التفاسير

< >
عرض

وَلَئِنْ أَتَيْتَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ
١٤٥
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَلِئَنْ أَتَيْتَ } فيه قولان:
أحدهما: قول سيبويه وهو أن "اللام" هي الموطّئة للقسم المحذوف، و"إن" شرطية، فقد اجتمع شرط وقسم، وسبق القسمن فالجواب له إذ لم يتقدمهما ذو خبر، فلذلك جاء الجواب للقسم بـ"ما" النافية وما بعدها، وحذف جواب الشرط لسدّ جواب القسم مسده، ولذلك جاء فعل الشرط ماضياً؛ لأنه متى حذف الجواب وجب مضيّ فعل الشرط إلا في ضرورة، و"تَبِعُوا" وإن كان ماضياً لفظاً فهو مستقبل معنى أي: ما يتبعون لأن الشرط قيد في الجملة والشرط مستقبل، فوجب أن يكون مضمون الجملة مستقبلاً ضرورة أن المستقبل لا يكون شرطاً في الماضي.
الثاني: وهو قول الفراء، وينقل أيضاً عن الأخفش والزجاج أن "إن" بمعنى "لو"، ولذلك كانت "ما" في الجواب، وجعل "ما تَبِعُوا" جواباً لـ"إن" لأنها بمعنى "لو".
أما إذا لم تكن بمعناها، فلا تجاب بـ"ما" وحدها، بل لا بد من الفاء، تقول: إن تزرني فما أزورك.
ولا يجيز الفراء: "ما أزورك" بغير فاء
وقال ابن عطية: وجاء جواب "لئن" كجواب "لو"، وهي ضدها في أنَّ "لو" تطلب المضي والوقوع، و"إنْ" تطلب الاستقبال؛ لأنهما جميعاً يترتب قبلهما القسم، فالجواب إنما هو للقسم؛ لأن أحد الحرفين يقع موضع الآخر هذا قول سيبويه.
قال أبو حيان: هذا فيه تثبيج، وعدم نصّ على المراد؛ لأن أوله يقتضي أن الجواب لـ"إن"، وقوله بعد: الجواب للقسم يدل على أنه ليس لـ"إن"، وتعليله بقوله: لأن أحد الحرفين يقع موقع الآخر لا يصلح علة لكون "ما تَبِعُوا" جواباً للقسم، بل لكونه جواباً لـ"إن".
وقوله: "قول سيبويه" ليس في كتاب سيبويه ذلك، إنما فيه أن "ما تبعوا" جواب القَسَم، ووقع فيه الماضي موقع المستقبل.
قال سيبويه وقالوا: لئن فعلت ما فعل، يريد معنى ما هو فاعل وما يفعل.
وتلّخص مما تقدم أن قوله: "مَا تَبِعُوا" فيه قولان:
أحدهما: أنه جواب للقسم سادّ مسدّ جواب الشرط، ولذلك لم يقترن بالفاء.
والثاني: أنه جواب لـ"إن" إجراء لها مجرى "لو".
وقال أبو البقاء: "ما تَبِعُوا" أي: لا يتبعوا فهو ماض في معنى المستقبل، ودخلت "ما" حملاً على لفظ الماضي، وحذفت الفاء في الجواب؛ لأن فعل الشرط ماض.
وقال الفراء: "إِنْ" هنا بمعنى "لو".
وهذا من أبي البقاء يؤذن أن الجواب للشرط وإنما حذفت الفاء لكون فعل الشرط ماضياً، وهذا منه غير مُرْضٍ؛ لأنه خالف البصريين والكوفيين بهذه المَقَالَة.
فصل في المراد بالآية.
قال الأصم: المراد من الآية علماؤهم الذين أخبر عنهم في الآية الكريمة المتقدمة بقوله تعالى:
{ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } [البقرة: 144]؛ لأن الآية الكريمة لا تتناول العوام، ولو كان المراد الكل لامتنع الكِتْمان؛ لأن الجمع العظيم لا يجوز عليهم الكِتْمَان، ولأنا لو حملناه على العموم لصارت الآية كذباً؛ لان كثيراً من أهل الكتاب آمن بمحمد - عليه الصلاة والسلام - وتبع قبلته.
وقال آخرون: بل المراد جميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ لأن الذين أوتوا الكتاب صيغة عموم، فيتناول الكل.
فصل في لفظ "آية"
"الآية": وزنها "فَعَلَة" أصلها: أَيَيَة"، فاستثقلوا التشديد في الآية فأبدلوا من الياء الأولى ألفاً لانفتاح ما قبلها.
والآية: الحُجّة والعلامة، وآية الرجل: شخصه، وخرج القول بآيتهم أي: جماعتهم.
