التفاسير

< >
عرض

يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
٢١
ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَٰشاً وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
٢٢
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

اعلم أنه - تعالى - لما بين أحكام الفِرَقِ الثلاث - أعني المؤمنين والكفار والمنافقين - أقبل عليهم بالخطاب وهو من باب "الالتفات".
"يا"حرف نداء وهي أم الباب.
وزعم بعضهم أنها اسم فعل، وقد تحذف نحو:
{ { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا } [يوسف: 29].
وينادى بها المندوب والمستغاث. قال أبو حيان: "وعلى كثرة وقوع النداء في القرآن لم يقع نداء إلاَّ بها".
وزعم بعضهم أن قراءة: { أَمَنْ هُوَ قَانِتٌ } [الزمر: 9] بتخفيف الميم أن الهمزة فيه للنداء، وهو غريب، وقد يراد بها مجرد التنبيه فيليها الجمل الاسمية والفعلية، قال تعالى: { أَلاَّ يَا اسْجُدُواْ } [النمل: 25] بتخفيف أَلاَ؛ وقال الشاعر: [الطويل]

272- أَلاَ يَا اسْقِيَانِي قَبْلَ غَارَةِ سِنْجَالِ..............................

وقال آخر: [البسيط]

273- يا لَعْنَةُ اللهِ وَالأَقْوَامِ كُلِّهِمُ وَالصَّالِحِينَ عَلَى سمْعَانَ مِنْ جَارِ

و "أي" اسم منادى في محلّ نصب، ولكنه بني على "الضم"؛ لأنه مفرد معرفة، وزعم الأخفش أنها هنا موصولة، وأن المرفوع بعدها خبر مبتدأ مضمر، والجملة صلةٌ، والتقدير: "يا الَّذِين هُمُ النَّاس"، والصحيح الأول، والمرفوع بعدها صفة لها، [والمشهور]: يلزم رفعه، ولا يجوز نصبه على المحلّ خلافاً للمازني.
و "ها" زائدة للتنبيه لازمة لها، والمشهور فتح هَائِهَا، ويجوز ضمُّها إتباعاً للياء، وقد قرأ ابن عامر بذلك في بعض المواضع نحو { أَيُّهُ المُؤْمِنُونَ } [النور: 31] والمرسوم يساعده.
ولا توصف "أي" هذه إلا بما فيه الألف واللام، أو بموصول هما فيه، أو باسم إشارة نحو:
{ { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ } [الحجر: 6] وقال الشاعر: [الطويل]

274- ألاَ أَيُّهَذَا النَّابِحُ السِّيدَ إِنَّنِي عَلَى نَأْيهَا مُسْتَبْسِلٌ مِنْ وَرَائِهَا

