التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ
١٥٦
أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ
١٥٧
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

في قوله: "الَّذِينَ" أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ.
أحدُها: أَنْ يكُونَ منصوباً على النَّعْتِ للصابرين، وهو الأَصُحّ.
الثَّانِي: أن يكون مَنْصُوباً على المدْحِ.
الثَّالِثُ: أن يكون مَرْفُوعاً على خبر مبتدأ محذوف، أَيْ هُمُ الذينَ، وحينئذٍ يحتمل أن يكون على القطع، وأَنْ يكونَ على الاستئنافِ.
الرَّابُعُ: أَنْ يَكُون مُبْتَدأً، والْجُمْلَةُ الشرطية مِنْ "إِذا" وَجَوابِهَا صلةٌ، وخبرَهُ ما بعده مِنْ قولِه: { أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ }.
قولُه تعالى: { أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ }.
والمصيبةُ: [كُلُّ ما يُؤذي المؤْمِنَ وَيصِيبُهُ]، يقالُ: أَصابَهُ إِصَابَة ومُصَابة ومُصَاباً.
والمصيبةُ: وَاحِدُ المَصَائب.
والمَصُوبَةُ "بضم الصَّادِ" مِثْلُ المصيبَةِ.
وأجمعتِ العربُ على هَمْزِ المَصَائب، وأَصْلُهُ "الواو"، كَأَنَّهم شَبَّهوا الأَصْلي بالزائد ويُجْمَعُ على "مصاوب"، وهو الأصْلُ، والمُصَابُ الإِصَابةُ، قال الشاعر: [الكامل]