وسميت آية القرآن بذلك؛ لأنها جماعة حروف. وقيل: لأنها علامة لانقطاع الكلام الذي بعدها.
وقيل: لانها دالة على انقطاعها عن المخلوقين، وأنها ليست إلا من كلام الله تعالى.
فصل في سبب نزول هذه الآية
روي أن يهود "المدينة"، ونصارى "نجران" قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم: ائتنا بآية كما أتى الأنبياء قبلك فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال ابن الخطيب: "والأقرب أن هذه الآية ما نزلت في واقعة مبتدأة، بل هي من بقية أحكام تحويل القبلة".
قوله: { وَمَا أَنْتَ بِتَابِعِ قِبْلَتَهُمْ }.
"ما" تحتمل الوجهين أعني: كونها حجازية، أو تميمية: فعلى الأول يكون "أنت" مرفوعاً بها، و"بتابع" في محلّ نصب.
وعلى الثاني يكون مرفوعاً بالابتداء، و"بتابع" في محلّ رفع، وهذه الجملة معطوفة على جملة الشرط، وجوابه لا على الجواب وحده، إذ لا يحل محله؛ لأن نفس تبعيتهم لقبلته مقيد بشرط لا يصح أن يكون قيداً في نفي تبعيته قبلتهم، وهذه الجملة أبلغ في النفي من قوله: { مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ } من وجوه:
أحدها: كونها اسمية متكررة فيها الاسم، مؤكد نفيها بالباء.
ووحّد القبلة وإن كانت مثناة: لأن لليهود قبلة، وللنصارى قبلة أخرى لأحد وجهين:
إما لاشتراكهما في البطلان صارا قبلة واحدة، وإما لأجل المقابلة في اللفظ؛ لأن قبله: { مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ }.
وقرئ: { بِتَابِعٍ قِبْلَتِهِمْ } بالإضافة تخفيفاً؛ لأن اسم الفاعل المستكمل لشروط العمل يجوز فيه الوجهان.
واختلف في هذه الجملة: هل المراد بها النهي أي: لا تتبع قبلتهم، ومعناه: الدوام على ما أنت عليه؛ لأنه معصوم من اتباع قبلتهم، أو الإخبار المَحْض بنفي الأتبّاع، والمعنى أن هذه القبلة لا تصير مَنْسوخة، أو قطع رجاء أهل الكتاب أن يعود إلى قبلتهم؟ قولان مشهوران.
قوله: { وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ }.
قال القفال: هذا يمكن حمله على الحال وعلى الاستقبال.
أما على الحال فمن وجوه:
الأول: أنهم ليسوا مجتمعين على قِبْلَةٍ واحدة حتى يمكن إرضاؤهم باتباعها.
الثاني: أن اليهود والنصارى مع اتفاقهم على تكذيبك متباينون في القبلة، فكيف يدعونك إلى ترك قبلتك، مع أنهم فيما بينهما مختلفون.
الثالث: أن هذا إبطال لقولهم: إنه لا يجوز مخالفة أهل الكتاب؛ لأنه إذا جاز أن تختلف قبلتاهما للمصلحة جاز أن تكون المصلحة في ثالث.
وأما حمل الآية على الاستقبال ففيه إشكال وهو أن قوله: { وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } ينفي أن يكون أحد منهم قد اتبع قبلة الآخر، لكن ذلك قد وقع فيفضي إلى الخلف، وجوابه أنا إن حملنا أهل الكتاب على علمائهم الذين كانوا في ذلك الزمان، فلم يثبت عندنا أن أحداً منهم تبع قبلة الآخر، فالخلف غير لازم.
وإن حملناه على الكل قلنا: إنه عامّ دخله التخصيص.
قوله تعالى:
{ وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُمْ } [البقرة: 120] كقوله: { وَلَئِنْ أَتَيْتَ }.
وقوله: "إِنَّكَ" جواب القسم، وجواب الشرط محذوف كما تقدم في نظيره.
قال أبو حيان: لا يقال: إنه يكون جواباً لهما لامتناع ذلك لفظاً ومعنى.
أما المعنى فلأن الاقتضاء مختلف، فاقتضاء القسم على أنه لا عمل له فيه؛ لأن القَسَم إنما جيء به توكيداً للجملة المقسم عليها، وما جاء على سبيل التوكيد لا يناسب أن يكون عاملاً، واقتضاء الشرط على أنه عامل فيه، فتكون الجملة في موضع جزم، وعمل الشرط لقوة طلبه له.
