التفاسير

< >
عرض

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
٢١٢
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: "زُيِّنَ": إنَّما لم تلحق الفعل علامة تأنيثٍ لوجوهٍ:
أحدها: قال الفرَّاء: لأنَّ الحياة والإحياء واحدٌ، فإن أُنِّثَ، فعلى اللَّفظ، وبها قرأ ابن أبي عبلة، وإن ذُكِّر، فعلى المعنى؛ كقوله:
{ فَمَنْ جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ } [البقرة: 275] { وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيْحَةُ } هود: 67].
وثانيها: قال الزَّجَّاج: إنَّ تأنيث الحياة ليس بحقيقي؛ لأنَّ معنى الحياة والعيشِ والبقاء واحدٌ، فكأنه قال: "زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا البَقَاءُ".
وثالثها: قال ابن الأنباري: إنما لم يقل زيِّنت؛ لأنه فصل بين "زُيِّنَ" وبين الحياة الدنيا بقوله: "للذين كَفَرُوا"، وإذا فصل بين فعل المؤنث، وبين الاسم بفاصلٍ حَسُنَ تذكير الفعل؛ لأنَّ الفاصل يغني عن تاء التأنيث، وقرأ مجاهد وأبو حيوة: "زَيَّنَ" مبنياً للفاعل، و"الحياةَ" مفعول، والفاعل هو الله تعالى عند الأكثرين، وعند الزجاج والمعتزلة يقولون: إنه الشيطان.
وقوله: "يَسْخَرُون" يحتمل أن يكون من باب عطف الجلمة الفعلية على الجملة الفعلية، لا من باب عطف الفعل وحده على فعل آخر، فيكون من عطف المفردات؛ لعدم اتِّحاد الزمان.
ويحتمل أن يكون "يَسْخَرُون" خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: وهم يسخرون، فيكون مستأنفاً، وهو من عطف الجملة الاسمية على الفعلية. وجيء بقوله: "زُيِّن" ماضياً؛ دلالةً على أنَّ ذلك قد وقع، وفرغ منه، وبقوله: "وَيَسْخَرُونَ" مضارعاً؛ دلالة على التَّجَدُّد، والحدوث.
قوله: { وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ فَوْقَهُمْ } مبتدأ وخبر، و"فَوْقَ" هنا تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون ظرف مكانٍ على حقيقتها؛ لأنَّ المتقين في أعلى علِّيِّين، والكافرين في أسفل السَّافلين.
والثاني: أن تكون الفوقية مجازاً: إمَّا بالنسبة إلى نعيم المؤمنين في الآخرة، ونعيم الكافرين في الدنيا. وإمّا أنّ حجة المؤمنين في القيامة فوق حجَّة الكافرين، وإمَّا أن سخرية المؤمنين لهم في الآخرة، فوق سخرية الكفار لهم في الدنيا.
و"يوم" منصوبٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به "فَوْقَهُمْ" وقوله: { مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } ثم قال: { وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } لتبيين أنَّ السعادة الكبرى لا تحصل إلاَّ للمؤمن التَّقيّ.
فصل
قال ابن عبَّاسٍ: نزلت في كفَّار قريشٍ، كانوا يسخرون من فقراء المسلمين كعبد الله بن مسعودٍ، وعمَّارٍ، وخبَّابٍ، وسالمٍ مولى أبي حذيفة، وعامر بن فهيرة، وأبي عبيدة بن الجرَّاح، وصهيبٍ، وبلالٍ، بسب ما كانوا فيه من الفقر، والصَّبر على أنواع البلاء، مع ما كان الكُفَّار فيه من النَّعيم، والرَّاحة، وبسط الرِّزق.
وقال عطاءٌ: نزلت في رؤساء اليهود، وعلمائهم، من بني قريظة، والنَّضير، وبني قينقاع؛ سخروا من فقر المسلمين المهاجرين حيث أُخرجوا من ديارهم، وأموالهم، فوعدهم الله أن يعطيهم أموال بني قريظة والنَّضير بغير قتالٍ.
وقال مقاتلٌ: نزلت في المنافقين كعبد الله بن أُبيٍّ، وأصحابه؛ كانوا يتنعّمون في الدّنيا، ويسخرون من ضعفاء المسلمين، وفقراء المهاجرين، ويقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم.
