التفاسير

< >
عرض

وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ
٢٣
فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ
٢٤
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

اعلم أنه سبحانه لما أقام الدلائل القاطعة على إثبات الصّانع، وأبطل القول بالشريك عقبه بما يدلُّ على النبوة، ولما كانت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مبنية على كون القرآن معجزاً أقام الدلالة على كونه معجزاً. واعلم أن كونه معجزاً يمكن بيانه من طريقين:
الأول: ألا يخلو حاله من أحد وجوه ثلاثة:
إما أن يكون مساوياً لكلام الفصحاء، أو زائداً على كلام الفصحاء بقدر لا ينقض العادة، أو زائداً عليه بقدر ينقض العادة، والقسمان الأولان باطلان فتعين الثالث.
وإنما قلنا: إنهما باطلان؛ لأنه لو كان كذلك لوجب أن يأتوا [بمثل سورة منه] إما مجتمعين، أو منفردين، فإذا وقع التَّنَازع، فالشهود والحكام مزيلون الشبهة وذلك نهاية الاحتجاج؛ لأنه كان من معرفة اللغة والاطلاع على قوانين الفصاحة في الغاية، وكانوا في محبة إبطال أمره في الغاية حتى بذلوا النفوس والأموال، وارتكبوا المهالك والمحن، وكانوا في الحمية والأنفة على حد لا يقلبون الحق، فكيف الباطل، وكل ذلك يوجب الإتيان بما يقدح في قوله، فلما لم يأتوا بمثلها علمنا عجزهم عنها، فثبت أن القرآن لا يماثل قولهم، وأنَّ التفاوت بينه وبين كلامهم ليس تفاوتاً معتاداً، فهو إذن تفاوت ناقض للعادة، فوجب أن يكون معجزاً.
واعلم أنه قد اجتمع في القرآن وجوه كثيرة، تدلُّ على أنه أبلغ في الفصاحة النهاية التي لا غاية لها:
أحدها: أن فصاحة العرب أكثرها في وصف المشاهدات مثل وصف بعير، أو فرس، أو جارية، أو ملك، أو ضربة، أو طعنة أو وصف حرب، أو وصف غارة، وليس في القرآن شيء من هذا، فكان يجب على هذا ألا يحصل فيه شيء من الفصاحة، التي اتفقت العرب في كلامهم عليها.
وثانيها: أنه - تعالى - راعي فيه [طريقة] الصِّدق، وتنزَّه عن الكذب في جميعه، وكل شاعر ترك الكذب، ولزم الصدق زكي شعره، ألا ترى لبيد بن ربيعة، وحسان بن ثابت لما أسلما زكي شعرهما، [ولم يكن شعرهما] الإسلامي في الوجوه كشعرهما في الجاهلية، والقرآن مع لزوم الصدق وتنزُّهه عن الكذب بلغ الغاية في الفصاحة كما ترى.
وثالثها: أن الكلام الفصيح والشعر الفصيح في القصيدة كلها، إنما هو بيت أو بيتان والباقي ليس كذلك، وأما القرآن فكله فصيح، فعجز الخلق عن بعضه كما عجزوا عن جملته.
ورابعها: أن كل من وصف شيئاً بشعر، فإن كرره لم يكن كلامه الثَّاني في وصف ذلك الشيء بمنزلة كلامه الأول، وأما القرآن ففيه تكرار كثير، وهو في غاية الفَصَاحة، ولم يظهر التفاوت أصلاً.
وخامسها: أنهم قالوا: شعر امرىء القيس يحسن عند الطَّرب، وذكر النِّسَاء، وصفة الخَيْلِ، وشعر النابغة عند الخوف، وشعر الأعشى عند الطَّلَبِ، ووصف الخَمْرِ، وزهير عند الرَّغْبَةِ والرجاء، وبالجملة فكل شاعر يحسن كلامه في فَنٍّ، ويضعف كلامه في غيره، والقرآن جاء فصيحاً في كل الفنون.
وسادسها: أن القرآن أصل للعلوم كلها، فعلم الكلام كلّه في القرآن، وعلم الفقه مأخوذ من القرآن، وكذا علم أصول الفقه، وعلم النحو، واللغة، وعلم الزهد في الدُّنيا، وأخبار الآخرة، واستعمال مكارم الأخلاق.
وأما الطريق الثاني: أن يقول: القرآن لا يخلو إما أن يكون بالغاً في الفصاحة إلى حَدّ الإعجاز، أو لم يكن، فإن كان الأول ثبت أنه معجز، وإن كان الثاني كانت المُعَارضة على هذا التقدير ممكنة، فعدم إتيانهم بالمُعَارضة، مع توفُّر داعيهم على الإتيان بها، أمر خارق للعادة، فكان ذلك معجزاً، فثبت أنَّ القرآن معجز على جميع الوجوه.
"إن" حرف شرط يجزم فعلين: شرطاً وجزاءً، فلا تقول: "إن غربت الشمس".
فإن قيل: فكيف قال هاهنا: { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ }، وهذا خطاب مع الكفار، والله تَعَالَى يعلم أنه في ريب، وهم يعلمون ويقرون أنهم في ريب، ومع ذلك فالتعليق حسن.
فالجواب: الخصائص الإلهية لا تدخل في الأوضاع العربية، بل الأوضاع العربية مبنيّة على خصائص الخلق، والله - تعالى - أنزل القرآن بلغة العرب، وعلى منوالهم، فكل ما كان في لغة العرب حسناً نزل القرآن على ذلك الوجه، وما كان نسخاً في لسان العرب لم ينزل في القرآن، فثبت بهذا أن كل ما جاء في العادة مشكوكاً فيه بين الناس، حسن تعليقه، سواء كان من قبل الله - تعالى - أو من قبل غيره، وسواء كان معلوماً للسَّامع أو المتكلّم أم لا، وكذلك حسن قوله: إن كان زيد في الدار فأكرمه، مع أنك تعلم أن زيداً في الدار؛ لأن حصول زيد في الدار، شأنه أن يكون في العادة مشكوكاً فيه، ولا يكون إلاَّ في المحتمل وقوعه، وهي أم الباب؛ فلذلك يحذف مجزومها كثيراً، وقد يحذف الشَّرط والجزاء معاً؛ قال: [الرجز]

