التفاسير

< >
عرض

وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ ٱتَّقَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
٢٠٣
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ
٢٠٤
وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلفَسَادَ
٢٠٥
وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ
٢٠٦
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

قوله: "مَعْدُودَاتٍ": صفة لأيام، وقد تقدَّم أن صفة ما لا يعقل يطَّرد جمعها بالألف والتاء، وقد ذكر أبو البقاء هنا سؤالاً؛ فقال: إن قيل "الأيَّام" واحدها "يَوْم" و"المَعْدُودَات" واحدتها "مَعْدُودَةٌ"، واليوم لا يوصف بمعدودة، لأنَّ الصفة هنا مؤنثة، والموصوف مذكَّر، وإنما الوجه أن يقال: "أَيَامٌ مَعْدُودَةٌ" فتصف الجمع بالمؤنث، فالجواب أنه أجرى "مَعْدُودَاتٍ"، على لفظ "أَيَّام"، وقابل الجمع بالجمع مجازاً، والأصل "مَعْدُودَة"؛ كما قال: { لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } [البقرة: 80]، ولو قيل: إن الإيام تشتمل على السَّاعات، والساعة مؤنَّثة، فجاء الجمع على معنى ساعات الأيَّام، وفيه تنبيه على الأمر بالذِّكر في كلِّ ساعات هذه الأيام، أو في معظمها، لكان جواباً سديداً، ونظير ذلك الشهر والصَّيف والشتاء؛ فإنها يجاب بها عن "كَمْ"، و"كَمْ" إنما يجاب عنها بالعدد، وألفاظ هذه الأشياء ليست عدداً، وإنما هي أسماء المعدودات، فكانت جواباً من هذا الوجه. قال شهاب الدين وهذا تطويل من غير فائدةٍ، وقوله" مفرد معدوداتٍ معودةٌ بالتأنيث" ممنوعٌ، بل مفردها "مَعْدُود" بالتذكير، ولا يضرُّ جمعه بالألف والتاء، إذ الجمع بالألف والتاء لا يستدعي تأنيث المفرد؛ ألا ترى إلى قولهم: حمَّامات وسجلاَّت وسرادقات.
قال الكوفيُّون: الألف والتَّاء في "مَعْدُودَاتٍ" لأقلِّ العدد.
وقال البصريُّون: هما للقليل والكثير؛ بدليل قوله تعالى:
{ وَهُمْ فِي ٱلْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } [سبأ: 37] والغرفات كثيرة.
فصل
اعلم أنّ الله - تعالى - لمّا ذكر المشعر الحرام، لم يذكر الرَّمي لوجهين:
أحدهما: أنّ ذلك كان أمراً مشهوراً عندهم، وكانوا منكرين لذلك إلاّ أنّه - تعالى - ذكر ما فيه من ذكر الله - تعالى -؛ لأنهم كانوا لا يفعلونه.
الثاني: لعلَّه إنما لم يذكر الرَّمي؛ لأن في الأمر بذكر الله في هذه الأيَّام دليلاً عليه؛ إذ كان من سنَّته التكبير على كلِّ حصاةٍ.
فصل
قال هنا: في أيَّام معدوداتٍ، وفي سورة الحجِّ:
{ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ } [الحج: 28]، فقال أكثر أهل العلم، الأيَّام المعلومات: عشر ذي الحجَّة، آخرهن يوم النَّحر.
والمعدودات: هي أيَّام التَّشريق؛ وهي أيَّام منى، ورمي الجمار، وسمِّيت معدودات لقلَّتهن؛ كقوله:
{ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } [يوسف: 20] ولقوله تعالى بعده: { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ }، وأجمعت الأمَّة على أنّ هذا الحكم إنّما يثبت في أيَّام منى؛ وهي أيَّام التَّشريق.
قال الواحديّ -رحمه الله -:أيَّام التَّشريق ثلاثة أيَّام بعد يوم النَّحر:
أولها: يوم النَّفر؛ وهو الحادي عشر من ذي الحجَّة، يستقرُّ النَّاس فيه بمنًى.
والثاني: يوم النَّفر الأول؛ لأن بعض النَّاس ينفرون في هذا اليوم من منًى.
والثَّالث: يوم النَّفر الثَّاني: وهذه الأيّام الثّلاثة مع يوم النَّحر كلُّها أيَّام النَّحر، وعند أحمد -رحمه الله -:عند آخر وقت النَّحر إلى يومين من أيَّام التَّشريق، وأيّام التَّشريق مع يوم النَّحر أيام رمي الجمار؛ وأيّام التكبير أدبار الصَّلوات.
واستدلَّ القفَّال على أنّ الأيَّام المعدودات هي أيَّام التَّشريق بما روى عبد الرَّحمن بن يعمر الدئلي؛ أنّ رسول الله صلى الله عيله وسلم أمر منادياً فنادى، "الحَجُّ عَرَفَةُ، من جَاء لَيْلَة جمْعٍ قبل طُلُوعِ الفَجْرِ، فقد أدرك الحجَّ، وأيّام منىً ثلاثَة أيّام، فمن تَعَجَّل في يَوْمَيْن فلا إثْمَ عَلَيْه، ومن تَأَخَّر فلا إثْمَ عَلَيْه، وهذا يدلُّ على أنّ الأيَّام المعدودات هي أيَّام التَّشريق.
وروي عن ابن عبَّاس: "المَعْلُومَات" يوم النَّحر ويومان بعده، و"المَعْدُودَات" أيام التَّشريق.
وعن علي - رضي الله عنه - قال: "المَعْلُومَات يوم النَّحْرِ وثَلاَثَة بَعْدَه".
وروى عطاء عن ابن عباس: "المَعْلُومات يوم عَرَفَة والنَّحْر وأيّام التَّشْرِيق".
وقال محمد بن كعب: هما شيء واحد، وهي أيَّام التَّشريق، وروي عن نبيشة الهذلي؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أيَّام التَّشْرِيق أيّام أَكْلٍ وشُرْبٍ وذِكْرِ اللَّهِ، ومن الذِّكْر في أيَّام التَّشْرِيقِ التكْبِير"
فصل
اعلم أنّ المراد بالذكر في هذه الأيَّام: التكبير عند رمي الجمرات، وأدبار الصلوات.
وروي عن عمر، وعبد الله بن عمر؛ أنّهما كانا يكبِّران بمنًى تلك الأيّام خلف الصَّلوات، وفي المجلس، وعلى الفراش والفسطاط، وفي الطَّريق، ويكبِّر النَّاس بتكبيرهما، ويتلوان هذه الآية.
وذهب الجمهور إلى أنّ التكبير عقيب الصَّلوات مختصٌّ بعيد الأضحى، [في حق الحاجِّ وغيره.
وذهب أحمد -رحمه الله - إلى أنّه يستحبُّ التكبير ليلة العيدين]. واختلفوا في ابتدائه وانتهائه.
فقال مالك الشَّافعي: يكبِّر المحرم وغيره عقيب الصَّلوات، من صلاة الظُّهر من يوم النَّحر، إلى بعد صلاة الصُّبح من آخر أيَّام التَّشريق، وهو قول ابن عبَّاس، وابن عمر؛ لأن التكبير إنَّما ورد في حقِّ الحاجِّ والنَّاس تبعٌ لهم، وذكر الحاجِّ قبل هذا الوقت هو التَّلبية، وهي تنقطع مع ابتداء الرَّمي.
وقال أحمد -رحمه الله -: يكبّر المحرم من صلاة الظُّهر يوم النَّحر إلى آخر أيَّام التَّشريق، روي ذلك عن علي وبه قال مكحول وأبو يوسف، وروي هذا القول عن بعضهم في حقّ المحرم أيضاً، روي عن علي وعمر وابن مسعود وابن عبَّاس.
وقال أبو حنيفة: يكبر المحرم وغيره من صلاة الصُّبح يوم عرفة، إلى بعد العصر يوم النَّحر، روى ذلك عن ابن مسعود وعلقمة والأسود والنَّخعي.
وللشافعي قول آخر: أنّه يبتدئ من صلاة المغرب ليلة النَّحر، إلى صلاة الصُّبح من آخر أيام التَّشريق، وله قول ثالث: أنّه يبتدئ من صلاة الصُّبح يوم عرفة إلى العصر من يوم النَّحر؛ وهو كقول أبي حنيفة - رضي الله عنه -.
فإن قيل: التكبير مضاف إلى الأيَّام المعدودات وهي أيّام التَّشريق، فينبغي ألاَّ تكون مشروعةً يوم عرفة.
فالجواب: أنّ هذا يقتضي ألاَّ يكون يوم النَّحر داخلاً فيها وهو خلاف الإجماع.
وصفة التكبير عند أهل العراق شفعاً: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، روي ذلك عن ابن مسعود - رضي الله عنهما - وهو قول أحمد.
وقال أهل المدينة: صفة التكبير: الله أكبر الله أكبر الله أكبر ثلاثاً نسقاً، وهو قول سعيد بن جبير والحسن، وبه قال مالك والشَّافعي وأبو حنيفة، ويقول بعده: لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
قوله تعالى: { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } "مَنْ" يجوز فيها وجهان:
أحدهما: أن تكون شرطيةٌ، فـ"تَعَجَّلَ" في محلِّ جزمٍ، والفاء في قوله: "فَلاَ" جواب الشرط والفاء وما في حَيِّزها في محلِّ جزم أيضاً على الجواب.
والثاني: أنها موصولة بـ"تَعَجَّلَ" فلا محلَّ لـ"تَعَجَّلَ"؛ لوقوعه صلةً، ولفظه ماضٍ، ومعناه يحتمل المضيَّ والاستقبال؛ لأنَّ كلَّ ما وقع صلةً، فهذا حكمه؛ والفاء في "فَلاَ" زائدة في الخبر، وهي وما بعدها في محلِّ رفع خبراً للمبتدأ.
قال القرطبي: "مَنْ" في قوله: "فَمَنْ تَعَجَّلَ" رفع بالابتداء، والخبر "فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ"، ويجوز في غير القرآن، فلا إثْمَ عَلَيْهِم؛ لأن معنى "مَنْ" جماعة؛ كقول - تبارك وتعالى -:
{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } [يونس: 42]، وكذلك "مَنْ تأَخَّرَ".
و"في يَوْمَيْنٍ" متعلِّق بـ"تَعَجَّلَ" ولا بدَّ من ارتكاب مجازٍ؛ لأن الفعل الواقع في الظرف المعدود يستلزم أن يكون واقعاً في كلٍّ من معدوداته، تقول: "سِرْتُ يَوْمَيْنِ" لا بد وأن يكون السير وقع في الأول والثاني أو بعض الثاني، وهنا لا يقع التعجيل في اليوم الأول من هذين اليومين بوجهٍ، ووجه المجاز: إمَّا من حيث إنَّه نسب الواقع في أحدهما واقعاً فيها؛ كقوله:
{ نَسِيَا حُوتَهُمَا } [الكهف: 61] و { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [الرحمن: 22]، والنَّاسي أحدهما: وكذلك المخرج من أحدهما، وإمَّا من حيث حذف مضاف، أي: في تمام يومين أو كمالهما.
و"تَعَجَّلَ" يجوز أن يكون بمعنى "اسْتَعْجَلَ" كـ"تَكَبَّرَ، واسْتَكْبَرَ"، أو مطاوعاً لـ"عَجَّل" نحو "كَسَّرْتُه فَتَكَسَّرَ"، أو بمعنى المجرَّد، وهو "عَجِلَ"، قال الزمخشريُّ: "والمطاوعة أوفَقُ"؛ لقوله: "ومَنْ تَأَخَّرَ"؛ كما هي في قوله: [البسيط]