وفسر بعضهم يا زيد: أنادي زيداً، وأخاطب زيداً، وهو خطأ من وجوه:
أحدها: أن قوله: "أنادي زيداً" خبر يحتمل الصدق والكذب، وقوله: يا زيد لا يحتملهما.
وثانيها: أن قولنا: "يا زيد" يقتضي أن زيداً منادى في الحال، و "أنادي زيداً" لا يقتضي ذلك.
وثالثها: أن قولنا: "يا زيد" يقتضي صيرورة زيد خاطباً هذا الخطاب، و "أنادي زيداً" لا يقتضي ذلك؛ لأنه لا يمكن أن يخبر إنساناً آخر بأن أنادي زيداً.
ورابعها: أن قولنا: أنادي زيداً إخبار عن النداء، والإخبار عن النداء غير النداء.
واعلم أن "يا" حرف وضع في أصله لنداء البعيد، وإن كان لنداء القريب، [لكن بسبب أمر مهم جدًّا، وأما نداء القريب فله: "أي" والهمزة] ثم استعمل في نداء من سها وغفل وإن قرب، تنزيلاً له منزلة البعيد.
فإن قيل: فلم يقول الداعي: "يا رب"، "يا الله" وهو أقرب إليه من حبل الوريد؟
قلنا: هو استبعاد لنفسه من مَظَانّ الزُّلْفَى، إقراراً على نفسه بالتقصير.
و "أي" وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام كما أن "ذو" الذي وصلة إلى الوصف بأسماء الأجناس ووصف المعارف بالجمل، وهو اسم مبهم، فافتقر إلى ما يزيل إبهامه، فلا بد وأن يردفه اسم جنس، أو ما جرى مجراه، ويتصف به حتى يحصل المقصود بالنداء.
و لـ "أي" معانٍ أخر كالاستفهام، والشرط، وكونها موصولة، ونكرة موصوفة لنكرة، وحالاً لمعرفة. و "النَّاس" صفة "أي"، أو خبر مبتدأ محذوف حسب ما تقدم من الخلاف.
و "اعبدوا ربكم" جملة أمرية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية.
"الَّذِي خَلَقكُمْ" فيه ثلاثة أوجه:
أظهرها: نصبه على النَّعت لـ "ربكم".
الثَّاني: نصبه على القطع.
الثالث: رفعه على القطع أيضاً. وقد تقدّم معناه.
فصل في تقسيم ورود النداء في القرآن الكريم
قال ابن عبَّاس رضي الله عنه: { يا أَيُّهَا النَّاسُ } خطاب لأهل "مكة" و { يا أَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا } لأهل "المدينة"، ورد على قوله هذه الآية بأن البقرة مدنية.
وقال غيره: كلّ ما كان في القرآن من قوله: "يا أيها الذين آمنوا" فهو مدني.
وأما قوله: { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } فمنه مكّي، ومنه [مدني] وهذا خطاب عام؛ لأنه لفظ جمع معرف، فيفيد العموم، لكنه مخصوص في حقّ ما لا يفهم، كالصَّبي، والمجنون، والغافل، ومن لا يقدر، لقوله تعالى:
{ { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة: 286].
ومنهم من قال: إنه مخصوص في حق العبيد، لأنّ الله - تعالى - أوجب عليهم طاعة مواليهم، واشتغالهم بطاعة المولى كمنعهم عن الاشتغال بالعبادات، والأمر الدَّال على وجوب طاعة المولى أخصّ من الأمر الدَّال على وجوب العبادة، والخاصّ مقدّم على العام، والكلام على هذا مذكور في أصول الفقه.
قال ابن الخطيب: قوله: { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } يتناول جميع الناس الموجودين في ذلك العصر، فهل يتناول الَّذين سيوجدون بعد ذلك أم لا؟
قال: "والأقرب أنه لا يتناولهم؛ لأن قوله: { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } خطاب مُشَافهة، وخطاب المُشَافهة مع المعدوم لا يجوز"، وأيضاً فالذين سيوجدون ما كانوا موجودين في تلك الحالة، وما لا يكون موجوداً لا يكون إنساناً، فلا يدخل تحت قوله: { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ }.
فإن قيل: فوجب أن يتناول أحداً من الَّذين وجدوا بعد ذلك الزمان، وإنه باطل قطعاً.
قلنا: لو لم يجد دليل منفصل لكان الأمر كذلك، إلاَّ أنا عرفنا بالتَّوَاتر من دين محمد صلى الله عليه وسلم أن تلك الخطابات ثابتة في حَقّ من سيوجد بعد ذلك إلى قيام السَّاعة؛ فلهذه الدلالة المنفصلة أوجبنا العموم.
فصل في المراد بالعبادة في القرآن
قال ابن عبَّاس رضي الله عنه: "كلّ ما ورد في القُرْآن من العبادة فمعناها التوحيد".
وقال ابن الخطيب: قوله تعالى: { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } أمر كلّ واحد بالعبادة، فهل يفيد أمر الكلّ بكل عبادة؟ الحقّ لا؛ لأن قوله: { ٱعْبُدُواْ } معناه: أدخلوا هذه الماهية في الوجود، فإذا أتوا بفرد من أفراد هذه الماهيّة في الوجود فقد أدخلوا الماهية في الوجود؛ لأن الفرد من أفراد الماهية مشتمل على الماهية، لأن هذه العبادة عبارة عن العِبَادَةِ مع قيد كونها هذه، ومتى وجد المركب فقد وجد فيه قيده، فالآتي بفرد من أفراد العبادة أتى بالعبادة، وأتى بتمام ما اقتضاه قولنا: "اعْبُدُوا"، وإذا كان كذلك وجب خروجه عن العهدة.
فصل في قول منكري التكليف
ذكر ابن الخطيب عن منكري التكليف أنهم لا يجوِّزون ورود الأمر من الله - تعالى - بالتكاليف لوجوه:
منها أنَّ الَّذي ورد به التكليف: إما أن يكون قد علم الله في الأزل وقوعه، أو علم أنه لا يقع، أو لم يعلم لا هذا ولا ذاك، فإن كان الأوّل كان واجب الوقوع، فلا فائدة في الأمر به، وإن علم أنه لا يقع كان ممتنع الوقوع، فكان الأمر به أمراً بإيقاع الممتنع، وإن لم يعلم لا هذا ولا ذاك كان ذلك قولاً بالجهل على الله، وهو محال.
وأيضاً فورود الأمر بالتكاليف إمَّا أن يكون لفائدة، أو لا لفائدة، فإن كان لفائدة فإما أن يعود إلى المعبود، أو إلى العابد، أمّا إلى المعبود فمحال؛ لأنه كامل لذاته، والكامل لذاته لا يكون كاملاً بغيره، ولأنا نعلم بالضرورة أنّ الإله العالي على الدَّهر والزمان يستحيل أن ينتفع بركوع العبد وسجوده. وإن كانت الفائدة تعود إلى العابد فمحال؛ لأن جميع الفوائد محصورة في حصول اللَّذَّة ودفع الألم، وهو - سبحانه وتعالى - قادر على تحصيل كلّ ذلك للعبد، من غير واسطة هذه المشاق، فيكون توسّطها عبثاً، والعبث غير جائز على الحكيم. وأيضاً إنَّ العبد غير موجد لأفعاله؛ لأنه غير عالم بتفاصيلها، ومن لا يعلم تفاصيل الشيء لا يكون موجداً له، وإذا لم يكن العبد موجداً لأفعال نفسه، فإن أمره بذلك الفعل حالة ما خلقه فيه فقد أمره بتحصيل الحاصل، وإن أمره حالة ما لم يخلقه فيه فقد أمره بالمحال، وكل ذلك باطل.
وأجاب ابن الخطيب بوجهين:
أحدهما: أن أَصْحَابَ هذه الشّبه، أوجبوا بما ذكروه اعتقاد عدم التَّكليف، فهذا التكليف ينفي التكليف، وإنه متناقض.
والثاني: أن عندنا يحسن من الله كل شيء، سواء كان ذلك تكليف ما لا يطاق أو غيره؛ لأنه - تعالى - خالقٌ مالكٌ، والمالك لا اعتراض عليه في فِعْلِهِ.
والخَلْق اختراع الشَّيء على غير مِثَالٍ سبق، وهذه الصِّفة ينفرد بها الباري تعالى، ويُطْلَقُ أيضاً على "التقْدِيرِ"؛ قال زُهَيْر: [الكامل]

275- وَلأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْـ ـضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لا يَفْرِي

وقال الحَجَّاج: "ما خَلَقْتُ إلاَّ فَرَيْتُ وَلاَ وَعَدْتُ إلاَّ وَفَيْتُ" وهذه الصّفة لا يختص بها الله تعالى، وقد غلط أبو عبد الله البصري في أنه لا يطلق اسم "الخَالِقِ" على الله - تعالى؛ قال: "لأنه مُحَالٌ، وذلك أن التقدير والتسوية في حقِّ اللهِ ممتنعانِ، لأنهما عبارة عن التفكُّر والظَّن"، وكأنه لم يسمع قوله تعالى: { { هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَالِقُ ٱلْبَارِىءُ } [الحشر: 24] { { ٱللَّهُ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } [الزمر: 62]، وكأنَّه لا يعلَم أن الخَلْق يكون عبارة عن الإنشاء والاختراع.
قوله: { وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } محلّه العطف على المنصوب في "خلقكم" و "من قبلكم" صلة "الذين"، فيتعلّق بمحذوف على ما تقرر. و "من" لابتداء الغاية، واستشكل بعضهم وقوع "من قبلكم" صلة من حيث إن كل ما جاز أن يخبر به جاز أن يقع صلة، و "من قبلكم" ناقص ليس في الإخبار به عن الأعيان فائدة إلا بتأويل، فكذلك الصّلة.
قال: وتأويله أن ظرف الزمان إذا وصف صح الإخبار والوصل به تقول: "نحن في يوم طيب"، فيكون التقدير هنا - والله أعلم - "والَّذِين كانوا من زمان قبل زمانكم".
وقال أبو البَقَاءِ: والتقدير: "والذين خلقهم من قبل خلقكم، فحذف الخلق، وأقام الضمير مقامه".
وقرأ زيد بن علي: "والَّذِينَ مَنْ قَبْلَكُمْ" - بفتح الميم -.
قال الزمخشري: ووجهها على إشكالها أن يقال: أقحم الموصول الثاني بين الأوّل وَصِلَتِهِ تأكيداً، كما أقحم جرير في قوله: [البسيط]

276- يَا تَيْمُ تَيْمَ عَدِيٍّ لاَ أَبَا لَكُمُ............................

