التفاسير

< >
عرض

سَلْ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٢١١
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

قرأ الجمهور: "سَلْ" وهي تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون من لغة: سال يسال، مثل: خَافَ يَخَافُ، وهل هذه الألف مبدلة من همزة، أو واو، أو ياء؟ خلاف تقدَّم في قوله:
{ فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } [البقرة: 61] فحينئذٍ يكون الأمر منها: "سَلْ" مثل "خَفْ" لمَّا سكنت اللام حملاً للأمر على المجزوم، التقى ساكنان فحذفت العين لذلك، فوزنه على هذا فَلْ، وبهذا التقدير قرأ نافعٌ، وابن عامر "سَالَ سَائِلٌ" على وزن "قال"، "وكان".
والثاني: أن تكون من سأل بالهمز.
قال قطربٌ: سَأَلَ يَسْأَلُ مثل زَأر الأسد يَزْأَرُ، والأصل: اسأل ثم ألقيت حركة الهمزة على السِّين، تخفيفاً، واعتددنا بحركة النقل، فاستغنينا عن همزة الوصل فحذفناها، ووزنه أيضاً فَلْ بحذف العين، وإن اختلف المأخذ.
وروى عباس عن أبي عمرو: "اسْأَلْ" على الأصل من غير نقلٍ. وقرأ قوم: "اسَلْ" بالنقل وهمزة الوصل، كأنَّهم لم يعتدُّوا بالحركة المنقولة كقولهم: "الَحْمَر" بالهمز.
وقرأ بعضهم "سَلْ بَنِي إسْرَائِيلَ" بغير همزٍ، وقرأوا
{ وَٱسْأَلِ ٱلْقَرْيَة } َ }[يوسف: 82] { فَاسْأَلِ ٱلَّذِينَ يَقْرَءُونَ ٱلْكِتَابَ } [يونس: 94] { وَٱسْأَلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضْلِهِ } [النساء: 32] بالهمزة، وقرأ الكسائيُّ الكلَّ بغير همزٍ اتِّباعاً للمصحف، فإنَّ الألف ساقطةٌ فيها أجمع، و"بني" مفعولٌ أول عند الجمهور.
وقوله: "كم آتيناهم" في "كَمْ" وجهان:
أحدهما: أنها في محل نصب. واختلف في ذلك فقيل: نصبها على أنها مفعولٌ ثانٍ لـ"آتيناهم" على مذهب الجمهور، وأول على مذهب السُّهيلي، كما تقدَّم.
وقيل: يجوز أن ينتصب بفعل مقدَّر يفسِّره الفعل بعدها تقديره: كم آتينا آتيناهم، وإنما قدرنا ناصبها بعدها؛ لأنَّ الاستفهام له صدر الكلام، ولا يعمل فيه ما قبله، قاله ابن عطيَّة، يعني أنه عنده من باب الاشتغال، قال أبو حيَّان: وهذا غير جائزٍ إنْ كان "مِنْ آيةٍ" تمييزاً؛ لأن الفعل المفسِّر لم يعمل في ضمير "كَمْ" ولا في سببيها، وإذا لم يكن كذلك، امتنع أن يكون من بابا سببيِّه.
ونظير ما أجازه أن تقول: "زَيْداً ضربْتُ" ويكون من باب الاشتغال، وهذا ما لم يجيزه أحد.
فإن قلنا إنَّ تمييزها محذوف، وأطلقت "كَمْ" على القوم، جاز ذلك؛ لأنَّ في جملة الاشتغال ضمير الأول؛ لأنَّ التقدير: "كَمْ مِنْ قَوْم آتيناهُمْ" قال شهاب الدِّين: وهذا الذي قاله الشيخ من كونه لا يتمشَّى على كون "مِنْ آية" تمييزاً قد صرَّح به ابن عطيَّة فإنه قال" وقوله: "مِنْ آيةٍ" هو على التقدير الأول، مفعول ثان لآتيناهم، وعلى الثاني في موضع التمييز" يعني بالأول نصبها على الاشتغال، وبالثاني نصبها بما بعدها.
والوجه الثاني: أن تكون "كَمْ" في محلِّ رفع بالابتداء، والجملة بعدها في محلِّ رفع خبراً لها، والعائد محذوفٌ تقديره: كم آتيناهموها، أو آتيناهم إيَّاها، أجازه ابن عطيَّة وأبو البقاء، واستضعفه أبو حيَّان من حيث إن حذف عائد المبتدأ المنصوب لا يجوز إلاَّ في ضرورةٍ، كقوله: [السريع]