1006 - قَدْ يُدْرِكُ الْمَتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ المُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ

لأجل قوله "المُتَأَنِّي". و"تَعَجَّلَ واسْتَعْجَلَ" يكونان لازمين ومتعدِّيين، ومتعلِّق التعجيل محذوف، فيجوز أن تقدِّره مفعولاً صريحاً، أي: من تعجَّل النَّفر، وأن تقدِّره مجروراً أي: بالنَّفر، حسب استعماله لازماً ومتعدِّياً.
وفي هذه الآيات من علمِ البديع: الطباق، وهو ذكر الشيء وضده في "تَعَجَّل وتَأَخَّرَ"، فهو كقوله:
{ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ } [النجم: 43] و { أَمَاتَ وَأَحْيَا } [النجم:44]، وهذا طباقٌ غريب، من حيث جعل ضدَّ "تَعَجَّلَ": "تَأَخَّرَ"، وإنما ضدُّ "تَعَجَّلَ": "تَأَنَّى"، وضدُّ "تَأَخَّرَ": "تقدَّم"، ولكنه في "تَعَجَّلَ" عبَّر بالملزوم عن اللازم، وفي "تَأَخَّرَ" باللازم عن الملزوم، وفيها من علم البيان: المقابلة اللفظيَّة، وذلك أن المتأخِّر بالنَّفر آتٍ بزيادة في العبادة، فله زيادة في الأجر على المتعجِّل، فقال في حقه أيضاً: "فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ"؛ ليقابل قوله أولاً: { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ }، فهو كقوله: { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى: 40] { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ } [البقرة: 194].
وذكر ابن الخطيب هنا سؤالاً؛ فقال: قوله: "وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ" فيه إشكالٌ؛ لأنه إذا كان قد استوفى كلَّ ما يلزمه في تمام الحجِّ، فما معنى قوله: "فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ" فهذا اللَّفظ إنما يقال في حقِّ المقصِّر، وأجاب بوجوه:
أحدها: ما تقدَّم من المقابلة، ونقله عن الواحدي.
وثانيها: أنّه - تعالى - لما أذن في التَّعجيل على سبيل الرُّخصة، احتمل أن يخطر بالبال أنَّ من لم يترخَّص فإنه يأثم. كما قال أبو حنيفة - رضي الله عنه -: القصر عزيمة والإتمام غير واجب، ومذهب أحمد -رحمه الله -: القصر والفطر في السَّفر أفضل، فأزال الله - تعالى - هذه الشُّبهة، وبيَّن أنه لا إثم عليه في الأمرين، فإن شاء تعجَّل وإن شاء تأخَّر.
وثالثها: قال بعض المفسِّرين: إن منهم من كان يتعجَّل، ومنهم من كان يتأخَّر، وكل واحد من الفريقين يعيب على الآخر فعله، ويقول: هو مخالفٌ لسنَّة الحجِّ، فبيَّن الله - تعالى - أنّه لا عيب على كلِّ واحد من الفريقين.
ورابعها: أنّ المعنى في إزالة الإثم عند المتأخِّر؛ إنما هو لمن زاد على مقام الثَّلاث؛ فكأنّه قيل: أيَّام منى التي ينبغي المقام فيها هي ثلاث، فمن نقَّص منها وتعجَّل في يومين، فلا إثم عليه، ومن زاد عليها فتأخَّر عن الثَّالث إلى الرَّابع؛ فلم ينفر مع النَّاس، فلا شيء عليه.
وخامسها: أنّه ذكر هذا الكلام؛ مبالغة في أن الحجَّ يكفِّر الذُّنوب والآثام؛ كما إذا تناول الإنسان التّرياق فيقول له الطَّبيب: إن تناولت السُّمَّ فلا ضرر وإن لم تتناوله فلا ضرر، ومقصوده بيان أن التّرياق دواء كامل في دفع المضارِّ، لا بيان أن تناول السُّمِّ وعدم تناوله يجريان مجرًى واحداً؛ فكذا ههنا المقصود من هذا الكلام بيان المبالغة في كون الحجِّ مكفِّراً لكلِّ الذُّنوب؛ لأن التَّعجيل وتركه سيَّان؛ ومما يدلُّ على أن الحجَّ سبب قويٌّ في تكفير الذُّنوب قوله - عليه السّلام -
"مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَومِ وَلَدَتْهُ أُمّهُ" ، وهنا قول عليٍّ وابن مسعود.
فصل
وقرأ الجمهور "فَلاَ إِثْمَ" بقطع الهمزة على الأصل، وقرأ سالم بن عبد الله: "فَلاَ اثْمَ" بوصلها وحذف ألف لا، ووجهه أنه خفَّف الهمزة بين بين فقربت من الساكن، فحذفها؛ تشبيهاً بالألف، فالتقى ساكنان: ألف "لاَ" وثاء "إِثْم"، فحذفت ألف "لاَ"؛ لالتقاء الساكنين، وقال أبو البقاء -رحمه الله تعالى -:"ووجهُها أنَّه لمَّا خَلَطَ الاسْمَ بـ"لاَ" حَذَفَ الهمزة؛ تشبيهاً بالألف" يعني أنه لمَّا ركِّبت "لاَ" مع اسمها، صارا كالشيء الواحد، والهمزة شبيهة الألف، فكأنه اجتمع ألفان، فحذفت الثانية لذلك، ثم حذفت الألف لسكونها وسكون الثَّاء.
فصل
قال القرطبي: روى الثِّقات؛ أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر أمَّ سلمة أن تصبح بمكَّة يوم النَّحر، وكان يؤمُّها، وهذا يدلُّ على أنّها رمت الجمرة بمنًى قبل الفجر؛ لأن هذا لا يكون إلاّ وقد رمت الجمرة بمنى ليلاً قبل الفجر.
وروى أبو داود عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة؛ أنّها قالت: "أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمِّ سلمة ليلة يوم النَّحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها". فإذا ثبت ذلك فالرَّمي باللَّيل جائز لمن فعله، والاختيار من طلوع الشَّمس إلى زوالها، وأجمعوا على أن من رماها قبل غروب الشَّمس من يوم النَّحر، فقد أجزأ ولا شيء عليه، إلا مالكاً؛ فإنه قال: يستحب له أن يهرقَ دماً.
واختلفوا فيمن لم يرمها حتى غابت الشَّمس، ورماها من اللَّيل أو من الغد، هل يلزمه دم أم لا؟
فصل
