "وُدَّا" العامة على ضم الواو. وقرأ أبو الحارث الحنفي بفتحها، وجناح بن حبيش بكسرها. فيحتمل أن يكون المفتوح مصدراً، والمكسور والمضموم اسمين.
قال المفسرون: سَيجْعَلُ لهُم الرَّحمنُ محبةً، قال مجاهد: يحبهم الله ويحببهم إلى عباده المؤمنين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إذَا أحبَّ اللهُ العبد قال لجبريل - عليه السلام -: قَدْ أحببتُ فلاناً فأحِبَّه، فيُحبُّهُ جبريلُ، ثم ينادي في أهْلِ السَّماءِ: إنَّ الله - تعالى - قد أحبَّ فلاناً فأحبُّوه، فيحبه أهلُ السَّماء، ثُمَّ يوضعُ لهُ القبُولُ في الأرضِ، وإذا أبغضَ العبد" قال مالك: لا أحسبه إلا قال في البغض مثل ذلك. والسِّين في "سَيَجْعلُ" إما لأن السورة مكية، وكان المؤمنون حينئذ ممقوتين بين الكفرة، فوعدهم الله ذلك إذا جاء الإسلام.
والمعنى: سَيُحْدِثُ لهم في القلوب مودة. وإمَّا أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يظهر من حسناتهم. روي عن كعب قال: مكتوب في التوراة لا محبَّة في الأرض حتى يكون ابتداؤها من الله - تعالى - ينزلها على أهل السماء، ثم على أهل الأرض. وتصديق ذلك في القرآن قوله: { سَيَجْعَلُ لَهُمُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وُدّاً }. وقال أبو مسلم: معناه يهبُ لهم ما يحبون. والوُدُّ والمحبَّةُ سواء، يقال: آتيتُ فلاناً محبته، وجعلت له ودَّه، ومن كلامهم: يوَدُّ لو كان كذا، "ووددتُ أن لو كان كذا أي أحببتُ"، فالمعنى: سيعطيهم الرحمن ودَّهم، أي: محبوبهم في الجنة.
والقول الأول أولى، لتفسير الرسول - عليه السلام -، ولأن حمل المحبة على المحبوب مجاز، "ولأن رسول الله قرأ هذه الآية وفسَّرها بذلك فكانت أولى".
قال أبو مسلم: القول الثاني أولى لوجوه:
أحدها: كيف يصح القول الأول مع علمنا بأن المسلم التقي يبغضه الكفار، وقد يبغضه كثير من المسلمين.
وثانيها: أنَّ مثل هذه المحبة قد تحصل للكفار والفساق أكثر، فكيف يمكن جعله إنعاماً في حق المؤمنين؟.
وثالثها: أن محبتهم في قلوبهم من فعلهم لا أنَّ الله - تعالى - فعله، فكان حمل الآية على إعطاء المنافع الأخروية أولى.
وأجيب عن الأول: بأن المراد يجعل له محبة عند الملائكة والأنبياء.
وعن الثاني: ما روي عنه - عليه السلام -:
"أنه حكى عن ربه - سبحانه وتعالى - أنه قال: وإذا ذكرِني عَبْدي في نفسه ذكرتُهُ (في نَفْسِي، وإنْ ذَكرنِي) في ملأ ذكرتهُ في ملأ أطيب منهم وأفضل" والكافر والفاسق ليسا كذلك.
وعن الثالث: أنه محمول على فعل الألطاف، وخلق داعية إكرامه في قلوبهم.
قوله: "بِلِسَانِكَ" يجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال، واللسان هنا اللغة، أي: أنزلناه كائناً بلسانِكَ.
وقيل: هي بمعنى "على"، وهذا لا حاجة إليه، بل لا يظهر له معنى، "و "لُدَّا" جمع "ألَدَّ"، وهو الشديد الخصومة كالحُمْر جمع أحْمَرٍ.
