التفاسير

< >
عرض

وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ
١٩٥
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

اعلم أنَّ تعلُّق هذه الآية الكريمة بما قبلها من وجهين:
الأول: أنَّه تعالى، لمَّا أمرهُ بالقتالِ وهو لا يتيسَّر إلاَّ بآلاتٍ وأدواتٍ يحتاجُ فيها إلى المال، وربَّما كان ذو المالِ عاجزاً عن القتال، وكان الشُّجاع القادرُ على القتال عديم المال فقيراً، فلهذا أمر اللَّهُ تعالى الأغنياء بأن ينفقوا على الفُقراء الَّذين يقدرون على القتال.
والثاني: يروى أنَّه لمَّا نزَلَ قولُهُ تعالى:
{ ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } [البقرة: 194] قال رجلٌ من الحاضرين: واللَّهِ، يا رسول الله ما لَنَا زادٌ، وليس أحدُ يُطْعمنَا؛ فأمر رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف، وكَرَّم، وبَجَّل، وعَظَّم - أن ينفقوا في سبيل الله، وأن يتصدَّقوا وألاَّ يكفُّوا أيديهم عن الصَّدقة، ولو بشقِّ تمرةٍ تُحملُ في سبيل الله فيهلكوا، فنزلت الآية الكريمة على وفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف، وكَرَّم، وبَجَّل، وعَظَّم -.
والعلم: أنَّ الإنفاقَ هو صرفُ المالِ إلى وجوه المصالحِ؛ فلذلك لا يُقالُ في المُضَيِّع: إنَّه مُنفقٌ، وإذا قُيِّد الإنفاقُ بذكر "سَبِيلِ اللَّهِ"، فالمرادُ به في طريق الدِّين؛ لأنَّ السَّبيل هو الطريقُ، وسبيلُ الله هو دينُهُ، فكلُّ ما أمر الله تعالى به من الإنفاق في دينِهِ، فهُوَ داخِلٌ في الآية الكريمة، سواءٌ كان في حجٍّ، أو عُمرةٍ، أو كان جهاداً بالنَّفس أو تجهيزاً للغير أو كان إنفاقاً في صلة الرَّحم، أو في الصَّدقات، أو على القتالِ، أو في الزَّكاةِ، أو الكَفَّارة، أو في عمارة السَّبيل، وغير ذلك، إلاَّ أنَّ الأقربَ في هذه الآية الكريمة ذكرُ الجهاد، فالمرادُ هاهنا الإنفاقُ في الجهاد؛ لأنَّ هذه الآية الكريمة، إنَّما نزلت وقت ذهاب رسُول الله - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف، وكَرَّم، وبَجَّل، وعَظَّم - لعُمرة القضاء، وكانت تلك العُمرةُ لا بُدَّ مِنْ أن تُفضي إلى القتالِ، إنْ منَعَهم المُشركُونَ، فكانَتْ عمرةً وجهاداً، فاجتمعَ فيها المعنيانِ؛ فلا جَرَم، قال تعالى { وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ }.
قوله تعالى: { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ }.
في هذه الباء ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها زائدةٌ في المفعول به؛ لأن "أَلْقَى" يتعدَّى بنفسه؛ قال تبارك وتعالى
{ فَأَلْقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ } [الشعراء: 45]، وقال القائل: [الكامل]

976 - حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَداً فِي كَافِرٍ وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلاَمُهَا

فزيدت الباءُ في المفعول، كما زيدَت في قوله: [الطويل]

977 - وَأَلْقَى بِكَفَّيْهِ الْفَتَى اسْتِكَانَةً مِنَ الْجُوعِ وَهْنَاً مَا يُمِرُّ وَمَا يَحْلُو

وهذا قولُ أبي عبيدة، وإليه ميلُ الزمخشري، قال: "والمعنى: ولا تُقْبِضُوا التهلُكَةَ أيدِيكُمْ، أي لا تَجْعَلُوها آخِذَةً بأيديكُمْ مالكةً لكُمْ"، إلا أنه مردودٌ بأنَّ زيادة الباء في المفعول به لا تَنقاسُ، إنما جاءت في الضَّرورة؛ كقوله: [البسيط]

