التفاسير

< >
عرض

وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ
١٢٤
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

العامل في "إذ"قال".
وقيل: العامل فيه "اذكر" مقدراً، وهو مفعول، وقد تقدم أنه لا يتصرف فالأولى ما ذكرته أولاً.
وقدره الزمخشريرحمه الله تعالى كان كيت وكيت، فجعله ظرفاً، ولكن عامله مقدر.
و "ابْتَلَى" وما بعده في محلّ خفض بإضافة الظرف إليه.
وأصل ابتلى: ابْتَلَوَ، فألفه عن "واو"؛ لأنه "من بَلاَ يَبْلو" أي؛ اختبر.
و "إبْرَاهِيم" مفعول مقدم، وهو واجب التقديم عند جمهور النحاة؛ لأنه متى اتَّصَل بالفاعل ضمير يعود على المفعول وجب تقديمه، لئلا يعود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة، هذا هو المَشْهُور، وما جاء على خلافه عدوه ضرورة.
وخالف أبو الفتح في ذلك وقال: "إن الفعل كما يطلب الفاعل يطلب المفعول، فصار للفظ به شعور وطلب".
وقد أنشد ابن مالك أبياتاً كثيرة تأخر فيها المفعول المتصل ضميره بالفاعل، منها: [السريع]

770ـ لَمَّا عَصَى أَصْحَابُهُ مُصْعَباً أَدَّى إِلَيْهِ الكَيْلَ صَاعاً بِصَاعْ

ومنها: [البسيط]

771ـ جَزَى بَنُوهُ أَبَا الْغِيلاَنِ عَنْ كِبَرٍ وَحُسْنِ فِعْلٍ كَمَا يُجْزَى سِنِمَّارُ

وقال ابن عطية: وقدم المفعول للاهتمام بمن وقع الابتلاء به، إذ معلوم أن الله هو المبتلي، واتِّصَال ضمير المفعول بالفاعل موجب للتقديم، يعنى أن الموجب للتقديم سببان: سبب معنوي وسبب صناعي.
و "إبراهيم" علم أعجمي.
قيل: معناه قبل النقل أب رحيم.
فصل في تفسير لفظ إبراهيم
قال الماوردى: هذا التفسير بالسريانية وبالعربية فيما حكى ابن عطية أب رحيم.
قال السهيلي: كثيراً ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي، أو يقاربه في اللفظ، ألا ترى أن إبراهيم تفسيره أب رحيم، راحم بالأطفال، ولذلك جعل هو وسارة زوجته كافلين لأطفال المؤمنين الذي يموتون صغاراً إلى يوم القيامة [على ما روى البُخَاري في حديث الرؤيا الطويل أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى في الروضة إبراهيم عليه السلام وحوله أولاد الناس].
وفيه لغات سبع، أشهرها: إبراهيم بألف وياء، وإبْرَاهام بألفين، وبها قرأ هشام وابن ذكوان في أحد وجهيه في "البقرة"، وانفرد هشام بها في ثلاثة مواضع في آخر "النساء" وموضعين في آخر "براءة" وموضع في آخر "الأنعام" وآخر "العنكبوت"، وفي "النجم" و "الشورى" و "الذاريات" و "الحديد" والأول في "الممتحنة"، وفي "إبراهيم" وفي "النحل" موضعين، وفي "مريم" ثلاثة، فهذه ثلاثة وثلاثون موضعاً منها خمسة عشر في "البقرة" وثلاثة عشر في السور المذكورة.
وروي عن ابن عامر قراءة جميع ما في القرآن كذلك.
ويروى أنه قيل لمالك بن أنس: إن أهل "الشام" يقرءون ستة وثلاثين موضعاً إبراهام بالألف، فقال: أهل "دمشق" بأكل البطِّيخ أبصر منهم بالقراءة.
فقيل: إنهم يدعون أنها قراءة عثمان.
فقال: هذا مصحف عثمان، فأخرجه فوجده كما نقل له.
الثالثة: إبْرَاهِم بألف بعد الراء، وكسر الهاء دون ياء، وبها قرأ أبو بكر؛ وقال زيد بنُ عمروِ بنِ نُفَيْلٍ: [الرجز]

772ـ عُذْتُ بِمَا عَاذَ بِهِ إِبْرَاهِمُ إذْ قَالَ وَجْهي لَكَ عَانٍ رَاغِمُ

الرابعة: كذلك، إلا أنه بفتح الهاء.
الخامسة: كذلك إلا أنه بضمها.
السادسة: إبْرَهَم بفتح الهاء من غير ألف وياء.
قال عبد المطلب: [الرمل]