وأما اللفظ فإن هذه الجملة إذا كانت جواب قسم لم تحتج إلى مزيد رابط، فإذا كانت جواب شرط احتاجت إلى مزيد رابط وهو الفاء، ولا يجوز أن تكون خالية من الفاء موجودة فيها، فلذلك امتنع أن تكون جواباً لهما معاً.
فصل في الهوى
الهوى المقصور: هو ما يميل إليه الطبع [وقيل: هو شهوة نتجت عن شبهة، والممدود هو الجو].؟
اختلفوا في المخاطب بهذا الخطاب.
قال بعضهم: الرسول.
وقال بعضهم: الرسول وغيره.
وقال آخرون: بل غيره؛ لأنه - تعالى - عرف أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - لا يفعل ذلك، فلا يجوز أن يخصّه بهذا الخطاب، وهذا خطأ من وجوه:
أحدها: أنه لو كان كل ما علم الله أنه لا يفعله وجب ألا ينهاه عنه، لكان ما علم أن يفعله وجب ألا يأمره به، وذلك يقتضي ألا يكون النبي مأموراً بشيء، ولا منهيّاً عن شيء، وإنه بالاتفاق باطل.
وثانيها: لولا تقدم النهي والتحذير لما احترز النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه فلما كان ذلك الاحتراز مشروطاً بذلك النهي والتحذير، فكيف يجعل ذلك الاحتراز منافياً للنهي والتحذير.
وثالثها: أن يكون الغرض من النهي والوعيد أن يتأكد قبح ذاك في العقل، فيكون الغرض منه التأكيد، ولما حسن من الله التنبيه على أنواع الدلائل الدالة على التوحيد بعدما قرّرها في العقول والغرض منه تأكيد العقل بالنقل، فأي بعد في مثل هذا الغرض هاهنا.
ورابعها: قوله تعالى في حق الملائكة:
{ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّيۤ إِلَـٰهٌ مِّن دُونِهِ فَذٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } [الأنبياء: 29] مع أنه - تعالى - أخبر عن عصمتهم في قوله: { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [النحل: 50] وقال في حق محمد صلى الله عليه وسلم: { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر: 65].
والإجماع على أنه عليه الصلاة والسلام ما أشرك، وما مال إليه، وقال
{ يۤا أَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ } [الأحزاب: 1] وقال: { بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } [المائدة: 67]، وقوله: { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ } [الأنعام: 14].
فثبت بما قلنا أنه - عليه الصلاة والسلام - مَنْهي عن ذلك وأن غيره أيضاً منهي عنه؛ لأن النهي عن هذه الأشياء ليس من خواصّ الرسول عليه الصلاة والسلام.
بقي أن يقال: فلم خصه بالنهي دون غيره؟
فنقول فيه وجوه:
أحدها: أن كل من كان نعم الله عليه أكثر، كان صدور الذنب منه أقبح، فكان أَوْلَى بالتخصيص.
وثانيها: أن مزيد الحبّ يقتضي التخصيص بمزيد التحذير.
وثالها: أن الرجل الحازم إذا أقبل على أكبر أولاده وأصلحهم، فزجره عن أمر بحضرة جماعه أولاده، فإنه يكون منبهاً بذلك على عظم ذلك الفعل إن ارتكبوه، فهذه قاعدة مقررة في أمثال هذه الآية.
القول الثاني: أن قوله:
{ وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُمْ } [البقرة: 120] ليس المراد منه إن اتبع أهواءهم في كل الأمور، فلعله - عليه الصلاة والسلام - كان في بعض الأمور يتبع أهواءهم، مثل ترك المُخَاشنة في القول والغِلْظَة في الكلام، طمعاً منه - عليه الصلاة والسلام - في استمالتهم، فنهاه الله - تعالى - عن ذلك القدر أيضاً، وآيَسَهُ منهم بالكلية على ما قال: { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً } [الإسراء: 74].
القول الثالث: أن ظاهر الخطاب وإن كان مع الرسول إلا ان المراد منه غيره، وهذا كما أنك إذا عاتبت [إنساناً أساء عبده إلى عبدك فتقول له: لو فعلت مرة أخرى مثل] هذا الفعل لعاقبتك عليه عقاباً شديداً، فكان الغرض منه زجر العبد.
قوله تعالى: { مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ }.
إنه - تعالى - لم يرد بذلك أنه نفس العلم، بل المراد الدَّلائل والآيات والمعجزات؛ لأن ذلك من طرق العلم، فيكون ذلك من باب إطلاق اسم الأثر على المؤثّر، والغرض من هذا الاستعارة هو المبالغة [والتعظيم في] أمر النبوات والمعجزات بأنه سمّاها باسم العلم، وذلك ينبّهك على أن العلم أعظم المخلوقات شرفاً ومرتبة، ودلّت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجّهه على غيرهم.
