التفاسير

< >
عرض

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ
١٧
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

اعلم أن المقصود من ضرب المِثَال أنه يؤثر في القَلْبِ ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه، وذلك لأن الغرض من المَثَلِ تشبيه الخَفِيّ بالجَلِيّ والغائب بالشاهد، فيتأكّد الوقوف على ماهيته، ويصير الحس مطابقاً للعقل، وذلك هو النهاية في الإيضاح في الترغيب في الإيمان لذا مثل بالظّلمة، فإذا أخبرت عن ضعف أمر ومثّلته بِنَسْجِ العنكبوت كان ذلك أبلغ في وقعه في القلب بالخبر مجرداً.
قوله: "مثلهم" مبتدأ و "كمثل" جار ومجرور خبره، فيتعلّق بمحذوف على قاعدة الباب، ولا مُبَالاة بخلاف من يقول: إنّ "كاف" التشبيه لا تتعلّق بشيء، والتقدير: مثلهم مستقر كَمَثَلِ. وأجاز أبو البقاء وابن عطية أن تكون "الكاف" اسماً هي الخبر، ونظيره قول الشاعر: [البسيط].

220- أَتَنْتَهُونَ؟ وَلَنْ يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ كَالطَّعْنِ يَذْهَبُ فِيهِ الزَّيْتُ والفُتُلُ

وهذا مذهب الأخفش: يجيز أن تكون "الكاف" اسماً مطلقاً.
وأما مذهب سيبويه فلا يُجِيزُ ذلك إلا في شعر، وأمّا تنظيره بالبيت فليس كما قال؛ لأنّ في البيت نضطر إلى جعلها اسماً لكونها فاعلة، بخلاف الآية.
والذي ينبغي أن يقال: إن "كاف" التشبيه لها ثلاثة أحوال:
حال يتعيّن فيها أن تكون اسماً، وهي ما إذا كانت فاعلة، أو مجرورة بحرف، أو إضافة. مثال الفاعل: [البسيط]

221- أَتَنْتَهُونَ وَلَنْ يَنْهَى.................................

البيت.
ومثال جَرِّها بحرف قول امرىء القَيْسِ: [الطويل]

222- وَرُحْنَا بكَابْنِ المَاءِ يُجْنَبُ وَسْطَنَا تَصَوَّبُ فِيهِ العَيْنُ طَوْراً وَتَرْتَقِي

وقوله: [الوافر]

223- وَزَعْتُ بِكَالْهِرَاوَةِ أَعْوَجِيٍّ إذَا وَنَتِ الرِّكَابُ جَرَى وَثابَا

ومثال جَرِّها بالإضافة قوله: [السريع أو الرجز]

224- فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولْ

وحال يتعيّن أن تكون فيها حرفاً، وهي الواقعة صلة، نحو: جاء الذي كزيد؛ لأن جعلها اسما يستلزم حذف عائد مبتدأ من غير طول الصِّلة، وهذا ممتنع عند البصريين. وحال يجوز فيها الأمران، وهي ما عدا ذلك نحو: "زيد كعمرو".
وأبعد من جعلها زائدة في الآية الكريمة، أي: مثلهم مثل الذي، ونظّره بقوله: "فَصُيِّرُوا مثل كعصف" كأنه جعل المثل والمثل بمعنى واحد، والوجه أن المثل - هنا - بمعنى القصّة والتقدير: صفتهم وقصتهم كقصّة المستوقد، فليست زائدةً على هذا التأويل، وهذا جواب عن سؤال أيضاً، وهو أن يقال: قوله تعالى: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ } يقتضي تشبيه مثلهم مثل المستوقد، فما مثل المنافقين ومثل المُسْتَوْقِدِ حتّى شَبّه أحدهما بالآخر؟
فالجواب: أن يقال: استعير المثل للقصّة وللصفة إذا كان لها شأن وفيها غرابة، كأنه قيل: قصّتهم العجيبةُ كقصّة الذي استوقد ناراً، وكذا قوله:
{ { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ } [الرعد: 35] أي فيما قصصنا عليه من العَجَائب قصّة الجنّة العجيبة.
{ { وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ } [النحل: 60] أي: الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة.
{ { مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ } [الفتح: 29] أي: وصفهم وشأنهم المتعجّب منه، ولكن المَثَل - بالفتح - في الأصل بمعنى مثل ومثيل نحو: شِبْه وشَبَه وشَبِيه. وقيل: بل هي في الأصل الصِّفة.
وأما المثل في قولهم: "ضرب مثلاً" فهو القول السَّائر الذي فيه غرابةٌ من بعض الوجوه، ولذلك حوفظ في لفظه فلم يغير.
و "الذي": في محلّ خفض بالإضافة، وهو موصول للمفرد المذكّر، ولكن المراد به - هنا - جمع ولذلك روعي مَعْنَاه في قوله: { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ } فأعاد الضمير عليه جمعاً، والأولى أن يقال: إنَّ "الذي" وقع وصفاً لشيء يفهم الجمع، ثم حذف ذلك الموصوف للدّلالة عليه.
والتقدير: ومثلهم كمثل الفريق الذي استوقد، أو الجمع الذي اسْتَوْقَدَ؛ ويكون قد روعي الوصف مرة، فعاد الضمير عليه مفرداً في قوله: { ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } و "حوله"، والموصوف أخرى فعاد الضمير عليه مجموعاً في قوله: "بنورهم"، و"تركهم".
وقيل: إنَّ المنافقين ذاتهم لم يشبهوا بذات المُسْتوقد، وإنما شبهت قصّتهم بقصّة المستوقد، ومثله قوله:
{ { مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ } [الجمعة: 5]، وقوله: { { يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ ٱلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ } [محمد: 20].
وقيل: المعنى: ومثل كل واحد منهم كقوله:
{ { يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } [غافر: 67] أي: يخرج كلّ واحد منكم. ووهم أبو البقاء، فجعل هذه الآية من باب ما حذفت منه النُّون تخفيفاً، وأنّ الأصْل: "الذين" ثم خففت بالحذف، وكأنه مثل قوله تعالى: { { وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ } [التوبة: 69]، وقول الشاعر: [الطويل]

225- وَإِنَّ الَّذي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ هُمُ القَوْمُ كُلُّ القَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ

والأصل: "كالذين خَاضُوا"وإنَّ الذين حانت". وهذا وَهْم؛ لأنه لو كان من باب ما حذفت النون منه لوجب مُطَابقة الضمير جمعاً كما في قوله تعالى: { { كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ } [التوبة: 69] و "دِمَاؤُهُمْ"، فلما قال تعالى: { ٱسْتَوْقَدَ } بلفظ الإفراد تبيّن أحد الأمرين المتقدّمين: إمّا بصلة من باب وقوع المفرد موقع الجمع؛ لأن المراد به الجنس، أو أنه من باب ما وقع فيه من صفة لموصوف يفهم الجمع.
وقال الزمخشري ما معناه: إنَّ هذه الآية مثل قوله تعالى:
{ { كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ } [التوبة: 69]، واعتل لتسويغ ذلك بأمرين.
أحدهما: أن "الذي" لما كان وصلةً لوصف المعارف ناسب حذف بعضه لاستطالته، قال: "ولذلك نهكوه بالحذف، فحذفوا ياءه ثم كسرته، ثم اقتصروا منه على اللاَّم في أسماء الفاعلين والمفعولين".
والأمر الثاني: أنّ جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون، إنما ذلك علامةٌ لزيادة الدّلالة، ألا ترى أنَّ سائر المَوْصُولاَتِ لَفْظُ الجَمْعِ والمفرد فيهن سواء؟
وهذا القول فيه نظر من وجهين:
أحدهما: أن قوله ظاهر في جَعْلِ هذه الآية من باب حذف نون " الذين"، وفيه ما تقدّم من أنه كان ينبغي أن يُطَابق الضمير جمعاً كما في الآية الأخرى التي نظر بها.
والوجه الثاني: أنه اعتقد كون الموصول بقيته "الذي"، وليس كذلك، بل "أل" الموصولة اسم موصول مستقلّ، أي: غير مأخوذ من شيء، على أنَّ الراجح من جهة الدَّليل كون "أل" الموصولة حرفاً لا اسماً كما سيأتي.
وليس لمرجّح أن يرجّح قول الزمخشري بأنهم قالوا: إنَّ الميم في قولهم: "مُ الله" بقية "أيمن"، فإذا انتهكوا "أيمن" بالحذف حتى صار على حرف واحد، فأولى أن يقال بذلك فيما بقي على حرفين، لأن "أل" زائدة على ماهية "الذي"، فيكونون قد حذفوا جميع الاسم، وتركوا ذلك الزائد عليه، بخلاف "ميم"أيمن"، وأيضاً فإن القول بأن "الميم" بقية "أيمن" قول ضعيف مردود يأباه قول الجُمْهُور.
وفي "الَّذي " لُغَاتٌ، أشهرها ثبوت الياء ساكنةً وقد تُشَدَّد مكسورة مطلقاً، أو جاريةً بوجوه الإعراب، كقوله: [الوافر]

