التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ
٢٥٥
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

اعلم أنَّ عادته سبحانه وتعالى في هذا الكتاب الكريم أن يذكر علم التَّوحيد، وعلم الأحكام، وعلم القصص، فإنَّ الإنسان إذا بقي في النَّوع الواحد، كان يوجب بعض الملال فإذا انتقل من نوع إلى نوع آخر، كان كأنَّه انشرح صدره، وفرح قلبه، فكأنه سافر من بلدٍ إلى بلدٍ آخر، وانتقل من بستان إلى بستان آخر، أو من تناول طعام لذيذ إلى تناول طعام آخر، ولا شكّ أنه يكون ألذَّ، وأشهى، فلمَّا تقدَّم من علم الأحكام وعلم القصص ما رآه مصلحة، ذكر الآن ما يتعلَّق بالتَّوحيد.
قوله تعالى: { ٱللهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ }: مبتدأٌ وخبرٌ وهو مرفوعٌ محمولٌ على المعنى، أي: ما إله إلاَّ هو، ويجوز في غير القرآن لا إله إلاَّ إيَّاه، نصب على الاستثناء.
وقيل: "ٱللهُ" مبتدأٌ، و "لاَ إِلَـٰهَ" مبتدأ ثان، وخبره محذوف تقديره معبود أو موجود.
و "ٱلْحَيُّ" فيه سبعة أوجه:
أحدها: أن يكون خبراً ثانياً للجلالة.
الثاني: أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف، أي: هو الحيُّ.
الثالث: بدل من موضع: "لا إِلـه إِلاَّ الله هو" فيكون في المعنى خبراً للجلالة، وهذا في المعنى كالأول، إلا أنَّه هنا لم يخبر عن الجلالة إلاَّ بخبرٍ واحدٍ بخلاف الأول.
الرابع: أن يكون بدلاً من "هُوَ" وحده، وهذا يبقى من باب إقامة الظاهر مقام المضمر، لأنَّ جملة النَّفي خبرٌ عن الجلالة، وإذا جعلته بدلاً حلَّ محلَّ الأول، فيصير التقدير: الله لا إله إلا الله.
الخامس: أن يكون مبتدأٌ وخبره { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ }.
السادس: أنه بدلٌ من "اللهِ".
السابع: أنه صفة لله، وهو أجودها، لأنه قرئ بنصب "الحيَّ القَيُّومَ" على القطع، والقطع إنَّما هو في باب النَّعت، ولا يقال في هذا الوجه الفصل بين الصِّفة والموصوف بالخبر، لأنَّ ذلك جائزٌ حسن [تقول: زيدٌ قائمٌ العاقلُ].
و "ٱلْحَيُّ" فيه قولان:
أحدهما: أن أصله حييٌ بياءين من حيي يحيا فهو حيٌّ، وإليه ذهب أبو البقاء.
والثاني: أنَّ أصله حيوٌ فلامه واو فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها متطرِّفة، وهذا لا حاجة إليه، وكأنَّ الذي أحوج هذا القائل إلى ادِّعاء ذلك أنَّ كون العين، واللام من واد واحدٍ هو قليل في كلامهم بالنسبة إلى عدم ذلك فيه، ولذلك كتبوا "الحَيَاةَ" بواوٍ في رسم المصحف العزيز تنبيهاً على هذا الأصل، ويؤيده "الحَيَوَانُ" لظهور الواو فيه. ولناصر القول الأول أن يقول: قلبت الياء الثانية واواً تخفيفاً؛ لأنَّه لمَّا زيد في آخره ألفٌ ونونٌ استثقل المثلان.
وفي وزنه أيضاً قولان:
أحدهما: أنه فعل.
والثاني: أنَّه فيعل فخُفِّف، كما قالوا ميْت، وهيْن، والأصل: هيّن وميّت.
قال السُّدِّيُّ المراد بـ "الحَيّ" الباقي؛ قال لبيدٌ: [الطويل]

1175- فَإِمَّا تَرَيْنِي اليَوْمَ أَصْبَحْتُ سَالِماً فَلَسْتُ بِأَحْيَا مِنْ كِلاَبٍ وَجَعْفَرِ