773ـ نحْنُ آلُ اللهِ فِي كَعْبَتِهِ لَمْ نَزَلْ ذَاكَ عَلَى عَهْدِ ابْرَهَمْ

السَّابعة: إبْرَاهُوم بالواو.
قال أبو البقاء: ويجمع على "أَبَاره" عند قوم، وعند آخرين "بَرَاهِم".
وقيل: أبارِهَة وبَرَاهِمَة ويجوز أَبَارِهَة [وقال المبردرحمه الله تعالى: لا يقال براهم فإن الهمزة لا يجوز حذفها].
وحكى ثعلب فيه: "بَرَاهٍ" كما يقال في تصغيره: "بُرَيْه" بحذف الزوائد.
والجمهور على نصب "إبراهيم" ورفع "رَبُّهُ" كما تقدم.
وقرأ ابن عباس وأبو الشعثاء وأبو حنيفة بالعكس. قالوا: وتأويلها دعا ربه، فسمى دعاءه ابتلاء مجازاً؛ لأن في الدعاء طلب استكشاف لما تجري به المقادير.
والضمير المرفوع في "فَأَتمّهُنّ" فيه قولان:
أحدهما: أنه عائد على "ربّه" أي: فأكملهن.
والثاني: أنه عائد على "إبْرَاهِيمَ" أي: عمل بهن، ووفّى بهن.
وهو إبراهيم بن تارح بن ناحور مولده بـ "الشوس" من أرض "الأهواز".
وقيل: "بابل"، وقيل: "كولى" وقيل "كسكر" وقيل: "حيران".
ونقله أبوه إلى "بابل" أرض نمرود بن كنعان، وكان له أربع بنين: إسماعيل وإسحاق ومدين ومدائن، ذكره السهيلي.
فصل فيما دلت عليه السورة
اعلم أنه ـ سبحانه وتعالى ـ لما شرح وجوه نعمه على بني إسرائيل شرح قبائحهم في أديانهم وأعمالهم، وختم هذا الفصل بشرح النعم بقوله:
{ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [البقرة:122] بين نوعاً آخر من البيان، وهو أن ذكر قصة إبراهيم ـ عليه السلام ـ والحكمة فيه أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ معترف بفضله جميع الطَّوائف، والمشركون أيضاً معترفون بفضله متشرّفون بأنهم من أولاده، ومن ساكني حرمه، وخادمي بيته، فذكر فضيلته لهم؛ لأنها تدلّ على قبول محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من وجوه:
أحدها: أنه تعالى لما أمره ببعض التكاليف، فلما وفّى بها وخرج لا جرم نال النبوة والإمامة.
وثانيها: أنه لما طلب الإمامة لذريته فقال تعالى: { لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } فدلّ ذلك على أنّ من أراد هذا المنصب وجب عليه ترك اللَّجَاج والتعصّب للباطل.
وثالثها: أن الحج من خصائص دين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فحكى الله ـ تعالى ـ ذلك عن إبراهيم ليكون ذلك كالحُجَّة على اليهود والنصارى في وجوب الانقياد لذلك.
ورابعها: أن القبلة لما حولت إلى الكعبة شقّ ذلك على اليهود والنصارى، فبيّن الله ـ تعالى ـ أن هذا البيت قبلة إبراهيم الذي يعترفون بتعظيمه، ووجوب الاقتداء به، فكان ذلك مما يوجب زوال الغضب على قلوبهم.
فصل في معنى الابتلاء
والابتلاء هنا الاختبار والامتحان، وابتلاء الله ليس ليعلم أقوالهم بالابتلاء؛ لأنه ـ تعالى ـ عالم بجميع المعلومات على سبيل التَّفَاصيل من الأَزَلِ إلى الأبد، ولكن ليعلم الناس أحوالهم حتى يعرف بعضهم بعضاً، أو عاملهم معاملة المختبر.
واختلف في "الكَلِمَاتِ" فقال مجاهد: هي المذكورة بعدها في قوله تعالى: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } إلى آخرها من الآيات، ورفع البيت، وتطهير البيت، ورفع القواعد، والدعاء ببعث محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن هذه أمور شاقّة؛ لأن الإمامة هاهنا هي النبوة وتتضمن مشاقاً عظيمة. وأما بناء البيت وتطهيره، ورفع قواعده، فمن وقف على ما روي في كيفية بنائه عرف شدّة البلوى فيه، ثم إنه يتضمّن إقامة المَنَاسك، وقد امتحن الله ـ تعالى ـ الخليل ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالشَّيْطَان في الموقف لرمي الجِمَار وغيرها.
