التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
١٢٧
رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ
١٢٨
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

"إذ" عطف على "إذ" قبلها، فالكلام فيهما واحد.
و "يرفع" في معنى ماضياً؛ لأنها من الأدوات المخلصة المضارع للمضي.
وقال الزمخشري: "هي حكاية حال ماضية" قال أبو حيان: وفيه نظر.
و "القواعد" جمع قاعدة، وهي الأساس والأصل لما فوق، وهي صفة غالبة، ومعناها الثابتة، ومنه "قَعَّدَك الله" أي: أسأل الله تثبيتك، ومعنى رَفْعِها البناءُ عليها؛ لأنه إذا بني عليها نقلت من هيئة الانخفاض إلى الارتفاع.
وأما القواعد من النِّسَاء فمفردها "قاعد" من غير تاء؛ لأن المذكر لا حظَّ له فيها إذ هي من: قَعَدَتْ عن الزوج.
ولم يقل "قواعد البيت"، بالإضافة لما في البيان بعد الإبهام من تفخيم شأن المبين.
[فصل في مشاركة إسماعيل في رفع القواعد
الأكثرون على أن البيت كان موجوداً قبل إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ واختلفوا هل كان إسماعيل شريكاً له في رفع القواعد؟
فالأكثرون على أنه كان شريكاً له؛ للعطف عليه.
وروي عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه لما بنى البيت خرج وخلف إسماعيل وهاجر.
فقالا: إلى من تكلنا؟
قال: إلى الله تعالى، فعطش إسماعيل ولم ير الماء، فناداه جبريل أن اضرب الأرض بأصبعك، فضربها بأصبعه، فنبع زمزم. وهذا ضعيف؛ وذلك لقوله تعالى: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ } وهذا يوجب صرفه إلى المذكور السابق: وهو رفع القواعد].
فصل في الكلام على رفع القواعد
يروى أن الله ـ تبارك وتعالى ـ خلق موضع البيت قبل الأرض بألفي عام، وكانت زبدة بيضاء على الماء، وأنزل الله البيت المعمور من ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زُمُرّد أخضر، وأنزل الله الحجر، كان أبيض فاسود من لمس الحيض في الجاهلية، وأمر الله ـ تعالى ـ آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يحج إليه، ويطوف به.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: حج آدم صلوات الله وسلامه عليه أربعين حجّة من "الهند" إلى "مكة" ماشياً، وكان ذلك إلى أيام الطوفان، فرفعه الله ـ تعالى ـ إلى السماء الرابعة، وبعث جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ حتى خبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس، وكان موضع البيت خالياً إلى زمن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ثم أمر الله ـ تعالى ـ ابراهيم عليه الصلاة والسلام ـ بعد ما ولد إسماعيل ـ عليه الصلاة والسلام ـ ببناء البيت، فسأل الله ـ تعالى ـ أن يبين له موضعه، فبعث الله السّكينة ليدله على موضع البيت، فتبعها حتى أتيا "مكة"، هذا قول علي رضي الله تعالى عنه.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بعث الله سحابة على قدر الكَعْبة، وذهب إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ في ظلها إلى أن وافت "مكة" فوقعت على موضع البيت، فنودي منها يا إبراهيم ابْنِ على ظلها ولا تزد ولا تنقص.
[وقيل: أرسل الله جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ ليدله على موضع البيت قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: بُنِي البيت من خمسة أجبل: طور سيناء، وطور زيتا، ولبنان جبال بالشام، والجودي: جبل بالجزيرة وقواعده من حراء جبل بمكة المشرفة، فلما انتهى لموضع الحجر قال لإسماعيل ـ عليه الصلاة والسلام ـ يطلبه فصاح أو قُبيس: يا إبراهيم إنّ لك عندي وديعة فخذها، فأخذ الحجر الأسود، فوضعه مكانه.
وقيل: إن الله تبارك وتعالى بنى البيت المعمور في السماء، وسمي "صراح"، وأمر الملائكة أن يبنوا الكعبة في الأرض بحياله على قدره وبقية الكلام على البيت يأتي في سورة "الحج" إن شاء الله ـ تعالى ـ والله أعلم].
قوله: "من البيت" فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلّق بـ "يرفع" ومعناها ابتداء الغاية.