قال ابن الخطيب: ولا مانع من نزولها في جميعهم.
روى أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"وَقَفْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا المَسَاكِينَ، وَوَقَفْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ، وَإنَّ أَهْلَ الجَدِّ مَحْبُوسُونُ إِلاَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَقَدْ أُمِرَ بِهِ إِلَى النَّارِ"
وروى سهل بن سعدٍ السَّاعديّ، قال: "مرَّ رجلٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالسٍ: مَا رَأَيُكَ في هَذَا فقال هذا رجل من أشراف النَّاس، هذا والله حريٌّ إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفَّع، قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مرَّ رجُلٌ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَا رَأْيُكَ في هَذَا؟ فقال: يَا رسولَ الله، هذا من فقراء المسلمين، هذا حَرِيٌّ إن خطب ألاّ ينكح وإن شفع ألا يشفَّع، وإن قال لا يسمع لقوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْل هَذَا"
وروي عن عليٍّ؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنِ اسْتَذَلَّ مَؤْمِناً أَوْ مُؤْمِنَةً، أَوْ حَقَّرَهُ لِفَقْرِهِ وَقِلَّةِ ذَات يَدِهِ، شَهَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، ثُم فَضَحَهُ، وَمَنْ بَهَت مُؤْمِناً أَوْ مُؤْمِنَةً، أَوْ قَالَ فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ أَقَامَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تَلٍّ مِنْ نَارٍ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ فِيه..."
فصل
قال الجُبَّائيُّ: المزيِّن هم غواة الجن، والإنس؛ زينوا للكفار الحرص على الدُّنيا، وقبَّحوا أمر الآخرة.
قال: وأمَّا قول المجبّرة: إنَّ الله تعالى زيَّن ذلك فهو باطلٌ، لأنَّ المزيِّن للشيء كالمخبر على حسنه، فإن كان صادقاً، فيكون ما زينه حسناً، ويكون فاعله مصيباً، وذلك يوجب أنَّ الكافر مصيبٌ في كفره، وهذا القول كفرٌ، وإن كان كاذباً في ذلك التزيين، فيؤدي إلى أن لا يوثق بخبره، وهذا - أيضاً - كفرٌ، فثبت أنَّ المزيِّن هو الشيطان.
قال ابن الخطيب: وهذا ضعيفٌ، لأنَّ قوله: { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } يتناول جميع الكُفَّار، وهذا يقتضي أن يكون لجميع الكفار مُزَيِّن، فلا بدَّ وأن يكون ذلك المزيِّن مغايراً لهم؛ لأنَّ غواة الجنِّ والإنس داخلون في الكفار أيضاً، إلاَّ أن يقال: إن كلَّ واحدٍ يزيِّن للآخر فيصير دوراً، فثبت ضعف هذا التأويل.
وأمَّا قوله: "المُزَيِّنُ للشَّيْءِ كالمخبر عن حُسْنِه" فهذا ممنوعٌ، بل المزين من يجعل الشيء موصوفاً بالزينة، ثم لئن سلَّمنا أنَّ المزين للشيء هو المبخر عن حسنه بمعنى أنه أخبر عمَّا فيها من اللَّذَّات والراحات، وذلك الإخبار ليس بكذبٍ، وتصديقه ليس بكفرٍ.
وقال أبو مسلمٍ: يحتمل أنهم زيَّنوا لأنفسهم والعرب يقولون لمن يبعد منهم: أين يذهب بك؟ لا يريدون أنَّ ذاهباً ذهب به، وهو معنى قوله تعالى في الآي الكثيرة:
{ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } [المائدة: 75]، { أَنَّىٰ يُصْرَفُونَ } [غافر: 69] إلى غير ذلك، وأكّده بقوله: { لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ } [المنافقون: 9] وأضاف ذلك إليهما؛ لمَّا كان كالسبب ولمَّا كان الشيطان لا يملك أن يحمل الإنسان على الفعل قهراً، فالإنسان في الحقيقة هو الذي زيَّن لنفسه.
قال ابن الخطيب: وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ قوله: "زُيِّنَ للنَّاس" يقتضي أنَّ مزيِّناً زينه، والعدول عن الحقيقة إلى المجاز غير ممكن.
