التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً سُبْحَـٰنَهُ بَل لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ
١١٦
بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
١١٧
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

فصل
قرأ الجمهور: "وَقَالُوا" بالواو عطفاً لهذه الجملة الخبرية على ما قبلها، وهو أحسن في الربط.
وقيل: هي معطوفة على قوله: "وَسَعَى" فيكون قد عطف على الصّلة مع الفعل بهذه الجمل الكثيرة، وهذا ينبغي أن ينزّه القرآن عن مثله.
وقرأ ابن عامر ـ وكذلك هي في مصاحف "الشام": "قَالُوا" من غير "واو"، وكذلك يحتمل وجهين:
أحدهما: الاستئناف.
والثاني: حذف حرف العَطْف وهو مراد، استغناءً عنه بربط الضَّمير بما قبل هذه الجملة، و "اتَّخَذَ" يجوز أن يكون بمعنى عمل وصنع، فيتعدّى لمفعول واحد، وأن يكون بمعنى صَيَّر، فيتعدّى لاثنين، ويكون الأول هنا محذوفاً تقديره: وقالوا: اتخذ الله بعض الموجودات ولداً، إلا أنه مع كثرة دور هذا التركيب لم يذكر معها إلا مَفْعُول واحد:
{ وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً } [الأنبياء:26]، { مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍ } [المؤمنون:91]، { وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَـٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } [مريم:92]. والوَلد فعل بمعنى مفعول كالقَبْض والنقص وهو غير مقيس والمصدر: الولادة والوليدية وهذا الثاني غريب.
وقوله: "سبحانه".
قال القرطبيرحمه الله تعالى: "سُبْحَان" منصوب على المصدر، ومعناه التبرئة والتنزيه عما قالوا.
قوله تعالى: { بَل لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ }.
"بَل" إضراب وانتقال، و "لَهُ" خبر مقدم، و "ما" مبتدأ مؤخر، وأتى هنا بـ "مَا"؛ لأنه إذا اختلط العاقل بغيره كان المتكلّم مخيراً في "مَا" و "مَنْ"، ولذلك لما اعتبر العقلاء غلبهم في قوله "قَانِتُونَ"، فجاء بصيغة السَّلامة المختصّة بالعقلاء.
قال الزمخشري فإن قلت: كيف جاء بـ "مَا" التي لغير أولي العلم مع قوله: "قَانِتُونَ".
قلت: هو كقوله: "سبحان ما سخركن لنا" وكأنه جاء بـ "ما" دون "من" تحقيراً لهم وتصغيراً لشأنهم، وهذا جنوح منه إلى أن "ما" قد تقع على أولي العلم، ولكن المشهور خلافه.
وأما قوله: "سُبْحان ما سَخَّرَكُنَّ لَنَا" فسبحان غير مضاف، بل هو كقوله:

752ـ............... سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ..........