287- قَالَتْ بَنَاتُ العَمِّ: يا سَلْمَى وَإِنْ كَانَ فَقِيراً مُعْدماً قَالَتْ: وَإِنْ

أي: وإن كان فقيراً تزوجته.
وتكون "إن" نافية فتعمل وتهمل، وتكون مخففة وزائدة باطِّراد وعدمه، وأجاز بعضهم أن تكون بمعنى "إذا"، وبعضهم أن تكون بمعنى "قد"، ولها أَحْكَام كثيرة.
و "في ريب" خبر كان، فيتعلّق بمحذوف، ومحل "كان" الجزم، وهي وإن كانت ماضية لفظاً فهي مستقبلة معنى.
وزعم المبرد أنَّ لـ "كان" الناقصة حكماً مع "إنْ"، ليس لغيرها من الأفعال الناقصة، فزعم أنّه لقوة "كان" أنّ "إنْ" الشرطية لا تقلب معناها إلى الاستقبال، بل تكون على مَعْنَاها من المُضِيّ، وتبعه في ذلك أبو البَقَاءِ، وعلل ذلك بأن كثيراً استعملوها غير دالّة على حدث، وهذا مردود عند الجمهور، لأن التعليق إنما يكون في المستقبل، وتأولوا ما ظاهره غير ذلك نحو:
{ { إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ } [يوسف: 26] إما بإضمار "يكن" بعد "إن"، وإما على التبيين، والتقدير: "إن يكن قميصه، أو إن يتبين كونه قميصه" ولما خفي هذا المعنى على بعضهم جعل "إن" هنا بمنزلة "إذ" وقوله: "في ريب" مجاز من حيث إنه يجعل الريب ظرفاً محيطاً بهم، بمنزلة المكان لكثرة وقوعه منهم.
و "مِمَّا" يتعلّق بمحذوف؛ لأنه صفة لريب، فهو في محل جَرّ، و "من" للسَّببية، أو لابتداء الغاية، ولا يجوز أن تكون للتبعيض، ويجوز أن تتعلّق بـ "ريب" أي: إن ارتبتم من أجل، فـ "من" هُنا للسَّببية، و "ما" موصولة أو نكرة موصوفة، والعائد على كلا القولين محذوف، أي: نزلناه، والتضعيف في "نَزّلنا" هنا للتعدية مرادفاً لهمزة التعدي، ويدلّ عليه قراءة "أنزلنا" بالهمز، وجعل الزمخشري التضعيف هنا دالاًّ على نزوله منجماً في أوقات مختلفة.
قال بعضهم: "وهذا الذي ذهب إليه في تضعيف الكلمة هنا، هو الَّذي يعبر عنه بالتكثير أي يفعل مرة بعد مرة، فيدل على ذلك بالتضعيف ويعبر عنه بالكثرة" قال: "وذهل عن قاعدة، وهي أن التضعيف الدّال على ذلك من شرطه أن يكون في الأفعال المتعدّية قبل التضعيف غالباً نحو: "جَرَّحْتُ زِيْداً، وفَتَّحْتُ الباب"، ولا يقال "جَلَّس زيدٌ" و "نَزَّل" [لأنه] لم يكن متعدياً قبل التضعيف، وإنَّ ما جعله متعدياً تضعيفه".
وقوله: "غالباً" لأنه قد جاء التضعيف دالاًّ على الكثرة في اللاَّزم قليلاً نحو: "مَوَّت المال"، وأيضاً فالتضعيف الدَّال على الكثرة لا يجعل القاصر متعدياً، كما تقدم في "مَوَّتَ المال" و "نَزَّل" كان قاصراً، فصار بالتضعيف متعدياً، فدلّ على أنَّ تضعيفه للنقل لا للتكثير، وأيضاً كان يحتاج قوله تعالى:
{ { لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } [الفرقان: 32] إلى تأويل، وأيضاً فقد جاء التضعيف حيث لا يمكن فيه التكثير، نحو قوله تعالى: { { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ } [الأنعام: 37]، { { لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً } [الإسراء: 95] إلا بتأويل بعيد جدًّا، إذ ليس المعنى على أنهم اقترحوا تكرير نزول [آية، ولا أنه علق تكرير نزول] مَلَك رسول على تقدير كون ملائكة في الأرض.
وفي قوله: { نَزَّلْنَا } التفات من الغيبة إلى التكلّم؛ لأن قبله:
{ { ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } [البقرة: 21] فلو جاء الكلام عليه لقيل: "مما نزّل عَلَى عَبْدِهِ" ولكن التفت للتفخيم.
و "عَلَى عَبْدِنَا" متعلّق بـ "نَزَّلْنَا" وعُدِّي بـ "على" لإفادتها الاستعلاء، كأن المنزل تمكّن من المنزول عليه ولبسه، ولهذا جاء أكثر القرآن بالتعدّي بها دون "إلى" فإنها تفيد الانتهاء والوصول فقط، والإضافة في "عبدنا" تفيد التشريف؛ كقوله: [السريع]