التأويل الثالث: أنَّ المزيِّن هو الله تعالى، ويدلُّ عليه وجهان:
أحدهما: قراءة من قرأ "زَيَّنَ" مبنيّاً للفاعل.
والثاني: قوله تعالى:
{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } [الكهف: 7] والقائلون بهذا ذكروا وجوهاً:
الأول: أنَّ هذا التزيين بما أظهره لهم في الدنيا من الزَّهرة والنضارة، والطِّيب، واللَّذَّة؛ ابتلاءً لعباده؛ كقوله:
{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ } [آل عمران: 14] إلى قوله: { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ } [آل عمران:15].
وقال:
{ ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا } [الكهف: 46] ثم قال: { وَٱلْبَاقِيَاتُ ٱلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً } [الكهف: 46] فهذه الآيات متوافقة، والمعنى: أنَّ الله تعالى جعل الدُّنيا دار بلاءٍ وامتحانٍ، وركَّب في الطِّباع الميل إلى اللذات، وحبّ الشهوات، لا على سبيل الإلجاء الذي لا يمكن تركه، بل على سبيل التحبيب الذي تميل إليه النفس مع إمكان ردِّها عنه؛ ليتمَّ بذلك الامتحان، وليجاهد المؤمن هواه، فيقبض نفسه عن المباح، ويكفّها عن الحرام.
الثاني: أنَّ المراد بـ"التَّزَيِينِ" أنه أمهلهم في الدنيا، ولم يمنعهم عن الإقبال عليها، والحرص في طلبها، فهذا الإمهال هو المسمى بـ"التزيين".
الثالث: أنَّه زيَّن لهم المباحات دون المحظورات، وعلى هذا سقط الإشكال، إلاّ أنَّ هذا ضعيفٌ؛ لأن الله تعالى خصَّ الكفَّار، وأيضاً فإنَّ المؤمن إذا تمتع بالمباحات، وكثرة ماله، يكون متعته مع الخوف من الحساب في الآخرة فعيشه مكدَّرٌ منغَّصٌ وأكبر غرضه أجر الآخرة، إنما يعدُّ الدنيا كالوسيلة إليها، ولا كذلك الكافر، فإنَّه وإن قلَّت ذات يده، فسروره، بها يغلب على قلبه لاعتقاده أنها المقصود دون غيرها.
وأيضاً، فإنَّه تعالى أتبع الآية بقوله: { وَيَسْخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } وذلك يشعر بأنهم كانوا يسخرون منهم في ترك اللَّذات المحظورة، وتحملهم المشاقَّ الواجبة، فدلَّ ذلك على أنَّ التزيين لم يكن في المباحات.
قال ابن الخطيب: ويتوجَّه على المعتزلة سؤال، وهو أنَّ حصول هذه الزينة في قلوب الكفَّار لا بدَّ له من محدث، وإلا فقد وقع المحدث، لا عن مؤثر فهذا محال، ثم هذا التزيين الحاصل في قلوب الكفار إمَّا أن يكون قد رجَّح جانب الكفر والمعصية على جانب الإيمان والطاعة، فقد زال الاختيار، لأنَّ حال الاستواء لمَّا امتنع حصول الرُّجحان، فحال صيرورة أحد الطرفين مرجوحاً أولى بامتناع الوقوع، وإذا صار المرجوح ممتنع الوقوع، صار الراجح واجب الوقوع ضرورة أنَّه لا خروج عن النقيضين، فهذا توجيه السؤال، وهو لا يدفع بالوجوه التي ذكرها المعتزلة، فأمّا أصحابنا فإنهم حملوا التزيين على أنَّ الله تعالى خلق في قلبه إرادة تلك الأشياء، بل خلق تلك الأفعال، والأقوال.
قوله تعالى: { وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ } مفعول "يَشَاءُ" محذوف، أي: من يشاء أن يزرقه، و"بِغيرِ حِسَابٍ" هذا الجارُّ فيه وجهان:
أحدهما: أنه زائدٌ.
والثاني: أنه غير زائدٍ، فعلى الأول لا تعلُّق له بشيءٍ، وعلى الثاني هو متعلِّق بمحذوفٍ، فأما وجه الزيادة: فهو أنه تقدَّمه ثلاثة أشياء في قوله: { وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ } الفعل والفاعل والمفعول، وهو صالحٌ لأن يتعلَّق من جهة المعنى بكلِّ واحدٍ منها، فإذا تعلَّق بالفعل كان من صفات الأفعال، تقديره: والله يرزق رزقاً غير حساب، أي: غير ذي حساب، أي: أنه لا يحسب ولا يحصى لكثرته، فيكون في محلِّ نصبٍ على أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، والباء زائدةٌ.