و "ما" مصدرية ظرفية.
قوله تعالى: { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } مبتدأ وخبر، و"كُلٌّ" مضافة إلى محذوف تقديراً، أي: كلّ مَنْ في السموات والأرض.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون كل من جعلوه لله ولداً كذا قال أبو حيانرحمه الله تعالى. وهذا بعيد جداً، لأن المجعول ولداً لم يَجْرِ له ذكر، ولأن الخبر يشترك فيه المجعول ولداًَ وغيره.
قوله: "لم يَجْرِ له ذكر" بل قد جرى ذكره فلا بُعْدَ فيه.
وجمع "قَانِتُونَ" حملاً على المعنى لما تقدم من أن "كُلاًّ" إذا قطعت عن الإضافة جاز فيها مراعاة اللفظ، [ومراعاة المعنى، وهو الأكثر نحوه:
{ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [الأنبياء:33] { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } [النمل:87] ومن مراعاة] اللَّفظ: { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ } [الإسراء:84] { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ } [العنكبوت:40]، وحسن الجمع هنا لِتَوَاخي رُؤُوس الآي.
والقُنُوت: أصله الدوام، ويستعمل على أربعة أوجه: الطاعة والانقياد، كقوله تعالى:
{ يَٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِي لِرَبِّكِ } [آل عمران:43] وطول القيام، كقوله عليه السلام "لما سئل: أي الصَّلاة أفضل؟ قال: طول القُنُوت" وبمعنى السّكوت [كقول زيد بن أرقم رضي الله عنه: كنا نتكلّم في الصلاة حتى نزل قوله تعالى: { وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ } [البقرة:238] فأمسكنا عن الكلام والدعاء، ومنه القنوت.
قال ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهما: "قانتون" أي: أن كل من في السموات والأرض مطيعون.
وأورد على هذا أن الكفار ليسوا مطيعين.
وقال السّديرحمه الله تعالى: يطيعون يوم القيامة، وأوردوا على هذا أيضاً بأن هذا صفة المتّكلين].
وقوله تعالى: { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَاتِ } يتناول مَنْ لا يكون مكلفاً، فعند هذا فسّروا القنوت بوجوه أخر:
الأول: بكونها شاهدةً على وجود الخالق ـ سبحانه ـ بما فيها من آثار الصّنعة، وأمارات الحدوث والدلائل على الربوبية.
الثاني: كون جميعها في ملكه وقهره يتصرّف فيها كيف يشاء، وهو قول أبي مسلمرحمه الله تعالى، وعلى هذين الوجهين الآية عامة.
الثالث: أراد بما في السَّموات الملائكة وما في الأرض عيسى والعزير؛ أي كل من هؤلاء الذين حكموا عليه بالولدية أنهم قانتون له.
فصل فيمن قال اتخذ الله ولداً
قال ابن الخطيب: اعلم أن الظاهر من قوله: { وَقَالُواْ: ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً } أن يكون راجعاً إلى قوله:
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ } [البقرة:114] وقد ذكرنا أن منهم من تأوّله على النصارى.
ومنهم من تأوّله على مشركي العرب.
ونحن قد تأولناه على اليهود، وكل هؤلاء أثبوا الولد لله تعالى؛ لأن اليهود قالوا: عزير ابن الله، والنَّصَارى قالوا: المسيح ابن الله، ومشركو العرب قالوا: الملائكة بنات الله، فلا جَرَمَ صحت هذه الحكاية على جميع التقديرات.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنها نزلت في كعب بن الأشرف، وكعب بن الأسد، ووهب بن يهوذا؛ فإنهم جعلوا عزيراً ابن الله [سبحانه لم يتخذ صاحبة ولا ولداً.
وروى ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى:
"كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَزَعَمَ أنِّي لاَ أََقْدِرُ أنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لِي وَلَدٌ فَسُبْحَانِي أنْ أَتْخِذَ صَاحِبَةً أوْ وَلَداً" .
فصل في تنزيه الله تعالى
قال ابن الخطيبرحمه الله : احتج على التنزيه بقوله تعالى: { بَل لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } ووجه الاستدلال من وجوه:
الأول: أن كل ما سوى الموجود الواجب ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته محدث، وكل محدث فهو مخلوق لواجب الوجود، والمخلوق لا يكون ولداً [لأن المخلوق محدث مسبوق بالعدم، ووجوده إنما حصل بخلق الله ـ تعالى ـ وإيجاده وإبداعه، فثبت أن ما سواه فهو عبده، وملكه، فيستحيل أن يكون كل شيء مما سواه ولداً له، كلّ هذا مستفاد من قوله: { بل له ما في السموات والأرض } أي: له كلّ مما سواه على سبيل الملك والخلق والإيجاد والإبداع].
والثاني: أن هذا الذي أضيف إليه بأنه ولده، إما أن يكون قديماً أزليًّا أو محدثاً، فإن كان أزليًّا لم يكن حكمنا بجعل أحدهما ولداً والآخر والداً أولى من العكس، فيكون ذلك الحكم حكماً مجرّداً من غير دليل، وإن كان الولد حادثاً كان مخلوقاً لذلك القديم وعبداً له فلا يكون ولداً له.
والثالث: أن الولد لا بد وأن يكون من جنس الوالد، فلو فرضنا له ولداً لكان مشاركاً له من بعض الوجوه، وممتازاً عنه من وجه آخر، وذلك يقتضي كون كلّ واحد منهما مركباً ومحدثاً وذلك مُحَال، فإذن المجانسة ممتنعةٌ، فالولدية ممتنعة.
الرابع: أن الولد إنما يتخذ للحاجة إليه في الكبر، ورجاء الانتفاع بمعونته حال عَجْزِ الأب عن أمور نفسه، فعلى هذا إيجاد الولد إنما يصحّ على من يصح عليه الفَقْر والعجز والحاجة، فإذا كان كل ذلك محال، كان إيجاد الولد عليه سبحانه وتعالى محالاً. [يحكى أن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال لبعض النصارى: لولا تمرد عيسى عن عبادة الله عز وجل لصرت على دينه فقال النصراني: كيف يجوز أن ينسب ذلك إلى عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع جده في طاعة الله تعالى؟ فقال علي رضي الله عنه: فإن كان عيسى إلهاً فكيف يعبد غيره، إنما العبد هو الذي تليق به العبادة، فانقطع النصراني].
قوله تعالى: "بَدِيعُ السَّمَوَاتِ" المشهور رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو بديع.
وقرىء بالجر على أنه بدل من الضمير في "لَهُ" [وفيه الخلاف المشهور] وقرىء بالنصب على المدح.
و "بديع السموات" من باب الصفة المشبهة أضيفت إلى منصوبها الذي كان فاعلاً في الأصل، والأصل بديع سماواتُه، أي بَدُعَت لمجيئها على شكل فائق حسن غريب، ثم شبهت هذه الصفة باسم الفاعل، فنصبت ما كان فاعلاً، ثم أضيفت إليه تخفيفاً، وهكذا كلّ ما جاء نظائره، فالإضافة لا بد وأن تكون من نصب؛ لئلا يلزم إضافة الصفة إلى فاعلها، وهو لا يجوز في اسم الفاعل الذي هو الأصل.
وقال الزمخشريرحمه الله تعالى: و "بديعُ السَّمَوَاتِ" من باب إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها.
ورده أبو حيان بما تقدم، ثم أجاب عنه بأنه يحتمل أن يريد إلى فاعلها في الأصل قبل أن يشبه.
وأجاز الزمخشري فيه وجهاً ثانياً: وهو أن يكون "بديع" بمعنى مُبْدِع؛ كما أن سميعاً في قول عَمْرو بمعنى مسمع؛ نحو: [الوافر]