978 -................. سُودُ المَحَاجِرِ لا يَقْرأْنَ بالسُّوَرِ

الثاني: أنها متعلقةٌ بالفعل غيرُ زائدةٍ، والمفعولُ محذوفٌ، تقديرُه: ولا تُلْقُوا أنْفُسَكُمْ بأيديكُم، ويكُونُ معناها السَّبَبَ؛ كقولك: لا تُفْسِد حالك برأيك.
الثالث: أن يُضمَّن "أَلْقَى" معنى ما يتعدَّى بالباء؛ فيُعدَّى تعديته، فيكون المفعولُ به في الحقيقة هو المجرور بالباء، تقديره: ولا تُفْضُوا بأيديكُم إلى التَّهْلُكة؛ كقولك: أَفْضَيْتُ بِجَنْبِي إلى الأرض، أي: طرحتُهُ على الأرض، ويكونُ قد عَبَّرَ بالأيدي عن الأنفس كقوله:
{ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } [الحج: 10] { فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [الشورى: 30] لأنَّ بها البَطشَ والحركة، وظاهرُ كلام أبي البقاء فيما حكاهُ عن المُبرِّد: أن "ألْقَى" يتعدَّى بالباء أصلاً كـ"مَرَرْتُ بزيدٍ"، والأولى حملُهُ على ما ذكرناه.
والهمزة في "أَلْقَى" لِلْجعل على صفةٍ، نحو: أطْرَدْتُهُ، أي: جعلتُهُ طريداً، الهمزة فيه: ليست للتعدية؛ لأنَّ الفعل متعدٍّ قبلها، فمعنى "ألقَيْتُ الشيْءَ": جَعَلْتُه لُقى، فهو "فُعَلٌ" بمعنى "مَفْعُول"؛ كما أن الطريد "فَعِيلٌ" بمعنى "مَفْعُول"؛ كأنه قيل: لا تَجْعَلُوا أنفسَكُم لُقى إلى التَّهْلُكَة. والتَّهْلُكَةُ: مصدرٌ بمعنى "الهلاكِ، يُقَالُ: هَلَكَ يَهْلِكُ هُلْكاً، وهَلاكاً، وهَلْكَاءَ، على وزن فعلاء، ومَهْلِكاً ومَهْلُكَةً، مثلَّث العين، وتَهْلُكَةً، وقال الزمخشري: "ويجوزُ أن يقال: أصلُها التَّهْلِكَةُ؛ بكسر اللام، كالتَّجْرِبة؛ على أنه مصدرٌ من هلَّك - يعني بتشديد اللامِ - فَأُبْدلتِ الكسرةُ ضَمَّةً؛ كالجِوار والجُوار"، وردَّ أبو حيَّان بأنَّ فيه حَمْلاً على شاذٍّ ودَعوى إبدال، لا دليلَ عليها؛ وذلك أنه أنه جعلَهُ تَفعلةً بالكسر، مصدرَ "فَعَّلَ" بالتشديد، ومصدرُه، إذا كان صحيحاً غيرَ مهموزٍ على "تَفْعِيل" و"تَفْعِلَةٌ" فيه شاذٌّ، وأمَّا تنظيره له بالجِوَار والجُوَار، فليس بشيء، لأنَّ الضمَّ فيه شاذٌّ، فالأولى أنْ يُقال: إنَّ الضَّمَّ أصلٌ غيرُ مبدلٍ من كسرٍ، وقد حكى سيبويه ممَّا جاء من المصادر على ذلك التَّضُرَّة والتَّسُرَّة.
قال ابن عطيَّة: "وقرأ الخليلُ التَّهْلِكَةَ، بكسر اللام، وهي تَفْعِلَةٌ، من هَلَّكَ بتشديد اللام" وهذا يُقَوِّي قول الزمشخري.
وزعم ثعلبٌ والجارزنجي أنَّ "تَهْلُكَةً" لا نظير لها، وليس كذلك. قال أبو علي: حكى سيبويه التَّضُرَّة والتَّسُرَّة قال: "ولا نعلمُهُ جاء صفةً".
قال ابن الخطيب -رحمه الله تعالى - إنّي لأَتَعَجَّبُ كثيراً من تكلُّفات هؤلاء النُّحاة في أمثال هذه المواضع، وذلك أنَّهُم وجدوا نَقلاً عن أعرابيٍّ مجهولٍ يكونُ حجتَّهُم فيه، ففرحُوا به، واتّخَذُوه حجَّةً قويَّةً، ودليلاً قاطِعاً، وقالُوا: قد نُقِلَ هذا عن العرب؛ فكيف، وقد وَرَدَ هذا في كَلاَمِ الله تعالى المشهُور له مِنْ كُلِّ واحدٍ من المُوافِق والمُخَالف بالفصاحة، وأعجز البُلَغَاء والفُصَحاء، وتحدَّاهم "بِأَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ" و "بِعَشْرِ سُوَرٍ" و "بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ" [فقال تعالى:
{ قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [الإسراء: 88] وقال: { قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } [هود: 13] وقال في موضع آخر: { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } [البقرة: 23] كيف لا يدلُّ ذلك على صحَّة هذه اللَّفظة، وفصاحتها، واستقامتها.