وإذا تعلَّق بالفاعل، كان من صفات الفاعلين، والتقدير: والله يرزق غير محاسب بل متفضلاً، أو غير حاسبٍ، أي: عادٍّ. فـ"حساب" واقعٌ موقع اسم فاعل من حاسب، أو من حَسَبَ، ويجوز أن يكون المصدر [واقعاً موقع اسم مفعولٍ من حاسب، أي: الله يرزق غير محاسبٍ]أي: لا يحاسبه أحدٌ على ما يعطي، فيكون المصدر في محلِّ نصبٍ على الحال من الفاعل، والباء فيه مزيدةً.
وإذا تعلَّق بالمفعول، كان من صفاته أيضاً، والتقدير: والله يرزق من يشاء غير محاسب، أو غير محسوب عليه، أي: لا يعدُّ. فيكون المصدر أيضاً واقعاً موقع اسم مفعول من حاسب أو حسب، أو يكون على حذف مضاف، أي: غير ذي حساب، أي: محاسبة، فالمصدر واقع موقع الحال والباء - أيضاً - زائدة فيه، ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى أنه يرزق من حيث لا يحتسب، أي: من حيث لا يظنُّ أن يأتيه الرزق، والتقدير: يرزقه غير محتسب ذلك، أي: غير ظانٍّ له، فهو حال أيضاً، ومثله في المعنى
{ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [الطلاق: 3]. وكون الباء تزاد في الحال ذكروا لذلك شرطاً - على خلافٍ في جواز ذلك في الأصل - وهو أن تكون الحال منفيَّةٌ، كقوله: [الوافر]

1036 - فَمَا رَجَعَتْ بِخَائِبَةٍ رَكَابٌ حَكِيمٌ بْنُ المُسَيِّبِ مُنْتَهَاهَا

وهذه الحال - كما رأيت - غير منفيةٍ، فالمنع من الزيادة فيها أولى.
وأمَّا وجه عدم الزيادة، فهو أن تجعل الباء للحال والمصاحبة، وصلاحية وصف الأشياء الثلاثة - أعني الفعل، والفاعل، والمفعول - بقوله: "بغير حساب" باقية أيضاً، كما تقدَّم في القول بزيادتها.
والمراد بالمصدر المحاسبة، أو العدُّ والإحصاء، أي: يرزق من يشاء، ولا حساب على الرزق، أو ولا حساب للرازق، أو ولا حساب على المرزوق، وهذا أولى؛ لما فيه من عدم الزيادة، التي الأصل عدمها، ولما فيه من تبعيَّةّ المصدر على حاله، غير واقعٍ موقع اسم فاعل، أو اسم مفعولٍ، ولما فيه من عدم تقدير مضافٍ بعد "غير" أي: غير ذي حساب. فإذاً هذا الجارُّ، والمجرور متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لوقوعه حالاً من أيِّ الثلاثة المتقدِّمة شئت؛ كَما تقدَّم تقريره، أي: ملتبساً بغير حساب.
فصل
يحتمل أن يكون المراد منه: ما يعطي في الدنيا لعبيده المؤمنين والكافرين، ويحتمل أن يكون المراد منه: رزق الآخرة، فإن حملناه على رزق الآخرة، كان مختصاً بالمؤمنين، وهو من وجوه:
أحدها: أنَّ الله يرزقهم بغير حسابٍ، أي: رزقاً واسعاً رغداً لا فناء له؛ لأنَّ كلَّ ما دخل تحت الحساب، فهو متناهٍ.
وثانيها: أن المنافع الواصلة إليهم في الجنة بعضها ثواب، وبعضها تفضل؛ كما قال:
{ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ } [النساء: 173] فالفضل منه بلا حساب.
وثالثها: أنه لا يخاف نفادها عنده؛ فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه؛ لأن المعطي إنَّما يحاسب، ليعلم مقدار ما يعطى وما يبقى كي لا يتجاوز في عطاياه إلى ما لا يجحف به، والله عالم غني، لا نهاية لمقدوراته.