المبيت بمنى ليالي منى واجبٌ؛ لرمي الجمار في كلِّ يوم بعد الزَّوال إحدى وعشرين حصاةً، عند كل جمرة سبع حصيات، ويرخَّص في ترك المبيت لرعاء الإبل وأهل سقاية الحاجِّ، ثم من رمى اليوم الثاني من أيام التَّشريق، وأراد أن ينفر ويدع المبيت في اللَّيلة الثَّالية، ورمى يومها، فله ذلك؛ بشرط أن ينفر قبل غروب الشمس، فإن غربت الشمس وهو بمنى، لزمه المبيت بها والرَّمي من غد، هذا مذهب الشَّافعي وأحمد، وهو قول أكثر التَّابعين.
وقال أبو حنيفة: يجوز أن ينفر ما لم يطلع النحر؛ لأن وقت الرَّمي لم يدخل.
فصل
إذا ترك الرَّمي، فذكره بعدما صدر وهو بمكَّة، بعدما خرج منها، فعليه الهدي، وسواء ترك الجمار كلَّها، أو جمرة منها، أو حصاةً من جمرة، حتى خرجت أيَّام منى فعليه دمٌ، وإن ترك جمرة واحدة، كان عليه بكل حصاة من الجمرة إطعام مسكين نصف صاعٍ، إلى أن يبلغ دماً، إلاَّ جمرة العقبة فعليه دمٌ.
وقال الأوزاعي: يتصدّق إن ترك حصاةً، وقال الثَّوري: يطعم في الحصاة والحصاتين والثلاث، فإن ترك أربعاً فعليه دمٌ، وقال اللَّيث: في الحصاة الواحدة دم، نقله القرطبي.
فصل
قال القرطبي -رحمه الله تعالى -: من بقي في يده حصاة لا يدري من أيِّ الجمار هي، جعلها في الأولى ورمى بعدها الوسطى والآخرة، فإن طال، استأنف جميعاً.
قوله: "لِمَن اتَّقَى" هذا الجارُّ خبر مبتدأ محذوفٍ، واختلفوا في ذلك المبتدأ حسب اختلافهم في تعلُّق هذا الجار من جهة المعنى، لا الصناعة، فقيل: يتعلَّق من جهة المعنى بقوله: "فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ" فتقدِّر له ما يليق به، أي: انتفاء الإثم لمن اتَّقى، وقيل: متعلِّقٌ بقوله: "وَاذْكُرُوا" أي: الذكر لمن اتقى، وقيل: متعلِّقٌ بقوله: "غَفُورٌ رَحِيمٌ"، أي المغفرة لمن اتَّقى، وقيل: التقدير: السلامة لمن اتَّقى، وقيل: التقدير: ذلك التخيير ونفي الإثم عن المستعجل والمتأخِّر؛ لأجل الحاجِّ المتَّقي؛ لئلاّ يتخالج في قلبه شيءٌ منهما، فيحسب أنَّ أحدهما يرهق صاحبه إثماً في الإقدام عليه؛ لأنَّ ذا التقوى حذر متحرزٌ من كل ما يريبه، وقيل: التقدير: ذلك الذي مرَّ ذكره من أحكام الحج وغيره لمن اتقى؛ لأنه هو المنتفع به دون غيره، كقوله:
{ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ ٱللَّهِ } [الروم: 38]، قال هذين التقديرين الزمخشريُّ، وقال أبو البقاء: "تقديره: جواز التعجيل والتأخير لمن اتقى"، وكلُّها متقاربةٌ، ويجوز أن يكون "لِمَن اتَّقَى" في محلِّ نصب على أن اللام لام التعليل، ويتعلَّق بقوله "فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ" أي: انتفى الإثم؛ لأجل المتَّقي، ومفعول: "اتَّقى" محذوف، أي: اتَّقى الله، وقد جاء مصرَّحاً به في مصحف عبد الله، وقيل: اتَّقى الصَّيد.
فصل
في هذه التَّقوى وجوه:
أحدهما: قال أبو العالية: ذهب أئمةٌ أن "اتَّقى" فيما بقي من عمره، ولا يتَّكل على ما سلف من أعمال الحجِّ.
وثانيها: أنّ هذه المغفرة لا تحصل إلاّ لمن كان متَّقياً قبل حجِّه؛ كقوله:
{ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } [المائدة: 27]؛ لأن المصرَّ على الذَّنب لا ينفعه حجُّه، وإن كان قد أدَّى الفرض في الظَّاهر.
وثالثها: أنّه المتَّقي عن جميع المحظورات حال اشتغاله بالحجِّ؛ لقوله عليه السّلام:
"مَنْ حَجَّ فَلَم يَرْفثْ وَلَمْ يَفْسُقْ..."
ورابعها: روى الكلبي عن ابن عباس: "لِمَن اتَّقَى الصَّيْد وما يلزَمُهُ اجتِنَابُه من محْظُورَاتِ الإِحْرَامِ".
قال ابن الخطيب: وهذا ضعيفٌ من وجهين:
أحدهما: أنَّه تقييد للَّفظ المطلق بغير دليل.
والثاني: أنّ هذا لا يصحُّ إلاّ إذا حمل على ما قبل هذه الأيَّام؛ لأنه في يوم النَّحر إذا رمى وطاف وحلق، فقد تحلَّل قبل رمي الجمار، فلا يلزمه اتِّقاء الصَّيد في هذه الأيَّام.
قوله: "واتَّقُوا الله" فهو أمر في المستقبل، وهو مخالف لقوله: "لِمَنِ اتَّقَى" الذي أريد به الماضي، فلا يكون تكراراً، وقد تقدم أن التَّقوى عبارة عن فعل الواجبات وترك المحظورات.
وقوله: { وَٱعْلَمُوآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }.
فهو توكيد للأمر بالتَّقوى؛ لأن مَنْ تصور الحشر والمحاسبة والمساءلة، وأنّ بعد الموت لا دار إلاّ الجنَّة أو النَّار، صار ذلك من أقوى الدَّواعي إلى التَّقوى، وأمَّا الحشر: فهو اسمٌ يقع على ابتداء أوَّل خروجهم من الأجْداث، يوم لا مالك سواه ولا ملجأ إلاّ إيَّاه.
قوله: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ }.
لمّا ذكر الذين قصرت همَّتهم على الدُّنيا في قوله: "ومِنَ النَّاسِ من يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَة"، والمؤمنين الذين سألوا خير الدَّارين، ذكر المنافقين؛ لأنَّهم أظهروا الإيمان وأسرُّوا الكفر.
قوله تعالى: "مَنْ يُعْجِبُكَ": يجوز في "مَنْ" أن تكون موصولة، وأن تكون نكرةً موصوفةً، وقد تقدَّم نظيرها، والإعجاب: استحسان الشيء، والميل إليه، والتعظيم له، والهمزة فيه للتعدِّي.
وقال الراغب: "العَجَبُ حَيْرَةٌ تَعْرِضُ للإنسان عند الجهل بسبب الشَّيء، وليس هو شيئاً له في ذاته حالةً، بل هو بحسب الإضافات إلى من يعرف السَّبب ومن لا يعرفه، وحقيقة: أعجبني كذا: ظهر لي ظهوراً لم أعرف سببه"، ويقال: عجبت من كذا، قال القائل: [الرجز]

