التفاسير

< >
عرض

أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ٱلْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـٰهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
١٣٣
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

"أم" في أم هذه ثلاثة أقوال:
أحدها ـ وهو المشهورـ: أنها منقطعة والمنقطعة تقدر بـ "بل"، وهمزة الاستفهام.
وبعضهم يقدرها بـ "بل" وحدها، ومعنى الإضراب انتقال من شيء إلى شيء لا إبطال.
ومعنى الاستفهام الإنكار والتوبيخ فيؤول معناه إلى النفي، أي: بل أكنتم شهداء يعني لم تكونوا.
الثاني: أنها بمعنى همزة الاستفهام، وهو قول ابن عطية والطبري، إلا أنهما اختلفا في محلها.
فإن ابن عطية قال: و "أم" تكون بمعنى ألف الاستفهام في صدر الكلام، لغة يمانية.
وقال الطبري: إن أم يستفهم بها وسط كلام قد تقدم صدره.
قال أبو حيان في قول ابن عطية: "ولم أقف لأحد من النحويين على ما قال".
وقال في قول الطبري: وهذا أيضاً قول غريب.
الثالث: أنها متصلة، وهو قول الزمخشري.
قال الزمخشري بعد أن جعلها منقطعة، وجعل الخطاب للمؤمنين قال بعد ذلك: وقيل: الخطاب لليهود؛ لأنهم كانوا يقولون: ما مات نبي إلا على اليَهُودية، إلا أنهم لو شهدوه، وسمعوا ما قاله لبنيه، وما قاله لظهر لهم حرصُه على ملّة الإسلام، وَلَمَا ادَّعوا عليه اليهودية، فالآية الكريمة مُنَافية لقولهم، فكيف يقال لهم: أم كنتم شهداء؟
ولكن الوجه أن تكون "أم" متصلة على أن يقدر قبلها محذوف كأنه قيل: أَتَدَّعُون على الأنبياء اليهودية أم كنتم شهداء، يعني أن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له إذْ أراد بنيه على التوحيد وملّة الإسلام، فما لكم تَدَّعُونَ على الأنبياء ما هم منه براء؟
قال أبو حيان: ولا أعلم أحداً أجاز حذف هذه الجملة، لا يحفظ ذلك في شعر ولا غيره، لو قلت "أم زيد" تريد: "أقام عمرو أم زيد" لم يجز، وإنما يجوز حذف المعطوف عليه مع الواو والفاء إذا دلّ عليه دليل كقولك: "بلى وعمراً" لمن قال: لم يضرب زيداً، وقوله تعالى:
{ فَٱنفَجَرَتْ } [البقرة:60] أي فضرب فانفجرت، وندر حذفه مع "أو"؛ كقوله: [الطويل]

799ـ فَهَلْ لَكَ أَوْ مِنْ وَالِدٍ لَكَ قَبْلَنَا .....................

أي: من أخ أو والد، ومع حتى كقوله: [الطويل]

800ـ فَوَاعَجَبَا حَتَّى كُلَيْبٌ تَسُبُّنِي كَأَنَّ أَبَاهَا نَهْشَلٌ أَوْ مُجَاشِعُ

أي: يسبني الناسُ حتى كليبٌ، على نظر فيه، وإنما الجائز حذف "أم" مع ما عطفت كقوله: [الطويل]

801ـ دَعَانِي إِلَيْهَا الْقَلْبُ إِنِّي لأَمْرِهِ سَمِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلاَبُهَا

أي: أم غَيٌّ، وإنما جاز ذلك؛ لإن المستفهم على الإثبات يتضمّن نقيضه، ويجوز حذف الثواني المقابلات إذا دلّ عليها المعنى، ألا ترى إلى قوله: { تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } [النحل:81] كيف حذف و "الْبَرْدَ" انتهى.
و "شهداء" خبر كان، وهو جمع شاهد أو شهيد، وقد تقدم أول السورة.
قوله: "إذ حضر" إذ منصوب بشهداء على أنه ظرف لا مفعول به أي: شهداء وقت حضور الموت إياه، وحضور الموت كناية عن حضور أسبابه ومقدماته؛ قال الشَّاعر: [البسيط]