288- يَا قَوْمِ قَلْبي عِنْدَ زَهْرَاءِ يَعْرِفُهُ السَّامِعُ وَالرَّائِي
لاَ تَدْعُنِي إلاَّ بِيَا عَبْدَهَا فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي

وقرىء "عبادنا" فقيل: المراد النبي - عليه الصلاة والسلام - وأمته؛ لأن جدوى المنزل حاصل لهم.
وقيل: المراد بهم جميع الأنبياء عليهم السلام.
والعبد: مأخوذ من التعبد، وهو التذلل؛ قال طَرَفَةُ: [الطويل]

289- إِلَى أَنْ تَحَامَتْنِي العَشِيرَةُ كُلُّها وأُفْرِدْتُ إِفْرَادَ البَعِيرِ المُعَبَّدِ

أي: المذلَّل.
ولما كانت العبادة أشرف الخصال والتسمّي بها أشرف الخطط سمَّى نبيه عبداً.
قوله: { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ } جواب الشرط، والفاء هنا واجبة؛ لن ما بعدها لا يصحّ أن يكون شرطاً بنفسه، وأصل "فأتوا"إأْتِيُوا" مثل: اضربوا، فلهمزة الأولى همزة وصل أُتي بها للابتداء بالسَّاكن، والثَّانية فاء الكلمة، فلما اجتمع همزتان، وجب قلب ثانيهما ياءً على حَدّ "إيمان" وبابه، واستثقلت "الضمة" على "الياء" التي هي "لام" الكلمة فقدرت، فسكنت "الياء"، وبعدها "واو" الضمير ساكنة، فحذفت "الياء" لالتقاء ساكنين، وضُمّت "التاء" للتجانُسِ، فوزن "ايتوا": "افعوا"، وهذه الهمزة إنما يحتاج إليها ابتداءً، أما في الدَّرْج فإنه يُسْتَغْنَى عنها، وتعودُ الهمزةُ التي هي "فاءُ" الكلمة؛ لأنّها إنّما قُلِبَتْ ياءً للكسرِ الذي كان قبلها، وقد زال نحو: "فأتوا" وبابه، وقد تحذف الهمزة التي هي "فاء" الكلمة في الأمر كقوله: [الطويل]

290- فَإِنْ نَحْنُ لَمْ نَنْهَضْ لَكُمْ فَنَبَرَّكُمْ فَتُونَا فَعَادُونَا إذاً بَالجَرَائِمِ

يريد: فأتونا كقوله: فأتوا.
قال ابن كيسان: "وهو أمر معناه التعجيز؛ لأنه - تعالى - علم عجزهم عنه".
و "بسورة" متعلّق بأتُوا، والسورة واحدة السُّوَر، وهي طائفة من القُرْآن.
وقيل: السُّورة الدَّرجة الرفيعة، قال النابغة: [الطويل]

291- أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَعْطَاكَ سُورَةً تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَها يَتَذَبْذَبُ

وسميت سورة القرآن بذلك؛ لأن قارئها يشرف بها وترفعه، أو لرفعة شأنها، وجلالة محلّها في الدِّين، وإن جعلت واوها منقلبة عن "الهمزة"، فيكون اشتقاقها من "السُّؤْر"، وهو البقية، والفضلة؛ ومنه: "أَسْأَرُوا في الإِنَاءِ"؛ قال الأعشى: [المتقارب]

292- فَبَانَتْ وَقَدْ أَسْأَرتْ في الفُؤَا دِ صَدْعاً عَلَى نَأْيِهَا مُسْتَطِيرَا