753ـ أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعي السَّمِيعُ يُؤَرِّقُنِي وأصْحَابِي هُجُوعُ؟

إلا أنه قال: "وفيه نظر"، وهذا الوجه لم يذكر ابن عطية غيره، وكأن النظر الذى ذكره الزمخشري ـ والله أعلم ـ هو أن "فعيلاً" بمعنى "مُفْعِل" غيرُ مقيس، وبيت عمرو رضي الله عنه متأول، وعلى هذا القول يكون بديع السموات من باب إضافة اسم الفاعل لمنصوبه تقديراً.
والمبدع: المخترع المنشىء، والبديع: الشيء الغريب الفائق غيره حسناً.
قوله تعالى: { وَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً } العامل في "إذا" محذوف يدل عليه الجواب من قوله: "فَإنَّمَا يَقُولُ"، والتقدير: إذا قضى أمراً يكون، فيكون هو الناصب له.
و "قضى" له معانٍ كثيرة.
قال الأزهريرحمه الله تعالى: "قضى" على وجوه مرجعُها إلى انقطاع الشَّيء وتمامه؛ قال أبو ذُؤَيْبٍ: [الكامل]

754ـ وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا دَاوُدُ أَوْ صَنَعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ

وقال الشَّماخ: [الطويل]

755ـ قَضَيْتَ أُمُوراً ثُمَّ غَادَرْتَ بَعْدَهَا بَوَائِقَ في أَكْمَامِهَا لم تُفَتَّقِ

فيكون بمعنى"خَلَقَ" نحو: { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَاتٍ } [فصلت:12] وبمعنى أَعلم: { وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ } [الإسراء:4].
وبمعنى أمر:
{ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } [الإسراء:23].

