التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ
١٢٥
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

"إذْ" عطف على "إذْ" قبلها، وقد تقدم الكلام فيها، و "جَعَلْنَا" يحتمل أن يكون بمعنى "خَلَقَ" و "وضعَ" فيتعدّى لواحد، وهو "البيت"، ويكون "مَثَابَةً" نصباً على الحال وأن يكون بمعنى "صيّر" فيتعدى لاثنين، فيكون "مَثَابَةً" هو المفعول الثاني. والأصل في "مثابة"مثوبة" فأعلّ بالنقل والقلب، وهل هو مصدر أو اسم مكان قولان؟
وهل الهاء فيه للمبالغة كـ "عَلاَّمة" و "نَسَّابة" لكثرة من يثوب إليه، أي يرجع، أو لتأنيث المصدر كـ "مقامة" أو لتأنيث البقعة؟ ثلاثة أقوال، وقد جاء حذف هذه الهاء؛ قال ورقةُ بنُ نَوْفَل: [الطويل]

776ـ مَثابٌ لأَفْنَاءِ القَبَائِلِ كُلِّهَا تَخُبُّ إلَيْهَا اليَعْمَلاَتُ الذَّوَامِلُ

وقال: [الرمل]

777ـ جَعَلَ البَيْتَ مَثَاباً لَهُمُ لَيْسَ مِنْهُ الدَّهْرَ يَقْضُونَ الوَطَرْ

وهل معناه من ثاب يثوب أي: رجع أو من الثواب الذي هو الجزاء؟
قولان:
أظهرهما: أولهما قال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير رضي الله عنهم: إنهم يثوبون إليه في كل عام.
وعن ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهما: [أنه لا ينصرف عنه أحد إلا وهو يتمنى العود إليه]، وقرأ الأعمش وطلحة "مَثَابَاتٍ" جمعاً، ووجهه أنه مثابة لكلّ واحد من الناس.
قوله تعالى: "لِلنَّاسِ" فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلّق بمحذوف؛ لأنه صفة لمثابة ومحلّه النصب.
والثاني: أنه متعلّق بجعل أي: لأجل الناس يعنى مناسكهم.
قوله تعالى: "وَأَمْناً" فيه وجهان:
أحدهما: أنه عطف على "مثابة" وفيه التأويلات المشهورة: إما المبالغة في جعله نفس المصدر، وإما على حذف مضاف، أي: ذا أمن، وإما على وقوع المصدر موقع اسم الفاعل، أي: آمناً، على سبيل المجاز كقوله:
{ حَرَماً ءَامِناً } [العنكبوت:67].
والثاني: أنه معمول لفعل محذوف تقديره: وإذ جعلنا البيت مثابة، فاجعلوه آمناً لا يعتدي فيه أحد على أحد.
والمعنى: أن الله جعل البيت محترماً بحكمه، وربما يؤيد هذا بقراءة: "اتَّخِذُوا" على الأمر، فعلى هذا يكون "وأَمْناً" وما عمل فيه من باب عطف الجمل عطفت جملة أمرية على خبرية، وعلى الأول يكون من عَطْفِ المفردات.
فصل في تحرير المقصود من البيت
اعلم أنه لما ذكر أمر تكليف إبراهيم ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ بالإمامة ذكر بعده التكليف الثاني، وهو تطهير البيت، فنقول: المراد ببيت الله الحرام؛ لأن الألف واللام فيه: إما للعهد أو للجنس، وقد علم المخاطبون أنه لم يرد الجنس، فانصرف إلى المعهود عندهم وهو الكعبة.
قال ابن الخطيب: وليس المراد نفس الكعبة؛ لأنه ـ تعالى ـ وصفه بكونه "أمناً" وهذا صفة لجميع الحرم لا الكعبة فقط بدليل جواز إطلاق البيت، والمراد منه كل حرم.
قال تعالى:
{ هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ } [المائدة:95] والمراد الحرم كله لا الكعبة نفسها؛ لأنه لا يذبح في الكعبة، ولا في المسجد الحرام، وقال تعالى: { فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } [التوبة:28].
والمراد ـ والله أعلم ـ منعهم من الحج وحضور مواضع النسك، وقال الله تعالى مخبراً عن إبراهيم
{ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ ءَامِناً } [إبراهيم:35]، فدلّ هذا على أنه وصف البيت بالأمن، فاقتضى جميع الحرم. والسّبب في أنه ـ تعالى ـ أطلق لفظ البيت، وعنى به الحرم كله أن حرمة الحرم لما كانت معلّقة بالبيت جاز أن يعبر عنه باسم البيت.
فصل في تحرير معنى الأمن
قوله: "وأمناً" أي: موضع أمن يؤمنون فيه من إيذاء المشركين، ولا شَكَّ أن قوله تعالى: { جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً } خبر فتارة يتركه على ظاهره، ويقول: هو خبر وتارة يصرفه عن ظاهره، ويقول: هو أمر.
أما على الأول فالمراد أنه جعل أهل الحرم آمنين من القَحْط والجدب على ما قال
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءَامِناً } [العنكبوت:67] وقوله: { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً ءَامِناً يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ } [القصص:57] ولا يمكن أن يكون المراد منه الإخبار عن عدم وقوع القَتْلِ في الحرم؛ لأنا نشاهد أن القتل الحرام قد يقع فيه.