والثاني: أنها في محل نصب على الحال من "القواعد"، فيتعلّق بمحذوف تقديره: كائنة في البيت، ويكون معنى "من" التبعيض [روى ابن كثير ـرحمه الله ـ عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما، "أن القواعد حجارة كأسنمة البخت بعضها من بعض، وحكى عن رجل من قريش ممن كان يهدمها أدخل عتلة بين حجرين منها؛ ليخرج بها أحدهما، فتحركا تحرك الرجل، فانتفضت مكة بأسرها، فانتهوا عن ذلك الأساس".
وقيل: أبصر القوم برقة، كادت تخطف بصر الرجل فبرأ الرجل من يده، فوقع في موضعه، فتركوه ورجعوا إلى بنيانهم].
قوله: "وَإٍسْمَاعِيلُ" فيه قولان:
أحدهما: وهو الظاهر ـ أنه عطف على "إبراهيم"، فيكون فاعلاً مشاركاً له في الرفع، ويكون قوله: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ } في محلّ نصب بإضمار القول، ذلك القول في محل نصب على الحال منهما، أي: يرفعان يقولان: ربنا تقبل، ويؤيد هذا قراءة عبد الله بإظهار فعل القول، قرأ: "يَقُولاَنِ: رَبَّنَا تَقَبَّلْ" أي: قائلين ذلك، ويجوز ألا يكون هذا القول حالاً، بل هو جملة معطوفة على ما قبلها، ويكون هو العامل في "إذ" قبله، والتقدير: يقولان: ربنا تقبل إذ يرفعان، أي: وقت رفعهما.
والثَّاني: الواو [واو الحال]، و "إسماعيل" مبتدأ وخبره قول محذوف هو العامل في قوله: "رَبَّنَا تَقَبَّلْ" فيكون إبراهيم هو الرَّافع، وإسماعيل هو الدَّاعي فقط، قالوا: لأن إسماعيل كان حينئذ طفلاً صغيراً، ورَوَوْه عن علي ـ رضي الله عنه ـ والتقدير إذ يرفع إبراهيم حال كون إسماعيل يقول: ربنا تقبل منّا.
وفي المجيء بلفظ "الرب" جل وعز تنبيه بذكر هذه الصفة على التربية والإصلاح.
و "تقبّل" بمعنى "اقبل"، فـ "تَفَعَّلْ" هنا بمعنى المجرد.
وتقدم الكلام على نحو "إنك أنت السميع" من كون "أنت" يجوز فيه التأكيد والابتداء والفَصْل. وتقدمت صفة السَّمع، وإن كان سؤال التقبل متأخراً عن العمل للمجاورة، كقوله تعالى
{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ } [آل عمران:106] وتأخرت صفة العلم، لأنها فاصلة، ولأنها تشمل المسموعات وغيرها.
[فإن قيل: قوله: { إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } يفيد الحصر، وليس الأمر كذلك، فإن غيره قد يكون سميعاً.
فالجواب أنه تعالى لكماله في هذه الصفة كأنه هو المختص بها دون غيره].
قوله: "مسلمين" مفعول ثاني للجعل؛ لأنه بمعنى [التصيير، والمفعول الأول هو] "نا".
وقرأ ابن عباس "مُسْلِمِيْنَ" بصيغة الجمع وفي ذلك تأويلان:
أحدهما: أنهما أجريا التثنية مجرى الجمع، وبه استدل من يجعل التثنية جمعاً.
والثاني: أنهما أرادا أنفسهما وأهلهما كـ "هاجر".
قوله: "لك" فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلق بـ "مسلمين" لأنه بمعنى نُخْلص لك أوجهنا نحو:
{ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ } [آل عمران:20] فيكون المفعول محذوفاً لفهم المعنى.
والثاني: أنه نعت لمسلمين أي: مسلمين مستقرين لك أي مستسلمين. والأول أقوى معنى.
فصل فيمن استدل بهذه الآية على القول بخلق الأعمال
استدلوا بهذه الآية على خلق الأعمال بقوله: { رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ }، فإن الإسلام إما أن يكون المراد منه الدين والاعتقاد، أو الاستسلام والانقياد، وكيف كان فقد رغبا في أن يجعلهما بهذه الصفة لا معنى له إلاّ خَلْق ذلك فيهما، فإن [الجعل] عبارة عن الخلق.
قال الله تعالى:
{ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّورَ } [الأنعام:1] فدلّ هذا على أن الإسلام مخلوق لله تعالى.