802ـ وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالعُذْرِ وَالْتَمِسُوا قَوْلاً يُبَرِّئُكُمْ إِنِّي أَنَا الْمَوْتُ

أي: أنا سببه، والمشهور نصب "يعقوب"، ورفع "الموت"، قدم المفعول اهتماماً وقرأ بعضهم بالعكس.
وقرىء: "حَضِر" بكسر الضاد، قالوا: والمضارع يَحْضُر بالضم شاذ، وكأنه من التداخل وقد تقدم.
قوله: "إذْ قَالَ"، "إذ" هذه فيها قولان:
أحدهما: بدل من الأولى، والعامل فيها، إما العامل في "إذ" الأولى إن قلنا: إن البدل لا على نية تكرار العامل، أو عامل مضمر إن قلنا بذلك.
الثاني: أنها ظرف لـ "حضر".
قوله: "مَا تَعْبُدُونَ"، ما اسم استفهام في محلّ نصب؛ لأنه مفعول مقدم بتعبدون، وهو واجب التقديم؛ لأن له صدر الكلام، وأتى بـ "ما" دون "من" لأحد أربعة معانٍ.
أحدها: أن "ما" للمبهم أمره، فإذا عُلِم فُرّق بـ "ما" و "مَنْ".
[قال الزمخشري: وكفاك دليلاً قول العلماء: "مَن" لما يعقل.
الثاني: أنها سؤال عن صفة المعبود].
قال الزمخشري: كما تقول: ما زيد؟ تريد: أفقيه أم طبيب، أم غير ذلك من الصفات؟
الثالث: أن المعبودات في ذلك الوقت كانت غير عقلاء، كالأوثان والأصنام والشمس والقمر، فاستفهم بـ "ما" التي لغير العاقل، فعرف بَنُوه ما أراد، فأجابوه عنه بالحق.
الرابع: أنه اختبرهم وامتحنهم فسألهم بـ "ما" دون "من"، لئلا يَطْرُق لهم الاهتداء، فيكون كالتلقين لهم، ومقصوده الاختبار.
وأجاب ابن الخطيب بوجهين:
الأول: أن "ما" عام في كل شيء، والمعنى: أي شيء تعبدون.
والثاني: قوله: "مَا تَعْبُدُونَ" كقولك عند طلب الحد والرسم ما الإنسان؟
وقوله: "مِنْ بَعْدي" أي: بعد موتي.
قوله: { قَالُواْ: نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ ءَابَائِكَ }.
تمسّك المُقَلِّدة بهذه الآية الكريمة قالوا: إن أبناء يعقوب اكتفوا بالتقليد، ولم ينكره عليهم.
والجواب: أن هذا ليس تقليداً، وإنما هو إشارة إلى ذكر الدليل على وجود الصَّانع كقوله:
{ يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [البقرة:21] فهاهنا المراد من قوله: { نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ ءَابَائِكَ } أي: نعبد الإله الذي دلّ عليه وجودك، ووجود آبائك.
فصل في نزول هذه الآية
قال القَفّال: وفي بعض التفاسير أن يعقوب ـ عليه السلام ـ لما دخل "مصر" رأى أهلها يعبدون النيران والأوثان، فخاف على بنيه بعد وفاته، فقال لهم هذا القول تحريضاً لهم على التمسّك بعبادة الله تعالى.