[قوله تعالى: { إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ } أي إِنّك لو فعلت ذلك لكنت بمنزلة القوم في كفرهم، وظلمهم أنفسهم].
و"إذاً" حرف جواب وجزاء بنص سيبويه، وتنصب المضارع بثلاثة شروط:
أن تكون صدراً، وألا يفصل بينها وبين الفعل بغير الظرف والقسم، وألا يكون الفعل حالاً، ودخلت هنا بين اسم "إن" وخبرها لتقرير النسبة بينهما وكان حدها أن تتقدم أو تتأخر، فلم تتقدم، لأنه سبق قسم وشرط والجواب هو للقسم، فلو تقدمت لتوهّم أنها لتقرير النسبة التي بين الشرط والجواب المحذوف، ولم تتأخر لئلا تفوت مناسبة الفواصل رؤوس الآي.
قال أبو حيان: وتحرير معنى "إذاً" صعب اضطرب الناس في معناها، وفي فهم كلام سيبويه فيها، وهو أن معناها الجواب والجزاء.
قال: والذي تحصل فيها أنها لا تقع ابتداء كلام، بل لا بد أن يسبقها كلام لفظاً أو تقديراً، وما بعدها في اللفظ أو التقدير، وإن كان متسبباً عما قبلها فهي في ذلك على وجهين:
أحدهما: أن تدلّ على إنشاء الارتباط والشرط، بحيث لا يفهم الارتباط من غيرها، مثال ذلك: أزورك فتقول: إذاً أزورك، فإنما تريد الآن أن تجعل فعله شرطاً لفعلك، وإنشاء السببية في ثاني حال من ضرورته أن يكون في الجواب، وبالفعلية في زمان مستقبل، وفي هذا الوجه تكون عاملة، ولعملها شروط مذكورة في النحو.
الوجه الثاني: أن تكون مؤكّدة لجواب ارتبط بمقدم، أو منبّهة على مسبب حصل في الحال، وهي في الحالين غير عاملة؛ لأن المؤكدات لا يعتمد عليها والعامل يعتمد عليه، وذلك، نحو: "إن تأتني إِذَاً آتك"، و "والله إِذاً لأفعلن" فلو أسقطت "إِذاً" لفهم الارتباط، ولما كانت في هذا الوجه غير معتمد عليها جاز دخولها على الجملة الاسمية الصريحة نحو: "أزورك" فتقول: "إِذاً أنا أكرمك"، وجاز توسطها نحو: "أنا إِذاً أكرمك" وتأخرها، وإذا تقرر هذا فجاءت "إذاً" في الآية مؤكدة للجواب المرتبط بما تقدم، وإنما قررت معناها هنا؛ لأنها كثيرة الدور في القرآن، فتحمل في كل موضع على ما يناسب من هذا الذي قررناه انتهى كلامه.
واعلم أنها إذا تقدمها عاطف جاز إعمالها وإهمالها، وهو الأكثر، وهي مركبة من "همزة وذال ونون"، وقد شبهت العرب نونها بتنوين المنصوب قلبوها في الوقف ألفاً، وكتبوها في الكتاب على ذلك، وهذا نهاية القول فيها.
وجاء في هذا المكان "مِنْ بِعْدِ مَا جَاءَكَ" وقال قبل هذا:
{ بَعْدَ ٱلَّذِي جَآءَكَ } [البقرة: 120] وفي "الرعد": { بَعْدَ مَا جَآءَكَ } [الرعد: 37] فلم يأت بـ"من" الجارة إلا هنا، واختص موضعاً بـ"الذي"، وموضعين بـ"ما"، فما الحكمة في ذلك؟
والجواب: ما ذكره بعضهم وهو أن "الذي" أخص و "ما" أشد إبهاماً، فحيث أتي بـ"الذي" أشير به إلى العلم بصحّة الدين الذي هو الإسلام المانع من ملّتي اليهود والنصارى، فكان اللفظ الأخص الأشهر أولى فيه؛ لأنه علم بكل أصول الدين، وحيث أتي بلفظ "ما" أشير به إلى العلم [بركنين] من أركان الدين، أحدهما: القبلة، والأخر: بعض الكتاب؛ لأنه أشار إلى قوله:
{ وَمِنَ ٱلأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } [الرعد: 36].
قال: وأما دخول ":من" ففائدته ظاهرة، وهي بيان أول الوقت الذي وجب عليه - عليه السلام - أن يخالف أهل الكتاب في قبلتهم، والذي يقال في هذا: إنه من باب التنوع من البلاغة.