فإن قيل: هذه الآية الكريمة متروكة الظاهر؛ لأنها تقتضي أنهما وقت السُّؤال [كانا] غير مسلمين إذ لو كانا مسلمين لكان طلب أن يجعلهما مسلمين طلباً لتحصيل الحاصل، وإنه باطل، لكن المسلمين أجمعوا على أنهما كانا في ذلك الوقت مسلمين؛ ولأن صدور هذا الدُّعَاء منهما لا يصلح إلاَّ بعد أن كانا مسلمين، وإذا ثبت أن الآية متروكة الظاهر لم يجز التمسّك بها، سلمنا أنها ليست متروكة الظاهر، لكن لا نسلم أن الجَعْل عبارة عن الخَلْق والإيجاد بل له معانٍ أخر سوى الخلق:
أحدها: "جعل" بمعنى "صيّر"، قال [الله] تعالى:
{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ لِبَاساً وَٱلنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ ٱلنَّهَارَ نُشُوراً } [الفرقان:47].
وثانيها: "جعل" بمعنى "وهب"، تقول: جعلت لك هذه الضيعة وهذا العبد وهذا الغرس.
وثالثها: [جعل] بمعنى الوصف للشيء والحكم به كقوله تعالى:
{ وَجَعَلُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَاثاً } [الزخرف:19].
وقال:
{ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ } [الأنعام:10].
ورابعها: "جعل" كذلك بمعنى الأمر كقوله تعالى:
{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً } [السجدة:24] يعنى أمرناهم بالاقتداء بهم، وقال: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } [البقرة:124] فهو الأمر.
وخامسها: أن يجعله بمعنى التعليم كقوله: جعلته كاتباً [وشاعراً] إذا علمته ذلك.
وسادسها: البيان والدّلالة تقول: جعلت كلام فلان باطلاً إذا أوردت [من الحجة] ما بين بطلان ذلك. إذ ثبت ذلك فنقول: لم لا يجوز أن يكن المراد وصفهما بالإسلام، والحكم لهما بذلك كما يقال: جعلني فلان لصّاً، وجعلني فاضلاً أديباً إذا وصفه بذلك سلّمنا أن المراد من الجَعْل الخَلْق، لكن لم لا يجوز أن يكون المراد منه خلق الألطاف الداعية لهما إلى الإسلام، وتوفيقهما لذلك؟ فمن وفّقه الله لهذه الأمور حتى يفعلها، فقد جعله الله مسلماً له، ومثاله من يؤدّب ابنه حتى يصير أديباً، فيجوز أن يقال: صيّرتك أديباً، وجعلتك أديباً، وفي خلاف ذلك يقال: جعل ابنه لصّاً محتالاً.
سلمنا أن ظاهر الآية الكريمة يقتضي كونه ـ تعالى ـ خالقاً للإسلام، لكنه على خلاف الدَّلاَئل العقلية، فوجب ترك القول به.
وإنما قلنا [إنه] على خلاف الدَّلائل العقلية؛ لأنه لو كان فعل العَبْد خلقاً لله ـ تعالى ـ لما استحق العبد به مدحاً ولا ذمّاً، ولا ثواباً ولا عقاباً، ولوجب أن يكون الله ـ تعالى ـ هو المسلم المطيع لا العبد.
والجواب: قوله: الآية متروكة الظاهر.
[قلنا]: لا نسلّم وبيانه من وجوه:
الأول: أن الإسلام عرض قائم بالقلب، وأنه لا يبقى زمانين فقوله: "واجعلنا مسلمين لك" أي: اخلق هذا العرض، فينافي الزمان المستقبل دائماً، وطلب تحصيله في الزمان المستقبل لا ينافي حصوله في الحال.
الثاني: أن يكون المراد منه الزِّيَادة في الإسلام كقوله:
{ لِيَزْدَادُوۤاْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ } [الفتح:4] { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى } [محمد:17] ويؤيد هذا قوله تعالى { وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [البقرة:260] فكأنهما دعواه بزيادة اليقين والتصديق، وطلب الزيادة لا ينافي حصول الأصل في الحال.
الثالث: أن "الإسلاَم" إذا أطلق يفيد الإيمان والاعتقاد أما إذا أضيف بحرف "اللام" كقوله: "مُسْلِمَيْنِ لَكَ"، فالمراد الاستسلام له والانقياد والرِّضا بكل ما مقدر [وترك المنازعة في أحكام الله ـ تعالى ـ وأقضيته، فلقد كانا عارفين مسلمين لكن لعله بقي في قلوبهما نوع من المنازعة الحاصلة بسبب البشرية، فأراد أن يزيل الله ذلك عنهما بالكلية ليحصل لهما مقام الرضا بالقضاء على سبيل الكمال] فثبت بهذه الوجوه أن الآية ليست متروكة الظاهر.