تيْماً الثاني بين الأوَّل، وما أضيف إليه، وكإقحامهم لام الإضافَةِ بين المضاف والمضاف إلَيْه في نَحْو: "لاَ أَبَا لَكَ" قيل: هذا الذي قاله مذْهَبٌ لبعضهم؛ ومنه قوله: [الطويل]

277- مِنَ النَّفَرِ اللاَّءِ الَّذِينَ إذَا هُمُ يَهَابُ اللِّئَامُ حَلْقَةَ البَابِ قَعْقَعُوا

فـ "إذا" وجوبها صلةُ "اللاَّء"، ولا صلةَ للذين؛ لأنه توكيد للأول، إلا أن بعضهم يرد هذا القول، ويجعله فاسداً من جهة أنه لا يؤكد الحرف إلا بإعادة ما اتّصل به، فالموصول أولى بذلك، وخرج الآية والبيت على أن "مَنْ قَبْلَكُمْ" صلةٌ للموصول الثَّاني، والموصول الثَّاني وصلته خبر لمبتدأ محذوف، والمبتدأ وخبره صلة الأول، والتقدير: "والَّذين هُمْ مَنْ قَبْلِكُمْ"، وكذا [البيت] فجعل "إذا" وجوابها صلةً [للَّذِينَ، والَّذِينَ خبر لمبتدأ محذوف، وذلك المبتدأ وخبره صلة] لـ "اللاء"، ولا يخفَى ما في هذا التعسُّف.
قوله: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }.
"لعل" واسمها وخبرها، وإذا ورد في كلام الله - تعالى - فللناس فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن "لَعَلّ" على بابها من الترجّي والإطماع، ولكن بالنسبة إلى المخاطبين، أي: لعلَّكم تتقون على رجائكم وطمعكم؛ وكذا قاتل سيبويه في قوله تعالى:
{ { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ } [طه: 44]: أي: اذْهَبَا على رجائِكُمَا.
والثَّاني: أنها للتعْليل: أي: اعْبُدُوا رَبَّكُم؛ لِكَيْ تَتَّقُوا، وبه قال قُطْرُبٌ، والطبريُّ وغيرُهُما؛ وأنشدوا: [الطويل]

278- وقُلْتُمْ لَنَا: كُفُّوا الحُرُوبَ لَعَلَّنَا نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ
فَلَمَّا كَفَفْنَا الحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكُمْ كَلَمْعِ سَرَابٍ في المَلاَ مُتَأَلِّقِ

أي: لنكُفَّ الحَرْبَ، ولو كانت "لَعَلّ" للترجِّي، لم يقل: وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ.
والثَّالث: أنها للتعَرُّض للشيْءِ؛ كأنه قيل: افْعَلُوا ذلك متعرضِّين لأن تَتَّقُوا.
وقال القَفَّال: "لعل" مأخوذةٌ من تكرير الشيء لقولهم: عللاً بعد نَهَلِ، و "اللام" فيها هي "لام" التأكيد كاللام التي تدخل في "لقد"، فأصل "لعل": "عل"؛ لأنهم يقولون: "علك أن تفعل كذا": أي لعلك. وإن كانت حقيقة في التكرير والتأكيد، كان قول القائل: افعل كذا لعلّك تظفر بحاجتك. معناه: افعله؛ فإن فعلك له يؤكد طلبك له ويقويك عليه، وهذه الجملة على كل قول متعلّقة من جهة المعنى بـ "اعبدوا" أي: اعبدوا على رجائكم التَّقوى، أو لتتقوا، أو متعرّضين للتقوى، وإليه مال المهدوي، وأبو البقاء.
وقال ابن عطيّة: "[يتجه] تعلّقها بخلقكم، لأنَّ كل مولود يولد على الفطرة، فهو بحيث يرجى أن يكون متقياً"، إلاَّ أن المهدوي منع من ذلك.
قال: لأن من ذرأه الله لجهنم لم يخلقه ليتقي، ولم يذكر الزمخشري غير تعلّقها بـ "خلقكم" ثم رتب على ذلك سؤالين:
أحدهما: أنه كما خلق المُخاطبين لعلّهم يتقون، كذلك خلق الذين من قبلهم لذلك فلم خصّ المخاطبين بذلك دون من قبلهم؟
وأجاب عن ذلك بأنه لم يقصره عليهم، بل غَلّب المخاطبين على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادة الجميع.
السُّؤال الثاني: هلا قيل: "تعبدون" لأجل "اعبدوا" أو اتقوا لمكان "تتقون" ليتجاوب طرفا النظم؟
وأجاب بأن التقوى ليست غير العبادة حتى يؤدي ذلك إلى تنافر النَّظْم، وإنَّما التقوى قصارى أمر العابد، وأقصى جهده.
قال أبو حَيّان: وأما قوله: ليتجاوب طرفا النَّظم، فليس بشيء؛ لأنه لا يمكن هنا تجاوب طرفي النظم، إذ يصير اللفظ: اعبدوا ربكم لعلكم تعبدون، أو اتقوا ربكم لعلكم تتقون، وهذا بعيد في المعنى؛ إذ هو مثل: اضرب زيداً لعلك تضربه، واقصد خالداً لعلك تقصده، ولا يخفى ما في ذلك من غثاثة اللفظ، وفساد المعنى، والذي يظهر به صحّته أن يكون "لعلكم تتقون" متعلّقاً بقوله: "اعبدوا" فالَّذي نودوا لأجله هو الأمر بالعبادة، فناسب أن يتعلّق بها ذلك، وأتى بالموصول وصلته في سبيل التوضيح، أو المدح الذي تعلقت به العبادة، فلم يُجأْ بالموصول ليحدِّث عنه، بل جاء في ضمن المقصود بالعبادة، فلم يكن يتعلّق به دون المقصود، وأجاب بعضهم عن كلام الزمخشري بأنه جعل "لعل" متعلّقة بـ "خلقكم" لا بـ "اعبدوا"، فلا يصير التقدير: اعبدوا لعلكم تعبدون، وإنما التقدير: اعبدوا الذي خلقكم لعلكم تعبدون؛ أي خلقكم لأجل العبادة، يوضِّحه:
{ { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56].
وفي "لَعَلّ" لغاتٌ كثيرةٌ، وقد يُجَرُّ بها؛ قال: [الوافر]

279- لَعَلَّ اللهِ فَضَّلَكُمْ عَلَيْنَا بِشَيءٍ أَنَّ أُمَّكُمُ شَرِيمُ

ولا تنصب الاسمين على الصحيح، وقد تدخل "أَنْ" في خبرها؛ حملاً على "عَسَى"؛ قال: [الطويل]

280- لَعَلَّكَ يَوْماً أنْ تُلِمَّ مُلِمَّةٌ.......................