وأيضاً فالقتل المباح قد يوجد فيه، قال الله تعالى:
{ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ } [البقرة:191] فأخبر عن وقوع القَتْلِ فيه.
وإن حملنا الكلام على الأمر فالمعنى: أن الله ـ تعالى ـ أمر الناس بأن يجعلوا ذلك الموضوع آمناً من الغارة والقَتل، فكان البيت محترماً بحكم الله تعالى، وكانت الجاهلية يحرمونه ولا يتعرّضون لأهل "مكة"، وكانوا يسمون قريشاً: أهل الله تعظيماً له، ثم اعتبر فيه أمر الصيد حتى أن الكلب ليَهُمَّ بالظَّبي خارج الحرم فيفر الظبي منه فيتبعه الكلب، فإذا دخل الظبي الحرم لم يتبعه الكَلْب قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح "مكة":
"إنَّ هَذَا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللهُ ـ تَعَالَى ـ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ ـ تَعَالَى ـ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، لاَ يُعْضَدُ شُوْكُهُ، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلاَ يَلْتَقِطُ لٌقَطَتَهُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا، وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا فقال العباسرحمه الله : يا رسول الله إلا الإذْخِرَ. فقال: إلاَّ الإذْخِرَ" .
فصل في أنه هل يجوز القتال في الحرم؟
قال الشَّافعيرحمه الله ـ تعالى ـ ورضي عنه: إذا دخل البيت من وجب عليه حَدٌّ فلا تستوف منه، لكن الإمام يأمر بالتضييق عليه حتى يخرج من الحرم، فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحلّ، فإن لم يخرج حتى قتل في الحرم جاز، وكذلك من قاتل في الحرم جاز قتله فيه.
وقال أبو حنيفة ـ رضي الله عنه: لا يجوز.
واحتج الشافعي ـ رضي الله عنه ـ بأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أمر عندما قتل عاصم بن ثابت بن الأفلح وخبيب بقتل أبي سفيان في داره بـ "مكة" غيلة إن قدر عليه، وهذا في الوقت الذي كانت "مكة" فيه محرمة، وذلك يدل أنها لا تمنع أحداً من شيء وجب عليه، وأنها إنما تمنع من أن ينصب الحرب عليها كما ينصب على غيرها.
واحتج أبو حنيفة ـرحمه الله ـ بهذه الآية.
والجواب عنه أن قوله: "وأمناً" ليس فيه بيان أنه جعله آمناً في ماذا؟ فيمكن أن يكون آمناً من القَحْط، وأن يكون آمناً من نَصْب الحروب، وأن يكون آمناً من إقامة الحُدُود، وليس اللفظ من باب العموم حتى يحمل على الكل، بل حَمْلُه على الأمن من القَحْط والآفات أَوْلَى؛ لأنا على هذا التفسير لا نحتاج إلى حمل لفظ الخبر على معنى الأمر، وفي سائر الوجوه نحتاج إلى ذلك، فكان قول الشَّافعيرحمه الله أولى.
قوله تعالى: "واتَّخِذُوا" قرأ نافع وابن عامر: "واتَّخَذُوا" فعلاً ماضياً على لفظ الخبر، والباقون على لفظ الأمر.
فأما قراءة الخبر ففيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه معطوف على "جَعَلْنَا" المخفوض بـ "إذ" تقديراً، فيكون الكلام جملة واحدة.
الثاني: أنه معطوف على مجموع قوله: "وإذْ جَعَلْنَا" فيحتاج إلى تقدير "إذْ" أي: وإذ اتَّخّذُوا، ويكون الكلام جملتين.
الثالث: ذكره أبو البقاء أن يكون معطوفاً على محذوف تقديره: فثابوا واتخذوا.
وأما قراءة الأمر ففيها أربعة أوجه:
أحدها: أنها عطف على "اذكروا" إذا قيل بأن الخطاب هنا لبني إسْرَائِيل، أي: اذكروا نعمتي واتخذوا.
والثاني: أنها عطف على الأمر الذي تضمنه قوله: "مثابة"، كأنه قال: ثوبوا واتخذوا، ذكر هذين الوجهين المَهْدَوِي.
الثالث: أنه مفعول لقول محذوف، أي: وقلنا: اتخذوا، إن قيل بأن الخطاب لإبراهيم وذريته، أو لمحمد عليه الصلاة والسلام وأمته.
الرابع: أن يكون مستأنفاً ذكره أبو البقاء.
قوله تعالى: "مِنْ مَقَامِ" في "من" ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها تبعيضية، وهذا هو الظاهر.
الثاني: أنها بمعنى "في".
الثالث: أنها زائدة على قول الأخفش، وليس بشيء.
والمقام هنا مكان القيام، وهو يصلح للزمان والمصدر أيضاً. وأصله: "مَقْوَم" فأعل بنقل حركة "الواو" إلى السَّاكن قبلها، وقلبها ألفاً، ويعبر به عن الجماعة مجازاً؛ كما يعبر عنهم بالمجلس؛ قال زهير: [الطويل]