قوله: يحمل الجعل على الحكم بذلك فلا نسلم أن الموصوف إذا حصلت الصفة له فلا فائدة في الصفة، وإذا لم يكن المطلوب بالدعاء هو مجرد الوصف، وجب حمله على تحصيل الصفة، ولا يقال: وصفه تعالى بذلك ثناء ومدح، وهو مرغوب له فيه.
قلنا: نعم! لكن الرغبة في تحصيل نفس الشيء أكثر من تحصيل الرغبة في تحصيل الوَصْف به والحكم به، فكان حمله على الأول أولى.
وأيضاً أنه متى حصل الإسلام فيهما فقد استحقا التسمية بذلك والله ـ تعالى ـ لا يجوز عليه الكذب، فكان ذلك الوصف حاصلاً، وأي فائدة في طلبه بالدعاء.
وأيضاً أنه لو كان المراد به التسمية لوجب أن كلّ من سمى إبراهيم مسلماً جاز أن يقال: جعله مسلماً.
أما قوله: يحمل ذلك على فعل الألطاف.
فالجواب: هذا مدفوع من وجوه:
أحدها: أن لفظ الجَعْل مضاف إلى "الإسلام"، فصرفه عنه إلى غيره ترك للظاهر.
وثانيها: أن تلك الألْطَاف قد فعلها الله ـ تعالى ـ وأوجدها، وأخرجها إلى الوجود على مذهب المعتزلة، فطلبها يكون طلباً لتحصيل الحاصل، وإنه غير جائز.
وثالثها: أن تلك الألطاف إما أن يكون لها أثر في تَرْجيح جانب الفعل على الترك أو لا.
فإن لم يكن لها أثر في هذا الترجيح لم يكن ذلك لطفاً.
وإن كان لها أثر في الترجيح، فنقول: متى حصل الرجحان فقد حصل الوجوب، وذلك أن مع حصول ذلك القدر من الترجيح، إما أن يجب الفعل، أو يمتنع، أو لا يجب أصلا ولا يمتنع.
فإن وجب فهو المطلوب.
وإن امتنع فهو مانع لا مرجح، وإن لم يجب ولا يمتنع فحينئذ يمكن وقوع الفعل معه تارة ولا وقوعه أخرى فاختصاص وقت الوقوع بالوقوع: إما أن يكون لانظمام أمر إليه لأجله تميز ذلك الوقت بالوقوع أو ليس كذلك فإن كان الأول كان المرجح مجموع اللطف مع هذه الضميمة الزائدة فلم يكن لهذا اللطف أثر في الترجيح أصلاً، وقد فرضناه كذلك هذا خلف.
وإن كان الثاني لزم رجحان أحد طرفي الممكن المساوي على الآخر من غير مرجّح وهو محال، فثبت أن القول بهذا اللطف غير معقول.
قوله: الدلائل العقلية دلت على امتناع وقوع فعل العبد بخلق الله ـ تعالى ـ وهو فصل المدح والذم.
قلنا: إنه معارض بسؤال العلم وسؤال الداعي على ما تقدم.
قال القرطبي: سألاه التثبت والدوام و "الإسلام" في هذا الموضع: الإيمان والأعمال جميعاً، منه قوله تعالى:
{ إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ } [آل عمران:19]، وكفى هذا دليلاً لمن قال إن الإيمان والإسلام هما شيء واحد، ويؤيده قوله تعالى: { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [الذاريات:35، 36] والله أعلم.
قوله: { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً } فيه قولان:
أحدهما ـ وهو الظاهر ـ أن "من ذرّيتنا" صفة لموصوف محذوف وهو مفعول أول، و "أمة مسلمة" مفعول ثاني تقديره: واجعل فريقاً من ذرّيتنا أمة مسلمة.
وفي "من" حينئذ ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها للتبعيض.
والثاني: أجازه الزمخشري ـ أن تكون للتبيين، قال تبارك وتعالى:
{ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ } [النور:55].
الثالث: أن تكون لابتداء غاية الجعل، قاله أبو البقاء.