1031 - وَخَالِدٌ يَحْمَدُ سَادَاتُنَا بِالْحَقُ لاَ يُحْمَدُ بالْبَاطِلِ

أي: وخالدٌ يحمده. وهذا نقل بعضهم، ونقل ابن مالكٍ، أنَّ المبتدأ إذا كان لفظ "كُلٍّ"، أو ما أشبهها في الافتقار والعموم جاز حذف عائده المنصوب اتفاقاً من البصريِّين والكوفيِّين، ومنه: { وَكُـلٌّ وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى } [النساء: 95] في قراءة نافعٍ، وإذا كان المبتدأ غير ذلك، فالكوفيُّون يمنعون ذلك إلا في السِّعة، والبصريُّون يجيزونه بضعفٍ، ومنه: { أَفَحُكْمُ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } [المائدة: 50] برفع "حُكْم". فقد حصل أنَّ الذي أجازه ابن عطية ممنوعٌ عند الكوفيين، ضعيف عند البصريين.
وهل "كَمْ" هذه استفهامية، أو خبرية؟ الظاهر الأول، وأجاز الزمخشريُّ فيها الوجهين، ومنعه أبو حيَّان من حيث إن "كَمْ" الخبرية مستقلة بنفسها، غير متعلقةٍ بالسؤال، فتكون مفلتةً ممّا قبلها، والمعنى يؤدي إلى انصباب السؤال عليها، وأيضاً فيحتاج إلى حذف المفعول الثاني للسؤال، تقديره: سل بني إسرائيل عن الآيات التي آتيناهم، ثم قال: كثيراً من الآيات التي آتيناهم، والاستفهامية لا تحتاج إلى ذلك.
و"مِنْ آيةٍ" فيه وجهان:
أحدهما: أنها مفعول ثان على القول بأنَّ "كَمْ" منصوبةٌ على الاشتغال؛ كما تقدَّم، ويكون مميِّز "كَمْ" محذوفاً، و"مِن" زائدةٌ في المفعول؛ لأنَّ الكلام غير موجب، إذ هو استفهامٌ، وهذا إذا قلنا إنَّ "كَمْ" استفهامية لا خبريةٌ؛ إذ الكلام مع الخبرية إيجابٌ، و"مِنْ" لا تزاد في الواجب إلاَّ على رأي الأخفش، والكوفيِّين، بخلاف ما إذا كانت استفهامية. قال أبو حيَّان: فيمكن أن يجوز ذلك فيه لانسحاب الاستفهام على ما بعده وفيه بعدٌ، لأنَّ متعلَّق الاستفهام هو المفعول الأول لا الثاني، فلو قلت: "كَمْ مِنْ دِرْهمٍ أعطيته مِنْ رَجلٍ" على زيادة "مِنْ" في "رَجُلٍ" لكان فيه نظرٌ" انتهى.
والثاني: أنها تمييز، ويجوز دخول "مِنْ" على مميِّز "كَمْ" استفهامية كانت أو خبرية مطلقاً، أي: سواء وليها مميِّزها، أم فصل بينهما بجملةٍ، أو ظرفٍ أو جارٍّ ومجرورٍ، على ما قرَّره النحاة، و"كَمْ" وما في حيِّزها في محلِّ نصب أو خفض، لأنها في محل المفعول الثاني للسؤال فإنَّه يتعدَّى لاثنين: إلى الأوَّل بنفسه وإلى الثَّاني بحرف جرٍّ: إمّا عن، وإمَّا الباء؛ نحو: سألته عن كذا وبكذا؛ قال تعالى:
{ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } [الفرقان: 59]، وقد جمع بينهما في قوله: [الطويل]

1032 - فَأَصْبَحْنَ لاَ يَسْأَلْنَنِي عَنْ بِمَا بِهِ
..........................