778ـ وفِيهِمْ مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمْ وَأَنْدِيَةٌ يَنْتَابُهَا القَوْلُ وَالفِعْلُ

قوله: "مُصَلًّى" مفعول "اتَّخِذُوا"، وهو هنا اسم مكان أيضاً، وجاء في التفسير بمعنى قبله.
وقيل: هو مصدر، فلا بد من حذف مضاف أي: مكان صلاة، وألفه منقلبة عن واو، والأصل: "مُصَلَّو"؛ لأن الصلاة من ذوات "الواو" كما تقدم أول الكتاب.
فصل في المقصود بالمقام
اختلفوا في "المقام" فقال الحسن والربيع بن أنس وقتادة: هو موضع الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين غسلت رأسه، فوضع إبراهيم ـ عليه السلام ـ رجله عليه، وهو راكب فغسلت أحد شقّي رأسه، ثم رفعته من تحته، وقد غاصت رجله في الحَجر، فوضعته تحت الرجل الآخرى، فغاصت رجله أيضاً فيه، فجعله الله ـ تعالى ـ من معجزاته يروى أنه كان موضع أصابع رجليه بيِّناً فاندرس من كثرة المسح بالأيدي، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم أن إبراهيم عليه السلام كان يبني البيت وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان:
{ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } [البقرة:127] فلما ارتفع البنيان وضعف إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن وضع الحجارة قام على حجر وهو مقام إبراهيم عليه السلام، وقال مجاهدرحمه الله وإبراهيم النخعي رضي الله عنه: "مقام إبراهيم الحرم كله" وقال يمان: المسجد كله مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
[وقال عطاء: إنه عرفة والمزدلفة والجمار، وقال ابن عباس: "الحج كله مقام إبراهيم"].
واتفق المحققون على أن القول الأول أولى لما روى جابر ـ رحمة الله عليه ـ أنه عليه الصَّلاة والسلام ـ لما فرغ من الطواف أتى المقام، وتلا قوله تعالى: { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }.
وروي أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ مرّ بالمقام، ومعه عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فلم تغب الشمس من فوقهم حتى نزلت الآية، وقال تعالى: { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }.
وليس للصلاة تعلق بالحرم، ولا بسائر المواضع إلا بهذا الموضع، فيكون مقام إبراهيم هو هذا، ولو سأل سائل أهل "مكّة" عن مقام إبراهيم لم يجبه أحد، ولم يفهم منه إلا هذا الموضع لما روي أن الحجر صار تحت قدميه في رُطُوبة الطّين حتى غاصت فيه رِجْلا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وذلك من أظهر الدلائل على وَحْدَانية الله ـ تعالى ـ ومعجزة إبراهيم عليه السلام، فكان اختصاصه بإبراهيم أولى من اختصاص غيره، وثبت في الأخبار أنه قام على هذا الحجر عند المغتسل، ولم يثبت قيامه على غيره، فحمل هذا اللفظ، أعني: مقام إبراهيم ـ عليه السلام ـ على الحجر يكون أولى.
قال القَفَّال: ومن فسر "مقام إبراهيم" بالحجر خرج قوله تعالى: { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } على مجاز قول الرجل: اتخذت من فلان صديقاً، وقد أعطاني الله من فلان أخاً صالحاً، وإنما تدخل "من" لبيان المتخذ الموصوف، ويميزه في ذلك المعنى من غيره.
فصل في تحرير معنى المُصَلّى
اختلفوا في "المُصَلّى".
فقال مجاهدرحمه الله تعالى: "هو الدعاء"، قال تعالى:
{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } [الأحزاب:56] وإنما ذهب إلى هذا التأويل ليتم له قوله: إن الحرم كله مقام إبراهيم.
وقال الحسن رضي الله عنه: أراد به قبلة إبراهيم.