وأما اشتغاله بالدعاء ببعث محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو مما يحتاج إلى إخلاص العمل لله تعالى، وإزالة الحَسَد عن القلب، فكل هذه تكاليف شاقّة، ويدلّ على إرادة ذلك أنه عقبه بذكره من غير فصل بحرف عطف، فلم يقبل وقال: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً }.
واعترض القاضي على هذا، فقال: إنما يجوز هذا لو قال تعالى: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمها إبراهيم، ثم قال بعد ذلك: إني جاعلك للناس إماماً فأتمهن.
وأجيب عنه: بأنه ليس المراد من الكلمات الإمامة فقط، بل الإمامة وبناء البيت وتطهيره والدعاء ببعث محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكأنه ـ تعالى ـ ابتلاه بمجموع هذه الأشياء، فأخبر كأنه ابتلاه بأمور على الإجمال، ثم أخبر عنه أنه أتمّها، ثم عقب ذلك بالشرح والتفصيل، وهذا ليس ببعيد.
وقال طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما: عشر خصال كانت فَرْضاً في شرعه، وهي سُنّة في شرعنا: خمس في الرأس، وخمس في الجسد، أما التي في الرأس: فالمضمضة، والاستنشاق، وفرق الرأس، وقصّ الشارب، والسِّوَاك، وأما التي في البدن: فالخِتَان، وحَلْق العَانَةِ، ونَتْف الإبط، وتقليم الأظفار، [والاستنجاء بالماء.
وفي الخبر أن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أول من قصّ الشارب، وأول من اختتن وأول من قلّم الأَظفار].
وقال أبو الفرج بن الجوزي حديثاً عن كعب الأحبار رضي الله عنه قال: خلق من الأنبياء ثلاثة عشر مَخْتُونين: آدم وشيث ونوح وإدريس وسام ولوط ويوسف وموسى وشعيب وسليمان ويحيى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم.
وقال محمد بن حبيب الهاشمي أربعة عشر: آدم وشيث ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب ويوسف وموسى وسليمان وزكريا وعيسى وحنظلة بن صفوان من أصحاب الرَّسِّ، ومحمد صلى الله عليه وسلم. وروي أن عبد المطلب ختن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم سابعه وجعل مَأْدُبة، وسماه محمداً عليه أفضل الصلاة والسلام.
قال يحيى بن أيوب ـ رضي الله تعالى عنه ـ طلبت هذا الحديث فلم أجده عند أحد من أهل الحديث ممّن لقيته إلاَّ عند ابن أبي السّريّ.
وقال عكرمة عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ لم يُبْتلَ أحد بهذا الدين فأقامه كله إلا إبراهيم ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ ابتلاه بثلاثين خَصْلة من خصال الإسلام: عشر منها في سورة "براءة":
{ ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ } [التوبة:112] إلى آخر الآية.
وعشر منها في سورة "الأحزاب":
{ إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَاتِ } [الأحزاب:35] إلى آخر الآية وعشر منها في "المؤمنين": { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } إلى قوله { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْوَارِثُونَ } [المؤمنون 1ـ10].
وروي عن ابن عباس: أربعون فزاد: وعشر في
{ سَأَلَ سَآئِلٌ } إلى قوله تعالى { يُحَافِظُونَ } [المعارج:1-34].
وقال ابن عباس، وقتادة، والربيع: هي مناسك الحَجّ.
[وقال الحسن]: ابتلاه بسبعة أشياء: بالشمس والقمر، والكواكب، والخِتَان على الكِبَر، والنار، وذَبْح الولد، والهجرة، فوفّى بالكلّ.
وقال يمَان بن رباب: هي مَحَاجّته قومه، والصلاة، والزكاة، والصوم، والضيافة، والصبر عليها.
وقال بعضهم: هي قوله:
{ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [البقرة:131].
وقال سعيد بن جبير: هو قول إبراهيم وإسماعيل إذ يَرْفَعَان البَيْتَ:
{ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ } [البقرة:127] الآية.
وقيل: هي قوله:
{ ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [الشعراء:78] الآيات.
قال القَفّال: وجملة القول أن الابتلاء يتناول إلزام كلّ ما في فعله كُلفة شدة ومشقة، فاللفظ يتناول مجموع هذه الأشياء، ويتناول كل واحد منها، فلو ثبتت الرواية في الكل وجب القول بالكل، ولو ثبتت الرواية في البعض دون البعض، [فحينئذ يقع بين هذه الروايات]، فوجب التوقّف.
فصل في وقت هذا الابتلاء
قال القاضي: هذا الابتلاء إنما كان قبل النبوة؛ لأنَّ الله ـ تعالى ـ جعل قيامه ـ عليه الصلاة والسلام ـ بهنّ كالسبب لأنْ يجعله الله إماماً، والسبب مقدم على المسّبب، وإذا كان كذلك فالله ـ تعالى ـ ابتلاه بالتكاليف الشَّاقّة، فلما وفَّى بها لا جرم أعطاه خُلْعة النبوة والرسالة.
وقال غيره: إنه بعد النبوة، لأنه عليه الصلاة والسلام لا يعلم كونه مكلفاً بتلك التكاليف إلا من الوحي، فلا بد من تقدم الوحي على معرفته.
وأجاب القاضي: بأنه يحتمل أنه ـ تعالى ـ أوحى إليه على لسان جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ بهذه التكاليف، فلما تمّم ذلك جعله نبيّاً مبعوثاً إلى الخلق.
إذا عرفت هذا فنقول: قال القاضي: يجوز أن يكون المراد بالكلمات ما ذكر الحَسَن من أمر الكواكب والشمس والقمر، فإنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ابْتُلِيَ بذلك قبل النبوة.
وأما ذبح الولد والهجرة والنار، وكذا الخِتان، فكل ذلك بعد النبوة.
يروى أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ختن نفسه، وكان سنه مائة وعشرين سنة.
ثم قال: فإن قامت الدلالة السمعية القاهرة على أن المراد من الكلمات هذه الأشياء كان المراد من قوله: "أَتَمَّهُنَّ" أنه ـ سبحانه ـ علم من حاله أنه يتمهن، ويقوم بهن بعد النبوة، فلا جَرَمَ أعطاه خلعة الإمامة والنبوة.
فصل
قال القرطبيرحمه الله روى في الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب، يقول: إبراهيم ـ عليه السلام ـ أول من اختتن، وأول من أضاف الضيف، وأول من استحدّ، وأول من قلّم الأظافر، وأول من قَصَّ الشارب، وأول من شاب، فلما رأى الشيب قال: ما هذا؟ قال: وقار، قال: يا رب زدني وقاراً.
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن سعيد بن إبراهيم عن أبيه قال: أول من خطب على المنابر إبراهيم خليل الله.
قال غيره: وأول من ثَرَدَ الثَّرِيدَ، وأول من ضرب بالسيف، وأول من اسْتَاك، وأول من استنجى بالماء، وأول من لبس السراويل.
قوله: "قَالَ إِنِّي" هذه الجملة القولية يجوز أن تكون معطوفة على ما قبلها، إذا قلنا بأنها عاملة في "إذْ"؛ [لأن التقدير: وقال إِنِّي جاعلك إذ ابتلى، ويجوز أن تكون استئنافاً إذا قلنا: إن العامل في "إذْ" مضمر]، كأنه قيل: فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات؟ فقيل: قال: إنِّي جَاعِلُكَ.
ويجوز فيها أيضاً على هذا القول أن تكون بياناً لقوله: "ابْتَلَى" وتفسيراً له، فيراد بالكلمات ما ذكره من الإمامة، وتطهير البيت، ورفع القواعد، وما بعدها، نقل ذلك الزمخشري.
قوله: "جَاعِلُكَ" هو اسم فاعل من "جَعَلَ" بمعنى "صَيَّرَ" فيتعدّى لاثنين:
أحدهما: "الكاف"، وفيها الخلاف المشهور هل هي في محلّ نصب أو جر؟
وذلك أن الضمير المتصل باسم الفاعل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه في محل جر بالإضافة.
والثاني: أنه في محل نصب، وإنما حذف التنوين لشدة اتّصال الضمير، قالوا: ويدلّ على ذلك وجوده في الضرورة؛ كقولهم: [الوافر]