وبمعنى وَفَّى:
{ فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلأَجَلَ } [القصص:29].
وبمعنى ألزم: قضى القاضي بكذا.
وبمعنى أراد: { وَإِذَا قَضَى أَمْراً }.
وبمعنى أَنْهَى، ويجيء بمعنى قَدَّر وأَمْضَى، تقول: قَضَى يَقْضِي قََضَاءً؛ قال: [الطويل]

756ـ سَأَغْسِلُ عَنِّي العَارَ بَالسَّيْفِ جَالِباً عَلَيَّ قَضَاءُ اللهِ مَا كَانَ جَالِبَا

ومعناه الذي يدل تركيبه عليه هو معنى القطع، من قولهم: قضى القاضي لفلان على فلان بكذا إذا حكم؛ لأنه فصل للدعوى.
ولهذا قيل: حاكم فَيْصل إذا كان قاطعاً للخصومات.
وحكى ابن الأنباري عن أهل اللّغة أنهم قالوا: القاضي معناه القاطع الأمور المحكم لها.
ومنه: انقضى الشيء: إذا تم وانقطع.
وقولهم: قضى حاجته أي: قطعها عن المحتاج ودفعها عنه.
وقضى دينه: إذا أدَّاه إليه كأنه قطع التقاضي والاقتضاء عن نفسه، أو انتفع كل منهما من صاحبه.
وقولهم: قضى الأمر، إذا أتمه وأحكمه.
وأما قولهم: قضى المريض وقضى نَحْبَه: إذا مات، وقضى عليه: قتله فمجاز.
[واختلفوا في الأمر هل هو حقيقة في القول المخصوص أو حقيقة في الفعل وفي القدر المشترك وهو كذا في أصول الفقه والله أعلم].
قال القرطبيرحمه الله تعالى: والأمر في القرآن يتصرف على أربعة عشر وجهاً:
الأول: الدين؛ قال الله تعالى:
{ حَتَّىٰ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ ٱللَّهِ } [التوبة:48] يعني: دينه.
الثاني: القول؛ قال تعالى:
{ فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا } [المؤمنون:27] يعني قولنا. وقوله: { فَتَنَازَعُوۤاْ أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ } [طه:62] يعنى قولهم.
الثالث: العذاب؛ قال تعالى:
{ { لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُُ } [إبراهيم:22] يعني لما وجب العذاب بأهل النار.
الرابع: عيسى عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى:
{ إِذَا قَضَىٰ أَمْراً } [مريم:35] يعنى: عيسى عليه الصلاة والسلام.
الخامس: القتل بـ "بدر"، قال الله تعالى:
{ فَإِذَا جَـآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ } [غافر:78] يعنى: القتل بـ "بدر" وقوله: { لِّيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } [الأنفال:42] يعنى قتل كفار "مكة".
السادس: فتح "مكة"؛ قال الله تعالى:
{ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ } [التوبة:42] يعنى فتح "مكة".
السابع: قتل "قريظة" وجلاء "بني النضير"؛ قال الله تعالى:
{ فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ } [البقرة:109].
الثامن: القيامة، قال الله تعالى:
{ أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } [النحل:1].
التاسع: القضاء؛ قال الله تعالى:
{ يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ } [الرعد:2] يعنى القضاء.
العاشر: الوحي؛ قال الله تعالى:
{ يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى ٱلأَرْضِ } [السجدة:5] يعني الوحي.
الحادي عشر: أمر الخلق؛ قال الله تعالى:
{ أَلاَ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلأُمُورُ } [الشورى:53].
الثاني عشر: النصر، قال الله تعالى:
{ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمْرِ مِن شَيْءٍ } [آل عمران:154] يعنون: النصر، { قُلْ إِنَّ ٱلأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } [آل عمران:154] يعني النصر.
الثالث عشر: الذنب؛ قال الله تعالى:
{ فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا } [الطلاق:9] يعنى جزاء ذنبها.
الرابع عشر: الشأن والفعل، قال الله تعالى:
{ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } [هود:97] لعله: وشأنه.
قوله تعالى: "فيكون" الجمهور على رفعه، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون مستأنفاً أي خبراً لمبتدأ محذوف أي: فهو يكون، ويعزى لسيبوبه، وبه قال الزَّجَّاج في أحد قوليه.
والثاني: أن يكون معطوفاً على "يقول"، وهو قول الزَّجاج والطبري، ورد ابن عطية هذا القول، وقال: إنه خطأ من جهة المعنى؛ لأنه يقتضي أن القول مع التَّكوين والوجود. انتهى. يعني أن الأمر قديم والتكوين حادث فكيف يعطف عليه بما يقتضي تعقيبه له؟
وهذا الرد إنما يلزم إذا قيل بأن الأمر حقيقة.
أما إذا قيل بأنه على سبيل التمثيل، وهو [الأصح] فلا.
ومثله قوله أبي النجم: [الرجز]