وقد تأتي للاستفهام والتعليل كما تقدم، ولكن أصلها أن تكون للترجّي والطمع في المحبوبات والإشفاق من المكروهات كـ "عسى"، وفيها كلام طويل يأتي في غضون هذا الكتاب إن شاء الله تَعَالَى.
و "تَتَّقُونَ" أصله "توتقيون"؛ لأنه من "الوقاية"، فأبدلت الواو ياء قبل تاء الافتعال، وأدغمت فيها، وقد تقدم ذلك في "المتقين"، ثم استثقلت "الضّمة" على "الياء" فقدرت، فسكنت الياء والواو بعدها، فحذفت الياء لالتقاء السَّاكنين، وضمت القاف لتجانسها، فوزنه الآن "تفتعون"، وهذه الجملة أعني "لعلكم تتقون" لا يجوز أن تكون حالاً؛ لأنها طلبية، وإن كانت عبارة بعضهم تُوهمُ ذلك، ومفعول "تتقون" محذوف أي: تتقون الشرك، أو النار.
فَصْلٌ في الاستدلال بالآية على الصانع
هذه الآية تدلّ على الصانع القادر الفاعل المختار، سأل بعض الدهرية الشَّافعي - رضي الله تعالى عنه - ما الدَّليل على الصانع؟ فقال: ورقة الفِرْصَاد طعمها ولونها وريحها وطبعها واحد عندكم؟ قالوا: نعم.
قال: فتأكلها دودة القَزّ فيخرج منها الإبْرَيْسم، ويأكلها النحل فيخرج منها العَسَل، والشَّاة فيخرج منها البَعَر، وتأكلها الظِّبَاء فينعقد في نوافجها المسك، فمن الذي جعلها لذلك مع أن الطَّبع واحد؟ فاستحسنوا ذلك وآمنوا على يديه، وكانوا سبعة عشر.
وسئل أبو حنيفة - رضي الله عنه - عن الصَّانع فقال: الوالد يريد الذكر، فيكون أنثى، وبالعكس فيدلّ على الصَّانع. وتمسك أحمد بن حنبل بقلعة حصينة مَلْسَاء لا فُرْجَةَ فيها، ظاهرها كالفضّة المُذَابة، وباطنها كالذهب الإبريز، ثم انشقت الجدران، وخرج من القلعة حيوان سميع بصير، فلا بُدّ من الفاعل؛ عنى بالقلعة البيضة، وبالحيوان الفرخ.
وقال آخر: عرفت الصَّانع بنحلة بأحد طرفيها عسل، وبالآخر لسع، والعسل مقلوب لسع.
فإن قيل: ما الفائدة في قوله { وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ }، وخلق الذين من قبلهم لا يقتضي وجوب العبادة عليهم.
والجواب: أن الأمر وإن كان على ما ذكر ولكن علمهم بأن الله - تعالى - خلقهم كعلمهم بأنه خلق من قبلهم؛ لأن طريقة العلم بذلك واحدة.
وأيضاً أن من قبلهم كالأصول لهم، وخلق الأصول يجري مجرى الإنعام على الفروع، كأنه - تعالى - يذكرهم عظيم إنعامه عليهم، أي: لا تظن أني إنما أنعمت عليك حين وجدت، بل كنت منعماً عليك قبل أن وجدت بألوف سنين، بسبب أني كنت خالقاً لأصولك.
فإن قيل: إذا كانت العبادة تقوى فقوله: { ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ما وجهه؟
والجواب من وجهين:
الأول: لا نسلّم أن العبادة نفس التقوى، بل العبادة فعل يحصل به التقوى؛ لأن الاتِّقاء هو الاحتراز عن المَضَارّ، والعبادة فعل المأمور به، ونفس هذا الفعل ليس هو نفس الاحتراز، بل موجب الاحتراز، فإنه - تعالى - قال: { ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } لتحترزوا به عن عقابه.
وإذا قيل في نفس الفعل: "إنه اتقاء" فذلك غير ما يحصل به الاتقاء، لكن لما اتصل أحد الأمرين بالآخر أجري اسمه عليه.
الثاني: أنه - تعالى - إنما خلق المكلفين لكي يتقوا ويطيعوا، على ما قال:
{ { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56] فكأنه - تعالى - أمر بعبادة الرَّبِّ الذي خلقهم لهذا الغرض، وهذا التأويل لائق بأصول المعتزلة.
فَصْلٌ في القراءات في الآية
قرأ أبو عمرو: خَلَقْكُمْ بالإدغام، وقرأ ابن السَّميفع: "وَخَلَقَ مَنْ قَبْلَكُم".
قوله: { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ } يحتمل النصب والرَّفع، فالنصب من خمسة أوجه:
أحدها: أن يكون نصبه على القطع.
الثاني: أنه نعت لربكم.
الثالث: أنه بدل منه.
الرابع: أنه مفعول لـ "تتقون"، وبه قال أبو البقاء.
الخامس: أنه نعت النعت، أي: الموصول الأول، لكن المختار أن النعت لا ينعت، بل إن جاء ما يوهم ذلك جعل نعتاً للأول، إلا أن يمنع مانع فيكون نعتاً للنعت، نحو قولهم: "يا أيها الفارس ذو الجمة" فذو الجمة نعت للفارس لا لـ "أي"؛ لأنها لا تنعت إلا بما تقدم ذكره.
والرَّفع من وجهين:
أحدهما وهو الأصح: أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هو الذي جعل.
والثاني: أنه مبتدأ، وخبره قوله بعد ذلك: فلا تجعلوا لله، وهذا فيه نظر من وجهين:
أحدهما: أنّ صلته ماضية فلم يشبه الشرط، فلا يزاد في خبره "الفاء".
الثاني: عدم الرابط، إلا أن يقال بمذهب الأخفش، وهو أن يجعل الربط مكرر الاسم الظَّاهر إذا كان بمعناه نحو: "زيد قام أبو عبد الله" إذا كان أبو عبد الله كنية لزيد، وكذلك هنا أقام الجلالة مقام الضَّمير، كأنه قال: الَّذي جعل لكم، فلا تجعلوا له أنداداً.
و "الذي" كلمة موضوعة للإشارة إلى المفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة كقولك: ذهب الرجل الذي أبوه منطلق، فأبوه منطلق قضية معلومة، فإذا حاولت تعريف الرجل بهذه القضية المعلومة أدخلت عليه الَّذي، وهو يحقّق قولهم: إنه مستعمل لوصف المعارف بالجمل.
وإذا ثبت هذا فقوله: { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً } يقتضي أنهم كانوا عالمين بوجود شيء جعل الأرض فراشاً، والسّماء بناءً، وذلك تحقيق قوله تعالى:
{ { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [لقمان: 25].
و "جعل" فيها وجهان:
أحدهما: أن تكون بمعنى "صَيَّر" فتتعدى لمفعولين فيكون "الأرض" مفعولاً أول، و "فراشاً" مفعولاً ثانياً.
والثاني: أن يكون بمعنى "خلق" فيتعدّى لواحد وهو "الأرض" ويكون "فراشاً" حالاً.
و "السماء بناء" عطف على "الأرض فراشاً" على التقديرين المتقدمين، و "لكم" متعلق بالجعل أي: لأجلكم، والفراش: قيل: البساط، وقيل: مثلها.
وقيل: ما يوطأ، ويُقعد عليه.
واعلم أنه - تعالى - ذكر ها هنا أنه جعل الأرض فراشاً، ونظيره قوله:
{ { أَمَّن جَعَلَ ٱلأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً } [النمل: 61] وقوله: { { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مَهْداً } [طه: 53].