أي: أَبْقَتْ، ويدلّ على ذلك أن "تميماً" وغيرها يهمزون فيقولون: سؤرة بالهمزة.
وسميت سورة القرآن بذلك؛ لأنها قطعة منه، وهي على هذا مخفّفة من "الهمز".
وقيل: اشتقاقها من سُور البناء؛ لأنها تحيط بقارئها، وتحفظه كَسُورِ المدينة، ولكنّ جَمْعَ سُورةِ القرآن سُوَر بفتح الوَاوِ، وجَمْعَ سُورةِ البناء سُوْر بسكونها، ففرقوا بينهما في الجمع.
فإن قيل: ما فائدةُ تقطيع القُرْآن سُوَراً؟
قلنا: وجوه:
أحدها: ما لأجله بوب المصنِّفون كتبهم أبواباً وفصولاً.
وثانيها: أن الجنس إذا حصل تحته كان إفراد كل نوع من صاحبه أحسن.
وثالثها: أنَّ القارىء إذا ختم سورة، أو باباً من الكتاب، ثم أخذ في آخر كان أنشط له، كالمسافر إذا علم أنه قطع ميلاً أو طوى فرسخاً نشطه للمسير.
فَصْلٌ في بيان أن ترتيب القرآن توقيفي
قال ابن الخطيب: قوله: "فأتوا بسورة" يدلُّ على أن القرآن وما هو عليه من كونه سوراً هو على حدّ ما أنزله الله - تعال- بخلاف قول كثير من أهل الحديث، أنه نظم على هذا الترتيب في أيام عثمان، فلذلك صحّ التحدِّي بالقرآن على وجوه:
أحدها: قوله:
{ { فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ } [القصص: 49].
وثانيها: قوله:
{ { قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [الإسراء: 88].
وثالثها: قوله:
{ { فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } [هود: 13].
ورابعها: قوله: { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } [البقرة: 23]، ونظير هذا لمن يتحدّى صاحبه فيقول: ائتني بمثله، ائتني بنصفه، ائتني بربعه، ائتني بمسألة مثله، فإن هذا هُوَ النّهاية في التحدّي، وإزالة العُذْر.
قوله: { مِّن مِّثْلِهِ } في الهاء ثلاثة أقوال:
أحدهما: أنها تعود على "ما نَزَّلنا" عند الجمهور كعمرو، وابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد، وغيرهم، فيكون "من مثله" صفة لـ "سورة"، ويتعلّق بمحذوف على ما تقرر: أي بسورة كائنة من مثل المنزل في فصاحته، وإخباره بالغيوب، وغير ذلك، ويكون معنى "من" التبعيض.
واختار ابن عطية والمَهْدَويّ أن تكون للبيان، وأجازا هما وأبو البقاء أن تكون زائدة ولا تجيء إلاَّ على قول الأخفش.
الثاني: أنها تعود على "عَبْدنا" فيتعلّق "من مثله" بـ "أتوا"، ويكون معنى "من" ابتداء الغاية، ويجوز على هذا الوجه أيضاً أن تكون صفة لسورة أي: "بسورة كائنة من رجل مثل عبدنا أمي لا يقرأ ولا يكتب".
قال القرطبي: و "من" على هذين التأويلين للتبعيض.
الثالث: قال أبو البقاء: إنها تعود على الأنداد بلفظ المفرد كقوله:
{ { وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } [النحل: 66] ولا حاجة تدعو إلى ذلك، والمعنى يأباه أيضاً.
قال القرطبي: وقيل: يعود على التوراة والإنجيل، والمعنى: فأتوا بسورة من كتاب مثله؛ فإنها تصدِّق ما فيه، والوقف على "مثله" ليس بتام؛ لأن "وادعوا" نسق عليه.
قوله: { وَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم } هذه جملة أمر معطوفة على الأمر قبلها، فهي في مَحَلّ جزم أيضاً، ووزن "ادعوا" افعوا؛ لأن لام الكلمة محذوف دلالة على السكون في الأمر الذي هو جزم في المُضَارع، و "الواو" ضمير الفاعلين.
و "شهداءكم" مفعول به جمع "شهيد" كظريف.
وقيل: بل جمع "شاهد" كـ "شاعر" والأوّل أولى؛ لاطَِّرَادِ "فعلاء" في "فعيل" دون فاعل، والشهادة الحضور، وفي المراد من الشهداء وجهان:
الأول: المراد من الشهداء الأوثان.
والثاني: المراد من الشهداء أكابرهم، أو من يوافقهم في إنكار أمر محمد عليه الصلاة والسلام، والمعنى: ادعوا أكابركم، ورؤساءكم ليعينوكم على المُعَارضة، أو ليشاهدوا ما تأتون به، فيكون [الرد على الجميع أوكد]. و "من دون الله" متعلّق بـ "ادعوا" من دون الله شهداءكم، فلا تستشهدوا بالله، فكأنه قال: وادعوا من غير الله من يشهد لكم، ويحتمل أن يتعلّق بـ "شهداءكم" والمعنى: ادعوا من اتخذتموه من دون الله، وزعمتم أنهم يشهدون لكم بصحّة عبادتكم إياهم، وأعوانكم من دون أولياء الله الذين تستعينون بهم دون الله، أو يكون معنى "من دون الله" بين يدي الله؛ كقوله: [الطويل]

293- تُرِيكَ القَذَى مِنْ دُونِهَا وَهْيَ دُونَهُ لِوَجْهِ أَخِيهَا في الإِنَاءِ قُطُوبُ