226- وَلَيْسَ المَالُ فَاعْلَمْهُ بِمَالٍ وَإِنْ أَرْضَاكَ إلاَّ لِلَّذِيِّ
يَنَالُ بِهِ العَلاَءَ وَيَصْطَفِيهِ لأَقْرَبِ أَقْرَبَيْهِ وَلِلْقَصِيِّ

فهذا يحتمل أن يكون مبنيًّا، وأن يكون معرباً. وقد تُحْذَفُ ساكناً ما قبلها؛ كقول الآخر: [الطويل]

227- فَلَمْ أَرَ بَيْتاً كَانَ أَحْسَنَ بَهْجَةً مِنَ اللَّذْ بِهِ مِنْ آلِ عَزَّةَ عَامِرُ

أو مكسوراً؛ كقوله: [الرجز]

228- واللَّذِ لَوْ شَاءَ لَكَانَتْ بَرَّا أَوْ جَبَلاً أَشَمَّ مُشْمَخِرَّا

ومثل هذه اللغات في "التي" أيضاً.
قال بعضهم: "وقولهم: هذه لغات ليس بجيِّد؛ لأن هذه لم ترد إلاّ ضرورةً، فلا ينبغي أن تسمى لغاتٍ".
و" استوقد": "استفعل" بمعنى "أَفْعَل"، نحو: "استجاب" بمعنى "أَجَابَ"، وهو رأي الأخفش وعليه قول الشاعر: [الطويل]

229- وَدَاعٍ دَعَا: يَا مَنْ يُجِيبُ إلى الهُدَى فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ

أي: فلم يجبه.
وقيل: بل السّين للطلب، ورجّح قول الأخفش بأن كونه للطَّلب يستدعي حذف جملة، ألا ترى أن المعنى: استدعوا ناراً فأوقدوها، فلما أضاءت؛ لأن الإضاءة لا تنشأ عن الطلب إنما تنشأ عن الإيقاد.
والفاء في قوله: "فَلَمَّا" للسبب.
وقرأ ابن السَّميفع: "كمثل الذين" بلفظ الجمع، واستوقد بالإقراد، وهي مُشْكلة، وقد خرجوها على أوجه أضعف منها وهي التوهّم، أي: كأنه نطق بـ "مَنْ"؛ إذ أعاد ضمير المفرد على الجمع كقولهم، "ضربني وضربت قومك" أي: ضربني من، أو يعود على اسم فاعل مفهوم من "استوقد"، والعائد على الموصول مَحْذوف، وإن لم يكمل شرط الحذف، والتقدير: استوقدها مستوقدٌ لهم. وهذه القراءة تقوّي قول من يقول: إنّ أصل "الذي": "الذين"، فحذفت النون.
و "لَمَّا" حرف وجوب لوجوب هذا مذهب سيبويه.
وزعم الفارسي وتبعه أبو البقاء، أنها ظرف بمعنى "حين"، وأن العامل فيها جوابها، وقد ردّ عليه بأنها أجيبت بـ "ما" النافية، و "إذا" الفُجَائية، قال تعالى:
{ { فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } [فاطر: 42].
وقال تعالى:
{ { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [العنكبوت: 65]، و "ما" النافية، و "إذا" الفُجَائية لا يعمل ما بعدهما فيما قبلهما، فانتفى أن تكون ظرفاً.
وتكون "لما" أيضاً جازمة لفعل واحدٍ، معناها نَفْي الماضي المتّصل بزمن الحال، ويجوز حذف مجزومها؛ قال الشاعر: [الوافر]

230 - فَجِئْتُ قُبُورَهُمْ بَدْءاً ولَمَّا فَنَادَيْتُ القُبُورَ فَلَمْ يُجِبْنَهْ

وتكون بمعنى "إلاّ" قال تعالى: { { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا } [الزخرف: 35] في قراءة من قرأ بالتَّشديد.
و "أضاء": يكون لازماً ومتعدياً، فإن كان متعدياً، فـ "ما" مفعول به، وهي موصولة، و "حوله" ظرف مكان مخفوض به، صِلةٌ لها، ولا يتصرّف، وبمعناه: حَوَال؛ قال الشاعر: [الرجز].