ورابعها: "بِغَيْرِ حِسَاب"، أي: بغير استحقاقٍ؛ يقال: لفلان على فلانٍ حسابٌ؛ إذا كان له عليه حق، وهذا يدلُّ على أنَّه لا يستحق أحدٌ عليه شيئاً، وليس لأحدٍ معه حساب، بل كلُّ ما أعطاه، فهو مجرّد فضل وإحسانٍ، لا بسبب استحقاق.
وخامسها: "بِغَيرِ حِسَابٍ"، أي: يعطي زائداً على الكفاية؛ يقال: فلان ينفق بغير حساب، أي: يعطي كثيراً؛ لأن ما دخله الحساب فهو قليل.
وهذه الوجوه كلُّها محتملة، وعطايا الله بها منتظمة، فيجوز أن يكون الكلُّ مراداً والله أعلم.
فإن قيل: قد قال الله - تعالى - في صفة المتقين، وما يصل إليهم:
{ عَطَآءً حِسَاباً } [النبأ: 36] على المستحقِّ بحسب الوعد؛ كما هو قولنا، وبحسب الاستحقاق، كما هو قول المعتزلة، فالسؤال: وهذا كالمناقض لهذه الآية.
فالجواب: من حمل قوله: "بِغَيْرِ حِسَابٍ" على التفضُّل، وحمل قوله: "عَطَاءً حِسَاباً" على المستحق بحسب الوعد، كماهو قولنا، وبحسب الاستحقاق، كما هو قول المعتزلة، فالسؤال زائل، وَمَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ: "بغير حساب" على سائرِ الوجوه، فله أنْ يقول: إن ذلك العطاء إذا كان يتشابه في الأوقاتِ، فَصَحَّ من هذا الوجه أَنْ يُوصَف بكونه: "عَطَاءً حِسَاباً" فلا تناقض، وإن حملناه على أرزاق الدنيا، ففيه وجوه:
أحدها، وهو أَلْيَقُ بِنَظم الآية، أنَّ الكفارَ كان يَسْخرونَ من فقراء المسلمين؛ لأنهم كانوا يستدلُّون بحصولِ السعاداتِ الدنيوية، على أنهم على الحقِّ، وبحرمان فقراء المسلمين على أنهم على الباطل؛ فأَبطل تعالى استدلالهُم بقوله: { وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } يعني: يُعْطِي في الدنيا مَنْ يشاءُ من غير أَنْ يكونَ ذلك مُنْبئاً عن كون المُعْطى مُحِقّاً أَوْ مُبْطِلاً، بل بِمَحْضِ المَشِيئَةِ؛ كَمَا وَسَّعَ على قَارون وضيَّق على أَيُّوب - عليه السلام - فقد يُوسِّع على الكافر، ويضيقُ على المؤمن؛ ابتلاءً وامتحاناً؛ كما قال
{ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ } [الزخرف: 33].
وثانيها: أَنَّ اللَّهَ يرزقُ مَنْ يشاءُ في الدنيا: مِنْ كافرٍ، ومُؤْمنٍ بغير حسابٍ يكون لأحدٍ عليه ولا مُطَالبة، ولا تبعةٍ، ولا سؤال سائل.
والمقصود منه: أَلاَّ يقولَ الكافِر: إِنَّ المؤمن على الحق فَلِمَ لَمْ يُوَسَّع عليه في الدنيا؟ وألاَّ يقولَ المؤمُن: لو كانَ الكافرُ مُبطلاً، فلِمَ يُوَسَّعُ عليه في الدنيا؟ بل الاعْتِراضُ ساقطٌ؛ و
{ لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } [الأنبياء: 23].
وثالثها: بغير حساب أي: مِنْ حيثُ لا يحتسِب؛ كما يقولُ مَنْ جاءه مَا لَمْ يكنْ في قلبه: لَمْ يَكُن هذا حسابي.
قال القفَّال -رحمه الله -: وَقَدْ فعل ذلك بهم، فَأَغْنَاهُم بما أَفَاءَ عليهم مِنْ أَمْوالِ صَنَادِيدِ قُرَيش ورُؤَساءِ اليهود، وبما فتح على رسوله، بعد وفاته على أَيْدِي أصحابه، حتى ملكوا كُنوز كِسرَى، وقَيصر.