والثاني: من القولين: أن يكون "أمة" هو المفعول الأول، و "من ذرّيتنا" حال منها؛ لأنه في الأصل صفة نكرة، فلما قدم عليها انتصب حالاً، و "مسملة" هو المفعول الثاني، والأصل: واجعل الأمة من ذريتنا مسلمة، فـ "الواو" داخلة في الأصل على "أمة"، وإنما فصل بينهما بقوله: "مِنْ ذُرِّيَّتِنَا" وهو جائز؛ لأنه من جملة الكلام المعطوف، وفي إجازته ذلك نظر، فإن النحويين كأبي عليٍّ وغيره منعوا الفصل بالظَّرف [بين حرف العطف] إذا كان على حرف واحد وبين المعطوف وجعلوا منه قوله: [المنسرح]

786ـ يَوْماً تَرَاهَا كَشِبْهِ أَرْدِيةِ الْـ ـعَصْبِ وَيَوْماً أَدِيمُها نَغِلاَ

ضرورة، فالفصل في الحال أبعد، وصار ما أجازه نظير قولك: "ضرب الرجل ومتجردة المرأة زيد" وهذا غير فصيح، ولا يجوز أن يكون أجعل المقدرة بمعنى أخلْقُ وأُوْجِد، فيتعدى لواحد، ويتعلق "من ذرّيتنا" به، ويكون "أمة" مفعولاً به، لأنه إن كان من عطف المفردات لزم التشريك في العامل الأول، والعامل الأول ليس معناه "اخلق" إنما معناه "صَيِّرْ".
وإن كان من عطف الجمل، فلا يحذف إلا ما دلّ عليه المنطوق، والمنطوق ليس بمعنى الخلق، فكذلك المحذوف ألا تراهم منعوا في قوله:
{ هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ } [الأحزاب:43] أن يكون التقدير: وملائكته يصلون لاختلاف مدلول الصَّلاتين، وتأولوا ذلك على قدر مشترك بينهما، وقوله: "لك" فيه الوجهان المتقدمان بعد "مسلمين".
فصل
إنما خص بعضهم؛ لأنه ـ تعالى ـ أعلمهما [أن] في ذريتهما الظالم بقوله
{ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } [البقرة:124].
وقيل: أراد به العرب؛ لأنهم من ذريتهما.
وقيل: هم أمّة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقوله تعالى:
{ وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ } [البقرة:129].
فإن قيل: قوله:
{ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } [البقرة:124] كما يدلّ على أن في ذرّيته من يكون ظالماً فكذلك [يوجب فيهم من لا يكون ظالماً]، فإذن كون بعض ذريته أمة مسلمة صار معلوماً بتلك الآية، فما الفائدة في طلبه بالدعاء مرة أخرى؟
فالجواب: تلك الدلالة ما كانت قاطعة، والشفيق بسوء الظن مولع.
فإن قيل: لم خص ذريتهما بالدعاء أليس أن هذا يجرى مجرى البُخْل في الدعاء؟
فالجواب: الذرية أحق بالشفقة والمصلحة قال الله تعالى:
{ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [التحريم:6] ولأن أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم غيرهم.
والأمة هنا: الجماعة، وتكون واحداً إذا كان يقتدى به في الخير، ومنه قوله تعالى:
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِّلَّهِ } [النحل:120]. وقد يطلق لفظ الأمّة على غير هذا المعنى [كقوله تعالى: { إنا وجدنا آباءنا على أمة } أي دين وملة]. ومنه قوله تعالى: { إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } [الأنبياء:92].
وقد تكون بمعنى الحِيْن والزمان، ومنه قوله تعالى:
{ وَٱدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } [يوسف:45] أي: بعد حين وزمان.
ويقال هذا أمة زيد، أي أُمُّ زيدٍ، والأمة أيضاً: القامة، يقال: فلان حسن الأُمَّة، أي: حسن القامة؛ قال: [المتقارب]

787ـ وَإِنَّ مُعَاوِيَة الأَكْرمِيـ ـنَ حِسَانُ الْوُجُوهِ طِوَالُ الأُمَمْ

وقيل: الأمة الشَّجَّة التي تبلغ أم الدماغ، يقال: رجل مأموم وأميم نقله القرطبي.
قوله: "وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا" الظّاهر أن الرؤية هنا بصرية، فرأى في الأصل يتعدّى لواحد، فلما دخلت همزة النقل أكسبتها مفعولاً ثانياً، فـ "نا" مفعول أول، و "مناسكنا" مفعول ثان.
