التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ
١١
أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ
١٢
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

"إذا" ظرف زمان مستقبل ويلزمها معنى الشرط غالباً، ولا تكون إلاّ في الأمر المحقق، أو المرجح وقوعه، فلذلك لم تجزم إلا في شِعْرٍ؛ لمخالفتها أدوات الشرط؛ فإنها للأمر المحتمل، فمن الجزم قوله: [البسيط]

193- تَرْفَعُ لي خِنْدِفٌ واللهُ يَرْفَعُ لِي نَاراً إِذَا خَمَدَتْ نِيرَانُهُمْ تَقِدِ

وقال آخر: [الكامل]

194- وَاسْتَغْنِ مَا أَغْنَاكَ رَبُّكَ بِالغِنَى وَإِذَا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلِ

وقال الآخر: [الطويل]

195- إِذَا قَصُرَتْ أَسْيَافُنَا كَانَ وَصْلُهَا خُطَانَا إِلَى أَعْدَائِنَا فَنُضَارِبِ

فقوله: "فَنُضَارب" مجزوم لعطفه على محل قوله "كان وصلها".
وقال الفرزدق: [الطويل]

196- فَقَامَ أَبُو لَيْلَى إِلَيْهِ ابْنُ ظَالِمٍ وَكَانَ إذَا مَا يَسْلُلِ السَّيْفَ يَضْرِبِ

وقد تكون للزمن الماضي كـ: "إذ" كما قد تكون "إذ" للمستقبل كـ "إذا".
فمن مجيء "إذا" ظرفاً لما مَضَى من الزمان واقعةً موقع "إذ" قوله تعالى:
{ { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ } [التوبة: 92]، وقوله: { { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَٰرَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا } [الجمعة: 11]، قال به ابن مالك، وبعض النحويين.
ومن مجيء "إذ" ظرفاً لما يستقبل من الزمان قوله تعالى:
{ { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ } [غافر: 70-71].
وتكون للمفاجأة أيضاً، وهل هي حينئذ باقية على زمانيتها، أو صارت ظرف مكان أو حرفاً؟
ثلاثة أقوال: أصحُّها الأول استصحاباً للحال، وهل تتصرف أم لا؟
الظاهر عدم تصرفها، واستدلّ من زعم تصرفها بقوله تعالى في قراءة من قرأ:
{ { إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ ٱلأَرْضُ رَجّاً } [الواقعة: 1-4] بنصب "خافضة رافعة"، فجعل "إذا" الأولى مبتدأ، والثانية خبرها.
والتقدير: وَقْتُ وقوع الواقعة رجّ الأرض، وبقوله:
{ { حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا } [الزمر: 71]، و { { حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ } [يونس: 22] فجعل "حتى" حرف جر، و "إذا" مجرورة بها، وسيأتي تحقيق ذلك في مواضعه. ولا تُضَاف إلاَّ الجُمَلِ الفعلية خلافاً للأخفش.
وقوله: "قيل" فعل ماضٍ مبني للمفعول، وأصله: "قَوَلَ" كـ: "ضرب"، فاستثقلت الكسرة على "الواو"، فنقلت إلى "القاف" بعد سَلْبِ حركتها، فسكنت "الواو" بعد كسرة، فقلبت "ياء"، وهذه أفصح اللغات، وفيه لغة ثانية، وهي الإشمام، والإشمام عبارة عن جعل الضّمة بين الضم والكَسْرِ.
ولغة ثالثة وهي: إخلاص الضم، نحو: "قُولَ وبُوعَ"، قال الشاعر: [الرجز]

197- لَيْتَ وَهَلْ يَنْفَعُ شَيْئاً لَيْتُ لَيْتَ شَبَاباً بُوعَ فَاشْتَرَيْتُ

وقال الآخر: [الرجز]

198- حُوكَتْ عَلَى نَولَيْنِ إذْ تُحَاكُ تَخْتَبِطُ الشَّوْكَ وَلاَ تُشَاكُ

وقال الأخفش: "ويجوز "قُيُل" بضم القاء والياء"، يعني مع الياء؛ لأن الياء تضم أيضاً. وتجيء هذه اللغات الثلاث في "اختار" و "انقاد"، و "ردّ" و "حَبّ" ونحوها، فتقول: "اختير" بالكسر، والإِشْمَام، و "اختور"، وكذلك: "انقيد"، و "انقود"، و "رَدَّ"، و "رِدَّ"، وأنشدوا: [الطويل]

