التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
١٨٣
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

"الصِّيَام": مفعولٌ لم يسمَّ فاعله، وقدَّم عليه هذه الفضلة، وإن كان الأصل تأخيرها عنه؛ لأن البداءة بذكر المكتوب عليه آكد من ذكر المكتوب لتعلُّق الكتب بمن يؤدي، والصِّيام مصدر صام يصوم صوماً، والأصل: "صِوَاماً"، فأبدلت الواو ياء، والصَّوم مصدر أيضاً، وهذان البناءان - أعني: فعل وفعال - كثيران في كلِّ فعل واويِّ العين صحيح اللام، وقد جاء منه شيءٌ قليلٌ على فعولٌ؛ قالوا: "غَارَ غُوُوراً"، وإنما استكرهوه؛ لاجتماع الواوين، ولذلك همزه بعضهم، فقال: "الغُئُور".
قال أبو العباس المقرئ: وقد ورد في القرآن "كَتَبَ" بإزاء أربعة معانٍ:
الأول: بمعنى فرض؛ قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ ٱلصِّيَامُ }، أي: فُرِضَ.
الثاني: بمعنى قضى؛ قال تعالى:
{ كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ } [المجادلة: 21]، ومثله: { قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا } [التوبة: 51].
الثالثُ: بمعنى جَعَل؛ قال تعالى:
{ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } [المائدة: 21]، أي: جعَلَ لكم، ومثله: { كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ } [المجادلة: 22] أي: جعل.
الرابع: بمعنى أمر؛ قال تعالى:
{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } [المائدة: 45]، أي: أمرناهم.
والصيام لغةً: الإمساك عن الشيء مطلقاً، ومنه صامت الرَِّيح: أمسكت عن الهبوب، والفرس: أمسكت عن العدو؛ قال: [البسيط]

928 - وخَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ تَحْتَ العَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا

وقال تعالى: { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْمًا } [مريم: 26]، أي: سكوتاً؛ لقوله: { فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً } [مريم: 26] وصام النهار، اشتدَّ حرُّه؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]

929 - فَدَعْهَا وَسَلِّ الهَمَّ عَنْهَا بِجَسْرَةٍ ذَمُولٍ إذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرَا

وقال: [الرجز]

930 - حَتَّى إذَا صَامَ النَّهَارُ وَاعْتَدَلْ وَمَالَ لِلشِّمْسِ لُعَابٌ فَنَزَلْ

كأنهم توهَّموا ذلك الوقت إمساك الشمس عن المسير، ومصام النُّجوم: إمساكها عن السَّير؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]

931 - كَأَنَّ الثُّرَيَّا عُلِّقَتْ في مَصَامِهَا بَأَمْرَاسِ كَتَّانٍ إلى صُمِّ جَنْدَلِ

ويقال: بَكْرَةٌ صائمةٌ، إذا قامت فلم تدر.
قال الراجز: [الرجز]

932 - وَالبَكَرَاتُ شَرُّهُنَّ الصَّائِمَهْ

وفي الشَّريعة: هو الإمساك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس عن المفطرات؛ حال العلم بكونه صائماً، [مع اقترانه بالنِّيَّة].
قوله: "كَمَا كُتِبَ" فيه خمسة أوجه:
أحدها: أن محلّها النصب على نعت مصدر محذوف، أي: كتب كتباً؛ مثل ما كتب.
الثاني: أنه في محل نصب حال من المصدر المعرفة، أي: كتب عليكم الصِّيام الكَتْبَ مشبهاً ما كتب، و"ما" على هذين الوجهين مصدريةٌ.
الثالث: أن يكون نعتاً لمصدر من لفظ الصيام، أي: صوماً مثل ما كتب، فـ"ما" على هذا الوجه بمعنى "الذي"، أي: صوماً مماثلاً للصوم المكتوب على من قبلكم، و"صوماً" هنا مصدر مؤكِّد في المعنى؛ لأن الصِّيام بمعنى:"أنْ تَصُوموا صَوْماً" قاله أبو البقاء -رحمه الله -، وفيه أن المصدر المؤكِّد يوصف، وقد تقدَّم منعه عند قوله تعالى:
{ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 180] قال أبو حيَّان - بعد أن حكى هذا عن ابن عطية -: وهذا فيه بعدٌ؛ لأنَّ تشبيه الصَّوم بالكتابة لا يصحُّ، [هذا إن كانت "ما" مصدريَّةً، وأمَّا إن كانت موصولةً، ففيه أيضاً بعدٌ؛ لأنَّ تشبيه الصَّوم بالصَّوم لا يصحُّ]، إلا على تأويلٍ بعيدٍ.
الرابع: أن يكون في محل نصب على الحال من "الصِّيام" وتكون "ما" موصولةً، أي: مشبهاً الذي كتب، والعامل فيها "كُتِبَ"؛ لأنَّه عاملٌ في صاحبها.
الخامس: أن يكون في محلِّ رفع؛ لأنه صفة للصيام، وهذا مردودٌ بأن الجارَّ والمجرور من قبيل النَّكرات، والصِّيام معرفةٌ؛ فكيف توصف المعرفة بالنكَّرة؟ وأجاب أبو البقاء عن ذلك؛ بأن الصَّيام غير معين؛ كأنَّه يعني أن "ألْ" فيه للجنس، والمعرَّف بأل الجنسيَّة عندهم قريبٌ من النَّكرة؛ ولذلك جاز أن يعتبر لفظه مرَّةً، ومعناه أخرى؛ قالوا" أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ الحُمْرُ والدِرْهَمُ البِيضُ"، ومنه:

933 - وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ: لاَ يَعْنِينِي

{ { وَءَايَةٌ لَّهُمُ ٱلْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ } [يس: 37] وقد تقدّم الكلام على مثل قوله: { وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [البقرة: 21] كيف وصل الموصول بهذا؛ والجواب عنه في قوله: { خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [البقرة: 21]
فصل في المراد بالتشبيه في الآية
في هذا التشبيه قولان:
أحدهما: أنه عائد إلى أصل إيجاب الصوم، يعني: هذه العبادة كانت مكتوبةً على الأنبياء والأمم من ولد آدم - عليه الصلاة والسلام - إلى عهدكم لم تخل أمَّةٌ من وجوبها عليهم.
وفائدة هذا الكلام: أنَّ الشَّيء الشاقَّ إذا عمَّ، سهل عمله.
القول الثاني: أنه عائد إلى وقت الصَّوم، وإلى قدره، وذكروا فيه وجوهاً:
أحدها: قال سعيد بن جبير "كَانَ صَومُ مَنْ قَبْلَنَا مِنَ العَتَمَةِ إلى اللَّيْلة القَابِلَة؛ كما كان في ابتداءِ الإسْلاَمِ".
ثانيها: أن صوم رمضان كان واجباً على اليهود والنصارى، أما اليهود فإنها تركته وصامت يوماً في السَّنة، زعموا أنه يوم أن غرق فيه فرعون، وكذبوا في ذلك أيضاً؛ لأن ذلك اليوم يوم عاشوراء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وأما النصارى، فإنهم صاموا رمضان زماناً طويلاً، فصادفوا فيه الحرَّ الشديد، فكان يشقُّ عليهم في أسفارهم ومعايشهم، فاجتمع رأي علمائهم على أن يجعلوا صيامهم في فصل من السَّنة بين الشِّتاء والصِّيف، فجعلوه في الرَّبيع، وحوَّلوه إلى وقتٍ لا يتغيَّر، ثم قالوا عند التَّحويل: زيدوا فيه عشرة أيَّام كفَّارةً لما صنعوا؛ فصار أربعين يوماً، ثم إنَّ ملكاً منهم اشتكى، فجعل لله عليه، إن برىء من وجعه: أن يزيد في صومهم أسبوعاً، فبرىء، فزادوه، ثمَّ جاء بعد ذلك ملكٌ آخر؛ فقال: ما هذه الثلاثة، فأتَمَّهُ خمسين يوماً، وهذا معنى قوله:
{ ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ } [التوبة: 31]. قاله الحسن.
وثالثها: قال مجاهدٌ: أصابهم موتان، فقالوا: زيدوا في صيامكم، فزاداو عشراً قبل وعشراً بعد.
ورابعها: قال الشعبي: إنهم أخذوا بالوثيقة، وصاموا قبل الثلاثين يوماً، وبعدها يوماً، ثم لم يزل الأخير يستسن بالقرن الذي قبله، حتى صاروا إلى خمسين يوماً، ولهذا كُرِّه صوم يوم الشَّكِّ.
قال الشعبي: لو صمت السَّنة كلَّها، لأفطرت اليوم الذي يشك فيه، فيقال: من شعبان، ويقال: من رمضان.
وخامسها: أن وجه التَّشبيه أن يحرم الطَّعام والشَّراب والجماع بعد اليوم؛ كما كان قبل ذلك حراماً على سائر الأمم؛ لقوله تعالى:
{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ } [البقرة: 187]. فإن هذا يفيد نسخ هذا الحكم، ولا دليل يدلُّ عليه إلاَّ هذا التَّشبيه، وهو قوله: { كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ }؛ فَوَجبَ أن يكُون هذا التَّشبيه دالاًّ على ثبوت هذا المعنى.
قال أصحاب القول الأول: إن تشبيه شيء بشيء لا يدلُّ على مشابهتهما من كلِّ الوجوه، فلم يلزم من تشبيه صومنا بصومهم أن يكون صومهم مختصّاً برمضان، وأن يكون صومهم مقدَّراً بثلاثين يوماً، ثم إنَّ مثل هذه الرِّواية مما ينفِّر من قبول الإسلام، إذا علم اليهود والنصارى كونه كذلك.
وقوله: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } يعني: بالصَّوم؛ لأنَّ الصَّوم وصلةٌ إلى التَّقوى؛ لما فيه من قهر النَّفسِ، وكسر الشَّهوات، وقيل: لعلَّكم تحذرون عن الشَّهوات من الأكل، والشُّرب، والجماع، وقيل: "لعلَّكم تتَّقون" إهمالها، وترك المحافظة عليها، بسبب عظم درجتها، وقيل: لعلَّكم تكونون بسبب هذه العبادة في زمرة المتقين، لأن الصوم شعارهم.