757ـ إذْ قَالَتِ الأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الْحَقي

الثالث: أن يكون معطوفاً على "كن" من حيث المعنى، وهو قول الفارسي، وضَعَّفَ أن يكون عطفاً على "يقول"؛ لأن من المواضع ما ليس فيه "يقول" كالموضع الثاني في "آل عمران"، وهو { { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [آل عمران:59] ولم ير عطفه على "قال" من حيثُ إنه مضارع، فلا يعطف على ماضي، فأورد على نفسه: [الكامل]

758ـ وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ: لاَ يَعْنِينِي

فقال: "أَمُرُّ بمعنى مَرَرْتُ".
قال بعضهم: ويكون في هذه الآية ـ يعني في آية "آل عمران"، بمعنى "كان" فَلْيَجُزْ عَطْفُهُ على "قال".
وقرأ ابن عامر: "فيكونَ" نصباً هنا، وفي الأولى من "آل عمران"، وهي { كُن فَيَكُونُ }، تحرزاً من قوله تعالى:
{ كُن فَيَكُونُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } [آل عمران:59 ـ 60].
وفي مريم:
{ كُن فَيَكُونُ وَإِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ } [مريم:35 ـ 36].
وفي غافر:
{ كُن فيَكُونُ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ } [غافر:68 ـ 69].
ووافقه الكسائي على ما في "النحل" و"يس".
وهي:
{ أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس:82].
أما آيتا "النحل" و "يس" فظاهرتان: لأن ما قبل الفعل منصوباً يصح عطفه عليه، وسيأتي.
وأما ما انفرد به ابن عامر في هذه المواضع الأربعة، فقد اضطرب كلام النَّاس فيها، وهي لَعَمْري تحتاج إلى فضل نظر وتأمل، ولذلك تجرأ بعض الناس على هذا الإمام الكبير، فقال ابن مجاهد: قرأ ابن عامر: "فَيَكُونَ" نصباً، وهذا غير جائز في العربية؛ لأنه لا يكون الجواب هنا للأمر بالفاء إلاَّ في "يس" و"النحل"، فإنه نسق لا جواب.
وقال في "آل عمران": قرأ ابن عامر وحده: "كُنْ فَيَكُونَ" بالنصب وهو وَهَمٌ. قال: وقال هشام: كان أيوب بن تميم يقرأ: "فَيَكُونَ" نصباً، ثم رجع فقرأ: "يَكُونُ" رفعاً.
وقال الزجاج: "كُنْ فَيَكُونُ" رفع لا غير.
وأكثر ما أجابوا بأن هذا مما روعي فيه ظاهر اللَّفظ من غير نظر للمعنى، يريدون أنه قد وجد في اللفظ صورة أمر فَنُصِبَتا في جوابه بالفاء.
وأما إذا نظرنا إلى جانب المعنى، فإن ذلك لا يصح لوجهين:
أحدهما: أن هذا وإن كان بلفظ الأمر، فمعناه الخبر نحو:
{ فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ } [مريم:75]. أي فيمدّ، وإذا كان معناه الخبر، لم ينتصب في جوابه بالفاء إلا ضرورة؛ كقوله: [الوافر]