1007 - عَجِبْتُ وَالدَّهْرُ كَثِيرٌ عَجَبُهْ مِنْ عَنَزِيَّ سَبَّنِي لَمْ أَضْرِبُهْ

قال بعض المفسِّرين: يقال في الاستحسان: أعجبني كذا، وفي الإنكار والكراهة: عجبت من كذا.
قوله: "في الحَيَاةِ" فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلق بـ"قَوْلُهُ"، أي: يعجبك ما يقوله في معنى الدنيا، لأنَّ ادِّعاءه المحبة بالباطل يطلب حظّاً من الدنيا.
والثاني: أن يتعلَّق بـ"يُعْجِبُكَ"، أي: قوله حلوٌ فصيحٌ في الدُّنيا، فهو يعجبك ولا يعجبك في الآخرة، لما يرهقه في الموقف من الاحتباس واللُّكنة، أو لأنه لا يؤذن لهم في الكلام، قال أبو حيان: "والذي يظهر أنه متعلِّق بـ"يُعْجِبُكَ"، لا على المعنى الذي قاله الزمخشري، بل على معنى أنك تستحسن مقالته دائماً في مدَّة حياته؛ إذ لا يصدر منه من القول إلا ما هو معجبٌ رائقٌ لطيفٌ، فمقالته في الظاهر معجبة دائماً، لا تراه يعدل عن تلك المقالة الحسنة الرائعة إلى مقالةٍ منافيةٍ.
قوله: "وَيُشْهِدُ اللَّهَ" في هذه الجملة وجهان:
أظهرهما: أنها عطف على "يُعْجِبُكَ"، فهي صلة لا محلَّ لها من الإعراب، أو صفةٌ، فتكون في محلِّ رفع على حسب القولين في "مَنْ".
والثاني: أن تكون حاليةً، وفي صاحبها حينئذً وجهان:
أحدهما: أنه الضمير المرفوع المستكن في "يُعْجِبُكَ".
والثاني: أنه الضمير المجرور في "قَوْلُهُ"، تقديره: يعجبك أن يقول في أمر الدنيا، مقسماً على ذلك.
وفي جعلها حالاً نظر من وجهين:
أحدهما: من جهة المعنى، فإنه يلزم منه أن يكون الإعجاب والقول مقيدين بحالٍ، والظاهر خلافه.
والثاني: من جهة الصِّناعة وهو أنَّه مضارعٌ مثبتٌ، فلا يقع حالاً إلا في شذوذٍ؛ نحو: "قُمْتُ وَأَصُكُّ عَيْنَهُ" أو ضرورةً؛ نحو: [المتقارب]

1008-..................... نَجَوْتُ وَأَرْهَنُهُمْ مَالِكَا

وتقديره مبتدأً قبله على خلاف الأصل، أي: وهو يشهد.
والجمهور على ضمِّ حرف المضارعة وكسر الهاء، مأخوذاً من "أَشْهَدَ" ونصب الجلالة مفعولاً به، وقرأ أبو حيوة وابن محيصنٍ بفتحهما ورفع الجلالة فاعلاً.
قال القرطبيُّ -رحمه الله تعالى - ويؤيِّده قراءة ابن عباسٍ "واللَّهُ يَشْهَدُ عَلَى مَا في قَلْبِهِ".
وقرأ أُبَيٌّ: "يَسْتَشْهِدُ اللَّهَ".
فأمَّا قراءة الجمهور وتفسيرهم، فإن المعنى: يحلف بالله ويشهده أنّه صادقٌ، وقد جاءت الشهادة بمعنى القسم في آية اللِّعان، وقيل: فيكون اسم الله منتصباً على حذف حرف الجر، أي: يقسم بالله، قال شهاب الدين: وهذا سهوٌ من قائله؛ لأنَّ المستعمل بمعنى القسم "شَهِدَ" الثلاثيٌّ، لا "أَشْهَدَ" الرباعيُّ، لا تقول: أُشْهِدُ بالله، بل: أَشْهَدُ بالله، فمعنى قراءة الجمهور: يطَّلع الله على ما في قلبه، ولا يعلم به أحدٌ، لشدة تكتُّمه.
وأمَّا تفسير الجمهور: فيحتاج إلى حذف ما يصحُّ به المعنى، تقديره: ويحلف بالله على خلاف ما في قلبه؛ لأن الذي في قلبه هو الكفر، وهو لا يحلف عليه، إنما يحلف على ضدِّه، وهو الذي يعجب سامعه، ويقوِّي هذا التأويل قراءة أبي حيوة؛ إذ معناها: ويطَّلع الله على ما قلبه من الكفر. وأمَّا قراءة أُبيًّ: فيحتمل "استَفْعَلَ" وجهين:
أحدهما: أن يكون بمعنى "أَفْعَلَ"؛ فيوافق قراءة الجمهور.
والثاني: أنه بمعنى المجرَّد وهو "شَهِدَ"، وتكون الجلالة منصوبةً على إسقاط الخافض.
قوله: { وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ } الكلام في هذه الجملة كالتي قبلها، وهنا وجهٌ آخر، وهو أن تكون حالاً من الضمير في "يُشْهِدُ"، والألد: الشديد؛ من اللَّدد، وهو شدة الخصومة؛ قال: [الخفيف]

1009 - إنَّ تَحْتَ التُّرَابِ عَزْماً وحَزْماً وَخَصِيماً أَلَدَّ ذَا مِغْلاَقِ

ويقال: لَدِدت بكسر العين ألَدُّ بفتحها، ولدَدته بفتح العين ألُدُّه بضمها أي: غلبته في ذلك، فيكون متعدياً، قال الشاعر: [الرجز]