231- وأَنَا أَمْشِي الدَّأَلَى حَوَالَكَا

ويُثَنَّيان؛ قال عليه الصلاة والسلام: "اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا" .
ويجمعان على "أَحْوَال".
ويجوز أن تكون "ما" نكرة موصوفة، و "حوله" صفتها، وإن كان لازماً، فالفاعل ضمير "النار" أيضاً، و "ما" زائدة، و "حوله" منصوب على الظرف العامل فيه "أضاء".
وأجاز الزمخشري أن تكون "ما" فاعلة موصولة، أو نكرة موصولة، وأُنِّثَ الفعل على المعنى، والتقدير: فلما أضاءت الجهةُ التي حوله أو جهةٌ حوله.
وأجاز أبو البقاء فيها أيضاً أن تكون منصوبة على الظرف، وهي حينئذ: إما بمعنى الذي، أو نكرة موصوفة، والتقدير: فلما أضاءت النَّار المكان الذي حوله، أو مكاناً حوله، فإنه قال: يقال: ضاءت النّار، وأضاءت بمعنى، فعلى هذا تكون "ما" ظرفاً.
وفي "ما" ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون بمعنى الذي.
والثاني: هي نكرة موصوفة، أي: مكاناً حوله.
والثالث: هي زائدة.
وفي عبارته بعض مُنَاقشة، فإنه بعد حكمه على "ما" بأنها ظرفية كيف يُجَوِّزُ فيها - والحالة هذه - أن تكون زائدة، وإنما أراد في "ما" هذه من حيث الجملة ثلاثة أوجه.
وقول الشاعر: [الطويل]

232- أَضَاءَتْ لَهُمْ أَحْسَابُهُمْ وَوُجُوهُهُمْ دُجَى اللَّيْلِ حَتَّى نَظَّمَ الجَزْعَ ثَاقِبُهْ

يحتمل التعدّي واللزوم كالآية الكريمة.
وقرأ ابن السَّمَيْفع: "ضاءت" ثلاثياً.
قوله: "ذهب الله بنورهم" هذه الجملة الظاهر أنها جواب لـ "ما".
وقال الزمخشري: "جوابها محذوف، تقديره: فلما أضاءت خَمَدَتْ" وجعل هذا أبلغ من ذكر الجواب، وجعل جملة قوله: { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } مستأنفة أو بدلاً من جملة التمثيل.
وقد رد عليه بعضهم هذا بوجهين:
أحدهما: أن هذا التقدير مع وجود ما يغني عنه، فلا حاجة إليه؛ إذ التقديرات إنما تكون عند الضَّرورات.
والثَّاني: أنه لا تبدل الجملة الفعلية من الجملة الاسمية.
و" بنورهم" متعلّق بـ "ذهب"، والباء فيه للتَّعدية وهي مُرَادفة للهمزة في التَّعدية، هذا مذهب الجمهور.
وزعم أبو العباس أنَّ بينهما فرقاً، وهو أن الباء يلزم معها مُصَاحبة الفاعل للمفعول في ذلك الفِعْلِ الذي قبله، والهزة لا يلزم فيها ذلك.
فإذا قلت: "ذهبت بزيد" فلا بُدَّ أن تكون قد صاحبته في الذَّهَاب فذهبت معه.
وإذا قلت: أذهبته جاز أن يكون قد صحبته وألاَّ يكون.
وقد رد الجمهور على المُبَرّد بهذه الآية؛ لأن مصاحبته - تعالى - لهم في الذهاب مستحيلة.
ولكن قد أجاب [أبو الحسن] ابن عُصْفور عن هذا بأنه يجوز أن يكون - تعالى - قد أسند إلى نفسه ذهاباً يليق به، كما أسند إلى نفسه - تعالى - المجيء والإتيان على معنى يليق به، وإنما يُرَد عليه بقول الشاعر: [الطويل].