199- وَمَا حِلَّ مِنْ جَهْلٍ حُبَا حُلَمَائِنَا وَلاَ قَائِلُ المَعْرُوفِ فِينَا يُعَنَّفُ

بكسر حاء "حل".
وقرىء: "وَلَوْ رِدُّوا" [الأنعام: 28] بكسر الراء.
والقاعدة فيما لم يسم فاعله أن يُضَمّ أول الفعل مطلقاً؛ فإن كان ماضياً كسر ما قبل آخره لفظاً نحو: "ضرب"، أو تقديراً نحو: "قيل"، و "اختير".
وقد يضم ثاني الماضي أيضاً إذا افتتح بتاء مُطَاوعة نحو: "تُدُحْرج الحجر"، وثالثه إن افتتح بهمزة وصل نحو: "انْطُلِقَ بزيد" واعلم أن شرط جواز اللغات الثلاث في "قيل"، و "غيض"، ونحوهما ألا يلتبس، فإن التبس عمل بمقتضى عدم اللَّبْس، هكذا قال بعضهم، وإن كان سيبويه قد أطلق جواز ذلك، وأشَمّ الكسائي:
{ { قِيلَ } [البقرة: 11]، { { وَغِيضَ } [هود: 44]، { { وَجِاْىۤءَ } [الزمر: 69]، { { وَحِيلَ } [سبأ:54] { { وَسِيقَ ٱلَّذِينَ } [الزمر: 71] و { { سِيۤءَ بِهِمْ } [هود: 77]، و { { سِيئَتْ وُجُوهُ } [الملك: 27]، وافقه هشام في الجميع، وابن ذكوان في "حِيْل" وما بعدها، ونافع في "سيء" و "سيئت"، والباقون بإخلاص الكسر في الجميع.
والإشْمَام له معان أربعة في اصطلاح القراء سيأتي ذلك في قوله:
{ { لاَ تَأْمَنَّا } [يوسف: 11] إن شاء الله تعالى.
و "لهم" جار ومجرور متعلّق بـ "قيل"، و "اللاَّم" للتبليغ، و "لا" حرف نهي يجزم فعلاً واحداً، و "تفسدوا" مجزوم بها، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأمثلة الخمسة.
و "في الأرض" متعلّق به، والقائم مقام الفاعل هو الجُمْلَةُ من قوله: "لا تفسدوا" لأنه هو القول في المعنى، واختاره الزمخشري.
والتقدير: وإذا قيل لهم هذا الكلام، أو هذا اللّفظ، فهو من باب الإسناد اللَّفْظي.
وقيل: القائم مقام الفاعل مضمر، تقديره: وإذا قيل لهم هو، ويفسّر هذا المضمر سياق الكلام كما فسّره في قوله:
{ { حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } [ص: 32].
والمعنى: "وإذا قيل لهم قول سديد" فأضمر هذا القول الموصوف، وجاءت الجملة بعده مفسّرة، فلا موضع لها من الإعراب، فإذا أمكن الإسناد المعنوي لم يعدل إلى اللَّفْظِيّ، وقد أمكن ذلك بما تقدّم. وهذا القول سبقه إليه أبو البَقَاءِ، فإنه قال: "والمفعول القائم مَقَام الفاعِلِ مصدر، وهو القول، وأضمر لأن الجملة بعد تفسّره، ولا يجزز أن يكون "لا تفسدوا" قائماً مقام الفاعل؛ لأن الجملة لا تكون فاعلاً، فلا تقوم مقام الفاعل".
وقد تقدم جواب ذلك من أن المعنى: وإذا قيل لهم هذا اللفظ، ولا يجوز أن يكون "لهم" قائم مقام الفاعل إلاَّ في رأي الكوفيين والأخفش، إذ يجوز عندهم إقامة غير المفعول به مع وجوده.
وتلخصّ من هذا:
أنَّ جملة قوله: "لا تفسدوا" في مَحَلّ رفع على قول الزَّمخشري، ولا محلّ لها على قول أبي البَقَاءِ ومن تبعه، والجملة من قوله: "قيل" وما في حَيّزه في محل خفضٍ بإضافة الظرف إليه.
والعامل في "إذا" جوابها، وهو "قالوا"، والتقدير: قالوا: إنما نحن مصلحون، وقت قول القائم لهم: لا تفسدوا.
وقال بعضهم: الذي نختاره أن الجُمْلَةَ الَّتي بعدها وتليها ناصبة لها، وأنَّ ما بعده ليس في مَحَلّ خَفْضٍ بالإضافة؛ لأنها أداة شرط، فحكمها حكم الظروف التي يُجَازى بها، فكما أنك إذا قلت: "متى تَقُمْ أَقُمْ" كان "متى" منصوباً بفعل الشرط، فكذلك إذا قال هذا القائل.
والذي يفسد مذهب الجمهور جواز قولك: "إذا قمت فعمرو قائم" ووقوع "إذا" الفُجَائية جواباً لها، وما بعد "الفاء".
و "إذا" الفجائية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وهو اعتراض ظاهر.
وقوله: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } "إنَّ" حرف مكفوف بـ "ما" الزائدة عن العمل، ولذلك تليها الجملة مطلقاً، وهي تفيد الحَصْرَ عند بعضهم.
وأبعد من زعم أنّ "إنما" مركبة من "إنَّ" التي للإثبات، و "ما" التي للنفي، وأنّ بالتركيب حدث معنى يفيد الحَصْرَ.
واعلم أن "إن" وأخواتها إذا وَلِيَتْهَا "ما" الزائدة بطل عملها، وذهب اختصاصها بالأسماء كما مَرَّ، إلا "لَيْتَ" فإنه يجوز فيها الوجهان سماعاً، وأنشدوا قول النابعة: [البسيط]