وحكى القاضي عن ابن عباس: أن يعقوب ـ عليه السَّلام ـ جمعهم إليه عند الوفاة، وهم كانوا يعبدون الأوثان والنيران، فقال: يا بني ما تبعدون من بعدي؟ قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك.
ثم قال القاضي: هذا بعيد لوجهين:
الأول: أنهم بادروا إلى الاعتراف بالتوحيد مبادرة من تقدم منه العلم واليقين.
الثاني: أنه ـ تعالى ـ ذكر في الكتاب حال الأَسْبَاط من أولاد يعقوب، وأنهم كانوا قوماً صالحين، وذلك لا يليق بحالهم.
[وقال عطاء: إن الله لم يقبض نبياً حتى يخيره بين الموت والحياة، فلما خير يعقوب قال: أنظرني حتى أسأل ولدي وأوصيهم؛ ففعل ذلك به، فجمع ولده وولد ولده، وقال لهم: قد حضر أجلي فما تعبدون من بعدي؟ قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون، والعرب تسمي العم أباً كما تسمي الخالة أماً، وسيأتي الكلام على ذلك قريباً إن شاء الله تعالى].
وقال القَفَّال: وقيل: إنما قدّم ذكر إسماعيل على إسحاق؛ لأن إسماعيل [كان أسنّ من إسحاق].
قوله: "وَإِلَهَ آبَائِكَ" أعاد ذكر الإله، لئلا يَعْطِفَ على الضمير المجرور دون إعادة الجار، والجمهور على "آبائك".
وقرأ الحسن ويحيى وأبو رجاء: "أبيك".
وقرأ أُبّي: "وَإلهَ إِبْرَاهِيمَ" فأسقط "آبائك".
فأما قراءة الجمهور فواضحة.
وفي "إبراهيم" وما بعده حينئذ ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه بدل.
والثاني: أنه عطف بيان، ومعنى البدلية فيه التفصيل.
الثالث: أنه منصوب بإضمار "أعني" فالفتحة على هذا علامة للنصب، وعلى القولين قبله علامة للجر لعدم الصَّرْف، وفيه دليل على تسمية الجَدِّ والعم أباً، فإن إبراهيم جده وإسماعيل عمه، كما يطلق على الخالة أمّ، ومنه:
{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ } [يوسف:100] في أحد القولين.
قال بعضهم: وهذا من باب التَّغليب، يعني: أنه غلب الأب على غيره، وفيه نظر، فإنه قد جاء هذا الإطلاق حيث لا تثنية ولا جمع، فيغلب فيهما.
وأما قراءة "أبيك" فتحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون مفرداً غير جمع، وحينئذ فإما أن يكون واقعاً موقع الجمعِ أو لا، فإنْ كان واقعاً موقع الجمع، فالكلام في "إبراهيم" وما بعده كالكلام فيه على القراءة المشهورة. وإن لم يكن واقعاً موقعَهُ، بل أريد به الإفراد لفظاً ومعنى، فيكون "إبراهيم" وحده على الأوجه الثلاثة المتقدمة، ويكون إسماعيل وما بعده عطفاً على "أبيك"، أي: وإله إسماعيل.
الثاني: يكون جمع سلامة بالياء والنون، وإنما حذفت النون للإضافة، وقد جاء جمع آب على "أبُونَ" رفعاً، و "أبين" جراً ونصباً، حكاها سيبويه؛ قال الشاعر: [المتقارب]