أي: تريك القذى قُدَّامها وهي قُدَّامه؛ لرقَّتها وصفَائِها.
واختار أبو البقاء أن يكون "من دُونِ الله" حالاً من "شهدائكم" والعامل فيه محذوف قال: "تقديره: شهدائكم منفردين عن الله، أو عن أنصار الله".
و "دون" من ظروف الأمكنة، ولا تتصرّف على المشهور إلا بالجر بـ "مِنْ".
وزعم الأخفش أنها متصرّفة، وجعل من ذلك قوله تعالى:
{ { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } [الجن: 11] فقال: "دون" مبتدأ و "منّا" خبره، وإنما بني لإضافته إلى مبنيٍّ، وقد شذَّ رفعُهُ خبراً في قول الشاعر: [الطويل]

294- أَلَمْ تَر أَنِّي قَدْ حَمَيْتُ حَقِيقَتي وبَاشَرْتُ حَدَّ المَوْتِ وَالمَوْتُ دُونُهَا

وهو من الأسماء اللاَّزمة للإضافة لفظاً ومعنى.
وأمّا "دون" التي بمعنى رديء فتلك صفة كسائر الصفات، تقول: "هذا ثوب دُون"، و "رأيت ثوباً دوناً" أي: رديئاً، وليست مما نحن فيه.
و "دون" أيضاً نقيض "فوق" ويقال: هذا دون ذاك، أي: أقرب منه، ويقال في الأخذ بالشَّيء: دونكه.
قال تميم للحجَّاج: أَقْبِرنا صالحاً - وكان قد صلبه - فقال: دونكموه.
قوله تعالى: { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } هذا شرط حذف جوابه للدلالة عليه تقديره: إن كنتم صادقين فافعلوا، ومتعلّق الصدق محذوف، والظاهر تقديره هكذا: إن كنتم صادقين في كونكم في رَيْبٍ من المنزل على عبدنا أنه من عندنا.
وقيل: فيما تقدرون عليه من المُعَارضة، وقد صرّح بذلك عنهم في آية أُخْرَى، حيث قال تعالى حاكياً عنهم:
{ { لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا } [الأنفال: 31] والصدق ضد الكذب وقد تقدم، والصّديق مشتقٌّ منه لصدقه في الوُدِّ والنُّصحِ، والصّدْق من الرماح: الصُّلبة.
فَصلٌ في التهكم بالكافرين
قال ابن الخطيب: "وفي أمرهم بأن يستظهروا بالجماد الذي ينطق في معارضة القرآن المعجز بالفصاحة غاية التهكم بهم".
فصل في الاحتجاج على الجبرية
قال القاضي: هذا التحدّي يبطل القول بالجَبْرِ من وجوه:
أحدها: أنه مبني على تعذُّر مثله ممن يصح الفعل منه، فمن ينفي كون العبد فاعلاً لم يمكنه إثبات التحدّي أصلاً، وفي هذا إبطال الاستدلال بالمعجز.
وثانيها: أن تعذُّره على قولهم يكون لفقد القدرة الموجودة، ويستوي في ذلك ما كان معجزاً، وما لا يكون، فلا يصح معنى التحدي على قولهم.
وثالثها: أن ما يضاف إلى العبد فالله - تعالى - هو الخالق له، فتحديه يعود في التحقيق إلى أنه مُتَحَدٍّ لنفسه، وهو قادرٌ على مثله من غير شك فيجب ألا يثبت الإعجاز على هذا القول.
ورابعها: أنّ المعجز إنما يدلّ بما فيه من بعض العادة، فإذا كان من قولهم: إن المعتاد أيضاً ليس بفعل لم يثبت هذا الفرق، فلا يصحّ الاستدلال بالمعجز.
وخامسها: أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يحتج بأنه - تعالى - إنما خصّه بذلك، تصديقاً له فيما ادَّعَاه، ولو لم يكن ذلك من قِبَلِهِ - تعالى - لم يكن داخلاً في الإعجاز، وعلى قولهم بالجبر لا يصح هذا الفرق؛ لأن المعتاد وغير المعتاد لا يكون إلاَّ من قبله.
والجواب: أن المطلوب من التحدي أن يأتي الخصم بالمتحدّى به قصداً، وأن يقع ذلك منه اتفاقاً.
والثاني باطل؛ لأن الاتفاقيات لا تكون في وُسْعِهِ، فثبت الأول، وإذا كان كذلك ثبت أن إتيانه بالمتحدى موقوف على أن يحصل في قلبه قصد إليه، فذاك القصد إن كان منه لزم التسلسل، وهو محال، وإن كان من الله - تعالى - فحينئذ يعود الجبر، ويلزمه كل ما أورده علينا، فبطل كل ما قال.
قوله: { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ } "إن" الشرطية داخلة على جملة "لم تفعلوا" و "تفعلوا" مجزوم بـ "لم"، كما تدخل "إن" الشرطية على فعل منفي بـ "لا" نحو:
{ { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ } [الأنفال: 73]، فيكون لم تفعلوا في محل جزم بها.
وقوله: "فاتقوا" جواب الشَّرط، ويكون قوله: { وَلَن تَفْعَلُواْ } جملة معترضة بين الشرط وجزائه.
وقال جماعة من المفسّرين: معنى الآية: وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين، [ولن تفعلوا فإن لم تفعلوا فاتقوا النَّار، وفيه نظر لا يخفى، وإنما قال تعالى: { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ] وَلَن تَفْعَلُواْ } فعبر بالفعل عن الإتيان؛ لأن الفعل يجري مجرى الكناية، فيعبر به عن كل فعل، ويغني عن طول ما تكنى به.
وقال الزمخشري: "لو لم يعدل من لفظ الإتيان إلى لفظ الفعل، لاسْتُطِيعَ أن يقال: فإن لم تأتوا بسورة من مثله، ولن تأتوا بسورة من مثله".
قال أبو حيان: "ولا يلزم ما قال؛ لأنه لو قال: "فإن لم تأتوا ولن تأتوا" كان المعنى على ما ذكر، ويكون قد حذف ذلك اختصاراً، كما حذف اختصاراً مفعول "لم تفعلوا، ولن تفعلوا" ألا [ترى] أن التقدير: فإن لم تفعلوا الإتيان بسورة من مثله، ولن تفعلوا الإتيان بسورة من مثله؟".
فإن قيل: كيف دخلت "إن" على "لم" ولا يدخل عامل على عامل؟
فالجواب: أَنَّ "إنْ" ها هنا غير عاملة في اللفظ، ودخلت على "لم" كما تدخل على الماضي، لأنها لا تعمل في "لم" كما لم تعمل في الماضي، فمعنى "إن لم تفعلوا" إن تركتم الفعل.
و "لَنْ" حرف نصف معناه نفي المستقبل، ويختص بصيغة المضارع كـ "لَمْ" ولا يقتضي نفيُهُ التَّأبيدَ، وليس أقلَّ مدة من نفي "لاَ"، ولا نونُه بدلاً من ألف "لاَ"، ولا هو مركَّباً من "لاَ أَنْ"؛ خلافاً للخليل، وزعم قومٌ أنها قد تجزم، منهم أبو عُبَيْدَة؛ وأنشدوا: [الخفيف]