قال أهل اللغة: اللُّدُّ جمع الألَدّ، وهو المعوج في المناظرة الرواغ من الحق الميال عنه، وفي الحديث
"إنَّ أبغضَ الرِّجال إلى الله الخَصْمُ الألَدُّ" أي المعوج" قوله: "يَسَّرْنَاهُ" سهلناهُ يعني القرآن "بلسانِكَ" يا محمد "لِنُبشَّر به المُتَّقين" يعني المؤمنين، وهذا كلام مستأنف "بيَّن به عظيم" موقعِ هذه السورة لما فيها من ذكر التوحيد والنبوة والحشر، والرد على فرق المبطلين، فبين - تعالى - أنَّه يسَّر ذلك بلسانه، ليبشر وينذر، ولولا أنه - تعالى - نقل قصصهم إلى اللغة العربية لما تيسَّر ذلك على الرسول. وكما ذكر أنه يبشر به المتقين ذكر في مقابلته من هو في مخالفة التقوى أبلغ، وهو الألد الذي يتمسك بالباطل ويجادل فيه فقال: "ويُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا"، وهو جمع الألد، "وهو الشديد الخصومة. وقال مجاهد: هو الظالم الذي لا يستقيم. وقال أبو عبيدة الألد" الذي لا يقبل الحقَّ ويدَّعي الباطل. وقال الحسن: الألد الأصم عن الحق.
ثم ختم السورة بموعظةٍ بليغة فقال: { وكمْ أهْلكْنَا قبلهُمْ مِنْ قرنٍ } لأنهم إذا تأملوا وعلموا أنه لا بد من زوال الدنيا، وأنه لا بد فيها من الموت خافوا سوء العاقبة في الآخرة فكانوا إلى الحذر من المعاصي أقرب، ثم أكد تعالى ذلك فقال: { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ }. قرأ الناس بضم التاء وكسر الحاء من أحسَّ.
وقرأ أبو حيوة، وأبو جعفر، وابن أبي عبلة "نَحُسُّ"بفتح التاء وضم الحاء" وقرأ بعضهم: "تَحِس" بالفتح والكسر، من حسَّه: أي شعر به، ومنه الحواس الخمس. و"مِنْهُم" حال من "أحَد"، إذ هو في الأصل صفة له. و "مِنْ أحَد" مفعول زيدت فيه "مِنْ. وقرأ حنظلة "تُسْمَعُ" بضم التاء وفتح الميم مبنياً للمفعول. و "رِكْزاً" مفعول على كلتا القراءتين، إلا أنه مفعول ثان في القراءة "الشاذة". والرَِّكْزُ: الصوت الخفي دون نطق بحروف ولا فم، "ومنه ركز الرمح" أي غيب طرفه في الأرض وأخفاه، ومنه الرِّكاز، وهو المال المدفون لخفائه واستتاره، وأنشدوا:

3636- فَتَوجَّسَتْ رَكْزَ الأنيسِ فَراعهَا عَنْ ظَهْرِ غَيْبٍ، والأنيسُ سَقامُهَا

فصل
قال المفسرون: "هَلْ تُحِسُّ" هل ترى، وقيل: هل تجد.
{ مِنْهُم مِنْ أحَدٍ }، لأنَّ الرسول - عليه السلام - إذا لم يحسّ منهم أحداً برؤية وإدراك ووجدان، ولا يسمع لهم ركزا، أي: صوتاً خفياً دلَّ ذلك على انقراضهم وفنائهم بالكلية.
قال الحسن: بادوا جميعاً، فلم يبق عين ولا أثر.
روى الثعلبي عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"من قرأ سورة مريم أعطي من الأجر بعدد من صدق بزكريا، ويحيى، وعيسى، وموسى، وهارون، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وإسماعيل عشر حسنات، وبعدد من دعا لله ولداً، وبعدد من لم يدع له ولداً" .