774ـ فَمَا أَدْرِي وَظَنِّي كُلَّ ظَنِّ أَمُسْلِمُنِي إِلَى قَوْمِي شَرَاحِي

وقال آخر: [الطويل]

775ـ هُمُ الْفَاعِلُونَ الْخَيْرَ وَالآمِرُونَهُ ..........................

وهذا يدل على تسليم كون "نون" مسلمني تنويناً، وإلاّ فالصحيح أنها نون وقاية.
الثالث ـ وهو مذهب سيبوبه ـ أنّ حكم الضمير حكم مظهره، فما جاز في المظهر يجوز في مضمره.
والمفعول الثاني "إمَاماً".
قوله: "لِلنَّاسِ" يجوز فيه وجهان.
أحدهما: أنه متعلق بجاعل أي لأجل النَّاس.
والثاني: أنه حال من "إمَاماً"، فإنه صفةُ نكرةٍ قدم عليها، فيكون حالاً منها؛ إذ الأصل: إمَاماً للناس، فعلى هذا يتعلق بمحذوف.
و "الإِمَامُ": اسم ما يؤتمّ به أي يقصد ويتبع كالإِزار اسم ما يؤتزر به.
ومنه قيل لحائط البناء: "إِمَام" ويكون في غير هذا جمعاً لـ "آمّ" اسم فاعل من آمّ يؤمّ نحو: قائم وقيام، ونائم ونيام وجائع وجياع.
والمراد من الإمام هاهنا النبي، ويدلّ عليه وجوه:
منها أن قوله: "لِلنَّاسِ إِمَاماً" يدل على أنه ـ تعالى ـ جعله إماماً لكل الناس، والذي يكون كذلك لا بد وأن يكون رسولاً من عند الله مستقلاًّ بالشرع؛ لأنه لو كان تبعاً لرسول آخر لكان مأموماً [لذلك الرسول لا إماماً له، فحينئذ] يبطل العموم.
وأيضاً إنّ اللفظ يدلّ على أنه إمام في كل شيء [والذي يكون كذلك لا بد وأن يكون نبيّاً.
وأيضاً إنّ الأنبياء ـ عليهم السلام ـ أئمة من حيث يجب على الخلق اتباعهم] قال الله تعالى:
{ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } [الأنبياء:73].
والخلفاء أيضاً أئمة؛ لأنهم رتّبوا في محل يجب على الناس اتباعهم، وقبول قولهم، وأحكامهم. والقضاة، والفقهاء أيضاً أئمة لهذا المعنى، والذي يصلّي بالناس يسمى أيضاً إماماً به.
قال عليه الصلاة والسلام:
"إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَام إِمَاماً لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا" وقد يسمى من يؤتم به في الباطل، قال الله تعالى: { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ } [القصص:41] إلا أنه لا يستعمل إلا مقيداً.
فصل في إمامة سيدنا إبراهيم
اعلموا أن الله ـ تعالى ـ لما وعده بأن يجعله إماماً للناس حقّق الله ـ تعالى ـ ذلك الوعد فيه إلى قيام السَّاعة، فإن أهل الأديان على شدّة اختلافها ونهاية تنافيها يعظمون إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ويتشرفون بالانتساب إليه إما في النسب، وإما في الدين والشريعة حتى إن عَبَدَةَ الأوثان كانوا معظمين لإبراهيم عليه الصَّلاة والسلام.
وقال الله تعالى:
{ ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } [النحل:123] وقال تعالى: { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [البقرة:130].
وقال عز وجل:
{ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ } [الحج:78].
وجميع أمة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقولون في صلاتهم: وارْحَمْ محمّداً وآل محمد كما صليت وباركت وترحّمت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم.
قوله: "وَمِنْ ذُرِّيتِي" فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن "ومنْ ذُرِّيَّتي" صفة لموصوف محذوف هو مفعول أول، والمفعول الثَّاني والعامل فيهما محذوف تقديره: قال: واجعل فريقاً من ذريتي إماماً قاله أبو البقاء.
الثاني: أن "وَمِنْ ذُرِّيَتِي" عطف على "الكاف"، كأنه قال: "وجاعل بعض ذرّيتي" كما يقال لك: سأكرمك، فتقول: وزيداً.
قال أبو حَيّان: لا يصح العطف على الكاف؛ لأنها مجرورة، فالعطف عليها لا يكون إلاَّ بإعادة الجار، ولم يُعَدْ؛ ولأن "مِنْ" لا يمكن تقدير إضافة الجار إليها لكونها حرفاً، وتقديرها مرادفة لبعض حتى تصحّ الإضافة إليها لا يصح، ولا يصح أن يقدر العطف من باب العطف على موضع الكاف؛ لأنه نصب، فتجعل "مِنْ" في موضع نصب؛ لأنه ليس مما يعطف فيه على الموضع [في مذهب سيبويهرحمه الله تعالى] لفوات المحرز، وليس نظير ما ذكر؛ لأن "الكاف" في "سأكرمك" في موضع نصب.
الثالث: قال أبو حيان: والذي يقتضيه المعنى أن يكون "مِنْ ذُرِّيَّتِي" متعلقاً بمحذوف، التقدير: واجعل من ذريتي إماماً، لأن "إبراهيم" فهم من قوله: إني جاعلك للنَّاس إماماً الاختصاص فسأل أن يجعل من ذرّيته إماماً.
قال شهاب الدِّين: إن أراد الشيخ التعلّق الصناعي، فيتعدّى "جاعل" لواحد، فهذا ليس بظاهر.