295- لَنْ يَخِبِ الآنَ مِنْ رَجَائِكَ مَنْ حَرْ رَكَ مِنْ دُونِ بَابِكَ الحَلْقَهْ

وقال النابغة: [البسيط]

296-........................ فَلَنْ أُعْرِّضْ أَبَيْتَ اللَّعْنَ بِالصَّفَدِ

ويمكن تأويل ذلك بأنه مما سُكِّن فيه للضَّرورة.
قوله تعالى: { فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ } هذا جواب الشرط كما تقدم، والكثير في لغة العرب: "اتَّقَى يَتَّقِي" على افْتَعَلَ يَفْتَعِلُ، ولغة "تميم" و "أسد" تَقَى يَتْقِي: مثل: رَمَى يَرْمِي، فيسكنون ما بعد حرف المضارعة؛ حكى هذه اللغة سيبويه، ومنهم من يحرك ما بعد حرف المضارعة؛ وأنشدوا: [الوافر]

297- تَقُوهُ أَيُّهَا الفِتْيَانُ إنِّي رَأَيْتُ اللهَ قَدْ غَلَبَ الجُدُودَا

وقال آخر: [الطويل]

298-...................... تَقِ اللهَ فِينَا وَالكِتَابَ الَّذِي تَتْلُو

قوله تعالى: { ٱلنَّارَ } مفعول به، و "الَّتي" صفتها، وفيها أربعُ اللغات المتقدِّمة، كقوله: [الكامل]

299- شُغِفَتْ بِكَ اللَّتْ تَيَّمَتْكَ فَمِثْلُ مَا بِكَ مَا بِهَا مِنْ لَوْعَةٍ وَغَرَامِ

وقال آخر: [الوافر]