759ـ سَأَتْرُكُ مَنْزِلِي لِبَنِي تَمِيمٍ وَأََلْحَقُ بِالحِجَازِ فَأَسْتَرِيحَا

وقول الآخر: [الطويل]

760ـ لَنَا هَضْبَةٌ لاَ يَنْزِلُ الذُّلُّ وَسْطَهَا وَيأْوِي إلَيْهَا المُسْتَجِيرُ فَيُعْصَمَا

والثاني: أن من شرط النصب بالفاء في جواب الأمر أن ينعقد منهما شرط وجزاء نحو: "ائتني فأكرمك" تقديره: "إن أتيتني أكرمتك".
وها هنا لا يصح ذلك إذ يصير التقدير: إن تكن تكن، فيتحد فعلا الشرط والجزاء معنى وفاعلاً، وقد علمت أنه لا بد من تغايرهما، وإلا يلزم أن يكون الشيء شرطاً لنفسه وهو مُحَال، قالوا: والمُعَاملة اللفظية، واردةٌ في كلامهم نحو:
{ قُل لِّعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقِيمُواْ } [إبراهيم:31] { قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ } [الجاثية:14].
وقال عمر بن أبي ربيعة: [الطويل]

761ـ فَقُلْتُ لجَنَّادٍ خُذِ السَّيْفَ وَاشْتَمِلْ عَلَيْهِ بِرِفْقٍ وَارْقُبِ الشَّمْسَ تَغْرُبِ
وَأَسْرِجْ لِيَ الدَّهْمَاءَ وَاذْهَبْ بِمِمْطَرِي ولاَ يَعْلَمَنْ خَلْقٌ مِنَ النَّاسِ مَذهَبِي

فجعل "تَغْرُب" جواباً لـ "ارقب" وهو غير مترتِّب عليه، وكذلك لا يلزمُ من قوله أَنْ يفعلوا، وإنما ذلك مُرَاعاة لجانب اللفظ.
أما ما ذكره في بيت عمر فصحيح.
وأما الآيات فلا نسلم أَنَّه غير مترتب عليه؛ لأنه أراد بالعباد الخُلّص، وبذلك أضافهم إليه.
أو تقولُ: إن الجزمَ على حَذْفِ لامِ الأمر، وسيأتي تحقيقه في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقال ابن مالك: "إنَّ"أنْ" الناصبةَ قد تُضْمر بعد الحَصْر بـ "إنما" اختياراً، وحكاه عن بعض الكوفيين.
قال: وحكوا عن العرب: إنما هي ضربة من الأسد فتحطمَ ظهره بنصب "تحطم"، فعلى هذا يكون النَّصْب في قراءة ابن عامر محمولاً على ذلك إلاَّ أنَّ هذا الذي نصبوه دليلاً لا دليل فيه لاحتمال أن يكون من باب العطف على الاسم تقديره: إنما هي ضَرْبَة فَحَطم؛ كقوله: [الوافر]

762ـ لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقرَّ عَيْنِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ

فصل في تحرير كلمة كن
قال ابن الخطيب: اعلم أنه ليس المراد من قوله تعالى: { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ: كُن فَيَكُونُ } هو أنه ـ تعالى ـ يقول له: "كُن"، فحينئذ يتكون ذلك الشيء، فإن ذلك فاسد، والذي يدل عليه وجوه:
الأول: أن قوله تعالى: "كُن" إما أن يكون قديماً أو محدثاً، والقسمان فاسدان، فبطل القول بتوقّف حدوث الأشياء على "كُن" إنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون قديماً لوجوه:
الأول: أن كلمة "كُن" لفظة مركّبة من الكاف والنون بشرط تقدّم الكاف على النون فالنون لكونه مسبوقاً بالكاف لا بد وأن يكون محدثاً، والكاف لكونه متقدماً على المحدث بزمان واحد، يجب أن يكون محدثاً.
الثاني: أن كلمة "إذا" لا تدخل إلا على الاستقبال، فذلك القضاء لا بد وأن يكون محدثاً؛ لأنه دخل عليه حرف إذا وقوله: "كُن" مرتّب على القضاء بـ "فاء" التعقيب؛ لأنه قال: { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن } والمتأخر عن المحدث محدث، فاستحال أن يكون "كُن" قديماً.
الثالث: أنه ـ تعالى ـ رتّب تكوين المخلوق على قوله: "كُن" بـ "فاء" التعقيب، فيكون قوله: "كُن" مقدماً على تكوين المخلوق بزمان واحد، والمتقدم على المحدث بزمان واحد لا بد وأن يكون محدثاً، فقوله: "كُن" لا يجوز أن يكون قديماً، ولا جائز أيضاً أن يكون قوله: "كُن" محدثاً؛ لأنه لو افتقر كل محدث إلى قوله: "كُن"،وقوله "كُن" أيضاً محدث، فيلزم افتقار "كُن" إلى "كُن" آخر، ويلزم التسلسل والدور، وهما مُحَالان، فثبت بهذا الدليل أنه لا يجوز توقّف إحداث الحوادث على قوله: "كُن" وأن قوله: "كن" إن [كان] خطاباً له حال وجوده، فتحصيل للحاصل، قاله أبو الحسن الماوردي.
قال القرطبيرحمه الله : والجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أنه خبر من الله ـ تعالى ـ عن نفوذ أوامره في خلقه، كما في بني إسرائيل أن يكونوا قِرَدَةً خاسئين، ولا يكون هذا في إيجاد المعدومات.
الثاني: أن الله ـ تعالى ـ عالم بما هو كائن قبل كونه، فكانت الأشياء التي لم تكن كائنة لعلمه بها قبل كونها مشابهة للتي هي موجودة، فجاز أن يقول لها: كوني، ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود؛ لتصير جميعها له، ولعلمه بها في حال العدم.
الثالث: أن ذلك خبر من الله ـ تعالى ـ عام عن جميع ما يحدث ويكوِّنه، إذا أراد خلقه وإنشاءه كان ووجد من غير أن يكون هناك قول يقوله، وإنما هو قضاء يريده، فعبر عنه بالقول وإن لم يكن قولاً، كقول أبي النَّجْم: [الرجز]

763ـ إذْ قَالَتِ الأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الحَقِي

ولا قول هناك، وإنما أراد أن الظهر قد لحق بالبطن.
وكقول عمرو بن هممة الدَّوْسِيّ: [الطويل]

764ـ فَأَصْبَحْتُ مِثْلَ النَّسْرِ طَارَتْ فِرَاخُهُ إِذَا رَامَ تَطْيَاراً يُقَالُ لَهُ: قَعِ

وقال الآخر: [الرجز]

765ـ قَالَتْ جَنَاحَاهُ لِسَاقَيْهِ الحَقَا وَنَجِّيَا لَحْمَيْكُمَا أَنْ يُمْزَقَا