1010 - تَلُدُّ أَقْرَانَ الرِّجَالِ اللُّدِّ

تلدُّ أقران الرِّجال، معناه أنّه في أي وجه أخذ خصمه من اليمين أو الشمال في أبواب الخصومة غلبه.
ورجل ألدُّ وألنددٌ ويلنددٌ، وامرأةٌ لدَّاء، والجمع "لُدٌّ" كـ"حُمْرٍ".
وفي اشتقاقه أقوالٌ: قال الزجَّاج: من لُديدَي العنق، وهما صفحتاه.
وقيل: من لديدي الوادي، وهما جانباه، سمِّيا بذلك؛ لاعوجاجهما.
وقيل: هو من لدَّه إذا حبسه، فكأنه يحبس خصمه عن مفاوضته.
و "الخِصَامِ" فيه قولان:
أحدهما: قال الزجَّاج: وهو جمع خصمٍ بالفتح؛ نحو: كعبٍ وكعابٍ، وكلبٍ وكلابٍ، وبحرٍ وبحارٍ، وعلى هذا فلا تحتاج إلى تأويل.
والثاني: قال الخليل وأبو عبيد إنه مصدر، يقال: خاصمَ خصاماً، نحو قاتلَ قتالاً، وعلى هذا فلا بد من مصحِّح لوقوعه خبراً عن الجثَّة، فقيل: في الكلام حذف من الأول، أي وخصامه أشدُّ الخصام، وجعل أبو البقاء "هو" ضمير المصدر الذي هو "قوله" فإنه قال: ويجوز أن يكون "هُوَ" ضمير المصدر الذي هو "قَوْلُهُ" وهو خصام، والتقدير: خصامه ألدُّ الخصام.
وقيل: من الثاني: أي: وهو أشدُّ ذوي الخصام، وقيل: أريد بالمصدر اسم الفاعل؛ كما يوصف به في قولهم: رجل عدلٌ وخصمٌ، وقيل: "أَفْعَلُ" هنا ليست للتفضيل، بل هي بمعني لديد الخصام، فهو من باب إضافة الصفة المشبهة، وقال الزمخشريُّ: والخِصَامُ المُخَاصَمَةُ، وإضافةُ الألدِّ بمعنى "في"؛ كقولهم: "ثَبْتُ الغَدْرِ" يعني أن "أَفْعَلَ" ليس من باب ما أضيف إلى ما هو بعضه، بل هي إضافة على معنى "في"؛ قال أبو حيان: وهذا مخالفٌ لما يَزْعُمُهُ النحاة من أنَّ "أَفْعَلَ" لا تضاف إلا إلى ما هي بعضه، وفيه إثبات الإضافة بمعنى "في"، وهو قولٌ مرجوحٌ، وقيل: "هُوَ" ليس ضمير "مَنْ" بل ضمير الخصومة يفسِّره سياق الكلام، أي: وخصامه أشدُّ الخصام.
فصل في بيان عموم هذه الآية
قال بعض المفسِّرين: هذه الآية الكريمة مختصَّة بأقوام معيَّنين، وقال بعضهم: إنّها عامة في كلِّ من اتَّصف بهذه الصِّفة، والأولون اختلفوا على وجوهٍ:
أحدها: أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة، واسمه: أُبي، وسمِّي الأخنس؛ لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة من بني زهرة عن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رجلاً حلو المنظر، حلو الكلام، وكان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجالسه ويظهر الإسلام، ويقول: إنيّ أحبُّك، ويحلف بالله على ذلك، وكان منافقاً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدنيه في مجلسه، وكان حسن العلانية خبيث الباطن، فخرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم فمرَّ بزرع لقوم من المسلمين فأحرق الزَّرع، وقيل: المواشي، وقيل: بيَّت قوماً من ثقيف فلبسهم، وأهلك مواشيهم، وأحرق زرعهم.
وقال مُقاتِلٌ: خرج إلى الطَّائف مُقْتَضِياً مالاً لَهُ على غرِيم فَأَحْرَقَ له كدساً، وعَقَرَ لَهُ أَتاناً، والنّسلُ: نَسْل كُلّ حيوان من ناطقٍ، وغيره؛ فنزلت الآية الكريمة.
الثَّاني: أنَّ الأَخْنَس أَشَار على بني زهرة بالرُّجُوع يوم بدرٍ وقال لهُم: إِنَّ مُحَمَّد ابن أخيكم، فإِنْ يَكُ كَاذِباً كفاكموه سائر النَّاس، وإن يَكُ صَادِقاً كنتم أَسعَدَ النَّاسِ به، قالُوا نِعْمَ الرَّأيُ ما رَأَيَتَ قال: فإذا نودي في النَّاس بالرحيل فإنّي أخنس بكم، فاتَّبِعُوني، ثمَّ انخنَسَ بثلاثِمائة من بني زُهْرَة عن قِتَال رسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وسُمِّيَ بهذا السَّبب الأَخنس، فبلغ ذلك رسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فأعجبه.
قال ابنُ الخطيب: وعندي أَنَّ هذا القول ضعيفٌ، لأَنَّهُ لا يَسْتَوجِبُ الذَّمَّ بهذا العمل، والآية مذكورة في معرض الذَّمِّ، فلا يمكن حَمْلُها عليه.
الثالث: روي عن ابن عبَّاس والضحَّاك أنَّ كُفَّار قريش بعثوا إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
"أَنَّا قد أَسلمنا، فابعثْ إِلَيْنَا نفراً مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابك، فبعثَ إليهم جماعَة، فنزلوا ببطن الرجيع، ووصل الخَبَرُ إلى الكُفَّارِ، فَرَكِبَ منهم سبعون راكباً، وأَحَاطُوا بهم، وَقَتَلُوهم، وصَلَبُوهُم، فَنَزَلَتْ هذه الآية الكريمة، ولذلك عقَّبَهُ بقول مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتَغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ" فَنَبَّه بذلك على حال هؤُلآءِ الشَّهداء.
القولُ الثَّاني: وهو اختيارُ أكثر المحقِّقين من المُفسِّرين، أنَّها عامَّة في كُلِّ من اتَّصف بهذه الصِّفَةِ المَذْكُورة، نقل عن محمَّد بن كعب القُرظِي أنَّه جرَى بَيْنَهُ وبَيْنَ غيره كلام في الآية فقال: إِنَّها وإن نزلت فيمن ذكرتهم، فلا يَمْتنعُ أن تنزل الآية الكريمة في الرَّجُلِ، ثم تَكُونُ عامَّة في كُلِّ مَنْ كان موصوفاً بهذه الصِّفات.
وَرَوَتْ عائشة - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم قال:-
"إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ"
قال ابن الخطيب: نُزُول الآية الكريمة على سبب لا يمنعُ من العُمُومِ، بل في الآية الكريمة ما يَدُلُّ على العُمومِ مِنْ وجوه:
الأول: أَنَّ ترتيب الحُكم على الوصف المُنَاسِبِ مشعراً بالعلِّيَّة.
الثاني: أَنَّ الحَمْلَ على العُموم أكثر فائدة، لأَنَّهُ زجرٌ لكلِّ مكلَّف عن تِلك الطَّريقةِ المَذْمُومَةِ.
الثالث: أَنَّهُ أَقربُ إلى الاحتياطِ.
قال قتادةُ ومُجاهدٌ وجماعة من العلماء: نزلت في كُلِّ مُبْطنٍ كُفراً، أو نِفاقاً، أو كذباً أو إضراراً، وهو يظهر بلسانِهِ خلاف ذلك، فهي عامة.
قال القرطبيرحمه الله : وهي تشبه ما ورد في التِّرمذيّ أَنّ في بعض الكُتُب أَنَّ اللَّهَ تعالى يقُولُ: "إِنَّ مِنْ عِبَادِي قوماً ألسِنَتُهُمْ أَحْلَى من العسَلِ، وقلوبهم أَمَرّ مِنَ الصَّبْرِ، يَلْبسون للنَّاس جُلُودَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّين، يشترُون الدُّنيا بالدِّين، يقُولُ الله - تبارك وتعالى - إِنَّهُم لمُغترُّون، وعلى اللَّهِ يجترئُونَ فبي حلفت لأُسَلِّطَنَّ عليهم فِتنَةً تدَعُ الحليم منهم حيران. ومعنى: "وَيُشْهِدُ الله"، أي: يقول: اللَّهُ يعلم أَنَّي أقُولُ حَقّاً.
فصل
اختلفُوا في المَوْصُوف بالصِّفاتِ المذكورة في الآية، هل هو مُنَافقٌ أمْ لا؟
قال ابنُ الخطيب: إنَّها لا تدلُّ على ذلك، فإِنَّ قوله: { يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا } لا دلالة فيه على صِفةٍ مَذْمُومةٍ، إِلاَّ من جهة الإِيماء الحاصل بقوله { فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا }، فإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: فُلاَن حُلْوُ الكَلاَمِ فيما يَتَعَلَّق بالدُّنيا أَوْهَم نوعاً من المَذمَّةِ.
وقوله: { وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ } لا دلالة فيه على حالَةٍ مُنْكرةٍ، وإِن أَضمرنا فيه أَنَّهُ يُشْهِدُ اللَّهَ على ما في قلبه، مع أنَّ قلبه بخلاف ذلك لأَنَّهُ ليس في الآية أَنَّ القَوْلَ الَّذي أَظْهرهُ هو الإِسلامُ والتَّوحِيدُ حتى يكُون خلافه نِفَاقاً، بل يَحْتَمِلُ أن يُضْمِر الفساد، ويظهر ضِدَّهُ، فَيَكُونُ مُرائِياً
وقوله: { وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ } أيضاً لا يُوجِبُ النِّفَاقَ.
وقوله: { وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا } فالمفسد قد يكون مُسْلِماً.
وقوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } أيضاً لا يَقْتَضِي النِّفَاق، إِلاَّ أنَّ المُنَافِقَ داخل في هذه الصِّفَاتِ الخَمْس، والمرائي أيضاً.
فصل في ما أثر عن السلف في بيان "ألد الخصام"
قال مُجاهدٌ: أَلَدُّ الخِصَام: معناهُ: ظَالِمٌ لا يستقيمُ وقال السُّدِّيُّ -رحمه الله تعالى - أعوجُ الخِصَامِ.
وقال قتادةُ: شديدُ القَسْوة في المعَصية، جدلٌ بالباطل، عالم اللِّسان، جاهل العمل، يتقلد بالحكمة، ويعملُ بالخطيئة.
فصل في بيان أمر الاحتياط في الدِّين
قال القُرطبيُّ: قال عُلماؤُنَا: في الآية الكريمة دليلٌ على أَنَّ الاحتياط فيما يتعلق بأُمُور الدِّين والدُّنيا، واستبراء أحوال الشهود والقضاة، وأَنَّ الحاكم لا يعملُ على ظاهر أَحوالِ النَّاسِ وما يبدو من إيمانهم، وصلاحهم؛ حتى يَبْحث عن باطنهم؛ لأَنَّ الله تعالى بَيَّنَ أَحوال النَّاسِ، وأَنَّ منهم من يظهرُ قولاً جميلاً، وهو يَنْوي قَبِيحاً.
فإِنْ قِيلَ: هذا يَعارضُ قوله عليه السَّلام:
"أُمِرتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِله إِلاَّ اللَّهُ" . وقوله: "فَأَقْضِيَ لَهُ بِنَحو ما أَسْمَعُ"
فالجوابُ: هذا كان في صدر الِسلامِ، حيثُ كان إِسْلاَمُهُم سلامتهم، وأمَّا الآن، وقد عَمَّ الفسادُ، فلا، قاله ابنُ العَرَبيّ.
والصَّحيحُ: أَنَّ الظَّاهِرَ يَعملُ عليه، حَتّى يبين خلافه.
قوله تعالى: { وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ } "سَعَى" جوابُ إذا الشَّرطيَّة، وهذه الجُملةُ الشَّرطيةُ تحتملُ وجْهَيْنِ.
أحدهما: أن تكُونَ عطفاً على ما قبلها، وهو "يُعْجِبُكَ"، فتكون: إمَّا صلةً، أو صفةً حسب ما تقدَّم في "مَنْ".
والثاني: أن تكُون مُستأَنفةً لمُجرَّدِ الإخبارِ بحالِهِ، وقد تَمَّ الكلامُ عند قوله: "ألدُّ الخصام".
والتّولِّي والسَّعْيُ يحْتَمِلان الحقيقة، أي: تولَّى ببدنِهِ عنك وسعَى بِقَدَمَيْهِ، والمُجازَ بأن يريدُ بالتولِّي الرُّجُوع عن القَوْلِ الأَوَّل، وبالسَّعي العمَل والكَسْبَ من السَّعاية، وهو مجازٌ شائعٌ؛ ومنه:
{ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } [النجم: 39]، وقال امرؤُ القَيسِ: [الطويل]