وأجاز الزمخشري أن تكون منقولة من "رأى" بمعنى عرف، فتتعدى أيضاً لاثنين كما تقدم، وأجاز قوم فيما حكاه ابن عطية أنها هنا قلبية، والقلبية تقبل [النَّقْل] لاثنين كقول القائل: [الطويل]

788ـ وَإِنَّا لَقَوْمٌ مَا نَرَى الْقَتْل سُبَّةً إِذَا مَا رَأَتْهُ عَامِرٌ وَسَلُولُ

وقال الكُمَيْت: [الطويل]

789ـ بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةٍ تَرَى حُبَّهُمْ عَاراً عَليَّ وَتَحْسِبُ

وقال ابن عطية: ويلزم قائله يتعدّى الفعل منه إلى ثلاثة، وينفصل عنه بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب كغير المعدى؛ وأنشد قول حُطَائِطَ بْنِ يَعْفُرَ: [الطويل]

790ـ أَرِينِي جَوَاداً مَاتَ هُزْلاً لأَنِنَّي أََرَى ما تَرَيْنَ أَوْ بَخِيلاً مُخَلَّدَا

يعني: أنه قد تعدت "علم" القلبية إلى اثنين، سواء كانت مجردة من الهمزة أم لا، وحينئذ يشبه أن يكون ما جاء فيه "فَعِلَ وأَفْعَل" بمعنى وهو غريب، ولكن جَعْلَه بيت حطَائط من رؤية القلب ممنوع، بل معناه من رؤية البَصَرِ، ألا ترى أن قوله: "جواداً مات" من متعلقات البصر، فيحتاج في إثبات تعدي "أعلم" القلبية إلى اثنين إلى دليل.
وقال بعضهم: هي هنا بصرية قلبية معاً؛ لأن الحج لا يتم إلاّ بأمور منها ما هو معلوم ومنها ما هو مبصر.
ويلزمه على هذا الجمع بين الحقيقة والمجاز، أو استعمال المشترك في معنييه معاً.
وقرأ الجمهور: { أَرِنَا } بإشباع كسر "الراء" هنا، وفي [النساء:153] وفي [الأعراف:143] { أَرِنِيۤ أَنظُرْ }، وفي [فصلت:29] { أَرِنَا ٱلَّذَيْنِ }.
وقرأ ابن كثير بالإسْكَان في الجميع، ووافقه في "فصلت" ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، واختلف عن أبي عمرو، فروي عن السوسي موافقة ابن كثير بالإسكان في الجميع، وروى عنه الدَّوري اختلاس الكَسْر فيها.
أما الكسر فهو الأصل.
وأما الاختلاس فحسن مشهور.
وأما الإسكان فللتخفيف، شبهوا المتصل بالمنفصل فسكنوا كسره، كما قالوا في فَخِذ: فَخْذ، وكَتِف: كَتْف.
وقد غلط قوم راوي هذه القراءة.
وقالوا: صار كسر الراء دليلاً على الهمزة المحذوفة، فإن أصله: "أرئنا" ثم نقل.
قال الزمخشري تابعاً لغيره: قال الفارسي: التغليط ليس بشيء لأنها قراءة متواترة، وأما كسرة الراء فصارت كالأصل؛ لأن الهمزة مرفوضة الاستعمال.
وقال أيضاً: ألا تراهم أدغموا في
{ لَّٰكِنَّاْ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّي } [الكهف:38]، والأصل "لكن أنا" نقلوا الحركة، وحذفوا، ثم أدغموا، فذهاب الحركة في "أرنا" ليس بدون ذهابها في الإدغام، وأيضاً فقد سمع الإسكان في هذا الحرف نصّاً عن العرب؛ قال القائل: [البسيط]

791ـ أَرْنَا إِدَاوَةَ عَبْدِ اللهِ نَمْلَؤُهَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ إِنَّ الْقَوْمَ قَدْ ظَمِئُوا

وأصل أرنا: أَرئنَا، فنقلت حركة "الهمزة" إلى "الراء" وحذفت هي، وقد تقدم الكلام بأشبع من هذا عند قوله: { حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً } [البقرة:55].
و "المناسك" واحدها: "مَنْسِك" بفتح العين وكسرها، وقد قرىء بهما والمفتوح هو المقيس لانضمام عين مضارعه.
ويقال: المنسك بفتح السين بمعنى الفعل وبكسر السين بمعنى الموضع، كالمسجد والمشرق والمغرب.
