التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا ٱللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
١١٨
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

"لو" و "لولا" يكونان حرفي ابتداء، وقد تقدم عند قوله: { فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ } [البقرة:64] ويكونان حرفي تحضيض بمنزلة: "هلا" فيختصَّان بالأفعال ظاهرة أو مضمرة، كقوله: [الطويل]

766ـ تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيبِ أَفْضَلَ مَجْدِكُمْ بَنِي ضَوْطَرَى لَوْلاَ الكَمِيَّ المُقَنَّعَا

أي: لولا تعدُّون الكمَيَّ، فإن ورد ما يوهم وقوع الاسم بعد حرف التخصيص يؤوَّل؛ كقوله: [الطويل]

767ـ ونُبِّئْتُ لَيْلَى أَرْسَلَتْ بِشَفَاعَةٍ إلَيَّ فَهَلاَّ نَفْسُ لَيْلَى شَفِيعُهَا

فـ "نفس ليلى" مرفوع بفعل محذوف يفسره "شفيعها" أي: فهلا شفعت نفس ليلى.
وقال أبو البقاء: إذا وقع بعدها المستقبل كانت للتحضيض، وإن وقع بعدها الماضي كانت للتوبيخ وهذا شيء يقوله علماء البيان، وهذه الجملة التحضيضية في محلّ نصب بالقول.
قوله: { كَذَلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ } قد تقدم الكلام على نظيره فليطلب هناك.
وقرأ أبو حيوة، وابن أبي إسحاق: "تَشَّابَهَت" بتشديد الشين.
قال الدَّاني: "وذلك غير جائز؛ لأنه فعل ماض"، يعني: أن التاءين المزيدتين إنما تجيئان في المضارع فتدغم أما الماضي فلا.
فصل في قبائح اليهود والنصارى والمشركين
هذا نوع آخر من قبائح اليهود والنصارى والمشركين، فإنهم قدحوا في التوحيد باتَّخاذ الولد، وَقَدَحُوا الآن في النبوّة.
قال ابن عباس: "هم اليهود".
وقال مجاهد: "هم النصارى" لأنهم المذكورون أولاً، ويدلّ على أن المراد أهل الكتاب قوله تعالى:
{ يَسْأَلُكَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ } [النساء:153].
فإن قيل: المراد مشركو العرب، لأنه ـ تعالى ـ وصفهم بأنهم لا يعلمون، وأهل الكتاب أهل العلم.
[قلنا]: المراد أنهم لا يعلمون التوحيد والنبوة كما ينبغي، وأهل الكتاب كانوا كذلك.
وقال قتادة وأكثر المفسرين: هم مشركو العرب لقوله:
{ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ ٱلأَوَّلُونَ } [الأنبياء:5]، وقالوا: { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا } [الفرقان:21].
وتقرير هذه الشبهة أنك تقول: إن الله ـ تعالى ـ يكلّم الملائكة وكلم موسى، ويقول: يا محمد إن الله ـ تعالى ـ كلّمك فلم لا يكلمنا مُشَافهة، ولا ينص على نبوتك حتى يتأكّد الاعتقاد، وتزول الشبهة، فأجابهم أنا قد أيدنا قول محمد صلى الله عليه وسلم بالمعجزات، وبالآيات وهي القرآن، وسائر المعجزات، فكان طلب هذه الزوائد من باب التعنّت، فلم يجب إجابتها لوجوه:
أحدها: أنه إذا حصلت الدلالة الواحدة، فقد تمكّن المكلف من الوصول إلى المطلوب، فلو كان غرضه طلب الحق لاكتفى بتلك الدلالة، فحيث لم يكتف بها، وطلب الزائد عليها علمنا أن ذلك من باب العناد، ويدل له قوله تعالى:
{ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ } [العنكبوت:51].
وثانيها: لو كان في [علم الله تبارك وتعالى] أنهم يؤمنون عند إنزال هذه الآية لَفَعَلَهَا، ولكنه علم أنه لو أعطاهم ما سألوه لما ازدادوا إلا لجاجاً فلا جرم لم يفعل ذلك، ولذلك قال تعالى:
{ وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } [الأنفال:23].
وثالثها: إنه ربما كان كثرتها وتعاقبها يقدح في كونها معجزة؛ لأن الخوارق متى توالت صار انخراقُ العادة عادة، فحينئذ يخرج عن كونه معجزاً.
وأما قوله تعالى: "تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ" [فالمراد أن المكذبين للرسل تتشابه أقوالهم وأفعالهم]، فكما أن قوم موسى، [كانوا أبداً في التعنت واقتراح] الأباطيل، كقولهم:
{ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ } [البقرة:61] وقولهم: { ٱجْعَل لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ } [الأعراف:138] وقولهم: { أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً } [البقرة:67] وقولهم: { أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً } [النساء:152]، فكذلك هؤلاء المشركون يكونون أبداً في العِنَادِ واللّجاج، وطلب الباطل.
قوله: { قَدْ بَيَّنَّا ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } يعنى القرآن وغيره من المعجزات كمجيء الشجرة، وكلام الذِّئْب، وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل، آيات قاهرةٌ، ومعجزات باهرة لمن كان طالباً لليقين.