200- قَالَتْ: أَلاَ لَيْتَمَا هَذَا الحَمَامُ لَنَا إِلَى حَمَامَتِنَا وَنِصْفُهُ، فَقَدِ

برفع "الحَمَام" ونصبه، فأما إعمالها فلبقاء اختصاصها، وأمّا إهمالها فلحملها على أَخَوَاتِهَا، على أنه قد روي عن سيبويه في البيت أنها معملة على رواية الرفع أيضاً، بأن تجعل "ما" موصولة بمعنى "الذي"، كالتي في قوله تعالى: { إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ } [طه: 69] و "هذا" خبر مبتدأ محذوف هو العائد، و "الحَمَام" نعت لهذا، و "لنا" خبر لـ "ليت"، وحُذِفَ العائد وإن لم تَطُل الصلة.
والتقدير: ألا ليت الذي هو [هذا] الحمام كَائِنٌ لنا، وهذا أولى من أن يدعي إهمالها، لأن المقتضى للإعمال - وهو الاختصاص - باقٍ.
وزعم بعضهم أنّ "ما" الزائدة إذا اتَّصلت بـ "إنَّ" وأخواتها جاز الإعمال في الجميع.
و "نحن" مبتدأ، وهو ضمير مرفوع منفصل للمتكلم، ومن معه أو المعظّم نفسه، و "مصلحون" خبره، والجملة في محل نَصْبٍ، لأنها محكية بـ "قالوا".
والجملة الشرطية وهي قوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } عطف على صلة "من"، وهي "يقول"، أي: ومن النَّاس من يقول، ومن النَّاس من إذا قيل لهم: لا تفسدوا في الأرض قالوا: وقيل: يجوز أن تكون مستأنفةً، وعلى هذين القولين، فلا مَحَلّ لها من الإعراب لما تقدم، ولكنها جزء كلام على القول الأول، وكلام مستقل على القول الثاني، وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن تكون معطوفةً على "يكذبون" الواقع خبراً لـ "كانوا"، فيكون محلّها النصب.
وردّ بعضهم عليهما بأن هذا الذي أجازاه على أَحَدِ وجهي "ما" من قوله:
{ { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [البقرة: 10] خطأ، وهو: أن تكون موصولةً بمعنى "الذي"، إذْ لا عائد فيها يعود على "ما" المَوْصُولة، وكذلك إذا جعلت مصدريةً، فإنها تفتقر إلى العائد عند الأَخْفَشِ، وابن السراج. والجواب عن هذا أنهما لا يُجِيْزَانِ ذلك ألا وهما يعتقدان "ما" موصولة حرفية.
وأما مذهب الأخفش وابن السراج فلا يلزمهما القول به، ولكنه يُشْكِلُ على أبي البَقَاءِ وحده، فإنه يستضعف كون "ما" مصدرية كما تقدم.
فصل في أوجه ورود لفظ الفساد
ورد لفظ "الفساد" على ثلاثة أوجه:
الأول: بمعنى العِصْيَان كهذه الآية.
الثاني: بمعنى الهَلاَكِ قال تعالى:
{ { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الأنبياء: 22] أي: أهلكتا.
الثالث: بمعنى السحر قال تعالى:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ ٱلْمُفْسِدِينَ } [يونس: 81].
فصل في بيان من القائل
منهم من قال: إن ذلك القائل هو الله تعالى، ومنهم من قال: هو الرسول، ومنهم من قال: بعض المؤمنين، وكل ذلك محتمل.
والأقرب أن ذلك القائل كان مشافهاً لهم بذلك الكلام، فإما أن يكون الرسول - عليه الصلاة والسلام - بلغه عنهم النفاق، ولم يقطع بذلك، فنصحهم فأجابوا بما يحقّ إيمانهم، وأنهم في الصَّلاح بمنزلة سَائِرِ المؤمنين، وإما أنْ يكون بعض من يلقون إليه الفَسَاد كان لا يقبله منهم، وكان ينقلب واعظاً لهم قائلاً لهم:
{ { لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } [البقرة: 11] فإن قيل: إنما كانوا يخبرون الرَّسول بذلك؟
قلنا: نعم، كانوا إذا عوقبوا عادوا إلى إظهار الإسلام، وكذبوا النَّاقلين عنهم، وحلفوا بالله عليه كما قال - تعالى - عنهم:
{ { يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ ٱلْكُفْرِ } [التوبة: 74]. وقيل هذا الكلام لليهود.
و "الفساد" خروج الشيء عن كونه منتفعاً به، ونقيضه الصلاح.