233- دِيارُ الَّتِي كَانَتْ وَنَحْنُ عَلَى مِنَى تَحُلُّ بِنَا لَوْلاَ نَجَاءُ الرَّكائِبِ

أي: تجعلنا جلالاً بعد أن كُنَّا مُحْرِمِين بالحج، ولم تكن هي مُحْرِمَة حتى تصاحبهم في الحِلِّ؛ وكذا قول امرىء القيس: [الطويل]

234- كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللِّبْدُ عَنْ حَالِ مَتْنِهِ كَمَا زَلَّتِ الصَّفْوَاءُ بِالمُتَنَزِّلِ

"الصفواء" الصخرة، وهي لم تصاحب الذي تزله.
والضمير في "بنورهم" عائد على مَعْنَى الذي كما تقدم.
وقال بعضهم: هو عائد على مُضَاف محذوف تقديره: كمثل أصحاب الذي استوقد، واحتاج هذا القائل إلى هذا التقدير، قال: حتى يتطابق المشبه والمشبه به؛ لأنّ المشبه جمع، فلو لم يقدر هذا المُضَاف، وهو"أصحاب" لزم أن يشبه الجمع بالمفرد وهو الذي استوقد. ولا أدري ما الذي حمل هذا القائل على مَنْعِ تشبيه الجمع بالمفرد في صفة جامعة بينهما، وأيضاً فإنَّ المشبّه والمشبه به إنما هو القصّتان، فلم يقع التشبيه إلاَّ بين قصَّتين إحداهما مُضافة إلى جمع، والأخرى إلى مُفْرد.
قوله: { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } ههذه جملة معطوفة.
فإن قيل: لم قيل: ذهب بنورهم، ولم يقل: أذهب الله نورهم؟
فالجواب: أن معنى أذهبه: أزاله، وجعله ذاهباً، ومعنى ذهب به: إذا أخذه، ومضى به معه، ومنه: ذهب السُّلطان بماله: أخذه، قال تعالى:
{ { فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ } [يوسف: 15] فالمعنى: أخذ الله نوره، وأمسكه، فهو أبلغ من الإذهاب، وقرأ اليماني: "أَذْهَبَ اللهُ نُورَهُمْ".
فإن قيل: هلاّ قيل: ذهب الله بضوئهم [لقوله: { فَلَمَّآ أَضَاءَتْ }؟
الجواب: ذكر النور أبلغ؛ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة].
فلو قيل: ذهب الله بضوئهم لأوهم ذهاب [الكمال، وبقاء] ما يسمى نوراً والغرض إزالة النُّور عنهم بالكلية، أَلاَ ترى كيف ذكر عقيبه: { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } والظلمة عبارة عن عدم النور.
وقوله: [{ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }] هذه جملة معطوفة على قوله: "ذهب الله"، وأصل الترك: التخلية، ويراد به التّصيير، فيتعدّى لاثنين على الصَّحيح؛ كقول الشَّاعر: [البسيط]

235- أَمَرْتُكَ الخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَشَبِ

فإن قلنا: هو متعدّ لاثنين كان المفعول الأول هو الضمير، والمفعول الثاني: "في ظلمات" و "لا يبصرون" حال، وهي حال مؤكدة؛ لأن من كان في ظلمة فهو لا يُبْصِرُ.
وصاحب الحال: إما الضمير المنصوب، أو المرفوع المُسْتَكِنّ في الجار والمجرور.
ولا يجوز أن يكون "في ظلمات" حالاً و "لا يبصرون" هو المفعول الثاني؛ لأن المفعول الثاني خبر في الأصل، والخبر لا يؤتى به للتأكيد، فإذا جعلت "في ظلمات" حالاً فهم من عدم الإبصار، فلو يفد قولك بعد ذلك: "لا يبصرون" إلا التَّأكيد، لكن التأكيد ليس من شَأْنِ الأخبار، بل من شأن الأحوال؛ لأنها فضلات.
ويؤيّد ما ذكرت أن النحويين لما أعربوا قول امرىء القيس: [الطويل]

236- إِذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوَّلِ

أعربوا: "شقّ" مبتدأ و "عندنا" خبره، و "لم يُحَوَّلِ" جملة حالية مؤكدة؛ قالوا: وجاز الابتداء بالنكرة، لأنه موضع تفصيل، وأبوا أن يجعلوا "لم يُحَوَّلِ" خبراً، و "عندنا" صفة لـ "شق" مُسَوِّغاً للابتداء به قالوا: لأنه فهم معناه من قوله: "عندنا"؛ لأنه إذا كان عنده عُلِمَ منه أنه لم يُحَوَّل.
وقد أعربه أبو البَقَاءِ كذلك، وهو مردود بما ذكرت.
ويجوز إذا جعلنا "لا يبصرون" هو المفعول الثّاني أن يتعلّق "في ظُلُمَاتٍ" به، أو بـ "تركهم"، التقدير: "وتركهم لا يبصرون في ظلمات". وإن كان "ترك" متعدياً لواحد كان "في ظُلُمَاتٍ" متعلّقاً بـ "تركهم"، و "لا يبصرون" حال مؤكّدة، ويجوز أن يكون "في ظُلُمَاتٍ" حالاً من الضَّمير المنصوب في "تركهم"، فيتعلّق بمحذوف، و "لا يبصرون" حال أيضاً، إما من الضمير في تركهم، فيكون له حالان، ويجري فيه الخلاف المتقدّم، وإما من الضمير المرفوع المستكنّ في الجار والمجرور قبله، فتكون حالين متداخلتين.
فصل في سبب حذف المفعول
فإن قيل: لم حذف المفعول من "يبصرون"؟
فالجواب: أنه من قبيل المَتْرُوك الذي لا يلتفت إلى إخطاره بِالبَالِ، لا من قبيل المقدّر المَنْوِيّ كأنّ الفعل غير متعدٍّ أصلاً.
قال ابن الخطيب: ما وجه التمثيل في أعطي نوراً، ثم سلب ذلك النور، مع أنّ المنافق ليس هو نور، وأيضاً أن من استوقد ناراً فأضاءت قليلاً، فقد انتفع بها وبنورها ثم حرم، والمنافقون لا انتفاع لهم ألبتة بالإيمان، وأيضاً مستوقد النَّار قد اكتسب لنفسه النور، والله - تعالى - ذهب بنوره، وتركه في الظُّلمات، والمنافق لم يكتسب خيراً، وما حصل له من الحيرة، فقد أتي فيه من قبل نفسه، فما وجه التَّشبيه؟
والجواب: أنَّ العلماء ذكروا في كيفية التَّشبيه وجوهاً:
أحدها: قال السّدي: إن ناساً دخلوا في الإسلام عند وصوله - عليه الصلاة والسلام - إلى "المدينة" ثم إنهم نافقوا، والتشبيه - هاهنا - في غاية الصحة؛ لأنهم بإيمانهم أولاً اكتسبوا نوراً، ثم بنفاقهم ثانياً أبطلوا ذلك النور، ووقعوا في حيرة من الدنيا، وأما المتحيّر في الدِّين، فإنه يخسر نفسه في الآخرة أبَد الآبدين.
وثانيها: إن لم يصحّ ما قاله السّدي بل كانوا مُنَافقين من أول الأمر، فهاهنا تأويل آخر.
قال ابن عباس: وقتادة، ومقاتل، والضحاك، والسدي، والحسن: نزلت في المُنَافقين يقول: مَثَلُهُمْ في نفاقهم كَمَثَلِ رجل أوقد ناراً في ليلة مظلمة في مَغَارَةٍ، فاستدفأ، ورأى ما حوله فاتَّقَى مما يخاف، فَبَيْنَا هو كذلك إذْ طُفِئَتْ ناره، فبقي في ظلمة خائفاً متحيراً، فكذلك المنافقون بإظهارهم كلمة الإيمان أمنوا على أموالهم، وأولادهم، وناكحوا المؤمنين، وأورثوهم، وقاسموهم الغَنَائم، وسائر أحكام المسلمين، فذلك نورهم، فإذَا ماتوا عادوا إلى الظُّلْمَة والخوف، ولما كان ذلك بالإضافة إلى العذاب الدَّائم مثل الذّرة، شبههم بمستوقد النَّار الذي انتفع بضوئها قليلاً، ثم سلب ذلك، فدامت حسرته وحيرته للظُّلمة العَظِيمةِ التي جاءته عقيب النُّور اليسير.
وثالثها: أن نقول ليس التَّشبيه في أنَّ للمنافق نوراً، بل وجه التَّشْبيه بالمستوقد أنه لما زال النُّور عنه تحيَّروا تحيُّرَ من كان في نور ثم زال عنه أشَدّ من تحيّر سالك الطريق في ظلمة مستمرة، لكنه - تعالى - ذكر النور في مستوقد النَّار لكي يصحّ أن يوصف بهذه الظُّلمة الشديدة، لا أن وجه التشبيه مجمع النور والظلمة.