وإن أراد التعلق المعنوي، فيجوز أن يريد ما يريده أبو البقاء، ويجوز أن يكون "مِنْ ذُرِّيَّتِي" مفعولاً ثانياً قدم على الأول، فيتعلّق بمحذوف، وجاز ذلك لأنه ينعقد من هذين الجزءين مبتدأ وخبر لو قلت: "من ذريتي إمام" لصح.
وقال ابن عطية: وقيل هذا منه على جهة الاستفهام عنهم أي: ومن ذرّيتي يا رب ماذا يكون؟ فيتعلّق على هذا بمحذوف، ولو قدره قبل "مِنْ ذُرِّيَّتِي" لكان أولى؛ لأن ما في حَيّز الاستفهام لا يتقدم عليه.
وفي "ذرية" ثلاث لغات ضمّ الذال وكسرها وفتحها، وبالضم قرأ الجمهور، وبالفتح قرأ أبو جعفر الداني وبالكسر قرأ زيد بن ثابت. وفي تصريفها كلام طويل يحتاج الناظر فيه إلى تأمل.
فصل في اشتقاق ذريّة
فأما اشتقاقها ففيه أربعة مذاهب:
أحدها: أنها مشتقة من "ذَرَوْتُ".
الثاني: من "ذَرَيْتُ".
الثالث: من ذَرَأَ الله الخَلْق.
الرابع: من الذَّرِّ.
وأما تصريفها فَذُرِّيَّة بالضم إن كانت من ذَرَوْتُ، فيجوز فيها أن يكون وزنها "فُعُّولَة"، والأصل: "ذُرُّوْوَة"، فاجتمع واوان: الأولى زائدة للمد، والثانية لام الكلمة فقلبت لام الكلمة ياء تخفيفاً، فصار اللفظ "ذُرُّوْيَة"، فاجتمع ياء وواو، وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء التي هي منقلبة من لام الكلمة، وكسر ما قبل الياء، وهي الراء للتجانس.
ويجوز أن يكون وزنها "فُعِّيلَة"، والأصل: "ذُرِّيْوَة"، فاجتمع ياء المد والواو التي هي لام الكلمة، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت فيها ياء المد. وإن كانت من ذَرَيْتُ لغة في ذَرَوْتُ فيجوز فيها أيضاً أن يكون وزنها "فْعُّولة" أو فُعِّيلَة كما تقدم، وإن كانت "فُعُّولة" فالأصل "ذُرُّوْيَة" ففعل به ما تقدم من القلب والإدغام.
وإن كانت "فُعِّيْلَة" فالأصل "ذُرِّيَية"، فأدغمت الياء الزائدة في الياء التي هي لام. وإن كانت من ذرأ مهموزاً، فوزنها، "فُعِّيْلة"، والأصل: "ذُرِّيْئة" فخففت الهمزة بأن أبدلت ياء كهمزة "خطيئة" و"النسيء"، ثم أدغمت الياء الزائدة في الياء المبدلة من الهمزة.
وإن كانت من "الذَّر" فيجوز في وزنها أربعة أوجه:
أحدها: "فُعْلِيَّة" وتحتمل هذه الياء أن تكون للنَّسب، وغَيَّرُوا الذَّال من الفتح إلى الضم كما قالوا في النسب إلى الدهر: دُهْرِي، وإلى السهل سُهْلي بضم الدال والسين، وأن تكون الغير النسب فتكون كـ "قُمْرية".
الثاني: أن تكون "فُعِّيْلَة" كـ "مُرِّيقَة" والأصل "ذُرِّيرة"، فقلبت الراء الآخيرة ياء لتوالي الأمثال، كما قالوا: تسرّيت وتظنّيت في تسررت وتظننت.
الثالث: أن تكون "فُعُّولَة" كـ "قدوس" و "سبُّوح"، والأصل: "ذُرُّوْرَة" فقلبت الراء ياء لما تقدم، فصار ذُرُّوْيَة فاجتمع واو وياء، فجاء القلب والإدغام كما تقدم.
الرابع: أن تكون فعلولة، والأصل: ذُرُّوْرَة، ففعل بها ما تقدم في الوجه الذي قبله.
وأما ذِرِّية بكسر الذال فإن كانت من ذروت فوزنها فِعَّيلة، والأصل: ذِرَّيْوَة، فأبدلت الواو ياء وأدغمت في الياء بعدها، فإن كانت من ذريت فوزنها فِعلية أيضاً، وإن كانت من ذرأ فوزنها فِعِّيلَة أيضاً كبطِّيخة، والأصل ذِرِّيْئَة، ففعل فيها ما تقدم في المضمومة الذال. وإن كانت من الذَّرِّ فتحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون وزنها فِعَلِيَّة نسبة إلى الذر على غير قياس في المضمومة.
الثاني: أن تكون "فِعِّيلَة".
الثالث: أن تكون "فِعْليلة" كـ "حلتيت" والأصل فيها: ذِرِّيرة ففعل فيهما من إبدال الراء الآخيرة ياء والإدغام فيها.
وأما "ذَرِّيَّة" بفتح الذال: فإن كانت من ذروت أو ذريت فوزنها: فَعِّيْلة كـ "سكينة" والأصل ذَرِّيْوة أو ذَرِّيية أو فَعُّولة والأصل ذَرُّورَة أو ذَرُّويَة، ففعل به ما تقدم في نظيره.
وإن كانت من ذرأ فوزنها: إما فعِّيلَة كـ "سكينة"، والأصل ذَرِّيئة وإما فَعُّولة كـ "خرّوية" والأصل: ذَرَّوءة ففعل به ما تقدم في نظيره.
وإن كانت من الذر ففي وزنها أيضاً أربعة أوجه:
أحدها: فَعْلِيَّة، والياء أيضاً تحتمل أن تكون للنسب، ولم يَشِذُّوا فيه بتغيير كما شذّوا في الضم والكسر وألاّ يكون نحو: بَرْنية.
الثاني: فَعُّولة كـ "خَرُّوبة" والأصل ذَرُّوْرَة.
الثالث: فَعِّيلَة كـ "سكينة" والأصل: ذريرة.
الرابع: فَعْلُولة كـ "بكُّولة"، والأصل ذرورة أيضاً، ففعل به ما تقدم في نظيره من إبدال الراء الأخيرة، وإدغام ما قبلها فيها وكسرت الذال إتباعاً، وبهذا الضبط الذي فعلته اتضح القول في هذه اللفظة.