واختلفوا في ذلك الفساد فقال ابن عباس والحَسَن وقَتَادَة والسّدي: الفساد في الأرض إظهار معصية الله تعالى.
قال القَفّال -رحمه الله -: وتقريره أن الشرائع سُنن موضوعة بين العباد، فإذا تمسكوا بها زَالَ العدوان، ولزم كل أحد شأنه، وحقنت الدّماء، وسكنت الفتن، فكان فيه صلاح الأرض، وصلاح أهلها، وإذا تركوا التمسُّك بالشرائع، وأقدم كلّ واحد على ما يَهْوَاه، وقع الهَرَجُ والمَرَجُ والاضطراب، ووقع الفساد في الأرض.
وقيل: الفساد هو مُدْارَاةُ المنافقين للكافرين، ومخالطتهم معهم؛ لأنهم إذا مالوا إلى الكُفْرِ مع أنهم في الظاهر مؤمنون أَوْهَمَ ذلك ضعف الرسول وضعف أنصاره، فكان ذلك يجري للكفار على إظهار عداوة الرسول، ونَصْبِ الحروب له.
وقال الأصَمّ: كانوا يدعون في السّر إلى تكذيبه، وجَحْد الإسلام، وإلقاء الشُّبهات، وتفريق بين النَّاس عن الإيمان.
فصل في مراد المنافقين بالإصلاح
قوله: { قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } هم المُنَافقون، لأن مرادهم بهذا الكلام نقيض ما نهوا عنه، وهو الإفساد في الأرض؛ فقولهم: إنما نحن مُصْلحون كالمُقَابِل له، وفي هذا احتمالان.
أحدهما: أنهم اعتقدوا أن دينهم صواب، فكان سعيهم لأجل تقوية ذلك الدّين، لا جرم قالوا: إنما نحن مصلحون، يعني: أن هذه المُدَاراة سَعْيٌ في الإصلاح بين المسلمين والكفار، كما حكى الله - تعالى - عنهم قولهم:
{ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً } [النساء:62] فقولهم: { إنما نحن مصلحون } أي: نحن نصلح أمر الفساد.
وقال ابن الخطيب: العلماء استدلّوا بهذه الآية على أنَّ من أظهر الإيمان وجب إجراء حكم المؤمنين عليه، وتجويز خلافه لا يطعن فيه، وتوبة الزِّنْدِيق مقبولةٌ، والله أعلم.
وقوله: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } "ألا" حرف تنبيه، واستفتاح، وليست مركّبة من همزة الاستفهام و "لا" النافية، بل هي بَسيطَةٌ، ولكنها لفظ مشترك بين التَّنبيه والاستفتاح، فتدخل على الجُمْلَة اسميةً كانت أو فعليةً، وبين العرض والتخصيص، فتختصّ بالأفعال لفظاً أو تقديراً، وتكون النافية للجنس دخلت عليها همزة الاستفهام، ولها أحكام تقدّم بعضها عند قوله تعالى:
{ { لاَ رَيْبَ فِيهِ } [البقرة: 2]، وتكون للتَّمَنِّي، فتجري مجرى "ليت" في بعض أحكامها.
وأجاز بعضهم أن تكون جواباً بمعنى "بَلَى" يقول القائل: ألم يقم زيد؟ فتقول: "ألا" بمعنى: "بلى قد قام" وهو غريب.
و "إنّهم" إنّ واسمها، و "هم" تحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أنْ تكون تأكيداً لاسم "إنَّ"؛ لأن الضَّمير المنفصل المرفوع يجوز أن يؤكد به جميع ضروب الضَّمير المتصل.
وأن تكون فصلاً، وأن تكون مبتدأ.
و "المفسدون" خبره، والجملة خبر بـ "إن".
وعلى القولين الأوّلين يكون "المفسدون" وحده خبراً لـ "إن"، وجيء في هذه الجملة بضروب من التأكيد منها: الاستفتاح والتنبيه، والتَّأكيد بـ "إن"، والإتيان بالتأكيد، والفَصْل بالضَّمير، وبالتعريف في الخبر مبالغةً في الرد عليهم فيما ادّعوه من قولهم: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }؛ لأنهم أخرجوا الجواب جملةً اسمية مؤكدةً بـ "إنما" ليدلّوا بذلك على ثُبُوت الوَصْفِ لهم، فرد الله عليهم بأبلغ وآكد مما ادعوه.
وقوله: { وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } الواو عاطفة لهذه الجملة على ما قبلها.
و "لكن" معناها الاستدراك، وهو معنى لا يُفَارقها، وتكون عاطفةً في المفردات، ولا تكون إلاّ بين ضدّين، أو نقيضين، وفي الخلافين خلاف، نحو: "ما قام زيد لكن خرج بكر"، واستدلّ بعضهم على ذلك بقوله طَرَفَةَ: [الطويل]