وقال قتادة والسّدي: أمروا أن يصلوا عنده، وهذا القول أولى؛ لأن لفظ "الصَّلاة" إذا أطلق يعقل منه الصَّلاة الشَّرعية وقال عليه الصلاة والسلام لأسامة بن زيد المصلى أمامك يعني به موضع الصلاة. وصلَّى النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم عنده بعد تلاوة الآية. وهاهنا بحثان وهو أن ركعتي الطواف هل هي فرض أو سنة فإن كان الطواف فرضاً فعن الشافعيرحمه الله قولان:
أحدهما: أنهما فرض؛ لهذه الآية، فإن الأمر للوجوب.
والثاني: أنهما سنة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي حين سأله هل عليَّ غيرها؟ قال لا إلاَّ أن تطوع، وإن كان الطواف سنة فهما سنة.
فصل في الكلام على البيت المعمور
روي عن علي ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: البيت المعمور بيت في السماء يقال له الضراح، وهو بجبال الكعبة من فوقها، حرمته في السَّماء كحرمة البيت في الأرض، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا يعودون فيه أبداً.
وذكر علي ـ رضي الله تعالى عنه ـ أنه مر عليه الدهر بعد بناء إبراهيم، فانهدم فبنته العَمَالقة، ومر عليه الدهر فانهدم، فبنته جُرْهم، ومر عليه الدهر فانهدم، بنته قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ شابّ، فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه، فقالوا: يحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السّكة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من خرج عليهم، فقضى بينهم أن يجعلوا الحجر في مِرْطٍ، ثم ترفعه جميعُ القبائل، فرفعوه كلهم فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعه.
وعن الزهري قال: بلغني أنهم وجدوا في مقام إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ثلاثة صفوح في كل صفح كتاب.
في الصفح الأول: أنا الله ذو بَكَّة صنعتها يوم صنعت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حفًّا، وباركت لأهلها في اللحم واللبن.
وفي الصفح الثاني: أنا الله ذو بَكَّة خلقت الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي من وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته.
وفي الثالث: أنا الله ذو بكَّة خلقت الخير والشرّ، فطوبى لمن كان الخير على يديه، وويل لمن كان الشر على يديه. وقال صلوات الله وسلامه عليه:
"الرُّكْنُ وَالمَقَامُ يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَوَاقِيتِ الجَنَّةِ طَمَسَ اللهُ تَعَالَى نُورَهُمَا، وَلَوْلاَ ذَلِكَ لأَضَاءَ لَهُمَا مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، وَما مسهما ذُو عَاهَةٍ وَلاَ سَقِيمٌ إلاَّ شُفِيَ" .
وعن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هَذَا الحَجَرُ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا يَوْمَ القِيَامَةِ وَإنَّهُ كَانَ أَشَدَّ بَيَاضاً مِنَ الثَّلْجِ حَتَّى سَوَّدَتْهُ خَطَايَا أهْلِ الشِّرْكِ" .
وعن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ عن النبي صل الله عليه وسلم أنه قال: "هَذَا الحَجَرُ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَلسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ، يَشْهَدُ عَلَى مَن اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ" .
وعن ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ أنه قَبَّل الحجر الأَسْوَد وقال: "إِنِّي لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، وأن الله ربّي، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبَّلتك".
قوله تعالى: { وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ } تقدم معنى العَهْد.
قيل: معناه ـ هاهنا ـ أمرنا وقيل: أوحينا.
قوله: "وَإسْمَاعِيلَ" إسماعيل علم أعجميٌّ، وفيه لغتان: باللام والنون؛ وعليه قول الشاعر: [الرجز]