1011 - فَلَوْ أَنَّ مَا أَسْعَى لأَدْنَى مَعِيشَةٍ كَفَانِي - وَلَمْ أَطْلُبْ - قليلٌ مِنَ المَالِ
وَلكِنَّمَا أَسْعَى لِمَجْدٍ مُؤَثَّلٍ وَقَدْ يُدْرِكُ المَجْدَ المُؤَثَّلَ أَمْثَالِي

وقال آخرُ: [السريع]

1012 - أَسْعَى عَلَى حَيِّ بَنِي مَالِكٍ كُلُّ امْرِىءٍ فِي شَأْنِهِ سَاعِي

والسَّاعيةُ بالقولِ ما يقْتَضِي التَّفْرِيق بينَ الأَخِلاَّءِ؛ قال القائل: [السريع]

1013 - مَا قُلْتُ مَا قَالَ وُشَاةٌ سَعَوْا سَعْيَ عَدْوٍّ بَيْنَنَا يَرْجُفُ

وقال الضَّحَّاكُ: وإذا تَوَلَّى، أي: مَلَكَ الأَمْرَ، وصارَ والياً سَعَى في الأَرض.
وقال مُجاهدٌ: إذا وُلِّي، وعمل بالعُدوان، والظُّلم، أَمْسَكَ اللَّهُ المطر، وأهلك الحرث والنَّسل.
قوله: "فِي الأَرْضِ" مُتَعَلِّقٌ بـ"سَعَى"، فإنْ قيل: مَعْلُومٌ أنَّ السَّعْيَ لا يكُونُ إلاَّ فِي الأَرْضِ قيل: لأنَّهُ يُفيدُ العُمُومَ، كأنه قيل: أيَّ مكانٍ حَلَّ فيه من الأرض أفسدَ فيه، فَيَدُلُّ لفظُ الأَرْضِ على كَثرةِ فسادِهِ، إذ يلزَمُ مِنْ عمومِ الظَّرفِ عمومُ المَظْرُوفِ، و"ليُفْسِدَ" مُتَعَلّقٌ بـ"سَعَى" علَّةً له.
قوله: "وَيُهْلِكَ الحَرْثَ" الجُمْهُورُ على: "يُهْلِكَ" بضمِّ اليَاءِ، وكسر اللام ونصب الكافِ. "الحَرْثَ" مفعول به، وهي قراءةٌ واضِحَةٌ من: أَهْلَكَ يُهْلك، والنَّصبُ عطَفٌ على الفعل قبلُهُ، وهذا شبيهٌ بقوله تعالى:
{ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } [البقرة: 98] فإنَّ قوله: "ليفْسِدَ" يَشْتَمِلُ على أَنَّهُ يُهْلكُ الحَرْثَ والنَّسْلَ، فخصَّهُما بالذّكر لذلك. وقرأ أُبيّ: "وليُهْلِكَ" بإظهارِ لام العِلَّةِ، وهي معنى قراءة الجَمهور، وقرأ أبو حَيوة - ورُويت عن ابن كثيرٍ وابن عمرو - "وَيَهْلِك الحَرْثُ والنَّسْلُ" بفتح الياءِ، وكسر اللام من هلك الثَّلاثي، و"الحَرْث" فاعلٌ، و"النَّسلُ" عطفٌ عليه. وقرأ قومٌ: "ويُهْلِكُ الحَرْثَ" من أَهْلَكَ، و" الحَرْث" مفعولٌ به إلا أَنَّهُم رفعُوا الكاف. وخُرِّجت على أربعةِ أوجهٍ: أن تكُونَ عَطْفاً على "يُعْجِبُك" أو على "سَعَى"؛ لأَنَّهُ في معنى المُستقبل، أو على خبر مُبْتَدأ للمفعول، "الْحَرْثُ" رفعاً، وَقَرَأَ أيضاً: "ويَهلِكُ" بفتح الياءِ واللام ورفعِِ الكَافِ، "الحَرْثُ" رفعا على الفاعلية، وفتحُ عين المُضارع هنا شاذٌّ لفَتْحِ عين ماضِيهِ، وَليس عينُهُ ولا لامُهُ حرفَ حَلْق، فهو مثلُ رَكَنَ يَرْكَنُ بالفتح فيهما.
و"الحرث" في اللُّغة: الشَّقُّ، ومنه المِحراثُ لام يُشقّ به الأرض، والحرث: كسب المالِ وجمعه، والحَرْثُ: الزَّرعُ، والحرَّاث الزرَّاع، وقد حرث، واحترثَ مثل: زَرَعَ وازْدَرَعَ.
ويقالُ: احرثِ القرآن؛ أي: ادرسه، وحَرَثتُ النَّاقة وأحرثْتُها، أي: سِرْتُ عليها حتَّى هزلت، وحرثت النَّارَ حرّكتها والمِحراث ما يحرك به نار التَّنور نقله الجوهري. وقد تَقَدَّمَ.
والنَّسْلُ: مصدرُ نَسَلَ ينسُل، أي: خرج بِسُرعة، ومنه: نَسَلَ وَبَرُ البَعِير، ونَسَلَ ريشُ الطَّائر، أي: خَرَجَ وتطايَرَ وقال القُرطبيُّ: النَّسْلُ ما خرج من كُلِّ أنثى من ولدٍ وأصله الخروج، والسُّقُوط.
وقيل: النَّسلُ الخروج مُتتابعاً، ومنه: "نُسَالُ الطَّائِر" ما تتابع سقُوطه من ريشه؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]

1014 - وَإِنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مِنِّي خَلِيقَةٌ فَسلِّي ثِيَابي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ

وقوله: { مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ } [الأنبياء: 96] يحتملُ المعنيين. و"الحَرْثَ وَالنَّسْلَ" وإن كانا في الأصلِ مصدَرَيْنِ فإنهما هنا واقعان موقَعَ المفعولِ به.
فصل في المراد بـ"التولي"
ذكرُوا في هذا التوَلِّي قولين:
أحدهما: معناه: إذا انْصَرَفَ من عندك سَعَى بالفسَادِ، وهذا الفَسَادُ يَحتمِلُ وجهَينِ:
أحدهما: إِتْلافُ الأموالِ بالتَّخريب، والتَّحريق، والنَّهب كما تقدَّم.
والوجه الثاني: أَنَّهُ كان بعد الانصرافِ من حَضْرَةِ النَّبِيِّ - عليه السَّلام - يلقي الشّبه في قلوب المؤمنين ويستخرج الحيل في تقوية الكُفْرِ، قال تعالى حكاية عن فرعون
{ إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُـمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي ٱلأَرْضِ ٱلْفَسَادَ } [غافر: 26] وسمي هذا المعنى فساداً، لأَنَّهُ يوقع اختلافاً بين النَّاس، ويفرّق كلمتهم، ويتبَّرأُ بعضهم من بعض، فتنقطعُ الأَرْحام وتُسفَكُ الدماءُ.
القول الثَّاني في التَّوَلِّي والسَّعي؛ أي: رجع عن قوله واجتهد في إيقاع الفساد، وأصل السَّعي المشي بسرعةٍ، ولكنَّهُ يستعارُ لإِيقاع الفِتنة بيْنَ النَّاسِ، ومنه يُقالُ: فلان يَسْعَى بالنَّميمة، والمراد بـ"الحَرْث" الزَّرْعُ وبـ"النَّسل": تلك الحمر على التَّفْسِير الأَوَّل، وهو يَقَعُ على ما يُحْرَثُ ويُزْرَعُ.
وقيل: إِنَّ الحَرثَ هو شَقُّ الأرض، ويقالُ لما يُشقّ به: محرث.
والنَّسلُ في اللُّغة الوَلَدُ، ومن قال: إِنَّ الأَخنس بيَّت على قوم ثقيف وقتل منهم جمعاً، فالمراد بالحرث: الرجال والنساء.
أمَّا النساء فلقوله تعالى:
{ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } [البقرة: 223].
وأَمَّا الرجال: فهم الذين يشقون أرض التوليد، وأَمَّا النسلُ فالمراد منه الصبيان.
قوله: { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلفَسَادَ }.
قال العباس بن الفضل: الفسادُ هو الخرابُ.
وقال سعيد بن المسيب: قطع الدراهم من الفساد في الأرض.
وقال عطاء: كان رجل يقال له عطاء بن منبه أحرم في جُبَّةٍ، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزعها.
قال قتادة: قلت لعطاء: إِنَّا كنا نسمع أن يشقها، فقال عطاء: إِنَّ اللَّهَ لا يحب الفساد.
قال القرطبي: والآية تَعُمُّ كُلَّ فساد كان في الأرض، أو مالٍ أو دين، وهو الصحيح.
وقيل: معناه لا يجب الفساد من أهل الصلاح، أو لا يحبه ديناً، أو المعنى لا يأمر به.
فصل في بيان فساد قول المعتزلة في معنى المحبة
استدلت المعتزلة به على أَنَّهُ تبارك وتعالى لا يريد القبائح، قالوا: المحبة عبارة عن الإرادة لقوله تعالى:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلْفَاحِشَةُ فِي ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } [النور: 19] والمرادُ أنهم يُرِيدونَ.
وأيضاً: نُقِل عن النبيِّ - عليه السلامُ - أَنَّهُ قال:
"إِنَّ اللَّهَ أَحَبَّ لَكُمْ ثَلاَثاً، وكره لكُم ثلاثاً: أَحَبَّ لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوه وَلاَ تُشْرِكُوا به شَيْئاً، وأَنْ تتَنَاصحُوا منْ وَلاّهُ أَمْرَكُم، ويَكْرَهُ لَكُمْ القيل والقَالَ، وإضاعَة المال، وكثرةَ السُّؤالِ" فجعل الكراهةَ ضِدَّ المحبةِ، وإذا ثبتَ أَنَّ الإرادة نفسُ المحبةِ، فقوله: { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلفَسَادَ }، كقوله: لا يُريدُ الفساد، وكقوله { وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ } [غافر: 31]، وإذا كان لا يريدُ الفساد، لا يكون خالقاً له؛ لأنَّ الخلقَ لا يمكن إلاَّ مع الإرادة، وأُجيبُوا بوجهين:
أحدهما: أَنَّ المحبة غيرُ الإِرادة، بل المحبَّةُ عبارةٌ عن مَدح الشيء.
والثاني: سَلَّمنا أَنَّ المحبةَ نفسُ الارادة، لكن قوله تعالى { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلفَسَادَ } [البقرة: 205] لا يُفيد العُموم؛ لأنَّ الألف واللاَّم الداخلتين في اللفظ لا يُفيدان العمومَ، ثم يهدم كلامهم وجهان:
الأول: أَنَّ قُدرة العبد صالحةٌ للإصلاح، والفساد؛ فترجُّحُ الفساد على الصلاح إِنْ وقع لا لمُرجح، لزم نفيُ الصانعِ، وإنْ وقع لمرجح، فذلك المرجّح لا بُدَّ وأنْ يكونَ من اللَّهِ؛ وإِلاَّ لَزِمَ التسلسلُ، فثبت أَنَّ اللَّهَ سُبحانه هو المرجح لجانب الفساد، فكيف يعقِلُ أَنْ يُقال إِنَّهُ لا يريده؟
والثاني: أَنَّهُ عالِمٌ بوقوع الفسادِ، فإن أراد أَلاَّ يقع الفسادُ، لزم أَنْ يُقال: إِنَّه أَراد أَنْ يقلب علم نفسه جهلاً، وذلك مُحَالٌ.
قوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ }: هذه الجملةُ الشرطيةُ تحتملُ الوجهين المتقدِّمين في نظيرتها، أَعْني: كونها مستأنفةً، أو معطوفة على "يُعجِبُك"، وقد تقدَّم الخلافُ في الذي قام مقام الفاعل عند قوله:
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ } [البقرة: 11].
قوله: "أخذَتْهُ العزَّةُ"، أي حملتُه العِزَّةُ وحَمِيَّةُ الجاهلية على الفعل.
قوله: "بالإثم" أي: بالظلم وفي هذه الباءِ ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنْ تكونَ للتعديةِ، وهو قول الزمخشري فإنه قال: "أَخَذْتُهُ بكذا إذا حَمَلْتهُ عليه، وأَلْزَمْتهُ إياه، أي: حَمَلتهُ العِزَّةُ على الإِثْم، وأَلْزَمَتْهُ ارتكابَه" قال أبو حيان: "وباء التعدية بابُها الفعلُ اللازمُ، نحو:
{ ذَهَبَ ٱللَّهُ } [البقرة: 17]، { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ } [البقرة: 20]، ونَدَرَتِ التعديةُ بالباءِ في المتعدِّي نحو: "صَكَكْتُ الحجرَ بالحجرِ" أي: جَعَلْتُ أَحدهما يَصُكُّ الآخرَ".
الثاني: أَنْ تكونَ للسببيةِ، بمعنى أنَّ إثمَه كان سبباً لأخذِ العِزَّة له؛ كما في قوله: [الرمل]

1015 - أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ فَتَوَلَّى مُغْضَباً فِعْلَ الضَّجِرْ

فتكونُ الباءُ بمعنى اللام، فتقول: فعلت هذا بسببك، ولسببك، وعاقَبْتُه لجِنَايتهِ، وبجنايَتِه.
الثالث: أن تكونَ للمصاحبة؛ فتكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وفيها حينئذٍ وجهان:
أحدهما: أَنْ تكون حالاً مِنَ "العِزَّة" أي: مُلْتبسةً بالإِثمِ.
والثاني: أن تكونَ حالاً من المفعولِ، أي: أَخَذَتْهُ مُلْتبساً بالإِثمِ.
قال القُرطبيُّ: وقيل: "الباءُ" بمعنى "مَعَ" أي: أخذته العِزَّةُ مع الإثم.
وفي قوله: "العِزَّةُ بالإِثْم" من عِلْمِ البديع التتميم وهو عبارةٌ عن إِرْداف الكلمةِ بأُخْرى، تَرْفَعُ عنها اللَّبسَ، وتقَرِّبُها مِنَ الفَهْم، وذلك أنَّ العزَّةَ تكونُ محمودةً ومَذمُومةً.
فَمِنْ مَجِيئها محمودةً:
{ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [المنافقون: 8] { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [المائدة: 54] فلو أُطلِقَت لَتَوَهَّمَ فيها بعضُ مَنْ لا عنايةَ له المحمُودة؛ فقيل: "بالإِثْمِ" تَتْمِيماً للمرادِ، فرُفِعَ اللَّبْسُ بها.
فصل
اعلم أَنَّ اللَّهَ سُبحانه وتعالى حكى عن هذا المنافق أفعالاً مَذْمُومةً وهي اشتغاله بالكلام الحسن في طلب الدُّنيا، واستشهادة باللَّهِ كذباً ولجاجةً في أبطالِ الحقِّ وإثبات الباطلِ، وسعيُه في الأَرْض بالفَسَادِ، وإهلاكُ الحربِ والنَّسْلِ، وكُلُّها أفعالٌ قَبِيحةٌ، فالظاهِرُ مِنْ قوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ } أَنْ يُصْرفَ إلى الكلّ؛ لأنَّ صَرْفَهُ إلى البعض ليس أولى من البعض، فكأَنَّهُ قيل له: اتَّقِ اللَّهِ في إِهْلاك الحرثِ والنَّسْل، وفي السَّعي بالفَسَادِ، وفي اللَّجاجِ في إِبطَالِ الحقِّ ونُصْرة الباطلِ، وفي الاستشهاد باللَّهِ كذباً، وفي الحرص على طَلَبِ الدُّنْيا.
وقيل: قوله: { أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلإِثْمِ } راجِعٌ إلى أنه قيل له: اتَّقِ اللَّهَ فقط؛ على ما سيأتي، فيكُون معنى الآية الكريمة أنَّ الموصوف بهذه الصِّفات هو الَّذي إِذَا قيل له: اتَّقِ الله، أَخَذَتْهُ العِزةُ بالإثم؛ فحَسْبُهُ جَهَنَّم.
و"العِزَّةُ" القوَّةُ والغلبةُ مِنْ: عَزَّهُ يَعُزُّه، إِذا غلبهُ، ومنه
{ وَعَزَّنِي فِي ٱلْخِطَابِ } [ص: 23].
وقيل: العزَّةُ هُنا: الحمِيَّة؛ قال الشَّاعرُ: [الرَّمل]