300- فَقُلْ لِلَّتْ تَلُومُكَ إنَّ نَفْسِي أَرَاهَا لاَ تُعَوَّذُ بَالتَّمِيمِ

و "وقودها النَّاس والحجارة" جملة من مبتدأ وخبر، صلة وعائد، والألف واللام في "النار" للعهد.
فإن قيل: الصِّلة مقررة، فيجب أن تكون معلومةً فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة؟
والجواب: لا يمتنع أن يتقدّم لهم بهذه الصّلة معهودة عند السامع بدليل قوله تعالى:
{ { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ } [النجم: 10] وقوله: { { إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ } [النجم: 16] وقوله: { { فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ } [النجم: 54] وقال: { { فَغَشِيَهُم مِّنَ ٱلْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ } [طه: 78] إلا أنه خلاف المشهور أو لتقدم ذكرها في سورة التحريم - وهي مدينة بالاتفاق - وقد غلط الزمخشري في ذلك.
والمشهور فتح واو الوقود، وهو اسم ما يوقد به.
وقيل: هو مصدر كالوَلوع والقَبُول والوَضُوء والطَّهُور، ولم يجىء مصدر على "فَعُول" غير هذه الألفاظ فيما حكاه سيبويه.
وزاد الكسائي: الوَزُوع. وقرىء شاذًّا في سورة "ق" { وَمَا مَسَّنَا مِن لَغُوبٍ } [ق: 38] فتصير سبعة، وهناك ذكرت هذه القراءة، ولكن المشهور أن الوَقُود والوَضُوء والطَّهُور بالفتح اسم، وبالضم مصدر.
وقرأ عيسى بن عمر بفتحها وهو مصدر.
وقال ابن عطية: وقد حُكيا جميعاً في الحطب، وقد حكيا في المصدر. انتهى.
فإن أريد اسم ما يوقد به فلا حاجة إلى تأويل، وإن أريد بهما المصدر فلا بد من تأويل، وهو إما المُبَالغة أي: جُعِلُوا نفس التوقد مبالغة في وضعهم بالعذاب، وإمَّا حذف مضاف، إمّا من الأول أي أصحاب توقدها، وإمّا من الثاني أي: يوقدها إحراق الناس، ثم حذف المُضَاف، وأقيم المضاف إليه مُقَامه. والهاء في "الحِجَارة" لتأنيث الجمع.
فَصْلٌ في تثنية "الَّتي" وجَمْعِهِ
وفي تثنية "الّتي" ثلاث لغاتٍ:
"اللَّتَانِ"، و "اللَّتَا" بحذف النون، و "اللَّتَانّ" بتشديد النون، وفي جمعها خَمْسُ لُغَاتٍ: "اللاَّتي" - وهي لغة القرآن - و "اللاَّتِ" - بكسر التاء بلا ياء - و "اللَّوَاتي"، و "اللَّوَاتِ" - بلا ياء، وأنشد أبو عُبَيْدة: [الرجز]

301- مِنَ اللَّوَاتِي وَالَّتِي وَاللاَّتِ زَعَمْنَ أَنِّي قَدْ كَبِرْتُ لِدَاتي

و "اللَّوَاءِ" بإسقاط "التاء" حكاه الجوهريُّ.
وزاد ابن الشَّجَرِيِّ: "اللاَّئي" بالهمز وإثبات "الياء"، و "اللاءِ" بكسر "الهمزة" وحذف "الياء" و "اللاّ" بحذف الهمزة، فإن جمعت الجمع، قلتَ في "اللاتي": "اللواتي" وفي "اللائي": "اللوائي".
قال الجوهريُّ: وتصغير "الَّتي"اللَّتَيَّا" بالفتح والتشديد، قال الراجز: [الرجز]

302- بَعْدَ اللَّتَيَّا واللَّتَيَّا وَالَّتِي إذَا عَلَتْهَا أَنْفُسٌ تَرَدَّتِ

وبعض الشعراء أدخل على "الَّتي" حرْفَ النداء، وحروف النداء لا تدخلُ على ما فيه الألف واللام إلاَّ في قولنا: "يَا أَللَّه" وحده، فكأنه شبهها به؛ من حيث كانت الألفُ واللاَّمُ غير مفارقتين لها، وقال: [الوافر]

303- مِنْ اجْلِكِ يَا الَّتي تَيَّمْتِ قَلْبِي وَأَنْتِ بَخِيلَةٌ بِالوُدِّ عَنِّي