779ـ قَالَ جَوَارِي الحَيِّ لَمَّا جِينَا هَذَا وَرَبِّ البَيْتِ إسْمَاعِينَا

ويجمع على: "سَمَاعلة" و "سماعيل" و "أساميع".
ومن أغرب ما نقل في التسمية أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ لما دعا لله أن يرزقه ولداً كان يقول: اسمع إيل اسمع إيل، وإيل هو الله ـ تعالى ـ فسمى ولده بذلك.
قوله: "أَنْ طَهِّرَا" يحوز في "أن" وجهان:
أحدهما: أنها تفسيرية لجملة قوله: "عَهِدْنَا"، فإنه يتضمن معنى القول؛ لأنه بمعنى أمرنا أو وصينا، فهي بمنزلة "أي" التي للتفسير، وشرط "أن" التفسيرية أن تقع بَعْدَما هو بمعنى القول لا حروفه.
وقال أبو البقاء: والمفسرة تقع بعد القول، وما كان في معناه.
فقد غلط في ذلك، وعلى هذا فلا محل لها من الإعراب.
والثاني: أن تكون مصدرية، وخرجت على نظائرها في جواز وصلها بالجملة الأمرية، قالوا: "كتبت إليه بأن قم" وفيها بحث ليس هذا موضعه، والأصل: بأن طهرا، ثم حذفت الباء، فيجيء فيها الخلاف المشهور من كونها في محل نصب، أو خفض.
و "بَيْتِيَ" مفعول به أضيف إليه ـ تعالى ـ تشريفاً وقرأ أهل "المدينة" وحفص "بيتيَ" بفتح الياء هاهنا، وفي سورة "الحج"، وزاد حفص في سورة "نوح" عليه الصلاة والسلام. و "الطائف" اسم فاعل من: "طاف يطوف"، ويقال: أطاف رباعياً، قال: [الطويل]

780ـ أطَافَتْ بِهِ جَيْلاَنُ عِنْدَ قِطَاعِهِ ......................

وهذا من باب "فَعَل وأفْعَل" بمعنى.
فصل في معنى تطهير البيت
يجب أن يراد به تطهير البيت من كل أمر لا يليق به، لأنه موضع الصَّلاة فيجب تطهيره من الشرك، ومن كل ما لا يليق به، وذكر المفسّرون وجوهاً:
أحدها: أن معنى "طَهِّرَا بَيْتِيَ" ابنياه وطَهّراه من الشرك، وأسِّسَاه على التقوى.
وثانيهما: عرّفا الناس أن بيتي طهرة لهم متى حجّوه، وزاروه وأقاموا به.
ومجازه: اجعلاه طاهراً عندهم، كما يقال: فلان يطهر هذا، وفلان ينجسه.
وثالثها: ابنياه، ولا تدعا أحداً من أهل الريب أو الشرك يزاحم الطَّائفين فيه، بل أقرَّاه على طهارته من أهل الكفر والريب كما يقال: طهر الله الأرض من فلان، وهذه التأويلات مبنيّة على أنه لم يكن هناك ما يوجب إيقاع تَطْهيره من الأَوْثَان والشرك، وهو كقوله تعالى:
{ وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } [البقرة:25] فمعلوم أنهنّ لم يطهرن عن نجس، بل خلقن طاهرات، وكذا البيت المأمور بتطهيره خلق طاهراً.
ورابعها: معناه: أن نظّفا بيتي من الأوثان والشرك والمعاصي، ليقتدي الناس بكما في ذلك.
وخامسها: قال بعضهم: إن موضع البيت قبل البناء كان يلقى فيه الجِيف والأقذار، فأمر الله ـ تعالى ـ إبراهيم ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ بإزالة تلك القَاذُورَات وبناء البيت هناك، وهذا ضعيف؛ لأن قبل البناء ما كان البيت موجوداً، فتطهير تلك العَرْصَة لا يكون تطهيراً للبيت، ويمكن أن يجاب عنه بأنه سماه بيتاً، لأنه علم أن مآله إلى أن يصير بيتاً لكنه مجاز.
قوله تعالى: { لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ }.
الطائفين: الدَّائرين حوله والعاكفين المقيمين الملازمين.
و "الرّكع"، جمع "راكع".
والعكوف لغة: اللزوم واللبث؛ قال: [الوافر]

781ـ..................... عَلَيْهِ الطَّيْرُ تَرْقُبُهُ عُكُوفَا

وقال: [الرجز]