803ـ فَلَمَّا تَبَيَّنَّ أصْوَاتَنَا بَكَيْنَ وَفَدَّيْنَنَا بِالأَبِينَا

ومثله: [الوافر]

804ـ فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إنَّا أَخُوكُمْ .....................

والكلام في إبراهيم وما بعده كالكلام فيه بعد جمع التكسير، وإسحاق: علمٌ أعجميٌّ، ويكون مصدر أسحق، فلو سُمِّي به مذكرٌ لانصرف، والجمع: أساحقةٌ وأساحيق.
قال القرطبي: ولم ينصرف إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق؛ لأنَّها أعجميةٌ.
قال الكسائيُّ: وإن شِئْتَ صرفت "إسحاق"، وجعلته من السّحق، وصرفت "يعقوب" وجعلته من الطَّير.
وسمى الله تعالى كل واحد من العم والجد أباً، وبدأ بذكر الجد، ثم إسماعيل العم؛ لأنَّهُ أكبر من إسحاق.
فصل في تحرير اختلاف الفقهاء في كون الجد أباً
ذهب أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ إلى أن الجد أب، وأسقط به الإخوة، والأخوات، وهو قول أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ وابن عباس وعائشة، وجماعة من الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ ومن التابعين، والحسن، وطاوس وعطاء.
وذهب الشافعي إلى أن الجد لا يسقط الإخوة والأخوات للأب، وهو قول عمر، وعثمان، وعلي ـ رضي الله عنهم ـ وهو قول مالك، وأبي يوسف ومحمد.
واحتج أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ بأدلة منها هذه الآية الكريمة، وأنه أطلق لفظ الأب على الجد.
فإن قيل: قد أطلقَهُ على العمِّ، وهو إسماعيل مع أنه ليس بأب اتفاقاً.
فالجواب: الأصل في الاسْتِعْمَال الحقيقة وترك العمل به في العم لدليل قام به، فيبقى في الثاني حجة.
والثاني: منها قوله ـ تبارك وتعالى ـ مخبراً عن يوسف:
{ وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَآئِـيۤ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَٰقَ } [يوسف:38].
ومنها: ما روى عطاء عن ابن عباس أنَّهُ قال: من شاء لاَعَنْتُهُ عند الحجر الأسود أنّ الجدَّ أب.
وقال أيضاً: ألا لا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابناً، ولا يجعل أب الأب أباً.
واحتجَّ الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ بأدلّة.
منها:
{ وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ } [البقرة:132] فلم يدخل يعقوب في بنيه، بل ميَّزه عنهم، فلو كان الصاعد في الأبوَّة أباً لكان النازل في البنوَّة ابناً في الحقيقة، فلما لم يكن كذلك ثبت أن الجدَّ ليس بأب [ومنها أن الأب لا يصح نفي اسم الأبوة عنه بخلاف الجد، فعلمنا أنه حقيقة من الأب مجاز الجد]. ولو كان الجد أباً على الحقيقة لما صح لِمَنْ مات أبُوه وجدُّه حَيٌّ أن ينفي أنَّ له أباً، كما لا يصح في الأب القريب، ولما صح ذلك علمنا أنه ليس بأب في الحقيقة.
فإن قيل: اسم الأبوة وإن حصل في الكل إلا أنَّ رُتْبَةَ الأدنى أقْرَبُ من رتبةِ الأبعد، فلذلك صح فيه النفي.
فالجواب: لو كان الاسم حقيقة فيهما جميعاً لم يكن الترتيب في الوجود سبباً لنفي اسم الأب عنه.
ومنها: لو كان الجد أباً على الحقيقة لصحَّ القول بأنَّهُ مات، وخلف أُمًّا وآباء كثيرين، وذلك مما لم يطلقه أحدٌ من الفقهاء، وأرباب اللغة، والتفسير.
ومنها: [لو كان الجدُّ أباً ـ ولا شكَّ] أنَّ الصحابة عارفون باللغة ـ لما كانوا يختلفون في ميراث الجد، ولو كان الجد أباً لكانت الجدة أُمًّا، ولو كان كذلك لما وقعت الشُّبهة في ميراث الجدة حتى يحتاج أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ إلى السؤال عنه، [فهذه الدلائل دلت على أنَّ الجدَّ ليس بأب].
ومنها: قوله تعالى:
{ يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنثَيَيْنِ } [النساء:11] فلو كان الجدُّ أباً لكان ابن الابن ابناً لا محالة، فكان يلزم بمقتضى هذه الآية حصول الميراث لابن الابن مع قيام الابن، ولما لم يكن كذلك علمنا أن الجد ليس بأب.
وأما الجواب عن الآية الكريمة فمن وجهين:
الأول: أنه قرأ أُبيّ: "وإلهَ إبْرَاهِيمَ" بطرح "آبائك" إلاَّ أنَّ هذا لا يقدح في الغرض؛ لأن القراءة الشاذَّة لا تدفع القراءة المتواترة.
بل الجواب أن يقال: إنَّه أطلق لفظ الأب على الجدِّ وعلى العمِّ.
"وقال عليه الصلاة والسلام في العبَّاس: هَذَا بَقِيَّةُ آبَائِي" .
وقال: "رُدُّوا عَلَيَّ أبي، فإنِّي أخْشَى أنْ تَفْعَلَ بِهِ قُرَيْشٌ مَا فَعَلَتْ ثَقِيفٌ بِعُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودِ" ، فدلنا ذلك على أنَّهُ ذكره على سبيل المجاز، ولو كان حقيقة لما كان كذلك.
وأمَّا قول ابن عباس فإنما أطلق الاسم عليه نظراً إلى الحكم الشرعي، لا إلى الاسم اللغوي؛ لأن اللغات لا يقع الخلاف فيها بين أهل اللِّسَان.
قوله: "إلهاً واحداً" فيه ثلاثة أَوْجُهٍ:
أحدها: أَنَّهُ بَدَلٌ من "إلهك" بدل نكرة موصوفة من معرفة كقوله:
{ بِٱلنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ } [العلق:15ـ16].
والبصريون لا يشترطون الوصف مستدلين بقوله: [الوافر]