1016 - أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ فَتَوَلَّى مُغْضَباً فِعْلَ الضَّجِرْ

وقيل: العِزَّةُ هنا: المَنَعةُ وشِدَّةُ النَّفسِ، أي: اعتَزَّ في نفسه، فأَوقعَتْهُ تِلْك العزَّةُ في الإِثمِ، وألزمتْهُ إيَّاه.
قوله: { فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ }، "حَسْبُهُ" مبتدأٌ، و"جهنَّمُ" خبرُه أي: كافيهم جهنَّمُ، وقيل: "جَهَنَّمُ" فاعلٌ بـ"حَسْبَ"، ثُمَّ اختلف القائِلُ بذلك في "حَسْب" فَقِيل: هو بمعنى اسم الفاعلِ، أي: الكافي، وهو في الأَصْلِ مصدرٌ أُريد به اسمُ الفاعِل، والفاعِلُ - وهو جهنَّمُ - سَدَّ مَسَدَّ الخبر، وقَويَ "حَسْبُ" لاعتمادِهِ على الفاءِ الرابطةِ للجملةِ بما قبلَها، وهذا كلُّه مَعْنَى كلام أبي البقاء.
وقيل: بل "حَسْبُ" اسمُ فِعْلٍ، والقائِلُ بذلك اختلَفَ؛ فقيل: اسمُ [فِعْلٍ] ماضٍ، أي: كَفَاهُمْ وقِيل: فعلُ أمرٍ، أي: لِيَكفِيهم، إلاَّ أن إعرابَه ودخولَ حُرُوفِ الجَرِّ عليه يَمْنع كونه اسم فعل.
وقد تلخَّصَ أَنَّ "حَسْب" هل هو بمعنى اسم الفاعل وأَصْلُه مصدرٌ، أو اسمُ فعلٍ مَاضٍ، أو فِعْلُ أَمْر؟ وهو مِنَ الأَسماءِ اللازمةِ للإِضَافةِ، ولا يَتَعَرَّفُ بإضافته إلى معرفةٍ؛ تقولُ: مَرَرْتُ برجلٍ حَسْبِك، ويُنْصَبُ عنه التمييزُ، ويكونُ مبتدأً؛ فيُجَرُّ بباءٍ زائدةٍ، وخبراً؛ فلا يُجَرُّ بها، ولا يُثّنَّى ولا يُجْمَعُ، ولا يؤَنَّثُ، وإنْ وَقَعَ صفةً لهذه الأشياءِ.
و"جهنَّمُ" اخَتَلَفَ الناسُ فيها فقال يونس وأكثر النُّحاة: هي اسمٌ للنَّار التي يعذَّب بها في الآخِرةِ وهي أعجميةٌ وعُرِّبَتْ، وأَصْلُها كِهِنَّام، فمنعُها من الصرَّف لِلعلمية والعُجمةِ.
وقيل: بل هي عربيةُ الأَصْلِ، والقائلون، بذلك اختلَفوا في نُونِها: هل هي زائدةٌ، أمْ أصليةٌ؟ فالصحيحُ أنها زائدةٌ، ووزنُها "فَعَنَّلُ" مُشتقةٌ من "رَكِيَّةٌ جِهِنَّامٌ"، أي: بعيدةُ القَعْر، وهي من الجَهْم، وهو الكراهةُ، وقيل: بل نُونُها أصليَّةٌ، ووزنُها فَعَلَّل؛ كـ"عَدَبَّسٍ"؛ قال: لأن "فَعَنَّلاً" مفقودٌ في كلامِهِم، وجعل "زَوَنَّكاً" فَعَلَّلاً أيضاً؛ لأنَّ الواوَ أصلٌ في بنات الأربعةِ؛ كـ"وَرَنْتَلٍ"، لكنَّ الصحيحَ إثباتُ هذا البناءِ، وجاءَتْ منه ألفاظٌ، قالوا: "ضَغَنَّطٌ" من الضَّغاطةِ، وهي الضَّخامةُ، و"سَفَنَّجٌ" و"هَجَنَّفٌ" لِلظّلِيم، والزَّوَنَّكُ: القصيرُ سُمِّيَ بذلك؛ لأنه يزوكُ في مِشْيَتِهِ، أي: يَتَبَخْتَرُ؛ قال حَسَّان: [الكامل]

1017- أَجْمَعْتُ أَنَّكَ أَنْتَ أَلأَمُ مَنْ مَشَى فِي فُحْشِ زَانِيَةٍ وَزَوْكِ غُرَابِ

وهذا كلُّه يدُلُّ على أنَّ النُونَ زائدةٌ في "زَوَنَّكٍ" وعلى هذا فامتِناعُها للتأنيثِ والعلَميةِ.
قوله: { وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } المخصُوص بالذَّمِّ محذوفٌ، أي: وَلَبِئْسَ المِهادُ جَهَنَّمُ، وحَسَّنَ حَذْفَهُ هنا كونُ "المِهَادِ" وقعَ فاصِلةً. وتقدَّمَ الكلامُ على "بِئْسَ" وحُذِفَ هذا المخصُوصُ بذلك على أنه مبتدأٌ، والجملةُ مِنْ نِعْمَ وبِئْسَ خبرُهُ، سواءٌ تقدَّمَ أو تأخَّرَ؛ لأنَّا لو جَعَلْنَاهُ خبرَ مبتدأ مَحْذُوفٍ، أو مُبتَدأً محذوفَ الخبرِ، ثم حذَفْنَاهُ، كُنَّا قد حَذَفْنَا الجملةَ بأَسْرها من غَيْرَ أنْ يَنُوبَ عنها شَيْءٌ، وأيضاً فإنَّه يَلْزَمُ مِنْ ذلك أَنْ تكونَ الجملةُ مُفْلَتَةً مِمَّا قبلها، إِذْ ليس لها مَوْضِعٌ من الإِعْرابِ، وليست مُعْترضةً، ولا مفسِّرةً، ولا صلةً. والمِهَادُ فيه قولان:
أحدهما: أَنَّهُ جَمْعُ "مَهْدٍ"، وهو ما يُوطَّأُ للنوم قال تعالى: و
{ فَرَشْنَٰهَا فَنِعْمَ ٱلْمَاهِدُونَ } [الذاريات: 48].
والثاني: أنه اسمٌ مُفْردٌ، سُمِّيَ به الفِرَاشُ المُوَطَّأُ للنَّوم وقِيل: "المُسْتَقِر" كقوله تعالى:
{ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ ٱلْقَرَارُ } [إبراهيم: 29] وهذا مِنْ باب التَّهَكم والاستهزاءِ، أي: جُعِلَتْ جَهَنَّمُ لهم بَدَلَ مِهادٍ يَفْترشُونَهُ؛ وهو كقوله:[الوافر]

1018 - وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ

أي: القائمُ لهم مقامَ التحيةِ، الضربُ الوَجِيع.