فصل في معنى الذّرية
النسل يقع على الذكور والإناث، والجمع الذراري.
وزعم بعضهم أنها تقع على الآباء كوقوعها على الأبناء مستدلاًّ بقوله عز وجل:
{ وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } [يس:41] يعني: نوحاً ـ عليه الصلاة والسلام ـ ومن معه، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
فصل
هل كان إبراهيم عليه ـ السَّلام ـ مأذوناً له في قوله تعالى: "ومن ذرّيتي" أو لم يكن مأذوناً فيه؟ فإن أذن الله ـ تعالى ـ في هذا الدعاء فلم ردّ دعاءه؟ وإن لم يأذن له فيه كان ذنباً.
قلنا: قوله: "ومن ذرّيتي" يدلّ على أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ طلب أن يكون بَعْضُ ذريته أئمة، وقد حقق الله ـ تعالى ـ إجابة دُعَاءه في المؤمنين من ذريته كـ "إسماعيل"، و "يعقوب"، و "يوسف"، و "موسى"، و "هارون" و "داود"، و "سليمان"، و "أيّوب" و "يونس"، و "زكريا"، و "يحيى" و "عيسى"، عليهم السلام وجعل آخرهم نبينا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين من ذرّيته الذي هو أفضل الخلق عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام.
قوله تعالى: { قَالَ: لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ }.
الجمهور على نَصْب "الظَّالمِينَ" مفعولاً، و "عَهْدِي" فاعل، أي: لا يصل عهدي إلى الظالمين فيدركهم.
وقرأ قتادة، والأعمش، وأبو رجاء: "الظَّالِمُونَ" بالفاعلية، و "عَهْدِي" مفعول به، والقراءتان ظاهرتان؛ إذ الفعل يصحّ نسبته إلى كل منهما، فإن من نالك فقد نِلْته.
والنَّيْل: الإدراك، وهو العطاء أيضاً، نال يَنَال نيلاً فهو نائل، وقرأ حمزة وحفص بإسكان الياء من: "عَهْدِيْ"، والباقون بفتحها.
فصل في تحرير معنى العهد
اختلفوا في العَهْدِ، فقيل: الإمامة.
وقال السدي: النبوة، وهو قول ابن عباس.
وقال عطاء: رحمتي.
وقيل: عهده أمره، ويطلق على الأمر، قال سبحانه وتعالى:
{ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا } [آل عمران:183] أي: أمرنا، وقال تعالى: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَٰبَنِيۤ آدَمَ } [يس:60] يعني ألم أقدم إليكم الأمر به، فيكون معنى قوله تعالى: { لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } أي: لا يجوز أن يكونوا بمحلّ من يقبل أوامر الله.
[قال قتادةرحمه الله تعالى: هو الإيمان.
وقال مجاهد والضحاك رحمهما الله هو طاعتي، أي: ليس لظالم أن يطاع في ظلمه
ومعنى الآية: لا ينال ما عهدت إليك من النبوة والإمامة من كان ظالماً من ولدك.
وقال أبو عبيدةرحمه الله تعالى: العهد الأمان من النار؛ لقوله عز وجل:
{ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوۤاْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلأَمْنُ } [الأنعام:82].
قال ابن الخطيب: والأول أولى؛ لأنه جواب لسؤال الإمامة.
فإن قيل: أفما كان إبراهيم ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ عالماً بأن النبوة لا تليق بالظَّالمين؟
فالجواب: بلى، ولكن لم يعلم حال ذرّيته، فبيّن الله ـ تعالى ـ أن فيهم من هذا حاله، وأن النبوة إنما تحصل لمن ليس بظالم.
فصل في عصمة الأنبياء
الآية تدلّ على عصمة الأنبياء من وجهين.
الأول: أنه قد ثبت أن المراد من هذا العهد: الإمامة، ولا شكّ أن كل نبي إمام، فإن الإمام هو الذي يؤتم به، والنبي أولى الناس، وإذا دلّت الآية على أن الإمام لا يكون فاسقاً، فبأن تدلّ على أن الرسول لا يجوز أن يكون فاسقاً فاعلاً للذنب والمعصية أولى.
الثاني: أنَّ العَهْدَ إن كان هو النبوة، وجب أن تكون لا ينالها أحد من الظَّالمين، وإن كان هو الإمامة، فكذلك لأن كل نبي لا بد وأن يكون إماماً يؤتم به، وكل فاسق ظالم لنفسه، فوجب ألاَّ تحصل النبوة لأحد من الفاسقين.
فصل في أنه هل يجوز عقد الإمام للفاسق؟
قال الجمهور من الفقهاء والمتكلّمين: الفاسق حال فسقه لا يجوز عقد الإمامة له، واختلفوا في أنَّ الفسق الطَّارىء هل يبطل الإمامة أم لا؟
واحتج الجمهور على أنّ الفاسق لا يصلح أن تعقد له الإمامة بهذه الآية، ووجه الاستدلال بها من وجهين:
[الأول: ما بيّنا أن قوله: { لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } جواب لقوله: "وَمِنْ ذُرِّيَّتِي" وقوله: "وَمِنْ ذُرِّيََّتِي" طلب الإمامة الَّتي ذكرها الله تعالى، فوجب أن يكون المراد بهذا العَهْدِ هو الإمامة، ليكون الجواب مُطَابقاً للسؤال، فتصير الآية كأنه ـ تعالى ـ قال: لا ينال الإمامة الظّالمين، وكل عاص فإنه ظالم لنفسه، فكانت الآية دالّة على ما قلناه].
فإن قيل: ظاهر الآية يقتضي انتفاء كونهم ظالمين ظاهراً وباطناً ولا يصح ذلك في الأئمة والقضاة.
[قلنا]: أما الشيعة [فيستدلون] بهذه الآية على صحة قولهم في وجوب العِصْمَةِ ظاهراً وباطناً.
وأما نحن فنقول: مقتضى الآية ذلك إلاّ أنا تركنا عبارة الباطن، فتبقى العدالة الظاهرة معتبرة.
فإن قيل: أليس أن يونس عليه الصلاة والسلام قال:
{ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } [الأنبياء:87] وقال آدم: { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } [الأعراف:23]؟
قلنا: المذكور في الآية هو الظلم المطلق، وهذا غير موجود في آدم ويونس عليهما السلام.
الوجه الثاني: أن العهد قد يستعمل في كتاب الله بمعنى الأمر، قال الله تعالى:
{ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَٰبَنِيۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ } [يس:60] يعني: ألم آمركم بهذا؟
وقال الله تعالى:
{ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَآ } [آل عمران:183] يعني أمرنا، ومنه عهود الخلفاء إلى أمرائهم وقضاتهم. إذا ثبت أن عهد الله هو أمره فنقول: لا يخلو قوله: { لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } من أن يريد أن أن الظالمين غير مأمورين وأن الظالمين لا يجوز أن يكونوا بمحلّ من يقبل منهم أوامر الله تعالى، ولما بطل الوجه الأول لاتفاق المسلمين على أن أوامر الله ـ تعالى ـ لازمة للظالمين، كلزومها لغيرهم ثبت الوجه الآخر، وهو أنهم غير مؤتمنين على أوامر الله ـ تعالى ـ وغير مقتدى بهم فيها، فلا يكونون أئمة في الدّين، فثبت بدلالة الآية بطلان إمامة الفاسق، قال عليه السلام: "لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ في مَعْصِيَةِ الخَالِقِ" ودل أيضاً على أن الفاسق لا يكون حاكماً، وأن أحكامه لا تنفذ إذ وُلِّيَ الحكم، وكذلك لا تقبل شهادته، ولا خبره [عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا فتياه إذا أفتى، ولا يُقَدَّم للصَّلاة، وإن كان هو بحيث لو اقتدى به، فإنه لا تفسد صلاته].
وقال أبو بكر الرَّازي: "ومن النَّاس من يظن أن مذهب أبي حنيفة أن يجوز كون الفاسق إماماً وخليفة، ولا يجوز كون الفاسق قاضياً"، قال: وهذا خطأ، ولم يفرق أبو حنيفة بين الإمام والحاكم في أن شرط كل واحد منهما العدالة، وكيف يكون خليفةً، وروايته غير مقبولة، وأحكامه غير نافذة.
قال: وإنما غلط من غلط في هذه الرواية أن قول أبي حنفية: أن القاضي إذا كان عدلاً في نفسه، وتولى القضاء من إمام جائر فإنَّ أحكامه نافذة، والصَّلاة خلفه جائزة؛ لأن القاضي إذا كان عدلاً في نفسه، ويمكنه تنفيذ الأحكام كانت أحكامه نافذة، فلا اعتبار في ذلك بمن وَلاَّه؛ لأن الذي ولاَّه بمنزلة سائر أعوانه، وليس شرط أعوان القاضي أن يكونوا عدولاً، ألا ترى أن أهل بلد لا سلطان عليهم لو اجتمعوا على الرِّضَا بتولية رجل عدل منهم القضاء حتى يكونوا أعواناً له على من امتنع من قبول أحكامه لكان قضاؤه نافذاً، وإن لم يكن له ولاية من جهة إمام ولا سلطان. والله أعلم.
فصل في أخذ الأرزاق من الأئمة الظَّلمة
ونقل القرطبيرحمه الله تعالى عن أبن خويزمنداد أنه قال: وأما أخذ الأرزاق من الأئمّة الظلمة فله ثلاثة أحوال: إن كان جميع ما في أيديهم مأخوذاً على موجب الشريعة، فجائز أخذه؛ وقد أخذت الصحابة والتابعون من يد الحَجّاج وغيره.
وإن كان مختلطاً حلالاً وظلماً، كما في أيدي الأمراء اليوم، فالوَرَعُ تركه، ويجوز للمحتاج أخذه، وهو كَلِصٍّ في يده مال مسروق، ومال حلال، [وقد وكله فيه رجل، فجاء اللص يتصدق به على إنسان]، فيجوز أن تؤخذ منه الصَّدقة، وكذلك لو باع أو اشترى كان العَقْدُ صحيحاً لازماً، وإن كان الوَرَعُ التنزُّه عنه، وذلك أن الأموال لا تحرم بأعيانها، [وإنما تحرم لجهاتها، وإن كان في أيديهم ظلماً صراحاً، فلا يجوز أن يؤخذ من أيديهم]، ولو كان ما في أيديهم من المال مغصوباً غير أنه لا يعرف له صاحب، ولا مطالب، فهو كما لو وجد في أيدي اللصوص وقطّاع الطريق [ويجعل في بيت المال].