والمشهور: أنه لا فرق بين التَّهْلُكَة، والهلاك، وقال قومٌ: التَّهْلُكَةُ: ما أمكن التحرُّز منه، والهلاكُ: ما لا يمكن التحرُّز منه، وقيل: هي نفسُ الشَّيْءِ المُهْلِكِ، وقيل: هي ما تضُرُّ عاقبته.
فصل في اختلافهم في تفسير الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة
اختلفوا في تفسير الإلقاء بالأيدي إلى التَّهلكة.
فقال قومٌ: إنَّه راجعٌ إلى نفس النَّفقة.
وقال آخرون: إنَّه راجعٌ إلى غيرها، فالأوَّلون ذكروا وجوهاً:
أحدها: قال ابن عبَّاس، وحذيفة، وعطاءٌ، وعكرمةٌ، ومجاهدٌ، والجمهور، وإليه ذهب البُخَارِيُّ - رضي الله عنهم - ولم يذْكُروا غيره: ألاَّ ينفقوا في مهمَّات الجهاد أموالهم؛ فيستولي العَدُوُّ عليهم، ويهلكهم؛ فكأنَّه قيل: إن كنت من رجال الدِّين فأنفق مالك في سبيل الله، وفي طلب مرضاته، وإن كانت من رجالِ الدُّنيا، فأنفق مالك في دفع الهلاكِ، والضَّرَر عن نفسِكَ.
وثانيها: أنه تبارك وتعالى لمَّا أمر بالإنفاق نهى عن نفقة جمع المال؛ لأنَّ إنفاق الجميع يفضي إلى التَّهلكة عند الحاجة الشديدة إلى المأكول، والمشروب، والملبوسِ، فيكون المراد منه ما ذكره في قوله سبحانه:
{ وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [الفرقان: 67]، وقوله تعالى: { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } [الإسراء: 29].
وقيل: الإلقاءُ في التَّهْلُكَة: هو السَّفر إلى الجهاد بغَيْر زادٍ، نقله القُرْطُبيُّ عن زَيْد ابْنِ أَسْلَمَ، وقد فعل ذلك قومٌ، فانقطعوا في الطَّريق.
وأما القائلون: بأنَّ المراد منه غير النَّفقة، فذكروا وجوهاً:
أحدها: أن يخلُّوا بالجهاد، فيتعرَّضوا للهَلاَكِ الذي هو عذابُ النار.
ثانيها: لا تقتحموا في الحَرْبِ بحَيْثُ لا تَرْجُونَ إلاَّ قَتْلَ أنْفُسِكُمْ، فإنَّ قَتْلَ الإنْسانِ نَفْسَه لا يَحِلُّ، وإنما يجب الاقتحام إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل، فأمَّا إذا كان آيساً من النِّكاية، وكان الأغلب أنَّه مقتولٌ، فليس له الإقدام عليه، وهذا منقولٌ عن البَرَاءِ ابن عازب، ونقل عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّه قال في هذا: هو رجُلٌ يتنقّل بين الصفينِ. وطعن بعضهم في هذا التَّأوِيل؛ وقال: هذا القتلُ غير محرمٍ، واحتجَّ بأَحَادِيثَ.
الأول: روي أنَّ رجلاً من المهاجرين حمل على صَفِّ العدوِّ؛ فصاح به الناس؛ فألقى بيده إلى التَّهلكة؛ فقال أبو أيُّوبٍ الأنصاريّ: نحنُ أعلم بهذه الآية الكريمة، وإنما نزلت فينا: صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصرناه وشهدنا المشاهد، فلما قويَ الإسلام؛ وكثر أهله؛ رجعنا إلى إهالينا، وأموالنا، ومصالحنا؛ فنزلت الآية، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل، والمال، وترك الجهاد. فما زال أبو أيوبٍ مجاهداً في سبيل الله؛ حتَّى كان آخر غزاة غزاها بقسطنطينيّة في زمن معاوية، فتوفِّي هناك، ودُفن في أصل سور القسطنطينية، وهم يُسْتَسْقَوْنَ به.
"ورُوِيَ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الجنَّة؛ فقال له رجل من الأنصار: أرأيت يا رسول الله، إن قتلت صابراً محتسباً؟ فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - لك الجنة؛ فانغمس في العدوِّ؛ فقتلوه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم" .