201- وَلَسْتُ بِحَلاَّلِ التِّلاَعِ لِبَيْتِهِ وَلَكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدِ القَوْمُ أرْفِدِ

فقوله: "متى يسترفد القوم أرفد" ليس ضدًّا ولا نقيضاً لما قبله، ولكنه خلافه.
قال بعضهم: وهذا لا دليل فيه على المدّعى، لأن قوله: "لستُ بحلاّل التِّلاَع لبيته" كنايةٌ عن نفي البُخْلِ أي: لا أحلّ التِّلاَع لأجل البُخْل.
وقوله: "متى يسترفد القوم أرفد" كناية عن الكَرَمِ، فكأنه قال: لست بخيلاً ولكن كريماً، فهي - ها هنا - واقعةٌ بين ضدّين.
ولا تعمل مخففة خلافاً لـ "يونس"، ولها أحكام كثيرة.
ومعنى الاسْتِدْرَاك في هذه الآية يحتاج إلى تأمل ونظر، وذلك أنهم لما نهوا عن اتخاذ مثل ما كانوا يتعاطونه من الإفساد، فقابلوا ذلك بأنهم مصلحون في ذلك، وأخبر - تعالى - بأنهم هم المفسدون كانوا حقيقين بأن يعلموا أن ذلك كما أخبر - تعالى - وأنهم لا يدعون بأنهم مصلحون، فاستدرك عليهم هذا المعنى الذي فَاتَهُمْ من عدم الشعور بذلك.
ومثله قولك: "زيد جاهل، ولكن لا يعلم"، وذلك لأنه من حيث اتّصف بالجهل، وصار الجهل وصفاً قائماً به كان ينبغي أن يعلم بهذا الوَصْف من نفسه؛ لأن الإنسان له أن يعلم ما اشتملت عليه نفسه من الصفات، فاستدركت عليه أنَّ هذا الوصف القائم له به لا يعلمه مُبَالغة في جهله.
ومفعول "يشعرون" محذوف: إمّا حذف اختصار، أي: لا يشعرون بأنهم مفسدون، وإما حذف اقتصار، وهو الأحسن، أي: ليس لهم شعور ألبتة.