واعلم أن كون الأرض فراشاً مشروط بأمور:
قال ابن الخطيب: أحدها: كونها ساكنة؛ فإنها لو كانت متحركة لم يمكن الانتفاع بها لما تقرر في المعقولات.
الثاني: ألا تكون في غاية الصَّلابة كالحجر؛ فإن النّوم عليه والمشي مما يؤلم البدن، وأيضاً لو كانت الأرض من الذَّهب مثلاً لتعذّرت الزراعة ولتعذّر حفرها، وتركيبها لما يراد.
وألاَّ تكون في غاية اللين كالماء الذي تغوص فيه الرِّجْل.
الثالث: ألاّ يكون في غاية اللّطافة والشفافية؛ فإن الشفّاف لا يستقر النور عليه، وما كان كذلك فإنه لا يتسخن بالشمس فكان يبرد جدًّا، فجعل كيفية لونه أخضر ليستقر النور عليه، فيتسخن فيصلح أن يكون فراشاً للحيوانات.
الرابع: أن تكون بارزةً من الماء؛ لأن طبع الأرض أن يكون غائصاً في الماء فكان يجب أن تكون البحار محيطةً بالأرض، ولو كانت كذلك لما كانت فراشاً لنا، فقلب الله طبيعة الأرض وأخرج بعض أجزائها [من المياه] كالجزيرة البارزة حتى صلحت لأن تكون فراشاً لنا.
ومن الناس من زعم أن الشرط في كون الأرض فراشاً ألا تكون كرة واستدل بهذه الآية، وهذا بعيد؛ لأن الكرة إذا عظمت جدًّا كانت القطعة منها كالسطح في إمكان الاستقرار عليه، والذي يؤيده كون الجبال أوتاداً للأرض ويمكن الاستقرار عليها، فها هنا أولى.
فَصْلٌ في منافع الأرض وصفاتها
فأولها: الأشياء المتولّدة فيها من المعادن، والنبات، والحيوان، والآثار العلوية والسّفلية، ولا يعلم تفاصيلها إلا الله تعالى.
وثانيها: اختلاف بقاع الأرض، فمنها أرض رخوة، وصلبة، ورملة، وسبخة، وحرّة، قال تعالى:
{ { وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ } [الرعد: 4].
وقال تعالى:
{ { وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَٱلَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً } [الأعراف: 58].
وثالثها: اختلاف طعمها وروائحها.
ورابعها: اختلاف ألوانها فأحمر، وأبيض، وأسود، ورمادي، وأغبر، قال تعالى:
{ { وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } [فاطر: 27].
وخامسها: انصداعها بالنبات، قال تعالى:
{ { وَٱلأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ } [الطارق: 12].
وسادسها: كونها خازنةً للماء المنزل، قال تعالى:
{ { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي ٱلأَرْضِ } [المؤمنون: 18].
وسابعها: العيون والأنهار العظام.
وثامنها: ما فيها من المَفَاوِزِ والفَلَواتِ
{ { وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَاهَا } [ق: 7].
وتاسعها: أن لها طبع الكرم؛ لأنك تدفع إليها حبّة وهي تردها عليك سبعمائة
{ { كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّاْئَةُ حَبَّةٍ } [البقرة: 261].
وعاشرها: حيااتها بعد موتها
{ { وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلأَرْضُ ٱلْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا } [يس: 33].
الحادي عشر: ما فيها من الدَّواب المختلفة الألوان والصّور والخلق،
{ { وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } [البقرة: 164].
الثانية عشرة: ما فيها من النبات المختلف ألوانه، وأنواعه، ومنافعه:
{ { وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ق: 7].
وفي اختلاف ألوانها دلالة، واختلاف روائحها دلالة، فمنها قوت البشر، ومنها قوت البهائم:
{ { كُلُواْ وَٱرْعَوْا أَنْعَامَكُمْ } [طه: 54] ومطعوم البشر، فمنها الطعام ومنها الإدام، ومنها الرَّوَاء، ومنها الفاكهة، ومنها الأنواع المختلفة في الحَلاَوَةِ والحموضة، ومنها كسوة البشر؛ لأن الكسوة إمّا نباتية وهي القطن والكتان، وإما حيوانية وهي الشَّعَر والصُّوف، والأَبْرَيْسَم، والجلود، وهي من الحيوانات التي بثَّهَا الله في الأرض، فالمطعوم من الأرض، والملبوس من الأرض؛ ثم قال: { { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 8].
وفيه إشارة إلى منافع كثيرة لا نعلمها نحن، والله [تعالى عالم بها]،
فَصْلٌ
قال بعضهم: السَّماء أفضل من الأرض لوجوه:
أحدها: أن السَّماء متعبَّد الملائكة، وما فيها عُصي الله فيها.
وثانيها: لما أتى آدم - عليه الصلاة والسلام - في الجَنّة بتلك المعصية قيل: اهبط من الجنة، وقال الله: "لا يسكن في جواري من عَصَاني".
وثالثها:
{ { وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً } [الأنبياء: 32] وقوله: { { تَبَارَكَ ٱلَّذِي جَعَلَ فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجاً } [الفرقان: 61] ولم يذكر في الأرض مثل ذلك.
ورابعها: في أكثر الأمر ورد ذكر السَّماء مقدماً على الأرض في الذكر.
وقال آخرون: بل الأرض أفضل؛ لوجوه:
أحدها: أنه - تعالى - وصف بقاعاً في الأرض بالبركة
{ { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً } [آل عمران: 96]، { { فِي ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَارَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ } [القصص: 30] { { إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [الإسراء: 1].
ووصف أرض "الشام" بالبركة فقال:
{ { مَشَارِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } [الأعراف: 137].
ووصف جملة الأرض بالبركة فقال:
{ { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ } [فصلت: 9] إلى قوله: { { وَبَارَكَ فِيهَا } [فصلت: 10].
فإن قيل: فأي بركةٍ في الفَلَواتِ الخالية، والمَفَاوزِ المُهْلِكَةِ؟
قلنا: إنها مساكن الوحوش ومرعاها، ومَسَاكن النَّاس إذا احتاجوا إليها، فلهذه البركة قال تعالى:
{ { وَفِي ٱلأَرْضِ ءَايَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } [الذاريات: 20] وهذه الآيات وإن كانت حاصلةً لغير المؤمنين، لكن لمَّا لم ينتفع بها إلا الموقنون جعلها آيات للمؤمنين تشريفاً لهم كما قال: { { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2].