قال الله تعالى:
{ لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ } [الحج:67] قرىء بالفتح والكسر، وظاهر الكلام يدلّ على الفعل، وكذلك قوله عليه السلام "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" أمرهم بأن يتعلّموا أفعاله في الحجّ، لا أنه أراد: خذوا عنِّي مواضع نسككم، وبعض المفسرين حمل المَنَاسك على الذبيحة فقط.
قال ابن الخطيب: وهو خطأ، لأن الذبيحة إنما تسمى نسكاً لدخولها تحت التعبُّد، [لا لكونها مذبوحة] ولذلك لا يسمون ما يذبح للأكل بذلك.
قال القرطبي: [قوله تعالى: "مَنَاسِكَنَا" يقال]: إن أصل النُّسك في اللغة الغَسْل، يقال منه نسك ثوبه إذا غسله.
وهو في الشرع اسم للعبادة، يقال: رجل ناسك إذا كان عابداً.
فصل في تسمية عرفات
وقال الحَسَن: إن جبريل ـ عليه السلام ـ أرى إبراهيم المناسك كلّها حتى بلغ "عرفات"، فقال: يا إبراهيم أعرفت ما رأيتك من المناسك؟ قال: نعم [فسميت "عرفات"] فلما كان يوم النحر أراد أن يزور البيت فعرض له إبليس فسد عليه الطريق، فأمره جبريل ـ عليه السلام ـ بأن يرميه بسبع حَصَيات، ففعل فذهب الشيطان، ثم عرض له في اليوم الثاني والثالث والرابع كلّ ذلك يأمره جبريل ـ عليه السلام ـ برمي سَبْعِ حصيات.
فبعضهم حمل المناسك هنا على [شعائر] الحج، وأعماله كالطواف والسعي والوقوف.
وبعضهم حمله على المواقف والمواضع التي يقام فيها شرائع الحج، مثل "منى" و "عرفات" و "المزدلفة" ونحوها.
وبعضهم حمله على المجموع.
فصل في استلام الأركان
قال ابن إسحاق: وبلغني أن آدم ـ عليه السلام ـ كان يَسْتَلِمُ الأركان كلها قبل إبراهيم عليه السلام.
وقال: حج إسحاق وسارة من "الشَّام"، وكان إبراهيم ـ عليه السلام ـ يحجه كل سَنَةٍ على البُرَاق، وحجّه بعد ذلك الأنبياء والأمم.
وروى محمد بن سابط عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال:
"كَانَ النَّبِيُّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ إذَا هَلَكَتْ أُمَّتُهُ لَحِقَ مَكَّةَ فَتَعَبَّدَ بِهَا هُوَ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ حَتَّى يَمُوتُوا، فَمَاتَ بِهَا نُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَقُبورُهُمْ بَيْنَ زَمْزَمَ وَالحَجرِ" .
وذكر ابن وهب أن شعيباً مات بـ "مكة" هو ومن معه من المؤمنين، فقبورهم في غربيّ "مكة" بين دار الندوة وبين بني سهم.
وقال ابن عباس: في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما، قبر إسماعيل وقبر شعيب عليهما السلام، فقبر إسماعيل في الحجر، وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود.
وقال عبد الله بن ضمرة السلولي: ما بين الرُّكن والمقام إلى زمزم قبور تسعة وتسعين نبيّاً جاءوا حجاجاً فقبروا هنالك، صلوات الله عليهم أجمعين.
قوله: "وتب علينا" احتج به من جوز الذنب على الأنبياء قال: لأن التوبة مشروطة بتقدم الذنب، فلولا تقدم الذنب، وإلاَّ لكان طلب التوبة طلباً للمحال.
قالت المعتزلة: الصغيرة تجوز على الأنبياء.
ولقائل أن يقول: إن الصَّغائر قد صارت مكفّرة بثواب فاعلها، وإذا صارت مكفرة فالتوبة عنها مُحَال؛ لأن تأثير التوبة في إزالتها وإزالة الزائل محال.
قال ابن الخطيب: وهاهنا أجوبة تصلح لمن جوز الصغيرة، ولمن لم يجوزها، وهي من وجوه:
أولها: يجوز أن يأتي بصورة التوبة تشدُّداً في الانصراف عن المعصية؛ لأن من تصور نفسه بصورة النَّادم العازم على التحرز الشديد، كان أقرب إلى ترك المعاصي.
