التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَٱلْكَٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ
٢٥٤
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

اعلم أنه تعالى لما أمر بالقتال بقوله: { { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ } [البقرة:244] أعقبه بالحض على النفقة في الجهاد فقال: { { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللهَ قَرْضاً حَسَناً } [البقرة:245] والمقصود منه الإنفاق في الجهاد، ثمَّ إنَّه أكد الأمر بالقتال بذكر قصَّة طالوت، ثم أعقبه بالأمر بالإنفاق في الجهاد في هذه الآية الكريمة.
قوله: "أَنْفِقُواْ": مفعوله محذوفٌ، تقديره: شيئاً ممَّا رزقناكم، فعلى هذا "مِمَّا رَزَقْنَاكُم" متعلّقٌ بمحذوفٍ في الأصل لوقوعه صفةً لذلك المفعول، وإن لم تقدِّر مفعولاً محذوفاً، فتكون متعلِّقة بنفس الفعل. و "مَا" يجوز أن تكون بمعنى الذي، والعائد محذوفٌ، أي: رزقناكموه، وأن تكون مصدريَّةً، فلا حاجة إلى عائدٍ، ولكن الرّزق المراد به المصدر لا ينفق، فالمراد به اسم المفعول، وأن تكون نكرةً موصوفةً وقد تقدَّم تحقيق هذا عند قوله تعالى:
{ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [البقرة:3].
قوله: "مِّن قَبْلِ" متعلِّقٌ أيضاً بأنفقوا، وجاز تعلُّقُ حرفين بلفظٍ واحدٍ بفعلٍ واحدٍ لاختلافهما معنًى؛ فإنَّ الأولى للتَّبعيض والثانية لابتداء الغاية، و "أَنْ يَأْتي" في محلِّ جرٍّ بإضافة "قبل" إليه، أي: من قبل إتيانه.
وقوله: { لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ } إلى آخره: الجملة المنفيَّة صفةٌ لـ "يَوم" فمحلُّها الرَّفع. وقرأ "بَيْعٌ" وما بعده مرفوعاً منوناً نافع والكوفيون وابن عامر، وبالفتح أبو عمرو وابن كثير، وتوجيه ذلك تقدم في قوله تبارك وتعالى:
{ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ } [البقرة:197].
والخلَّة: الصَّداقة، كأنها تتخلَّل الأعضاء، أي: تدخل خلالها، أي وسطها.
والخلَّة: الصديق نفسه؛ قال: [الطويل]

1173- وَكَانَ لَهَا في سَالِفِ الدَّهْرِ خُلَّةٌ يُسَارِقُ بِالطَّرْفِ الخِبَاءَ المُسَتَّرَا

وكأنه من إطلاق المصدر على العين مبالغةً، أو على حذف مضافٍ، أي: كان لها ذو خلَّة، والخليل: الصَّديق لمداخلته إيَّاك، ويصلح أن يكون بمعنى فاعل، أو مفعول، وجمعه "خُلاَّن"، وفعلان جمع فعيل يقل في الصّفات، وإنما يكثر في الجوامد نحو: "رُغْفَانٍ".
قال القرطبيُّ: والخُلَّة: خالص المودَّة [مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين والخِلالة والخَلالة، والخُلالة: الصداقة، والمودة]؛ قال الشاعر: [المتقارب]

1174- وَكَيْفَ تُواصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ خِلاَلَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ

وأبو مرحب كنية الظِّلّ، ويقال: هو كنية عرقوب الذي قيل فيه: "مواعيد عرقوب".
والخَلَّة ـ بالضَّمِّ ـ أيضاً ـ ما خالل من النبت يقال: الخلة خبز الإبل، والحمض فاكهتها.
والخَلَّة: - بالفتح - الحاجة والفقر، يقال: سدَّ خلته، أي: فقره.
والخِلَّة بالكسر ابن مَخَاض، عن الأصمعي: يقال أتاهم بقرص كأنَّه فِرْسِنُ خلة.
والأنثى خلَّة أيضاً، والخلّة: الخمرة الحامضة.
والخِلَّة - بالكسر - واحدة خلل السُّيوف، وهي بطائن كانت تغشى بها أجفان السُّيوف منقوشة بالذَّهب وغيره، وهي أيضاً سُيُور تلبس ظهور سيتي القوس، والخلّة أيضاً ما يبقى بين الأسنان.
و "هم" يجوز أن تكون فصلاً أو مبتدأ ثانياً، و "ٱلظَّالِمُونَ" خبره والجملة خبر الأوَّل.
فصل
قالت المعتزلة: لما أمر بالإنفاق من كلِّ ما كان رزقاً، وبالإجماع لا يجوز الإنفاق من الحرام وجب القطع بأنَّ الرّزق لا يكون إلاّ حلالاً.
وأجاب ابن الخطيب: بأنَّ الأصحاب مخصَّصة بالأمر بإنفاق ما كان رزقاً حلالاً أو حراماً. واختلفوا في هذه النَّفقة، فقال الحسن: هذا الأمر مختص بالزكاة قال: لأنَّ قوله { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ } كالوعد والوعيد، ولا يتوجه الوعيد إلاَّ على الواجب، وهو قول السُّدي.
وقال الأكثرون: هذا الأمر يتناول الواجب، والمندوب وليس في الآية وعيد، فكأنه قال: حصلوا منافع الآخرة حين تكونون في الدُّنيا، فإنكم في الآخرة لا يمكنكم تحصيلها.
وقال الأصمُّ: المراد منه الإنفاق في الجهاد.
وفي المراد من البيع هنا وجهان:
أحدهما: أنَّه بمعنى الفدية كما قال:
{ فَٱلْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ } [الحديد:15] وقال: { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ } [البقرة:123]، وقال: { وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ } [الأنعام:70] فكأنه قيل من قبل أن يأتي يوم لا تجارة فيه، فتكسب ما تفتدي به من العذاب.
الثاني: أن يكون المعنى: قدِّموا لأنفسكم من المال الذي هو ملككم قبل أن يأتي اليوم الذي لا يكون فيه تجارة ولا مبايعة يكتسب بسببها شيء من المال.
"وَلاَ خُلَّةٌ" ولا صداقة، ونظيره قوله تعالى:
{ ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } [الزخرف:67] وقال { { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلأَسْبَابُ } [البقرة:166].
وقوله: "وَلاَ شَفَاعَةٌ" يقتضي نفي كلّ الشَّفَاعَاتِ، فقوله: { وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ } عام في الكل إلاَّ أنَّ سائر الدَّلائل دلَّت على ثبوت المودة والمحبة بين المؤمنين، وعلى ثبوت الشفاعة بين المؤمنين والسبب في عدم الخلة والشفاعة أمور:
أحدها: أنَّ كل واحد يكون مشغولاً بنفسه. قال تبارك وتعالى:
{ { لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [عبس:37].
الثاني: أنَّ الخوف الشَّديد يغلب على كلِّ أحدٍ]
{ { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ } [الحج:2].
الثالث: أنَّه إذا نزل العذاب بسبب الكفر، أو الفسق صار مبغضاً لهذين الأمرين وإذا صار مبغضاً لهما؛ صار مبغضاً لمن اتَّصف بهما.
وقوله: { وَٱلْكَافِرُونَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ }، نقل عن ابن يسار أنَّه كان يقول: الحمد لله الذي قال: { وَٱلْكَافِرُونَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } ولم يقل "والظَّالِمُونَ هم الكافرون".
وذكروا في تأويل هذه الآية وجوهاً:
أحدها: أنَّ نفي الخلَّة، والشَّفاعة مختص بالكافرين، لأنّه أطلقه ثم عقبه بقوله { وَٱلْكَافِرُونَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } وعلى هذا تصير الآية دالَّةً على إثبات الشَّفاعة في حقّ الفسَّاق.
قال القاضي: هذا التأويل غير صحيحٍ؛ لأن قوله: { وَٱلْكَافِرُونَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } كلام مبتدأ، فلم يجب تعليقه بما تقدَّم.
والجواب: أنَّا لو جعلناه كلاماً مبتدأً تطرق الخُلْفُ إلى كلام الله تعالى؛ لأنَّ غير الكافرين قد يكون ظالماً، وإذا علَّقناه بما تقدَّم زال الإشكال.
الثاني: أنَّ معناه أنَّ الله لم يظلم الكافر بإدخاله النَّار، وإنَّما الكافر هو الذي ظلم نفسه، حيث اختار الكفر والفسق، ونظيره قوله تعالى:
{ { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [الكهف:49].
الثالث: معناه: أنَّكم أيُّها الحاضرون لا تقتدوا بالكفَّار حيث تركوا تقديم الخيرات ليوم فاقتهم، وحاجتهم، ولكن قدّموا لأنفسكم ما يفديها يوم القيامة.
الرابع: { ٱلْكَافِرُونَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } حيث وضعوا أنفسهم في غير مواضعها لتوقعهم الشَّفاعة بمن لا يشفع لهم عند الله، لأنهم كانوا يقولون عن الأوثان
{ { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللهِ } [يونس:18] وقالوا: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللهِ زُلْفَىۤ } [الزمر:3].
الخامس: المراد من الظلم ترك الإنفاق قال تعالى:
{ ءَاتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئاً } [الكهف:33] أي أعطت فلم تمنع فيكون معنى الآية الكريمة والكافرون هم التاركون للإنفاق في سبيل الله، وأمَّ المسلم فلا بدَّ أن ينفق شيئاً قلَّ أو كثر.
السادس: { وَٱلْكَافِرُونَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } أي هم الكاملون في الظلم البالغون الأمر العظيم فيه. ذكر هذه الوجوه القفال.