ويقال: "وقع فُلاَنٌ في اللَّتَيَّا وَالَّتي" وهما اسمان من أسماء الداهِيَة.
فَصْلٌ
قال ابن الخطيب: انتفاء إتيانهم بالسورة واجبٌ، فهلاَّ جيء بـ "إذا" الذي للوجوب دون "إن" الذي للشك؟ والجواب: من وجهين:
أحدهما: أنه ساق القول معهم على حسب حسابهم، وأنهم لم يكونوا بعد جازمين بالعجز عن المُعَارضة؛ لاتكالهم على فصاحتهم، واقتدارهم على الكلام.
والثَّاني: أنه تهكّم بهم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة لمن هو دونه: "إن غلبتك لم أُبْقِ عليك"، وهو عالم أنه غالبه تهكماً به. فإن قيل: ما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله. والجواب: إذا ظهر عجزهم عن المُعَارضة صَحّ عندهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا صَحّ ذلك ثم لزموا العِنَادَ استوجبوا العقاب بالنار، فاتقاء النار يوجب ترك العناد، فأقيم المؤثر مقام الأثر، وجعل قوله: { فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ } قائماً مقام قوله: فاتركوا العناد، فأناب إبقاء النار منابه.
و "الحجارة" روي عن ابن مسعود والفراء - رضي الله تعالى عنهما - أنها حجارة الكبريت، وخصّت بذلك؛ لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع من العذاب: سرعة الإيقاد، ونتن الرائحة، وكثرة الدُّخَان، وشدّة الالتصاق بالأبدان، وقوة حرها إذا حميت.
وقيل: المراد بالحجارة الأصنام، لأنهم لما قرنوا أنفسهم بها في الدنيا حيث نحتوها أصناماً، وجعلوها أنداداً لله، وعبدوها من دونه قال تعالى:
{ { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [الأنبياء: 98] وفي معنى "الناس والحجارة" و "حصب جهنم" في معنى "وقودها".
ولما اعتقد الكفار في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشّفعاء، والشهداء الذين يشفعون لهم، ويستدفعون بها المضار عن أنفسهم جعلهم الله عذابهم، فقرنهم بها محماة في نار جهنم إبلاغاً في تحسيرهم، ونحوه ما يفعل بالكافرين الذين جعلوا ذهبهم وفضتهم عدة وذخيرة فشحُّوا بها، ومنعوها من الحقوق، حيث يحمى عليها في نار جهنّم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.
قال ابن الخطيب: والقول بأنها حجارة الكبريت تخصيص بغير دليل، بل فيه ما يدلّ على فساده؛ لأن الغرض هُنَا تفخيم صفة النَّار، والإيقاد بحجارة الكبريت أمر معتاد، فلا يدلّ الإيقاد بها على قوة النار.
أما لو حملنا على سائر الحجارة، دلّ على عظم أمر النار؛ فإن سائر الأحجار تطفأ بها النيران، فكأنه قال: تلك النَّار نار بلغت لقوتها أن تتعلّق في أوّل أمرها بالحجارة التي هي مطفئة لنيران الدُّنيا.
قال القرطبي: "وليس في قوله تعالى: { وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ } [البقرة: 24] دليلٌ على أنه ليس فيها غير الناس والحجارة، بدليل ما ذكره في غير موضع، مع كون الجن والشياطين فيها" وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"كل مؤذٍ في النَّار" وفي تأويله وجهان:
أحدهما: كل من آذى الناس في الدنيا عذبه الله في الآخرة بالنار.
والثاني: أن كل ما يؤذي النَّاس في الدنيا من السِّباع والهوام وغيرها في النار معدّ لعقوبة أهل النار.
وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه النار المخصوصة بالحجارة هي للكافرين خاصّة.
روى مسلم
"عن العباس بن عبد المطّلب - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، إنّ أبا طالب كان يحوطك وينصرك، فهل ينفعه ذلك؟ قال: نعم، وَجَدْتُهُ في غَمَرَاتٍ من النَّارِ فأخرجته إلى ضَحْضَاحٍ" .
وفي رواية: "ولَوْلاَ أَنَا لكان في الدَّرْكِ الأَسْفَلِ من النار" ويدلُّ على هذا التأويل قوله: { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }.
وقال ابن الخطيب: وليس فيها ما يدلُّ على أنه ليس هناك نيران أخر غير موصوفة بهذه الصِّفة، معدّة لفساق أهل الصلاة.
قوله تعالى: { أُعِدَّتْ } فعلٌ لما لم يسمَّ فاعلُهُ، والقائم مقام الفاعل ضمير "النَّارِ"، والتاء واجبةٌ، لأن الفعل أسند إلى ضمير المؤنَّث، ولا يلتفَتُ إلى قوله: [المتقارب]

304- فَلاَ مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا وَلاَ أَرْضَ أَبْقَلَ إبْقَالَهَا

لأنه ضرورةٌ؛ خلافاً لابن كَيْسَان.
و "للكافرين" متعلّق به، ومعنى "أُعِِدَّتْ": هُيِّئَتْ؛ قال: [مجزوء الكامل]

305- أَعْدَدْتُ لِلْحَدَثَانِ سَا بِغَةً وَعَدَّاءً عَلَنْدَى

وقرىء: "أُعْتِدَتْ" من العَتَاد بمعنى العدة، وهذه الجملة الظاهر أنها لا محلّ لها، لكونها مستأنفة جواباً لمن قال: لمن أعدت؟
وقال أبو البَقَاء: محلها النصب على الحال من "النار"، والعامل فيها "اتقوا".
قيل: وفيه نظر، فإنها معدة للكافرين اتقوا أم لم يتقوا، فتكون حالاً لازمة، لكن الأصل في الحال التي ليست للتوكيد أن تكون منتقلة، فالأولى أن تكون استئنافاً.
قال أبو البقاء: ولا يجوز أن تكون حالاً من الضمير في "وقودها" لثلاثة أشياء:
أحدها: أنها مضاف إليها.
الثاني: أن الحطب لا يعمل يعني أنه اسم جامد.
الثالث: الفصل بين المصدر أو ما يعمل عمله، وبين ما يعمل فيه الخبر وهو "الناس"، يعني أن الوقود بالضم، وإن كان مصدراً صالحاً للعمل، فلا يجوز ذلك أيضاً؛ لأنه عامل في الحال، وقد فصلت بينه وبينها بأجنبي، وهو "الناس" وقال السّجستاني: "أعدّت للكافرين" من صلة "التي" كقوله:
{ { وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِيۤ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [آل عمران: 131].
قال ابن الأَنْبَاري: وهذا غلط؛ لأن "التي" هنا وصلت بقوله: "وقودها الناس" فلا يجوز أن توصل بصلة ثانية، بخلاف التي في "آل عمران".
قلت: ويمكن ألا يكون غلطاً؛ لأنا لا نسلم أن "وقودها الناس" - والحالة هذه - صلة، بل إما معترضة، لأن فيها تأكيداً وإما حالاً، وهذان الوجهان لا يمنعهما معنى، ولا صناعة.