الحجة الثانية: أنه تعالى إما أن يخاطب المخلوق بـ "كن" قبل دخوله في الوجود، أو حال دخوله في الوجود، والأول باطل؛ لأن خطاب المعدوم حال عدمه سَفَه.
والثاني أيضاً باطل؛ لأنه يرجع حاصله إلى أنه ـ تعالى ـ أمر الموجود بأن يصير موجوداً، وذلك أيضاً لا فائدة فيه.
الحجة الثالثة: أن المخلوق قد يكون جماداً، وتكليف الجماد عبث، ولا يليق بالحكيم.
الحجة الرابعة: أن القادر هو الذي يصحّ منه الفعل وتركه بحسب الإرادات، فإذا فرضنا القادر المريد منفكًّا عن قوله: "كُن" فإما أن يتمكّن من الإيجاد والإحداث، أو لا يتمكّن، فإن تمكن لم يكن الإيحاد موقوفاً على قوله "كن"، وإن لم يتمكن فحينئذ يلزم ألاَّ يكون القادر قادراً على الفعل إلا عند تكلمه بـ "كن" فيرجع حاصل الأمر إلى أنكم سمّيتم القدرة بـ "كن" وذلك نزاع لفظي.
الحجة الخامسة: أن "كُن" كلمة لو كان لها أثر في التكوين لكنا إذا تكلمنا بهذه الكلمة وجب أن يكون لها ذلك التأثير ولما علمنا بالضرورة فساد ذلك علمنا أنه لا تأثير لهذه الكلمة.
الحجة السادسة: أن لفظة "كُن" ككلمة مركبة من الكاف والنون، بشرط كون الكاف متقدماً على النون، فالمؤثر إما أن يكون هو أحد هذين الحرفين أو مجموعهما؛ فإن كان الأول لم يكن لكلمة "كُن" أثر ألبتة بل التأثير لأحد هذه الحرفين، وإن كان الثَّاني فهو مُحَال؛ لأنه لا وجود لهذا المجموع ألبتة؛ لأنه حين حصل الحرف الأول لم يكن الثَّاني حاصلاً، وحين جاء الثَّاني فقد فات الأول، وإن لم يكن للمجموع وجود ألبتة استحال أن يكون للمجموع أثر ألبتة.
الحجة السابعة: قوله تعالى:
{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [آل عمران:59] بين أن قوله "كُن" متأخر عن خلقه، إذ المتأخر عن الشَّيء لا يكون مؤثراً في المتقدم عليه، فعلمنا أنه لا تأثير لقوله: "كُن" في وجود الشيء، فظهر بهذه الوجوه فساد هذا المذهب، فإذا ثبت هذا فنقول: لا بد من التأويل وهو من وجوه:
الأول: أن المراد من هذه الكلمة سرعة نفاذ قدرة الله في تكوين الأشياء، وأنه ـ تعالى ـ يخلق الأشياء لا بفكرة ومعاناة وتجربة.
الثاني: قال أبو الهُذَيل: إنه علامة يفعلها الله ـ تعالى ـ للملائكة إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمراً.
الثالث: قال الأصم: إنه خاصٌّ بالموجودين الذين قال لهم:
{ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [البقرة:65]، ومن جرى مجراهم.
الرابع: أنه أمر للأحياء بالموت، وللموتى بالحياة. والكل ضعيف، والقوي هو الأول.
وقال الطبريرحمه الله : التكوين مع الأمر لا يتقدم الموجود، ولا يتأخر عنه، فلا يكون الشيء مأموراً بالوجود إلاّ وهو موجود بالأمر، ولا موجود إلا وهو مأمور بالوجود، ونظيره قيام الناس من قبورهم لا يتقدم دعاء الله تعالى ولا يتأخر عنه كما قال تعالى:
{ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ ٱلأَرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } [الروم:25].
قال القرطبيرحمه الله تعالى: وتلخيص المعتقد في هذه الآية: أن الله ـ عز وجل ـ لم يزل آمراً للمعدومات بشرط وجودها، قادراً مع تأخّر المقدورات، عالماً مع تأخر المعلومات، فكل ما في الآية يقتضي الاستقبال، فهو بحسب المأمورات؛ إذ المحدَثَات تجيء بعد أن لم تكن. كل ما يسند إلى الله ـ تعالى ـ من قدرة وعلم، فهو قديم لم يزل والمعنى الذي تقتضيه عبارة "كُن"؛ هو قديم قائم بالذات.