847 - أَسُلَيْمُ إِنَّ مُصَابَكُمْ رَجُلاً أَهْدَى السَّلاَم تَحِيَّة طُلْمُ

وصَابً السَّهْمُ القِرْطاسَ يُصيبه صَيْبًا لغةٌ في أَصَابَهُ.
والمُصِيبَةُ: النَّكْبَةُ يُنْكَبُها الإنسانُ وإِنْ صَغُرَتْ، وتستعمل في الشر.
قولهُ تعالى: "إِنَّا لِلَّهِ" إِنَّ وَاسْمَها وخَبَرَها في محلِّ نَصْبٍ بالقول، والأصلُ: إِنَّنَا بثلاث نوناتٍ، فحُذِفَتِ الأخيرةُ من "إِنَّ" لا الأُولَى، لأنه قد عُهِدَ حَذْفُها، ولأنها طرفٌ من الأطرافِ الأَوْلَى بالحذْفِ، لا يُقالُ: إنها لو حُذِفَتِ الثانيةُ لكانت مُخَفَّفةً، والمخففةُ لا تعمل على [الأَفْصَح] فكان يَنْبَغِي أَنْ تُلْغَى، فينفصل الضميرُ المرفوعُ حِينَئذٍ، إذْ لاَ عَمَلَ لهَا فيه، فدل عَدَمُ ذلك على أن المَحْذُوف النُّونُ الأُولَى لأن هذا الحذفَ حَذْفٌ لِتَوالِي الأَمْثَالِ لا ذلك الحذفُ المعْهُودُ في "إن" وأصابَتْهُمْ مُصيبةٌ من التَّجانُسِ المغاير؛ إذْ إِحْدَى كَلِمتِي المادَّةِ اسمٌ والأُخْرَى فِعْلٌ، ومثله:
{ أَزِفَتِ ٱلآزِفَةُ } [النجم: 57] { وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } [الواقعة: 1].
فصل في الكلام على الآية.
قال بَعْضُهُم: "إِنَّا لِلَّهِ" إقرارٌ مِنَّا له بالمُلْكِ، "وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ" إِقْرارٌ على أنفُسنا بالهَلاَك، لا بمعنى الانتِقَال إلى مَكَانٍ أَوْ جِهَةٍ فإن ذلك على اللَّه مُحَال، بل المرادُ أنه يَصيرُ إلى حَيثُ لا يَمْلِكُ الحُكْمَ سواه، وذلك هو الدَّارُ الآخرَةُ؛ لأَنَّ عند ذلك لا يَمْلكُ لهم أحدٌ نفعاً ولا ضرّاً، وما دَامُوا في الدنيا، قَدْ يَمْلِكُ غيرُ اللَّهِ نفعَهُمْ وضرهم بحسب الظاهِر، فجعل اللَّهُ - تعالى - هذا رُجُوعاً إليه تعالى، كما يُقالُ: إن المُلْكَ والدولة ترجعُ إليه لاَ بمعنى الانْتِقَالِ بل بمعنى القُدْرة، وترك المُنَازَعةِ.
وقال بعضهم: { إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ } في الآخرة.
[رُويَ عَنِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ:
"مَنِ اسْتَرْجَعَ عِنْدَ المُصِيْبَةِ جَبَرَ اللَّهُ مُصِيبَتَهُ، وأَحْسَنَ عُقْبَاهُ، وَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ خَلَفاً صَالِحاً يَرْضاه"
"وروي أنه طُفِئ سِرَاجُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال: { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجُعونَ }. فقال: إنا لله وإنّا إليه راجعون، فقيل: مُصِيبَةٌ هِيَ؟ قال: نَعَمْ، كُلّ شَيْءٍ يُؤْذِي المُؤْمِنَ فَهُوَ مُصِيْبَةٌ"
وقالت أُمُّ سَلَمَةَ: حدثني أَبُو سَلَمَةَ، أنه عليه الصلاةُ والسلامُ قال: "مَا مِنْ مُسْلِمِ يُصابُ مُصِيْبَةً فَيَفْزَعُ إِلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أُجُرْنِيّ فِي مُصِيْبَتي، وأخْلِفْ لِي خَيْراً مِنْها" قالت: فلما توفي أَبُو سَلَمَة ذكرت هذا الحِديثَ، وقلتُ هذا القولَ، فأخلف اللَّهُ لِيَ محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشرف، وكرم، ومجد وبجل، وعظم.
وقال ابنُ عَبَّاس: أخبر اللَّهُ - تعالى - أن المُؤْمِنَ إِذَا أَسْلَمَ أَمْرَه لِلَّهِ، واسترجَعَ عند مُصَيبَتِهِ كتب اللَّهُ له ثَلاثَ خِصَالٍ: الصَّلاة من الله، والرحمة، وتحقيق سبيل الهدى.
وقال ابنُ مَسْعُودٍ: لأن أَخِرَّ من السماء أحبّ إليّ مِنْ أن أقول لشيءٍ قضاه اللَّهُ: لَيْتَهُ لَمْ يَكُن].
قال أَبُو بَكْرٍ الرازي: اشتملت الآيةُ الكرِيمَةُ على حُكْمين فَرْضٍ ونَفْل.
أَمَّا الفَرْضُ فهو التَّسْلِيمُ لأمرِ الله تعالى، والرِّضَا بِقَضَائِهِ، والصبرُ على أداءِ فَرَائِضِه، لا يصرف عنها مصائب الدنيا.
وأما النَّفْل فإظهاراً لقولِ: { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }.
[ذكَرُوا من قولِ هذه الكَلِمةِ فَوائِدَ.
منها: الاشتغالُ بهذه الكلمةِ عن كَلاَم لا يليق.
ومنها: أنها تُسلّي قلبَ المُصَابِ، وتقلّلُ حُزْنَه.
ومنها: تقطَعُ طمع الشَّيْطَانِ في أَنْ يُوَافِقَهُ في كَلاَمٍ لا يَلِيقُ.
ومنها أَنَّهُ إذا سمعه غيرُه اقْتَدَى به.
ومنها: أنه إذا قال بلسَانِه في قَلْبِه الاعتقادَ الحَسَن، فإنَّ الحِسَابَ عند المُصِيبَةِ، فكان هذا القَوْل مذكراً له التَّسْليم لِقَضَاءِ الله وقدره].
فإن في إظهاره فوائد جزيلة:
منها أن غيره يقتدي به إذا سمعه.
ومنها غبط الكفار، وعلمهم بجده واجتهاد في دين الله، والثبات عليه وعلى طاعته.
وحكي عن بَعْضِهِم أنه قال: الزهدُ في الدنيا ألاّ يُحِبَّ البقاءَ فِيهَا، وأفضَلُ الأعمالِ الرضا عن الله، ولا ينبَغِي لِلْمُسلِم أن يحزن؛ لأنه يَعْلَمُ أَنَّ لكلِّ مصيبة ثواباً.
قولهُ تعالى: "أُولَئِكَ" مبتدأٌ، و"صَلَوَاتٌ" مبتدأٌ ثان، و"عَلَيْهِمْ" خبرهُ مُقَدَّمٌ عليه، والجملةُ خبر قوله: "أُولَئِكَ".
ويجوز أن تكون "صلوات" فاعلاً بقوله: "عليهم".
قال أبو البقاء: لأنه قد قوي بوقوعه خبراً.
والجملة من قوله "أولئك" وما بعده خبر "الذين" على أحد الأوجه المتقدمة، أو لا محلّ لها على غيره من الأوجه.
و"قالوا" هو العامل في "إذا"؛ لأنه جوابها وتقدم الكلام في ذلك وأنها هل تقتضي التكرار أم لا؟
قولهُ تعالى: "وَرَحْمَةٌ" عطف على الصلاة، وإن كانت بمعناها، فإن الصلاة من الله رحمة؛ لاختلاف اللفظين كقوله: [الوافر]