ورابعها: قال مُجَاهد: إنَّ الذي أظهروه يوهم أنه من باب النور الذي ينتفع به، وذهاب النور هو ما يظهره لأصحابه من الكفر والنِّفَاق، ومن قال بهذا قال: إن المثل إنما عطف على قوله:
{ { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوۤا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ } [البقرة: 14] فالنار مثل لقولهم: "ءَامنا" وذهابه مثل لقولهم للكُفّار "إنا معكم".
فإن قيل: كيف صار ما يُظْهره المنافق من كلمة الإيمان ممثلاً بالنور، وهو حين تكلّم بها أبطن خلافها؟
قلنا: لو ضم إلى القول اعتقاداً له وعملاً به لأتم النور لنفسه، لكنه لمَّا لم يفعل لم يتم نُوره، وإنما سمى مجرّد ذلك القول نوراً؛ لأنه قول حقّ في نفسه.
وخامسها: يجوز أن يكون استيقاد النار عبارةً عن إظهار المُنَافق كلمة الإيمان، وإنما سمى نوراً؛ لأنه يتزين به ظاهراً فيهم، ويصير ممدوحاً بسببه فيما بينهم، ثم إنّ الله يذهب ذلك النور بِهَتْكِ ستر المُنَافق بتعريف نبيّه والمؤمنين حقيقة أمره، فيظهر له اسم النِّفَاق بدل ما يظهر منه من اسم الإيمان، فيبقى في ظُلُمَاتٍ لا يبصر؛ إذ النُّور الذي كان له قبل كَشْفِ الله أمره قد زال.
وسادسها: أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضَّلاَلة بالهُدَى عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هُدَاهم الذي باعوه بالنار المُضِيئة ما حول المستوقد والضَّلاَلة التي اشتروها، وطبع بها على قُلُوبِهِمْ بذهاب الله بنورهم، وتركه إيّاهم في ظلمات.
وسابعها: يجوز أن يكون المستوقد - هاهنا - مستوقد نار لا يرضاها الله تعالى، والغرض تشبيه الفتنة التي حاول المنافقون إثارتها بهذه النار، فإنَّ الفتنة التي كانوا يثيرونها كانت قليلة البقاء، ألا ترى إلى قوله تعالى:
{ { كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ } [المائدة: 64].
وثامنها: قال سعيد بن جبير: نزلت في اليهود، وانتظارهم لخروج النبي - عليه الصلاة والسلام - لإيقاد النَّار، وكفرهم به بعد ظهوره، كزوال ذلك النور؛ قاله محمد بن كَعْبٍ، وعطاء.
والموقود - هنا - هو سطوع النَّار وارتفاع لهبها.
والنَّار: جوهر لطيف مضيء حامٍ محرق، واشتقاقها من نَارَ يَنُورُ إذا نفر؛ لأن فيها حركةً واضطراباً، والنور مشتق منها، وهو ضوؤها، والمنار العلامة، والمَنَارة هي الشَّيء الذي يؤذن عليها ويقال أيضاً للشيء الذي يوضع عليه السّراج منارة، ومنه النُّورَة لأنها تطهر البدن، والإضاءة فرط الإنارة، ويؤيده قوله تعالى:
{ { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً } [يونس: 5].
وما حول الشيء فهو الذي يتّصل به تقول: دار حوله وحواليه.
والحَوْل: السَّنة؛ لأنها تحول، وحال عن العَهْدِ أي: تغير، ومنه حال لونه.
والحوالة: انقلاب الحَقّ من شخص إلى شخص، والمُحَاولة: طلب الفعل بعد أن لم يكن طالباً له، والحَوَل: انقلاب العَيْنِ، وَالحِوَل: الانقلاب قال تعالى:
{ { لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } [الكهف: 108].
والظّلمة: عدم النُّور عما من شأنه أنْ يَسْتَنِيرَ، والظّلم في الأصل عِبَارَةٌ عن النُّقصان قال تعالى:
{ { ءَاتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً } [الكهف: 33] أي: لم تَنْقُص.
والظّلم: الثلج، لأنه ينقص سريعاً. والظَّلَمُ: ماء آسنٌ وطلاوته وبياضه تشبيهاً له بالثلج.