وثانيها: أنه - سبحانه - خلق الأنبياء المكرمين من الأرض على ما قال:
{ { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } [طه: 55] ولم يخلق من السماء شيئاً، لأنه قال: { { وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً } [الأنبياء: 32].
وثالثها: أن الله - تعالى - أكرم نبيّه، فجعل الأرض كلها مسجداً، وجعل ترابها طهوراً.
فَصْلٌ في فَضْلِ السَّمَاءِ
وهو من وجوه:
الأول: أن الله - تعالى - زيَّنَهَا بسبعة أشياء: بالمصابيح
{ { وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } [الملك: 5].
وبالقمر
{ { وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً } [نوح: 16] وبالشمس: { { وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً } [نوح: 16].
وبالعرش، وبالكرسي، وباللوح المحفوظ، وبالقلم، فهذه السَّبعة ثلاثة منها ظاهرة، وأربعة مثبتة بالدلائل السَّمعية.
الثاني: أنه - تعالى - سمّاها بأسماء تدلّ على عظم شأنها سماء، وسقفاً محفوظاً، وسبعاً طباقاً، وسبعاً شداداً، ثم ذكر عاقبة أمرها فقال:
{ { وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ فُرِجَتْ } [المرسلات: 9]، { { وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ كُشِطَتْ } [التكوير: 11]، { { إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنفَطَرَتْ } [الانفطار: 1]، و { { إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتْ } [الانشقاق:1]، { { يَوْمَ نَطْوِي ٱلسَّمَآءَ كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } [الأنبياء: 104]، { { تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ } [المعارج: 8]، { { يَوْمَ تَمُورُ ٱلسَّمَآءُ مَوْراً } [الطور: 9]. { { فَكَانَتْ وَرْدَةً كَٱلدِّهَانِ } [الرحمن: 37].
وذكر مبدأها فقال:
{ { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ } [فصلت: 11] وقال: { { أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا } [الأنبياء: 30] فهذا الاستقصاء والتشديد في كيفية حدوثها وفنائها يدلُّ على أنه - سبحانه وتعالى - خلقها لحكمة بالغة على ما قال: { { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً } [ص: 27].
الثَّالث: أنه - تعالى - جعل السَّماء قِبْلَةَ الدعاء، فالأيدي تُرفع إليها، والوجوه تتوجّه نحوها، وهي منزل الأنوار، ومحل الضياء والصّفاء، والطهارة، والعصمة من الخلل والفَسَاد.
والبناء: مصدر "بنيت"، وإنما قلبت "الياء" همزة لتطرُّفها بعد ألف زائدة، وقد يراد به المفعول، و "أنزل" عطف على "جعل" و "من السماء" متعلّق به، وهي لابتداء الغاية، ويجوز أن يتعلّق بمحذوف على أن تكون حالاً من "ما"؛ لأن صفة النكرة إذا قدمت عليها نصبت حالاً، وحينئذ معناها التبعيض، وثَمَّ مضاف محذوف أي: من مياه السماء ماء.
وأصل "ماء" موه بدليل قولهم: "مَاهَتِ الرَّكِيَّةُ تَمُوهُ" وفي جمعه مياه وأمواه، وفي تصغيره: مويه، فتحركت "الياء"وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفاً، فاجتمع حرفان خفيفان: "الألف" و "الهاء"، فأبدلوا من "الهاء" أختها وهي الهمزة؛ لأنها أجلد منها.
فإن قيل: كيف قال: { وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } [البقرة: 22] وإنما ينزل من السَّحاب؟ فالجواب أن يقال: ينزل من السَّماء إلى السحاب، ومن السحاب إلى الأرض.
فَصْلٌ في أوجه ورود لفظ الماء
قال أبو العباس المقري: ورد لفظ الماء في القُرْآن على ثلاثة أوجه:
الأوّل: بمعنى الماء المُطْلَق كهذه الآية.
الثاني: بمعنى النّطفة. قال تعالى:
{ { خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } [الطارق: 6].
وقوله:
{ { مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } [السجدة: 8].
الثالث: بمعنى القرآن. قال تعالى:
{ { أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } [الرعد: 17] بمعنى القرآن، احتمله الناس على قَدَرٍ.
قوله: "فأخرج" عطف على "أنزل" مرتب عليه، و "به" متعلق به، و "الباء" فيه للسببية، و "من الثمرات" متعلّق به أيضاً، و "من" هنا للتبعيض، كأنه قصد بتنكير الماء والرزق معنى البعضِيّة، كأنه قيل: وأنزل من السماء بعض الماء، فأخرج به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم؛ إذ ليس جميع رزقهم هو بعض الثمرات، إنما ذكر بعض رزقهم.
وأبعد من جعلها زائدة لوجهين:
أحدهما: زيادتها في الواجب، وكون المجرور بها معرفةً، وهذا لا يقول به بَصْرِيّ ولا كُوفِيّ إلاّ أبا الحسن الأَخْفَشَ.
والثاني: أن يكون جميع الثمرات رزقاً لنا. وهذا يخالف الواقع؛ إذ كثير من الثمرات ليس رزقاً لنا. وجعلها الزمخشري لبيان الجنس، وفيه نظر؛ إذ لم يتقدم ما يبين هذا، وكأنه يعني أنه بيان لـ "رزقاً" من حيث المعنى.
و "رزقاً" ظاهره أنه مفعول به ناصبه "أخرج"، ويجوز أن يكون "من الثمرات" في موضع المفعول به، والتقدير: فأخرج ببعض الماء بعض الثمرات، وفي "رزقاً" حينئذ وجهان:
أحدهما: أن يكون حالاً على أن الرزق بمعنى المرزوق كالطَّحْن والرِّعْي.
والثاني: أن يكون مصدراً منصوباً على المفعول من أجله، وفيه شروط النصب موجودة.
وأجاز أبو البقاء أن يكون "من الثمرات" حالاً من "رزقاً"؛ لإنه لو تأخر لكان نعتاً، فعلى هذا يتعلّق بمحذوف.
وجعل الزمخشري "من الثمرات" واقعاً موقع الثمر أو الثمار، يعني مما ناب فيه جمع قلّة عن جمع الكَثْرة نحو:
{ { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ } [الدخان: 25] و { { ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ } [البقرة: 228]، ولا حاجة تدعو إلى هذا؛ لأن جمع السَّلامة المحلَّى بـ "أل" الَّتي للعموم يقع للكثرة، فلا فرْقَ إذن بين الثَّمَرَات والثِّمَار، ولذلك ردَّ المحقِّقون قول من رَدَّ على حَسَّان بن ثابت رضي الله عنه: [الطويل]