848 - وَقَدَّمَتِ الأَدِيمَ لِرَاهِشَيْهِ وَأَلْفَى قَوْلَها كَذِباً وَمَيْنَا

وقوله: [الطويل]

849 - أَلاَ حَبَّذَا هِندُ وَأَرْضٌ بِهَا هِنْدٌ وَهِنْدٌ أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ وَالْبُعْدُ

قولُه تعالى: "مِنْ رَبِّهِمْ" فيه وَجْهَانِ:
أَحدُهما: أنه متعلق بمحذوف؛ لأنه صَفةٌ لـ"صلوات" و "من" للابتداءِ، فهو في مَحَلِّ رفع، أيْ: صلوات كائنة مِنْ رَبِّهم.
والثَّانِي: أنه يتعلق بما تضمنه قولُه "عَلَيْهِمْ" من الفعل إذَا جعلناه رَافعاً لـ"صلوات" رفع الفاعل، فعلى الأول، يكون قد حذف الصفة بعد "رَحْمَة" أَيْ: ورحمة منه.
وعلى الثَّانِي: لاَ يَحْتَاجُ إلى ذلك.
وقولُه: "وأُولَئِكُ هُمْ الْمُهْتَدُونَ" نَظيرُ:
{ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [البقرة: 5] وفيه وجوهٌ:
أَحَدُهَا: أنهم هم المهتدون لهذه الطَّرِيقَةِ المُوصّلَةِ بصاحبها إلى كل خير.
وثَانِيهَا: المُهْتدُونَ إلى الجنَّةِ الفائزون بالثواب.
وثَالِثُها: المُهْتدُونَ لسائِر ما لزمهم.
فَصْلٌ في الكلام في الآية
قال أَبُو الْبَقَاءِ: "هُمُ المُهْتَدُونَ" هُمْ: مُبْتَدأٌ أو توكيد أو فصل.
فإن قِيلَ: لِمَ أَفْرَدَ الرحْمَةَ وجَمَعَ الصَّلَواتِ؟
فالجوابُ: قال بعضُهم: إن الرحمَةَ مصدرٌ بمعنى التعطُّف والتحنُّن، ولا يجمعُ و"التَّاءُ" فيها بمنزلتها في الملّة والمحبّةِ والرأْفَةِ، والرحمةُ ليست للتحذيرِ، بل مَنْزِلتُها في مرية وثمرة، فكما لا يُقالُ: رقات ولا خلات ولا رأفات، لا يُقال: رَحَمات، ودخول الجمعُ يُشْعرُ بالتحذِيرِ والتقييد بعده، والإفْرَادُ مُطْلقاً مِنْ غَيْر تَحْدِيدٍ، فالإفْرَادُ - هنا - أَكْملُ وأكثرُ مَعْنًى من الجمع؛ لأنه زيد بمدلول المفرد أكثر مِنْ مدلولِ الجَمْعِ، ولهذا كان قولُه تَعَالى:
{ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَالِغَةُ } [الأنعام: 149] أَعَمَّ وأَتَمَّ مَعْنًى مِنْ أَنْ يُقالَ: لِلَّهِ الحُجَجُ البَوالِغُ، وكذا قولُه: { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [إبراهيم: 34] أتمُّ مَعْنًى مِنْ أنْ يُقالَ: وإنْ تَعَدُّوا نِعَمَ الله لا تُحْصُوها، وقولُه سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: { رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً } [البقرة: 201] أتمُّ مَعْنًى مِنْ قوله: حَسَناتٍ، وقولُه: { بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ } [آل عمران: 174]، أتَمُّ معنى من قوله: بنعمٍ، ونظائِرهُ كَثِيرةٌ.
وأما الصّلوات فالمراد بها درجات الثَّوَاب، وهي إنما تحصل شيئاً بَعْدَ شَيْءٍ، فكأنه دلّ على الصِّفَةِ المقصوُدَةِ.