وأنَّ رجلاً من الأنصار ألقى درعاً كان عليه، حين ذكر رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه دائماً أبداً - الجنة.
ورُوِيَ أنَّ رجلاً من الأنصار تخلَّف عن بني معاوية، فرأى الطير عكوفاً على من قتل من أصحابه؛ فقال لبعض من معه: سأتقدم إلى العدوِّح فيقتلونني، ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابي، ففعل ذلك؛ فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولاً حسناً.
وروي أنَّ قوماً حاصروا حصناً؛ فقاتل رجلٌ حتى قتل؛ فقيل: ألقى بيده إلى التَّهلكة، فبلغ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ذلك؛ فقال: كذبوا قال الله تعالى:
{ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ } [البقرة: 207].
ولقائلٍ أن يجيب عن هذه الآية؛ فيقول: إنَّما حرمنا إلقاء النفس في صفِّ العدوِّ، إذا لم يتوقع إيقاع النكاية فيهم، فأما إذا توقع، فنحن نجوز ذلك، فلم قلتم إنَّه يوجد هذا المعنى في هذه الوقائع؟
الوجه الثالث من تأويل الآية: أن يكون هذا متَّصلاً بقوله سبحانه:
{ ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } [البقرة: 194] أي: فلا تحملنَّكم حرمة الشهر على أن تستسلموا لمن قاتلكم، فتهلكوا بترككم القتال، فإنَّكم بذلك تكونون ملقين بأيديكم إلى التهلكة.
الوجه الرابع: أنَّ المعنى: أنفقوا في سبيل الله، ولا تقولوا: إنَّا نخاف الفقر، فنهلك إن أنفقنا، ولا يبقى معنا شيءٌ، فنهوا أن يجعلوا أنفسهم هالكين بالإنفاق، والمراد من هذا الفعل والإلقاء الحكم بذلك؛ كما يقال جعل فلانٌ فلاناً هلاكاً، وألقاه في الهلاك؛ إذا حكم عليه بذلك.
الوجه الخامس: قال محمد بن سيرين، وعبيدة السَّلمانيُّ: هو أنَّ الرجل يصيب الذنب الذي يرى أنه لا ينفعه معه عمل؛ فيستهلك في المعاصي، فذلك هو إلقاء النفس إلى التهلكة؛ فحاصله أنَّ معناه النَّهيُ عن القنوط من رحمة الله تعالى؛ لأن ذلك يحمل الإنسان على ترك العبودية، والإصرار على الذنب.
الوجه السادس: يحتمل أن يكون المراد { وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } ولا تلقوا ذلك الإنفاق في التهلكة، والإحباط؛ وذلك بأن تفعلوا بعد ذلك الإنفاق فعلاً يحبط ثوابه، إما بذكر المنَّة، أو بذكر وجوه الرياء، والسُّمعة؛ ونظيره قوله تعالى:
{ وَلاَ تُبْطِلُوۤاْ أَعْمَالَكُمْ } [محمد: 33].
وروي عن عكرمة: الإلقاء في التهلكة، قال تبارك وتعالى:
{ وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } [البقرة: 267].
وقال الطَّبَرِيُّ: هو عامٌّ في جميع ما ذُكر، لأن اللفظ يحتمله.
قوله "وَأَحْسِنُوا" اختلفوا في اشتقاق "المحْسِنِ"، فقيل: مشتقٌّ من فعل الحسن، وإنما كثر استعماله في من نفع غيره بنفع حسنٍ، من حيث إنَّ الإحسان حسنٌ في نفسه، وعلى هذا [التَّقْدِيرِ] فالضربُ، والقتلُ إذاً حَسُنَا، كان فاعلهما محسناً.
وقيل: مشتقٌّ من الإحسان؛ ففاعل الحسن لا يوصف بكونه محسناً؛ إلاَّ إذا كان فعله حسناً، وإحساناً معاً؛ فهذا الاشتقاق إنَّما يحصل من مجموع الأمرين.
قال الأصَمُّ: أَحْسِنُوا في فَرَائضِ اللَّهِ.
وقيل: أحسنوا في الإنفاق على من يلزمكم نفقته، والمقصود منه أن يكون، ذلك الإنفاق وسطاً من غير إسراف، ولا تقتير، وهذا أقرب لاتصاله بما قبله، ويمكن حمل الآية على الجميع.