281- لَنَا الجَفَنَاتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ في الضُّحَى وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَةٍ دَمَا

قالوا: كان ينبغي أن يقول: "الجِفَان"، و "سيوفنا"؛ لأنه أمدح، وليس بصحيح؛ لما ذكرت قبل ذلك.
و "لكم" يحتمل التعلّق بـ "أخرج"، ويحتمل التعلّق بمحذوف، على أن يكون صفة لـ "رزقاً". هذا إن أريد بالرزق المرزوق، وإن أريد به المصدر، فيتحمل أن تكون الكاف في "لكم" مفعولاً بالمصدر واللام مقوية له نحو: "ضربت ابني تأديباً له" أي: تأديبه.
قوله: { فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلَّهِ أَندَاداً } "الفاء" للتسبب أي: تسبب عن إيجاد هذه الآيات الباهرة النهي عن اتخاذكم الأنداد، و "لا" ناهية، و "تجعلوا" مجزوم بها، علامة جزمه حذف النون، وهي هنا بمعنى تُصَيِّرُوا.
وأجاز أبو البَقَاءِ أن تكون بمعنى: تُسَمُّوا، وعَلَى القولين فيتعدى لاثنين.
أولهما: "أنداداً".
وثانيهما: الجار والمجرور قبله، هو واجب التقديم، و "أنداداً" جمع نِدّ.
وقال أبو البقاء: "أنداداً" جمع "نِدّ" و "نديد"، وفي جعله "نديد" نظر؛ لأنّ أفعالاً يحفظ في فعيل بمعنى فاعل، نحو: شريف وأشراف، ولا يقاس عليه.
فإن قيل: بم تعلّق قوله: "فلا تجعلوا"؟
فالجواب فيه وجوه:
أحدها: أن يتعلّق بالأمر أي: اعبدوا، ولا تجعلوا لله أنداداً، فإن أصل العبادة التوحيد.
وثانيها: بـ "لعل" على أن ينتصب بـ "تجعلوا" انتصاب "فَأَطَّلِع" في قراءة حَفْصٍ.
قال الزمخشري: والمعنى خلقكم لكي تتقوا، وتخافوا عقابه فلا تثبتوا له ندًّا، فإنه من أعظم موجبات العقاب، فعلى هذا تكون "لا" نافية، والفعل بعدها منصوب بإضمار "أن" في جواب الترجي، وهذا لا يجيزه البصريون، وسيأتي تأويل "فَأَطَّلِعَ"، ونظائِرِه في موضعه إنْ شَاءَ الله تعالى.
وثالثها: بقوله: { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً }
إذا جعلت "الذي" خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الذي خلق لكم هذه الدلائل الباهرة فلا تتخذوا له شريكاً.
و "النِّدُّ" المقاوم المُضاهي، سواءٌ كان مِثْلاً، أو ضدًّا، أو خلافاً.
وقيل: هو الضِّدُّ عن أبي عُبَيْدة.
وقيل: الكُفْء والمِثْلُ؛ قَال حَسَّان: [الوافر]

282- أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِنِدٍّ فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الفِدَاءُ

أي: "وَلَسْتَ لَهُ بِكُفءٍ".
وقد رُوِيَ ذلك؛ وقال آخر: [الرمل]

283- نَحْمَدُ اللهَ وَلاَ نِدَّ لَهُ عِنْدَهُ الخَيْرُ وَمَا شاءَ فَعَلْ

وقال الزمخشري: النِّدُّ المِثْلُ: ولا يقال إلا للنّدِّ المخالف؛ قال جرير: [الوافر]

284- أَتَيْماً تَجْعَلُونَ إِلَيَّ نِدًّا وَمَا تَيْمٌ لِذِي حَسَبٍ نَدِيدُ

ونَادَدْتُ الرّجل: خالفته ونافرته، من: نَدَّ َيَنِدُّ نُدُوداً، أي: نَفَر.
ومنه الحديث: "أيّ بعيرٍ نَدّ فأعياهم".
ويقال: "نَدِيدَة" على المبالغة؛ قال لَبِيد: [الطويل]

285- لِكَيْلاَ يَكُونَ السَّنْدَرِيُّ نَدِيدَتِي وَأَجْعَلَ أَقَوَاماً عُمُوماً عَمَاعِمَا

وأما "النَّد" بفتح النون فهل التَّلُّ المرتفع، والنَّدُّ الطيب أيضاً، ليس بعربي.
وقرأ محمد بن السَّمَيْفَع: "فلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا".
فإن قيل: إنهم لم يقولوا: إن الأصنام تنازع الله.
قلنا: لما عبدوها وسموها آلهة أشبهت حالهم حَالَ من يعتقد أنها آلهة قادرة على منازعته فقيل لهم ذلك على سبيل التهكُّم بهم.
قوله: { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال، ومفعول العلم متروك، لأن المعنى، وأنتم من أهل العلم، أو حذف اختصاراً أي: وأنتم تعلمون بطلاق ذلك، والاسم من "أنتم" قيل: "أن" و "التاء" حرف خطاب يتغير بحسب المخاطب، وقيل: بل "التاء" هي الاسم، و "أن" عماد قبلها.
وقيل: بل هو ضمير برمته وهو ضمير رفع منفصل وحكم ميمه بالنسبة إلى السكون والحركة والإشباع والاختلاس حكم "ميم" هم، وقد تقدّم جميع ذلك. والمعنى: إنكم لكمال عقولكم تعلمون أن هذه الأشياء لا يصح جعلها أنداداً لله - تعالى - فلا تقولوا ذلك؛ فإن القول القبيح ممن علم قبحه يكون أقبح. وهذا الخطاب للكافرين، والمنافقين، قاله ابن عباس رضي الله عنه.
فإن قيل: كيف وصفهم بالعِلْمِ، وقد نعتهم بالخَتْمِ، والطَّبْعِ، والصَّمَمِ، والعمى؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: وأنتم تعلمون العلم الخاص أن الله خلق، وأنزل الماء، وأنبت الرزق، وهو المنعم عليهم دون الأَنْدَادِ.
الثاني: وأنتم تعلمون وحدانيته بالفرد والإمكان لو تدبرتم ونظرتم، وفي هذا دليل على استعمال حجج المعقول، وإبطال التقليد. وقال ابن فُورك: يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين، والمعنى: لا ترتدوا أيها المؤمنون، وتجعلوا لله أَنْدَاداً بعد علمكم بأن الله واحد.
فَصْلٌ في فرق المشركين
قال ابن الخطيب: ليس في العالم أحد يثبت له شريكاً يساويه في الوجود، والقدرة، والعلم، والحكم، هذا مما لم يوجد، لكن الثنوية يثبتون إليهن، أحدهما: حكيم يفعل الخير، والثاني: سفيه يفعل الشر؛ وأما اتخاذ معبود سوى الله، فالذاهبون إلى ذلك فرق.
فمنهم عبدة الكواكب.
ومنهم الصَّابئة فإنهم يقولون: إنَّ الله - تعالى - خلق هذه الكواكب، وهي مدبّرات لهذا العالم قالوا: فيجب علينا أن نعبد الكواكب، والكواكب تعبد الله تعالى.
الفريق الثاني: الَّذين يعبدون المسيح عليه الصلاة والسلام.
الثالث: عبدة الأوثان. واعلم أنه لا دين من أديان الكفر أقدم من دين عباد النار؛ لأنه يروى أنّ النّار لما أكلت قربان "هابيل" جاء "إبليس" إلى "قابيل"، وأخبره أنها إنما أكلت قربان أخيه، لأنه عبدها، فعبدت النار من ذلك الوقت.
وقيل: لا دين من أديان الكفر أقدم من دين عبدة الأوثان؛ لأن أقدم الأنبياء الذين نقل إلينا تاريخهم هو نوح عليه الصلاة والسلام؛ لأنه إنما جاء بالرد عليهم على ما أخبر الله - تعالى - عن قومه في قوله تعالى:
{ { وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } [نوح: 23] فعلمنا أن هذه المقالة كانت موجودةً قبل نوح عليه الصلاة والسَّلام باقية إلى الآن، والمذهب الذي هذا شأنه، فيستحيل معرفة فساده بالضرورة، لكن العلم بأن هذا الحجر المنحوت في هذه السَّاعة ليس هو الذي خلقه وخلق السماء والأرض علم ضروري، فيستحيل إطباق الجمع العظيم عليه؛ فوجب أن يكون لعبدة الأوثان غرض آخر سوى ذلك، والعلماء ذكروا فيه وجوهاً:
أحدها: ما ذكره أبو معْشَرٍ جَعْفَرُ بن محمد المنجم البَلْخي أن كثيراً من أهل "الصِّين" و "الهند" كانوا يقولون بالله، وملائكته، ويعتقدون أنه - تعالى - جسم وصورة كأحسن ما يكون من الصُّور، وهكذا حال الملائكة أيضاً في صورهم الحسنة، وأنهم كلّهم قد احتجبوا عنا بالسماء، وأن الواجب عليهم أن يصوغوا تماثيل أنيقة المنظر، حسنة المرأى، على الهيئة التي كانوا يعتقدونها من صور الإله والملائكة، فيعكفون على عبادتها قاصدين به طلب الزُّلْفَى إلى الله - سبحانه - وملائكته. فإن صَحّ ما قال أبو معشر، فالسَّبب في عبادة الأوثان اعتقاد الشبه.
وثانيها: ما ذكر أكثر العلماء أن الناس رأوا تغيرات أحوال هذا العالم مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب؛ فإنه بحسب قرب الشمس وبعدها عن سمت الرأس يحدث الفصول المختلفة، والأحوال المتباينة، ثم إنهم رصدوا أحوال سائر الكواكب، فاعتقدوا ارتباط السعودة والنحوسة في الدنيا بكيفية وقوعها في طوالع الناس، فلما اعتقدوا ذلك بالغوا في تعظيمها، فمنهم من اعتقد أنها أشياء واجبة الوجود لذواتها، وهي التي خلقت هذه العوالم، ومنهم من اعتقد أنها مخلوقة للإله الأكبر، لكنها [خالقة لهذا] العالم، فالأولون اعتقدوا أنها هي الإله في الحقيقة، والآخرون أنها هي الوسائط بين الله وبين البشر، فلا جرم اشتغلوا بعبادتها والخضوع لها، ثم لما رأوا الكواكب مستترة في أكثر الأوقات عن الأبصار اتخذوا لها أصناماً، وأقبلوا على عبادتها قاصدين بتلك العبادات الأجرام العالية، ومتقرّبين إلى أشباحها الغائبة، ثم لما طالت المدة ألغوا ذكر الكواكب وتجرّدوا لعبادة تلك التماثيل، فهؤلاء في الحقيقة عبدة الكواكب.
وثالثها: أن أصحاب الأحكام كانوا يعيِّنون سنين متطاولة، نحو الألف والألفين، ويزعمون أن [من اتخذ] طلسماً في ذلك الوقت على وجه خاص، فإنه ينفع في أحوال مخصوصة نحو السَّعادة والخصب، ودفع الآفات، وكانوا إذا اتخذوا ذلك الطلسم عَظَّموه لاعتقادهم أنهم ينتفعون به، فلمَّا بالغوا في ذلك التعظيم صار ذلك كالعبادة، ولمَّا طالت مدّة ذلك الفِعْلِ نسوا مبدأ الأمر، وانشغلوا بعبادتها على الجهالة بأصل الأمر.
ورابعها: أنه متى مات منهم رجل كبير يعتقدون في أنه مجاب الدعوة، ومقبول الشَّفاعة عند الله - تعالى - اتخذوا أصناماً على صورته، ويعبدونه على اعتقاد أن ذلك الإنسان يكون شفيعاً لهم يوم القيامة عند الله - تعالى - على ما أخبر الله عنهم في قولهم:
{ { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَٰؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [يونس: 18].
وخامسها: لعلهم اتخذوها محاريب لصلاتهم، وطاعاتهم، ويسجدون إليها لا لها كما أنَّا نسجد إلى القبلة لا للقبلة، ولما استمرت هذه الحالة ظنّ الجهال من القوم أنه يجب عبادتها.
وسادسها: لعلّهم كانوا يعتقدون جواز حلول الرب فيها فعبدوها على هذا التأويل. فهذه هي الوجوه التي يمكن حمل هذه المقالة عليها حتى ليصير بحيث يعلم بطلانه بضرورة العقل.
واعلم أنّ إقامة الدّلالة على افتقار العالم إلى الصَّانع المختار يبطل القول بعبادة الأوثان على كلّ التأويلات، والله أعلم.
فَصْلٌ
اعلم أن من بيوت الأصنام المشهورة "غمدان" الذي بناه الضحاك على اسم الزهرة بمدينة "صنعاء" وخربه بن عفان، ومنها "نوبهار بلخ" الذي بناه "منوشهر" الملك على اسم القمر، ثم كان لقبائل العرب أوثان معروفة مثل: ود بـ "دومة الجندل" لكلب، و "سواع" لبني هذيل، و "يغوث" بـ "اليمن" لمذحج، و "يعوق" لمرادية همدان و "نَسْر" بأرض "حمير" لذي الكُلاَع، و "اللات" بـ "الطائف" لـ "ثقيف"، و "مناة" بـ "يثرب" للخزرج، و "العُزّى" لكنانة بنواحي "مكّة" و "أساف" و "نائلة" على "الصفا" و "المروة".
وكان قُصَيّ جَدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن عبادتها، ويدعوهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى، وكذلك زَيْدُ بْنُ عَمْرو بْنِ نُفَيْلٍ، وهو الذي يقول: [الوافر]

286- أَرَبٌّ وَاحِدٌ أَمْ أَلْفُ رَبٍّ أَدِينُ إِذَا تَقَسَّمَتِ الأُمُورُ؟!
تَرَكْتُ اللاَّتَ والعُزَّى جَمِيعاً كَذَلِكَ يَفْعَلُ الرَّجُلُ البَصِيرُ