782ـ عَكْفَ النَّبِيطِ يَلْعَبُونَ الفَنْزَجَا

ويقال: عَكَفَ يَعْكُفُ وَيَعْكِفُ، بالفتح في الماضي، والضم والكسر في المضارع، وقد قرىء بهما.
و"السُّجُود" يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أنه جمع ساجد نحو: قاعد وقعود، وراقد ورقود، وهو مناسب لما قبله.
والثاني: أنه مصدر نحو: الدخول والقعود، فعلى هذا لا بد من حذف مضاف أي: ذوي السّجود ذكره أبو البقاء.
وعطف أحد الوصفين على الآخر في قوله: "الطَّائِفِينَ والعَاكِفِينَ" لتبايُنِ ما بينهما، ولم يعطف إحدى الصّفتين على الأخرى في قوله: "الرُّكَّعِ السُّجُودِ"، لأن المراد بهما شيء واحد وهو الصلاة إذ لو عطف لتوهم أن كل واحد منهما عبادة على حِيَالِهَا، وجمع صفتين جمع سلامة، وأخْريَيْن جمع تكسير لأجل المقابلة، وهو نوع من الفَصَاحة، وأخر صيغة "فعُول" على "فُعّل"؛ لأنها فاصلة.
فصل في الكلام على الأوصاف الثلاثة المتقدمة
في هذه الأوصاف الثلاثة قولان:
أحدهما: أن يحمل ذلك على فرق ثلاثة؛ لأن من حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه، فيجب أن يكون الطائفون غير العاكفين والعاكفون غير الركع السجود لتصح فائدة العطف.
فالمراد بالطَّائفين: من يقصد البيت حاجًّا أو معتمراً، فيطوف به، والمراد بالعاكفين: من يقين هناك ويجاور، والمراد بالركع السجود: من يصلي هناك.
والثاني: قال عطاء: إنه إذا كان طائفاً فهو من الطائفين، وإذا كان جالساً فهو من العاكفين، وإذا كان مصلياً فهو من الركع السجود. وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ العاكفون هم الذين يصلون عند الكعبة.
خصّ الركوع والسجود بالذكر؛ لأنها أقرب أحوال المصلي إلى الله تعالى.
فصل فيما تدل عليه الآية
هذه الآية تدل على أمور منها:
أنا إذا فسرنا الطائفين بالغرباء، فحينئذ تدل الآية على أن الطواف للغرباء أفضل من الصلاة؛ لأنه ـ تعالى ـ كما خصّهم بالطواف دلّ على أن لهم به مزيد اختصاص.
وروي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء: أن الطواف لأهل الأنصَارِ أفضل، والصلاة لأهل "مكة" أفضل.
ومنها جواز الاعتكاف في البيت.
ومنها جواز الصلاة في البيت فرضاً أو نَفْلاً إذ لم تفرق الآية بين شيئين منها، خلافاً لمن منع جواز الصَّلاة المفروضة في البيت.
فإن قيل: لا تسلم دلالة الآية على ذلك؛ لأنه ـ تعالى ـ لم يقل: والركّع السجود في البيت، وكما لا تدلّ الآية على جواز فعل الطَّواف في جوف البيت، وإنما دلّت على فعله خارج البيت كذلك دلالته مقصورة على جواز فعل الصَّلاة إلى البيت متوجّهة إليه، فالجواب ظاهر لأنه يتناول الرجع السجود إلى البيت، سواء كان ذلك في البيت، أو خارجاً عنها، وإنما أوجبنا وقوع الطواف خارج البيت هو أن يطوف بالبيت، ولا يسمى طائفاً بالبيت مَنْ طاف في جوفه، والله ـ تعالى ـ إنما أمر بالطواف به لا بالطواف فيه، لقوله تعالى:
{ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } [الحج:29].
وأيضاً المراد لو كان التوجه إليه للصلاة، لما كان الأمر بتطهير البيت للركع السجود وجه، إذ كان حاضرو البيت والغائبون عنه سواء في الأمر بالتوجّه إليه.
فإن قيل: احتجّ المخالف بقوله تعالى:
{ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [البقرة:144] ومن كان داخل المسجد الحرام لم يكن متوجّهاً إلى المسجد، بل إلى جزء من أجزائه.
والجواب: أن المتوجّه الواحد يستحيل أن يكون متوجهاً إلى كلّ المسجد، بل لا بد وأن يكون متوجهاً إلى جزء من أجزائه، ومن كان داخل البيت فهو كذلك، فوجب أن يكون داخلاً تحت الآية.
فصل في تطهير جميع بيوت الله
ويدخل في هذا المعنى جميع بيوت الله تعالى، فيكون حكمها حكمه في التطهير والنظافة، وإنما خص الكعبة بالذكر، لأنه لم يكن هناك غيرها.