وثانيها: أن العبد وإن اجتهد في طاعة ربه، فإنه لا ينفكّ عن التَّقْصِير من بعض الوجوه: إما على سبيل السهو أو على سبيل ترك الأولى، فكان هذا الدعاء لأجل ذلك.
وثالثها: أنه ـ تعالى ـ لما أعلم إبراهيم ـ عليه السلام ـ أن في ذريته من يكون ظالماً عاصياً، لا جرم سأل هاهنا أن يجعل بعض ذرّيته أمة مسلمة، ثم طلب منه أن يوفق أولئك العُصَاة للتوبة فقال: "وَتُبْ علَيْنَا" أي على المُذْنبين من ذرّيتنا، والأب المشفق على ولده إذا أذنب ولده، فاعتذر الوالد عنه، فقد يقول: أجرمت وعصيت فاقبل عُذْري، ويكون مراده: أن ولدي أذنب فاقبل عُذْره؛ لأن ولد الإنسان يجري مجرى نفسه، والذي يقوي هذا التأويل وجوه:
الأول: ما حكى الله ـ تعالى ـ في سورة "إبراهيم" أنه قال:
{ وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [إبراهيم:35ـ36].
فيحتمل أن يكون المعنى: ومن عصاني فإنك قادر على أن تتوب عليه إن تاب، وتغفر له ما سلف من ذنوبه.
الثاني: ذكر أن في قراءة عبد الله: { وَأَرِهِمْ مَنَاسِكَهُمْ وَتُبْ عَلَيْهم }.
الثالث: أنه قال عطفاً على هذا:
{ رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ } [البقرة:129].
الرابع: تأولوا قوله تعالى:
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } [الأعراف:11] بجعل خلقه إياه خلقه لهم إذ كانوا فيه، فكذلك لا يبعد أن يكون قوله: "أَرِنَا مَنَاسِكَنَا" أي "ذُرّيتنا".
قال القرطبيرحمه الله تعالى: أجاب بعضهم عن هذا الإشكال فقال: إنهما لما قالا "وَتُبْ علينا" وهم أنبياء معصومون إنما طلبا التثبيت والدوام؛ لأنهما كان لهما ذنب.
قال القرطبي: وهذا حسن، وأحسن منه أن يقال: إنهما لما عرفا المَنَاسك وبنيا البيت أراد أن يبيّنا للناس، ويعرفاهم أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصُّل من الذنوب وطلب التوبة.
فصل فيمن استدل بالآية على خلق الأفعال لله تعالى
دلّت الآية الكريمة على أن فعل العبد خلق الله ـ تعالى ـ لأنه عليه الصلاة والسلام طلب من الله ـ تعالى ـ أن يتوب عليه، فلو كانت التوبة مخلوقة للعبد، لكان طلبها من الله ـ تعالى ـ [مُحَالاً وجهلاً.
قالت المعتزلة: هذا معارض بما أن الله ـ تعالى ـ] طلب التوبة منا. [فقال]
{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً } [التحريم:8] { يا أيها.. توبة نصوحا } ولو كانت فعلاً لله تعالى، لكان طلبها من العبد محالاً وجهلاً، وإذا ثبت ذلك حمل قوله: "وَتُبْ عَلَيْنَا" على التوفيق، وفعل الألطاف، أو على قبول التوبة من العبد.
والجواب: [قال ابن الخَطِيْب] متى لم يخلق الله ـ تعالى ـ داعيةً موجبة للتوبة استحال حصول التوبة، فكانت التوبة من الله ـ تعالى ـ لا من العَبْدِ، وتقرير دليل الداعي قد تقدم غير مرّة.
فصل في معنى التوبة
اعلم أن التوبة هي الرجوع، فمعنى توبة الله ـ تعالى ـ أن يرجع برضاه وتوحيده عليهم، ومعنى توبة العبد أن يرجع عما ارتكبه من المَعَاصي، فمتعلّق التوبة مختلف، وإذا اختلفت التعلّقات ضعفت دلالة الآية الكريمة على مذهب أهل السّنة.
فصل في الدعاء
قال بعضهم: إذا أراد الله من العبد أن يجيب دعاءه، فليدع بأسماء الله المناسبة لذلك الدعاء، فإن كان الدعاء للرحمة والمغفرة، فليدع باسم الغفار والتواب والرحيم وما أشبهه، وإن كان دعاؤه لشر، فليدع بالعزيز والمنتقم، وبما يناسبه. وتقدم الكلام على قوله: { إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ }.