التفاسير

< >
عرض

لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢٢٦
وَإِنْ عَزَمُواْ ٱلطَّلاَقَ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٢٢٧
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ }: هذه جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ، وعلى رأي الأخفش من باب الفعلِ والفاعلِ؛ لأنه لا يشترطُ الاعتماد، و "مِن نِّسَآئِهِمْ" في هذا الجارِّ ثمانيةُ أوجهٍ:
أحدها: أنْ يتعَلَّقَ بـ "يُؤْلُونَ".
قال الزمخشريُّ: "فإنْ قلتَ: كيف عُدِّي بـ "مِنْ" وهو مُعَدى بـ "عَلَى"؟ قلتُ: قد ضُمِّنَ في هذا القَسَم المخصوصِ معنى البُعْد، فكأنه قيل: يَبْعُدُونَ من نسائِهم مُؤْلِينَ، أو مُقْسِمِين".
الثاني: أنَّ "آلَى" يتَعَدَّى بـ "عَلَى" و بـ "مِنْ"؛ قاله أبو البقاء نقلاً عن غيره؛ أنه يقال: آلَى من امرأته، وعلى امرأته.
الثالث: أنَّ "مِنْ" قائمةٌ مقامَ "عَلَى" على رأي الكوفيِّين.
والرابع: أنها قائمةٌ مقامَ "فِي"، ويكونُ ثم مضافٌ محذوفٌ، أي: على تَرْكِ وَطْءِ نسائهم، أو في ترك وطء نسائهم.
والخامس: أنَّ "مِنْ" زائدةٌ، والتقدير: يُؤْلُون أَنْ يَعْتَزلوا نِسَاءَهُم.
والسادس: أَنْ تتعلَّقَ بمحذوف، والتقديرُ: والذين يُؤُلون لهم من نسائهم تربُّصُ أربعة أشهرٍ؛ فتتعلَّق بما يتعلق به "لَهُم" المحذوفُ، هكذا قَدَّره أبو حيَّان وعزاه للزمخشريِّ قال شهاب الدين وفيه نظرٌ؛ فإنَّ الزمخشريَّ قال: ويجوزُ أن يُرَادَ: لهم من نسائهم تَرَبُّصُ؛ كقولك: "لِي مِنْكَ كَذَا" فقوله "لَهُمْ" لم يُرد به أن ثَمَّ شيئاً محذوفاً، وهو لفظُ "لَهُمْ"، إنما أرادَ أَنْ يعلِّق "مِنْ" بالاستقرار الذي تعلَّق به "لِلَّذِينَ"، غايةُ ما فيه: أنه أتى بضمير "الَّذِينَ" تبييناً للمعنى، وإِلَى هذا المنحَى نحا أبو البقاء؛ فإنه قال: وقيل: الأصلُ "عَلَى"، ولا يَجُوزُ أن تقومَ "مِنْ" مقامَ "عَلَى" فَعَلَى ذلك تتعلَّقُ "مِنْ" بمعنى الاستقرار، يريدُ الاستقرارَ الذي تعلَّقَ به قوله "لِلَّذِينَ"، وعلى تقدير تسليم أنَّ لفظة "لَهُمْ" مقدرةٌ، وهي مُرادةٌ، فحينئذٍ: إنما تكونُ بدلاً من "لِلَّذِينَ" بإِعادةِ العاملِ، وإلاَّ يبقى قوله "لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ" مُفْلَتاً، وبالجملةِ فتعلُّقه بالاستقرار غيرُ ظاهرٍ، وأمَّا تقديرُ الشيخ: "والذين يُؤْلُونَ لَهُمْ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ"، فليس كذلك؛ لأنَّ "الَّذِينَ" لو جاء كذلك غيرَ مجرور باللام، سَهُلَ الأمرُ الذي ادَّعاه، ولكن إنما جاءَ كما تراه مجروراً باللام، سهُلَ الأمرُ الذي ادَّعاه، ولكن إنما جاءَ كما تراه مجروراً باللام، ثم قال أبو حيَّان: وهذا كلُّه ضعيفٌ يُنَزَّه القرآن عنه، وإنما يتعلَّق بـ "يُؤْلُونَ" على أحد وجهين: إمَّا أنْ تكونَ "مِنْ" للسَّبَبِ، أي يَحْلِفُون بسبب نسائِهم، وإمَّا أَنْ يُضَمَّن معنى الامتناع، فيتعدَّى بـ "مِنْ" فكأنه قيل "لِلَّذِينَ يمتنعُونَ من نسائِهِم بالإِيلاَءِ" فهذان وَجْهان مع الستة المتقدِّمة؛ فتكونُ ثمانيةً، وإن اعتبرت مطلقَ التضمينِ فتجيءُ سبعةً.
والإِيلاءُ: الحَلفُ. مصدرُ آلَى يُؤْلي، نحو: أَكْرَمَ يُكْرِم إِكْرَاماً، والأصل: "إئْلاءٌ" فأُبدِلت الهمزةُ الثانيةُ ياءً؛ لسكونها وانكسار ما قبلها؛ نحو: "إِيمَان".
ويقال: تَأَلَّى وايتَلَى على افتَعَلَ، والأصلُ: ائْتَلَى، فقُلِبَت الثانيةُ ياءً؛ لِما تقدَّم.
والحَلْفَةُ: يقال لها: الأَلِيَّةُ والألُوَّةُ والأَلْوَةُ والإِلْوَةُ، وتُجْمَعُ الأَليَّةُ على "أَلايَا"؛ كعَشيَّة وعَشَايَا، ويجوزُ أن تُجْمَعَ الأَلُوَّة أيضاً على "أَلاَيَا"؛ كرَكُوبَة ورَكَائِب؛ قال كُثَيِّر عزَّة: [الطويل]

1098- قَلِيلُ الألاَيَا حَافِظٌ ليَمِينِهِ إِذَا صَدَرَتْ مِنْهُ الأَلِيَّةُ بَرَّتِ

وقد تقدَّم كيف تصريفُ أَلِيَّة وَأَلاَيَا عند قوله: { { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } [البقرة:58] جمع خطيئة والإيلاء من عرف الشَّرع: هو اليمين على ترك الوطء؛ كقوله: لا أُجامعك، أو لا أُباضعك، أو لا أُقاربك.
ومن المفسرين من قال في الآية حذف تقديره: للَّذين يؤلون من نسائهم ألاَّ يطئوهم، إلاَّ أنَّه حذف لدلالة الباقي عليه.
قال ابن الخطيب: هذا إذا حملنا لفظ "الإِيلاَءِ" على المفهوم اللُّغَوِيّ، أَمَّا إذا حملناه على المفهوم الشَّرعي، لم يحتج إلى هذا الإضمار.
وقرأ أُبيٌّ وابن عباس: "للَّذِينَ يُقْسِمُونَ"، نقله القرطبي.
وقرأ عبد الله: "آلَوْا مِنْ نِسَائِهِم".
والتَّربصُ: الانتظارُ، وهو مقلوبُ التَّصبُّرِ؛ قال: [الطويل]

1099- تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ المَنُونِ لَعَلَّهَا تُطَلَّقُ يَوْماً أَوْ يَمُوتَ حَلِيلُهَا

وإضافةُ التربُّص إلى الأشهرِ فيها قولان:
أحدهما: أنَّه من باب إضافة المصدر لمفعوله؛ على الاتساع في الظرف؛ حتَّى صارَ مفعولاً به، فأُضيفَ إليه، والحالةُ هذه كقوله: "بَيْنَهُمَا مَسِيرة يَوْمٍ" أي: مَسِيرة في يَوْم.
والثاني: أنه أُضِيف الحَدَثُ إلى الظرف من غير اتِّساع، فتكونُ الإِضافةُ بمعنى "فِي" وهو مذهبٌ كوفيٌّ، والفاعلُ محذوفٌ، تقديره: تربُّصُهُمْ أربعةُ أشهرٍ.
فصل
قال قتادة: كان الإيلاء طلاقاً لأهل الجاهلية وقال سعيد بن المُسيَّب: كان ذلك من ضرار أهل الجاهليَّة، وكان الرَّجُلُ لا يُحِبُّ امرأته، ولا يريد أن يتزوَّجها غيره، فيحلف ألاَّ يقربها أبداً، فيتركها لا أَيماً ولا ذات بعلٍ، وكانوا في ابتداء الإِسلام يفعلون ذلك أيضاً؛ فأزال الله تعالى ذلك، وضرب للزَّوْج مُدَّة يَتَرَوَّى فيها ويتأمَّل، فإِنْ رأى المصلحة في تركِ هذه المضارَّة، فعلها، وإن رأى المصلحة في المفارقة، فارقها.
وقال القُرطبيّ: وقد آلَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وطَلَّق، وسببُ إيلائه: سُؤال نسائه إِيَّاه من النَّفقةِ ما ليس عندهُ؛ كذا في "صَحِيح مُسْلِم"، وقيل: لأن زينب ردَّت عليه هديَّتهُ، فغضب - صلى الله عليه وسلم - فآلَى منهُنَّ، ذكره ابن ماجه.
فصل
واختلف أهل العلم فيه:
فذهب أكثرهم إلى أَنَّهُ إِن حلف لا يَقْرَبُ زوجته أبداً، أَو سَمَّى مُدَّة أكثر من أربعة أشهر يكون مؤْلياً، فلا يتعرَّض لها قبل مضي أربعة أشهر، وبعد مُضيِّها يُوقفُ ويُؤمرُ بالفيئة أو الطَّلاقِ بعد مُطالبةِ المرأة، والفَيْئَة: هي الرُّجُوع عمَّا قال بالوطء إن قَدَر عليه، وإن لم يَقْدِر فبالقَوْل، فإن لم يَفِ ولم يُطَلِّق، طَلَّق عليه الحاكم واحدة.
وذهب إلى الوَقْفِ بعد مُضِيِّ المُدَّةِ: عمر، وعثمان، وعليٌّ، وأبو الدَّرداء، وابن عمر.
قال سُليمان بن يسار: أدْرَكْتُ بضعة عشر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كُلُّهم يقول بوقف المُؤْلي، وإليه ذهب سعيد بن جُبير، وسُلَيْمان بن يسار، ومجاهد، وبه قال مالك والشَّافعي وأحمد وإِسحاق.
وقال بعض أهل العلم: إذا مضتْ عليها أربعةُ أشهر، يقع عليها طَلْقَةً بائنة، وهو قول ابن عبَّاس وابن مسعود، وبه قال سُفيانُ الثَّورِيُّ وأصحاب الرَّأي.
وقال سعيد بن المُسيَّب والزُّهري: تقع طلقة رجعيَّةً، ولو حلف ألاَّ يطأَها أَقَلَّ من أربعة أشهر، لا يكون مُؤْلياً، بل هو حانثٌ إذا وطئها قبل مُضِيِّ تلك المُدَّة، وتجب عليه كفَّارة يمين على الصَّحيح، ولو حلف ألاَّ يطَأَهَا أربعة أشهرٍ، لا يكون مُؤلياً عند من يقول بالوقف بعد مُضِيِّ المُدَّة، لأن بقاء المُدَّة شرط للوقف، وثبوت المُطَالبة بالفيئة أو الطَّلاق، وقد مضتِ المُدَّة، وعند من لا يقول بالوقف لا يكون مؤلياً ويقعُ الطَّلاَق بمُضِيِّ المُدَّة.
وقال ابن عبَّاس لا يكون مُؤْلياً حتى يحلف لا يَطأَها أبداً.
وقال الحسن البصريِّ وإسحاق: أي مُدَّة حَلَف عَلَيها، كان مُؤلياً وإن كان يَوْماً.
فصل
قال القرطبيُّ: إذا حلف أَلاَّ يطأ امرأتهُ أكثر من أربعة أشهرٍ؛ فانقضت الأربعة أشهرٍ ولم تُطالبه، ولم ترفعهُ إلى الحاكم، لم يلزمه شيء عند مالكٍ وأكثر أهل المدينة.
وقال بعض أصحابنا: يلزمه بانقضاء الأَربعَة أَشهر طلقة رجعيَّة، وقال بعضهم: طلقة بائِنَة.
والصَّحِيح: ما ذهب إليه مالِكٌ، وأكثر أَهْلِ المدينة وأصحابه.
فصل هل ينعقد الإيلاء في الغضب؟!
قال ابن عبَّاس: لا يكون إيلاءً إلاَّ في حالِ الغَضَبِ، وهو المشهور عن عليٍّ - رضي الله عنه - وهو قول اللَّيث، والشَّعبي، والحسن، وعطاء قالوا: لا يكون الإيلاءُ إلاَّ على وجه مغاضبةٍ ومشادَّة.
وقال ابن سيرين: يكون في غضبٍ، وغير غضبٍ، وهو قول ابن مسعود، والثوري ومالك وأهل العراق والشَّافعيِّ وأحمد.
فصل
والمدخول بها وغير المدخول بها سواءٌ في صِحَّة الإيلاء منها.
قال القرطبي: والذِّمِّيُّ لا يصحُّ إيلاؤه كما لا يصحُّ طلاقهُ، ولا ظِهَارُهُ؛ لأن نكاح أهل الشِّرْكِ عندنا ليس بنكاحٍ صحيحٍ.
فصل
ومُدَّة الإيلاء أربعة أشهر في حق الحُرِّ والعبدِ لأنَّها ضُرِبت لمعنى يرجع إلى الطَّبع، وهو قِلَّةُ صبر المرأَة عن الزَّوج، فيستوي فيه الحُرُّ والعبدُ؛ كمُدَّة الفَيْئَةِ ومُدَّة الرِّضاع.
وعند مالكٍ وأبي حنيفة: ينتصف بالرِّقِّ، إلاَّ عند أبي حنيفة: ينتصف بِرِقِّ المرأة، وعند مالكٍ: برِقِّ الرَّجُل؛ كقولهما في الطَّلاَق.
ولنا: ظاهر قوله تعالى: { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ } فتتناول الكُلَّ من غير تخصيصٍ، والتَّخصيص خلاف الظَّاهر، والمعنى المُتَقَدِّم يمنع التَّخْصِيص.
قال القرطبيُّ: وأَجَلُ المُؤلي من يوم حلف، لا مِنْ يوم المرافعة إلى الحاكم.
فصل فيمن يصح منه الإيلاء ومن لا يصح
كُلُّ زَوْج يتصوَّر منه الوِقَاع، وكان تصرُّفه مُعْتبراً في الشَّرْع، صَحَّ منه الإيلاءُ.
وقال مالكٌ: لا يَصِحُّ الإيلاءُ إلاَّ في حال الغضب، وقال غيره: يصحُّ الإيلاءُ في حال الرِّضَى والغضب، ويصحُّ الإيلاءُ من الرَّجعيَّة؛ لأنها زوجة؛ بدليل أَنَّه لو قال: نسائي طوالِقٌ، وقع عليها الطَّلاَقُ.
وإيلاء الخَصِيِّ صحيحٌ، لأنه يُجَامع كالفحلِ، وإنما فُقِد في حَقِّهِ الإِنْزَالُ، والمجبوب إن بقي منه ما يمكنه أن يُجَامع به، صَحَّ إِيلاؤه، وإن لم يَبْقَ، فيه خلافٌ.
قال أبو حنيفة: لا يَصِحُّ إيلاؤه.
وقال غيره: يَصِحُّ لعموم الآية، ولا يصحُّ الإيلاء [من أَجْنَبيَّة]، فلو آلَى منها ثم تَزَوَّجها، لم يكن مُؤْلِياً.
فصل
فإن امتنع من وطئها بغير يمين إضراراً بها، أُمر بوطئها، فإن امتنع إضراراً بها، فرَّق الحاكم بينه وبينها، من غير ضرب مُدَّة.
وقيل: يُضربُ له أجلُ الإيلاءِ، فإذا حلف لا يطؤها حتى يفطم ولدها؛ لئلا يُمْغَلَ بولدها، ولم يرد إضراراً بها حتى يَنْقَضِي أَمَدُ الرِّضاع، لم يكُن لها مُطَالبته.
فصل
المُوْلِي لا يخلُو إمّا أن يحلف تَرْك الوَطْءِ بالله ـ تعالى ـ أو بغيره، فإِن حَلَف بالله تعالى كان مُؤلياً، ثم إن جامعها في مُدَّة الإيلاءِ، خَرَجَ عن الإيلاءِ، وهل تجب عليه كَفَّارة؟ فيه قَوْلاَن:
أصحّهما: أن عليه الكَفَّارة كما قَدَّمناه؛ لعموم الدَّلائِل الموجبةِ للكَفَّارةِ عند الحِنْثِ باليمين بالله - تعالى - لأنه لا فَرْقَ بين قوله: "والله لا أَقْرَبُكِ" ثم يَقْربُهَا، وبين قَوله: "والله لا أُكَلِّمُكِ" ثم يُكَلِّمُهَا.
والقول الثاني: لا كَفَّارة عليه؛ لقول تعالى: { فَإِنْ فَآءُوا فَإِنَّ ٱللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
ولو كانت الكَفَّارة واجبةٌ لذكرها، والحاجة مناسبةٌ إلى معرفتها، ولا يجوزُ تأخِير البيان عن وقتِ الحاجة، والغُفران يوجبُ ترك المُؤَاخَذةِ.
وللأَوَّلِين أن يجيبوا: بأنه إنما ترك الكَفَّارة ههُنا لأنه ـ تعالى - بيَّنها على لسان رسوله - عليه الصَّلاة والسلام ـ في سَائِر المواضع، وتَرْكُ المُؤَاخذة بقوله: "غَفُورٌ رَّحِيمٌ" يدل على عدم العقاب، وهو لا يُنافي وجُوب الفِعْل، كما أن التَّائِب عن الزِّنا والقَتْلِ لا عِقاب عليه، ومع ذلك يجِبُ عليه الحَدُّ والقِصَاصُ.
وأما إن كان الحالف في الإيلاء بغير اللهِ؛ كما إذا قال: إن وَطَأْتُكِ فعبدي حُرٌّ، أَوْ أَنْت طالِقٌ، أو ضرتك طَالِق، أو التزم أمراً في الذِّمَّة، فقال: إن وَطَأْتُكِ فَلِلَّه عليَّ عِتْق رَقبة، أو صدقة، أو صَوْم، أو حَجّ، أو صلاة، فقال الشَّافعي في "القدِيمِ"، وَأَحمدُ في ظاهر الرِّواية عنه: لا يكون مُؤْلِياً؛ لأن الإِيلاَء المعهُود هو الحلفُ باللهِ؛ ولقوله - عليه الصلاة والسلام -:
"مَنْ حَلَفَ فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ" .
وقال الشَّافعيّ في "الجَدِيدِ" - وهو قول أبي حنيفة ومالك وجماعة - إنه يكُون مُؤْلِياً؛ لأن لفظ الإيلاءِ يَتَناوَلُ الكُلَّ، وعلى القولين فيمينُهُ منعقدة، فإن كان قد عَلَّق به طلاقاً أو عِتْقاً، وقع بِوَطْئِه ذلك المُعَلَّق، وإن كان المُعَلَّق التزام قُرْبة في الذِّمَّة، فعليه ما في نذرِ اللَّجاج، إِمَّا كَفَّارة يمين، وإِمَّا الوَفَاء بما سَمَّى.
وفائدة هذين القولين: أنا إن قلنا: يكون مُؤْلياً، فبعد أَرْبَعَة أشهر يضيق الأَمْر عليه، حَتَّى يَفيء أو يُعَلِّق، وَإِنْ قلنا: لا يكون مُؤْلياً، لا يضيقُ عليه الأَمر.
قال القرطبي: فإن حلف بالنَّبِيّ أو الملائِكَة، أو الكَعبة ألا يَطَأَها أو قال: هو يَهُوديٌّ، أو نصرانيٌّ، أو زانٍ إن وطِئَها، فليس بِمُؤْلٍ، قال: وإن حلف ألا يَطَأَها، واستثنى فقال: إن شاء الله، فإنَّه يكون مُؤلياً، فإن وَطِئَهَا، فلا كَفَّارة عليه.
وقال ابن الماجشون في "المَبْسُوطِ": ليس بِمؤلٍ، وهو الصَّحيحُ.
قوله: { فَإِنْ فَآءُوا } ألفُ "فَاءَ" منقلبةٌ عن ياء؛ لقولهم: فَاءَ يَفِيءُ فَيْئَةً: رَجَعَ والفَيْءُ: الظلُّ؛ لرجوعه من بعد الزوال، وقال عَلْقَمَةُ: [الطويل]

1100- فَقُلْتُ لَهَا فِيئِي فَمَا تَستَفِزُّنِي ذَوَاتُ العُيُون وَالبَنَانِ المُخَضَّبِ

وفرّقوا بين الفَيْءِ والظِّل: فقالوا: الفَيء ما كان بالعَشِيِّ؛ لأنه الذي نسختهُ الشَّمسُ، والظَّلُّ ما كان بالغداة؛ لأنه لم تنسخه الشَّمس، وفي الجنة ظِلٌّ وليس فيها فَيْءٌ؛ لأنه لا شَمْسَ فيها؛ قال تعالى: { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } [الواقعة:30]؛ وأنشد: [الطويل]

1101- فَلاَ الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعُهُ وَلاَ الفَيْءُ مِنْ بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوقُ

وقيل: فُلاَن سريعُ الفيئة، أي: سريعُ الرُّجوع عن الغَضَبِ إلى الحَالَةِ المتقدِّمة، حكاه الفَرَّاء عن العرب.
وقيل لما رَدَّه الله على المُسلمين من مال المُشْرِكين: فَيْء؛ كأنه كان لهم فرجع إِلَيهم، فقوله: "فَاءُوا" معناه: رَجَعُوا عَمَّا حَلَفُوا عليه من تَرْك الجِمَاع، فإنه غَفُورٌ رَحِيمٌ.
فصل في وجوب الكفَّارة
قال القُرطبيّ: جمهور العُلماء أَوْجَبُوا الكَفَّارة على المُؤْلي إذا فاء بجماع امرأته.
وقال الحسن: لا كَفَّارة عليه.
قال القرطبي: إِذَا كَفَّر عن يمينه، سقط عنه الإيلاءَ.
قوله تعالى: { وَإِنْ عَزَمُواْ ٱلطَّلاَقَ } في نصب "الطَلاَقَ" وجهان:
أحدهما: أنه على إسقاط الخافضِ؛ لأنَّ "عَزَمَ" يتعدَّى بـ "عَلَى"، قال: [الوافر]

1102- عَزَمْتُ عَلَى إِقَامَةِ ذِي صَبَاحٍ لأَمْرٍ مَّا يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ

والثاني: أن تُضَمَّن "عَزَمَ" معنى "نَوَى"؛ فينتصب مفعولاً به.
والعَزْمُ: عَقْدُ القلبِ وتصميمُه: عَزَم يَعْزِمُ عَزْماً وعُزْماً بالفتحة والضمة، وعَزِيمَةً وعِزَاماً بالكَسْر، ويستعمل بمعنى القَسَم: عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتَفْعَلَنَّ؛ والعزمُ والعَزِيمةُ: توطينُ النَّفْسِ على المُرادِ المَطْلُوب، والأَمر المَقْصُود. والطلاقُ: انحلالُ العقدِ، وأصلُه الانطلاق.
وقال القرطبي: والطَّلاق: التَّخليةُ، يقال: نعجةٌ طالِقٌ، وناقةٌ طالِق أي: مهملة؛ قد تُرِكت في المرعى، لا قيدَ عليها ولا رَاعِيَ وبعير طُلُق: بضم الطَّاء واللام، والجمع أَطلاقٌ ويقال: طَلَقَتْ بفتح اللام تَطْلُقُ فهي طالِقٌ وطَالِقَةٌ؛ قال الأعشى: [الطويل]

1103- أَيَا جَارَتَا بَينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ ....................

وحكى ثعلب: "طَلُقَتْ" بالضم، وأنكره الأخفش. والطلاقُ يجوز أَنْ يكون مصدراً، أو اسمَ مصدرٍ، وهو التطليقُ.
قوله: { فَإِنَّ ٱللهَ } ظاهرُه أنَّه جوابُ الشرطِ، وقال أبو حيان: ويَظْهَرُ أنَّه محذوفٌ، أي: فَلْيُوقِعُوهُ، وقرأ عبد اللهِ: "فَإِنْ فَاءُوا فيهنَّ" وقرأ أُبيُّ "فِيهَا" والضميرُ للأَشْهُرِ.
وقراءةُ الجمهورِ ظاهرُها أنَّ الفَيْئَة والطَّلاق إنما تكونُ بعد مُضِيِّ الأربعة الأشهر، إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ لمَّا كان يرَى بمذهبِ أبي حنيفة: وهو أنَّ الفَيْئَة في مُدَّة الأربعةِ الأشهرِ، ويؤيِّدُه القراءةُ المتقدِّمَةُ، احتاجَ إلى تأويل الآيةِ بما نصُّه: "فإِنْ قلتَ: كيف موقعُ الفاءِ، إذا كانت الفيئةُ قبل انتهاءِ مدةِ التربُّصِ؟ قلت: موقعٌ صحيحٌ؛ لأنَّ قوله: "فَإِنْ فَاءَوُا. وَإِنْ عَزَمُوا" تفصيلٌ لقوله: { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ }، والتفصيلُ يَعْقُب المُفَصَّلَ، كما تقول: أنَّا نزيلُكُمْ هذا الشَّهْرَ، فإِنْ أَحْمَدْتُكُمْ، أَقَمْتُ عندَكُمْ إلى آخره، وإلاَّ لم أقُم إلاَّ رَيْثما أَتَحَوَّلُ"، قال أبو حيان: "وليس بصحيحٍ؛ لأنَّ ما مثل به ليس نظيرَ الآيةِ؛ ألا ترَى أنَّ المثالَ فيه إخبارٌ عن المُفَصَّل حاله، وهو قوله: "أَنَا نَزِيلُكُمْ هذا الشَّهْر"، وما بعد الشرطينِ مُصَرَّحٌ فيه بالجواب الدالِّ على اختلاف متعلَّقِ فعل الجزاء، والآيةُ ليسَتْ كذلك؛ لأنَّ الذين يُؤلُونَ ليس مُخْبَراً عنهم، ولا مُسْنَداً إليهم حُكْمٌ، وإنما المحكُومُ عليه تربُّصُهُمْ، والمعنى: تربُّصُ المُؤلين أربعةَ أَشْهُرٍ مشروعٌ لهم بعد إيلائهم، ثم قال: "فَإِنْ فَاءُوا وَإِنْ عَزَمُوا" فالظاهرُ أَنَّهُ يَعْقُبُ تربُّصَ المدةِ المشروعةِ بأَسْرِهَا، لأنَّ الفيئةَ تكونُ فيها، والعَزْمَ على الطلاقِ بعدَها؛ لأنَّ التقييد المغاير لا يَدُلُّ عليه اللفظُ، وإنما يُطابقُ الآيةَ أَنْ تقول: "للضَّيْفِ إكرامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، فإنْ أقامَ، فنحنُ كرماءُ مُؤثِرُونَ، وإنْ عَزَمَ على الرحيلِ، فله أن يَرْحَلَ"، فالمتبادَرُ إلى الذِّهْنِ أنَّ الشرطين مُقَدَّرَانِ بعد إكرامهِ".
قوله: { سَمِيعٌ عَلِيمٌ } قال أبو حنيفة: سَمِيعٌ لإِيلائِه، عليم بعزمِه.
قال القرطبي: دلَّت هذه الآية على أَنَّ الأَمة الموطوءة بملك اليمين لا يكون فيها إيلاءٌ، إذ لا يقع عليها طلاقٌ. فصل
قال أبو حنيفة والثَّوري: إنه لا يكون مُؤْلِياً حتى يحلف ألاَّ يطأها أربعة أشهر أو فيما زاد.
وقال الشَّافعيّ وأحمد ومالك: لا يكون مُؤلياً حتَّى تزيد المُدَّة على أربعة أشهر.
وفائدة الخلاف: أنه إذا آلَى منها أكثر من أربعة أشهرٍ أجل أربعة أشهر، وهذا المُدَّة تكون حَقّاً للزَّوج، فإذا مضت تطالب المرأة الزَّوج بالفيئة أو بالطَّلاق فإن امتنع الزَّوجُ منهما، طلَّقها الحاكمُ عليه، وعند أبي حنيفة: إذا مضت أربعةُ أشهر، يقعُ الطَّلاق. حجة الشَّافعي وجوهٌ.
الأول: أنَّ "الفاء" في قوله { فَإِنْ فَآءُوا فَإِنَّ ٱللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }، { وَإِنْ عَزَمُواْ ٱلطَّلاَقَ فَإِنَّ ٱللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يقتضي كون هذين الحُكمين مشروعين متراخياً على انقضاء الأَرْبَعة أشهُر.
قال ابن الخطيب لما ذكر قول الزَّمخشريِّ المتقدِّم على سبيل الإيراد: وهذا ضعيفٌ، لأن قوله: { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } إشارةٌ إلى حُكمين:
أحدهما: صدور الإيلاء عنهم.
والثاني: وجوب تَرَبُّص هذه المُدَّة على النِّسَاء.
والفاء في قوله: "فَإِن فَآءُوا" ورد عقيب ذكرهما معاً، فلا بُدَّ وأن يكون هذا الحُكمُ مشروعاً عقيب الأَمرين: عقيب الإيلاءِ، وعقيب حُصُولِ التَّرَبُّص في هذه المُدَّة، بخلاف المثال الَّذِي ذكرهُ، وهو قوله: "أَنَا أَنْزِلُ عِنْدَكُم؛ فإن أكرمتموني بقيتُ وإلا تَرَحَّلتُ"؛ لأن هناك "الفاء" صارت مذكُورة عقيب شيء واحدٍ، وهو النُّزول، وهي هُنا مذكورة عقيب ذكر الإيلاء، وذكر التَّربُّص، فلا بُدَّ وأن يكُون ما دخلت "الفَاءُ" عليه واقعاً بين هذين الأمرين.
الحجة الثَّانية: قوله: { وَإِنْ عَزَمُواْ ٱلطَّلاَقَ } صريحٌ في أنّ وقوع الطَّلاَق، إنَّما يكون بإيقاع الزَّوج.
وعند أبي حنيفة: يقع الطَّلاَق بِمُضِيِّ المُدَّة، لا بإيقاع الزَّوج.
فإن قيل: الإيلاءُ طلاقٌ في نفسه؛ فالمراد من قوله: { وَإِنْ عَزَمُواْ ٱلطَّلاَقَ } الإيلاء المتقدِّم.
فالجواب: هذا بعيد؛ لأن قوله: { وَإِنْ عَزَمُواْ ٱلطَّلاَقَ } لا بُدَّ وأن يكون معناه: "وإن عَزَمُوا الَّذِين يُؤلُونَ مِنْ نِسَائِهُمُ الطَّلاق" فجعل المُؤلي عازماً، وهذا يقتضي أن يكون الإيلاءُ والعزم قد اجتمعا، وأما الطَّلاق فهو مُتعلَّقُ العزم، ومُتعلِّق العزم مُتأخرٌ عن العزم؛ فإذن الطَّلاَق مُتأَخِّر عن العَزْمِ لا محالة، والإِيلاءُ إمَّا أن يَكُون مقارناً للعزم أو متقدِّماً عليه، وهذا يُفيد أن الطَّلاق مُغَاير لذلك الإِيلاءِ.
الحجة الثَّالثة: قوله تعالى: { وَإِنْ عَزَمُواْ ٱلطَّلاَقَ فَإِنَّ ٱللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يقتضي أن يصدرَ من الزَّوج شيءٌ يكون مسموعاً وما ذاك إلاَّ أن نقول تقديره: "وإِن عَزَمُوا الطَّلاَق وطلّقوا فاللهُ سمِيعٌ لكَلاَمِهِم، عَلِيمٌ بما في قُلُوبِهِم".
فإن قيل: لِمَ لا يجوزُ أن يَكُون المُرادُ إن الله سَمِيعٌ لِذَلِك الإيلاءِ.
فالجواب: أنّ هذا التهديد لم يحصُل على نفس الإيلاء، بل إنَّمَا حصل عن شيءٍ حصل بعد الإيلاء، فلا بُدَّ وأن يَصْدُر عن الزَّوج بعد ذلك الإيلاء، وهو كلام غيره؛ حتى يكون قوله: { فَإِنَّ ٱللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } تهديداً عليه.
الحجة الرَّابعة: قوله: "فَإِنْ فَاءُوا"، "وَإِنْ عَزَمُوا" ظاهره التَّخيير بين الأَمرين؛ وذلك يقتضي أن يكون ثبوتهما واحداً، وعلى قول أبي حنيفة ليس الأمر كذلك.
الحجة الخامسة: أَنَّ الإيلاء في نفسه ليس بطلاقٍ، بل هو حلفٌ على الامتناع عن الجماع مُدَّة مخصوصة، إلاَّ أنّ الشَّرعَ ضرب لذلك مقداراً معلوماً من الزَّمان؛ وذلك لأَنَّ الرَّجُل قد يترُك جماع المرأة مُدَّة من الزَّمان لا بسبب المضارّة، وهذا إنّما يكُون إذا كان الزَّمَانُ قصيراً، فَأَمَّا ترك الجماعِ زماناً طويلاً، فلا يَكُون إلاَّ عند قصد المضَارَّة، ولما كان الطُّول والقِصرُ في هذا الباب أَمراً غير مضبوطٍ، قَدَّر له الشَّارع حدّاً فاصِلاً بين القَصِير والطَّويل، وذلك لا يُوجبُ وقُوعَ الطَّلاق، بل اللائِقُ بحكم الشَّرع عند ظهور قصد المضارَّة، أن يَأْمُر بتركِ المَضَارَّة، أو بتخليصها من قَيْد الإيلاءِ، وهذا المعنى مُعْتَبرٌ في الشَّرع؛ كضرب الأَجل في مُدَّة العنينِ وغيره.
حجة أبي حنيفة - رضي الله عنه -: قراءة عبد الله بن مسعود: "فَإِنْ فَاءُوا فِيهِنَّ".
والجواب: أنّ القراءة الشَّاذَّة مردودة؛ لأن القرآن لا يَثْبتُ كونه قُرآناً إلاَّ بالتَّواتُر؛ فحيث فلم يثبُت بالتَّواتر، قطعنا بأنَّه ليس بقُرآن وأَوْلى النَّاس بهذا أبو حنيفة؛ فإنّه تَمَسَّك بهذا الحرف في أَنَّ التَّسمية ليست من القُرْآن.