805ـ فَلاَ وَأَبِيكِ خَيْرٍ مِنْكِ إِنِّي لَيُؤْذِينِي التَّحَمْحُمُ والصَّهِيلُ

فـ "خير" بدلٌ من "أبيك"، وهو نكرةٌ غيرُ موصوفةٍ.
والثاني: أنَّهُ حال من "إلهك" والعامل فيه "نعبد"، وفائدة البدل والحال التنصيص على أنَّ معبودهم فَرْدٌ إذْ إضافة الشيء إلى كثير تُوهِم تَعْدَادَ المضاف، فنصَّ بها على نفي ذلك الإبهام. وهذه الحال تسمى "حالاً مُوَطِّئة"، وهي أن تذكرها ذاتاً موصوفة، نحو: جاء زيد رجلاً صالحاً.
الثالث: وإليه نَحَا الزَّمَخْسَرِيُّ: أن يكون منصوباً على الاختصاص، أي: نريد بإلهك إلهاً واحداً.
قالوا: أبو حيَّانرحمه الله : وقد نصّ النحويون على أن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرةً ولا مبهماً.
قوله: { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } في هذه الجملة ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنَّها معطوفةٌ على قوله: "نعبد" يعني: أنها تتمّةُ جوابهم له، فأجابوه بزيادة.
والثاني: أنهَّا حال من فاعل "نعبد"، والعامل "نعبد".
والثالث: وَإليه نَحَا الزَّمخشري: ألاَّ يكون لها محل، بل هي جملة اعتراضيّة مؤكدة، أي: ومن حالنا أنَّا له مخلصون.
قال أبو حيّان: ونصّ النحويون على أنَّ جملة الاعتراض هي التي تفيد تقويةً في الحكم، إمّا بين جزئَيْ صلة وموصول؛ كقوله: [البسيط]

806ـ مَاذَا وَلاَ عَتْبَ في المَقْدُورِ ـ رُمْتَ أَمَا يَكْفِيكَ بِالنُّجْحِ أمْ خُسْرٌ وتَظْلِيلُ

وقوله: [الكامل]

807ـ ذَاكَ الَّذِي ـ وَأَبِيكَ ـ يَعْرِفُ مالِكاً وَالحَقُّ يَدْفَعُ تُرَّهَاتِ البَاطِلِ

أو من مُسْنَد ومُسْنَد إليه كقوله: [الطويل]

808ـ وَقَدْ أَدْرَكَتْنِي ـ والحَوَادِثُ جَمَّةٌ ـ أَسِنَّةُ قَوْمٍ ضِعَافٍ وَلاَ عُزْلِ

أو بين شرط وجزاء، أو قسم وجوابه، مما بينهما تلازم.
وهذه الجملة قبلها كلامٌ مستقل عمّا بعدها، لا يُقَال: إنَّ بين المشار إلَيْهِ وبين الإخبار عنه تلازماً؛ لأنَّ ما قبلها من مقول بني يعقوب، وما بعدها من كلام الله تعالى، أخبر بها عنهم، والجملة الاعتراضية إنما تكون من الناطق بالمتلازمين لتوكيد كلامه. انتهى ملخصاً.
وقال ابن عطية: { ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } ابتداء وخبر، أي: كذلك كنا، ونحن نكون.
قال أبو حيان: يظهر منه أنَّهُ جعل هذه الجملة عطفاً على جملةٍ محذوفة، ولا حاجة إليه.