وقد يحذف حرف الجرِّ، فمن ثمَّ جاز في محلِّ "كَمْ" النصب، والخفض بحسب التقديرين، و"كَمْ" هنا معلقة للسؤال، والسؤال لا يعلَّق إلا بالاستفهام؛ كهذه الآية، وقوله تعالى: { { سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ } [القلم: 40]، وقوله: [الطويل]

1033 - يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ المُزْجِي مَطِيَّتَهُ سَائِلْ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ

وقال آخر: [البسيط]

1034 -........................ وَاسْأَلْ بِمَصْقَلَةَ البَكْرِيِّ مَا فَعَلا

وإنما علَّق السؤال، وإن لم يكن من أفعال القلوب؛ قالوا: لأنه سببٌ للعلم، والعلم يعلَّق، فكذلك سببه، وإذا كانوا قد أجروا نقيضه في التعليق مجراه في قوله: [الطويل]

1034 - وَمَنْ أَنْتُمُ إِنَّا نَسِينَا مَنَ أَنْتُمُ وَرِيحُكُمْ مِنْ أَيِّ رِيحِ الأَعَاصِرِ

فإجراؤهم سببه مجراه أولى.
واختلف النحاة في "كَمْ": هل بسيطةٌ، أو مركبة من كاف التَّشبيه وما الاستفهامية، حذفت ألفها؛ لانجرارها، ثم سكنت ميمها، كما سكّنت ميم "لِمْ" من "لِمْ فَعَلْتَ كَذَا" في بعض اللغات، فركِّبتا تركيباً لازماً؟ والصحيح الأول. وأكثر ما تجيء في القرآن خبريَّةً مراداً بها التكثير، ولم يأت مميِّزها في القرآن إلا مجروراً بمن.
قال أبو مسلمٍ: في الآية حذفٌ، والتَّقدير: كم آتيناهم من آية بيِّنةٍ، وكفروا بها، ويدلُّ على هذا الإضمار قوله: { وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ }.
فصل
اعلم أنَّه ليس المقصود اسأل بني إسرائيل ليخبروك عن تلك الآيات لتعلمها؛ لأنه - عليه السلام - كان عالماً بها بإعلام الله له، وإنما المقصود المبالغة في الزَّجر عن الإعراض عن دلائل الله تعالى، فهو سؤالٌ على جهة التَّقريع والتَّوبيخِ؛ لأنه أمر بالإسلام، ونهى عن الكفر بقوله:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَٰنِ } [البقرة: 208] ثم قال: { فَإِن زَلَلْتُمْ } [البقرة: 209] أي: أعرضتم عن هذا التكليف صرتم مستحقين للتهديد، بقوله: { فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [البقرة: 209]، ثم هدَّدهم بقوله: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ ٱلْغَمَامِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ } [البقرة: 210]، ثم ثلَّث التهديد بقوله: { سَلْ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } يعني هؤلاء الحاضرين كم آتينا أسلافهم آيات بيناتٍ فأنكروها، فلا جرم استوجبوا العقاب، وهذا تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلُّوا عن آيات الله، لوقعوا في العذاب.
وفي المراد بـ"الآية البيِّنة" قولان:
أحدهما: معجزات موسى - عليه السلام - كما تقدَّم نحو: فلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، ونتق الجبل، وتكليم الله تعالى موسى - عليه السلام - والعصا، واليد البيضاء، وإنزال التوراة، وبيّن لهم الهدى من الكفر.
وقيل: المراد بالآية الحجَّة، والدلالة التي آتاهم، التوراة، والإنجيل على نبوة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وصدقه، وصحَّة شريعته.
قوله: { وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ } "مَنْ" شرطية في محلِّ رفع بالابتداء، وقد تقدَّم الخلاف في خبر اسم الشرط ما هو؟ ولا بدَّ للتبديل من مفعولين: مبدَّل وبدل، ولم يذكر هنا إلاَّ أحدهما وهو المبدَّل، وحذف البدل، وهو المفعول الثاني؛ لفهم المعنى، وقد صرَّح به في قوله:
{ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ كُفْراً } [إبراهيم: 28] فكفراً هو المحذوف هنا. وقد تقدَّم عند قوله تعالى: { فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } [البقرة: 59] أن "بَدَّل" يتعدَّى لاثنين: أحدهما بنفسه، وهو البدل، وهو الذي يكون موجوداً، وإلى الآخر بحرف الجر، وهو المبدَّل، وهو الذي يكون متروكاً، وقد يحذف حرف الجرِّ لفهم المعنى، فالتقدير هنا: "وَمَنْ يُبَدِّلْ بنعمتِهِ كُفْراً"، فحذف حرف الجر والبدل لفهم المعنى. ولا جائز أن تقدِّر حرف الجر داخلاً على "كُفْراً" فيكون التقدير: "وَمَنْ يُبَدِّلْ بِالكُفْرِ نِعْمَةَ اللَّهِ"؛ لأنه لا يترتَّب عليه الوعيد في قوله: { فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }. وكذلك قوله تعالى: { فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [الفرقان: 70] تقديره: بسيئاتهم حسناتٍ، ولا يجوز تقديره: "سَيِّئاتِهِم بحسناتٍ"؛ لأنه لا يترتَّب على قوله: "إلا مَنْ تَابَ".
وقرئ: "يُبْدِلُ" مخففاً، و"مِنْ" لابتداء الغاية و"مَا" مصدرية، والعائد من جملة الجزاء على اسم الشرط محذوف؛ لفهم المعنى، أي: شديد العقاب له، أو لأنَّ "أَلْ" نابت منابه عند الكوفيين.
قال القرطبيُّ: وهذا اللفظ عامٌّ لجميع المكلَّفين، وإن كان المشار إليه بني إسرائيل لكونهم بدَّلوا ما في كتبهم، وجحدوا أمر محمد - عليه السلام -، فاللَّفظ مستحب على كلِّ مبدِّل نعمة الله تعالى.
فصل
فالنِّعمة هاهنا إيتاء الآيات والدلائل؛ لأنها أعظم نعم الله، لإإنها أسباب الهدى والنَّجاة من الضَّلالة، وعلى هذا ففي تبديلهم إيَّاها وجهان:
فمن قال: المراد بالآيات ما في التوراة والإنجيل من دلائل معجزات موسى - عليه الصلاة والسلام - قال: تبديلها أنَّ الله تعالى لمَّا أظهرها لتكون أسباباً لضلالهم، فجعلوها أسباباً لضلالهم، كقوله:
{ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } [التوبة: 125].
ومن قال: المراد بالآيات ما في التَّوراة والإنجيل من دلائل نبوَّة محمَّد - عليه السلام - قال: تبديلها تحريفها، وإدخال الشُّبهة فيها.
والقول الثاني: أنَّ النعمة هي ما آتاهم الله من الصِّحَّة، والأمن، والكفاية، فتركوا القيام بما وجب عليهم من العلم بتلك الآيات.
وقوله: { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ }، أي: من بعد التمكُّن من معرفتها، أو من بعدما عرفها؛ كقوله:
{ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [البقرة: 75] إن فسرنا النعمة بالقول الأول، وإن فسرنا النعمة بالصحة والأمن، فلا شك أن عند حصولها يجب الشكر، ويقبح الكفر، فلهذا قال: "إنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ".
وقال الطَّبريُّ: النعمة هنا الإسلام.
وقال الواحديُّ -رحمه الله -: وفيه إضمارٌ والمعنى شديد العقاب له.
قال عبد القاهر النَّحويُّ في كتاب "دَلاَئِل الإعْجَازِ": إنّ ترك هذا الإضمار أولى؛ لأنَّ المقصود من الآية التخويف بكونه في ذاته موصوفاً بأنه شديد العقاب لهذا أو لذاك، ثم قال الواحديُّ: والعقاب عذابٌ يعقب الجرم.
قال القرطبيُّ: مأخوذٌ من العقب، كأنَّ المعاقب يمشي بالمجازاة له في آثار عقبه، ومنه عقبة الراكب [وعُقْبَة القِدْر].