وقال قتادة: والحيُّ الذي لا يموتُ والحيُّ اسمٌ من أسمائه الحسنى، ويقال إنه اسم الله الأعظم.
وقيل إنَّ عيسى ابن مريم - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان إذا أراد أن يحيي الموتى يدعو بهذا الدعاء "يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ".
ويقال: إنَّ آصف بن برخيا، لمَّا أراد أن يأتي بعرش بلقيس إلى سليمان - عليه الصَّلاة والسَّلام - دعا بقوله: "يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ".
ويقال إن بني إسرائيل سألوا موسى عن اسم الله الأعظم فقال لهم "أيا هيا شراهيا" يعني "يا حي يا قيوم"، ويقال هو دعاء أهل البحر إذا خافوا الغرق يا حي يا قيوم وعن علي - رضي الله عنه - لما كان يوم بدر جئت أنظر ما يصنع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو ساجدٌ يقول "يَا حَيُّ يَا قيُّومُ"، فترددت مرات، وهو على حاله لا يزيدعلى ذلك إلى أن فتح الله له.
وهذا يدلُّ على عظمة هذا الاسم.
والقيُّوم: فيعولٌ من: قام بالأمر يقوم به، إذا دبَّره؛ قال أميَّة: [الرجز]

1176- لَمْ تُخْلَقِ السَّمَاءُ والنُّجُومُ وَالشَّمْسُ مَعْهَا قَمَرٌ يَعُومُ
قَدَّرَهُ مُهَيْمِنٌ قَيُّومُ وَالحَشْرُ وَالجَنَّةُ والنَّعِيمُ
إلاَّ لأَمْرٍ شَأْنُهُ عَظِيمُ

وأصله "قَيْوُومٌ"، فاجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء فصار قيُّوماً.
وقرأ ابن مسعود والأعمش ويروى عن عمر: "الحَيُّ القَيَّام"، وقرأ علقمة: "القَيِّم" وهذا كما يقولون: ديُّور، وديار، وديِّر. ولا يجوز أن يكون وزنه فعُّولاً كـ "سَفُّود" إذ لو كان كذلك؛ لكان لفظه قوُّوماً؛ لأنَّ العين المضاعفة أبداً من جنس الأصليَّة كسُبُّوح، وقُدُّوس، وضرَّاب، وقتَّال، فالزَّائد من جنس العين، فلمَّا جاء بالياء دون الواو؛ علمنا أنَّ أصله فيعول، لا فعُّول، وعدَّ بعضهم فيعولاً من صيغ المبالغة كضروبٍ، وضرَّاب.
قال بعضهم: هذه اللَّفظة عبريَّة؛ لأنَّهم يقولون "حياً قياماً"، وليس الأمر كذلك؛ لأنا قد بيَّنا أن له وجهاً صحيحاً في اللُّغة.
فصل
اعلم أنَّ تفسير الجلالة قد تقدَّم في أوَّل الكتاب، والإله؛ قال بعضهم: هو المعبود، وهو خطأ من وجهين:
الأول: أنه تبارك وتعالى كان إلهاً في الأزل، وما كان معبوداً.
الثاني: أنَّه تعالى أثبت معبوداً سواه في قوله:
{ { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللهِ } [الأنبياء:98].
قال ابن الخطيب ـرحمه الله : وإنما "الإله" هو القادر على ما إذا فعله كان مستحقاً للعبادة، وأما "الحيُّ" قال المتكلِّمون: هو كلُّ ذاتٍ يصحُّ أن يعلم، ويقدر، واختلفوا في أنَّ هذا المفهوم صفةٌ وجوديَّةٌ أم لا، فقال بعضهم: إنَّه عبارةٌ عن كون الشَّيء بحيث لا يمتنع أنَّه يعلمُ ويقدرُ، وعدم الامتناع صفةٌ موجودة، أم لا؟
قال المحقِّقون: لما كانت الحياة عبارةٌ عن عدم الامتناع، وقد ثبت أنَّ الامتناع أمر عدمي، إذ لو كان وصفاً موجوداً؛ لكان الموصوف به موجوداً، فيكون ممتنع الوجود موجوداً، وهو محالٌ، وإذا ثبت أنَّ الامتناع عدمٌ وثبت أن الحياة عدم هذا الامتناع، وثبت أنَّ عدم العدم: وجودٌ، لزم أن يكون المفهوم من الحياة صفة موجودة، وهو المطلوب.
قال ابن الخطيب -رحمه الله تعالى -: ولقائل أن يقول لمّا كان الحيّ أنَّه الذي يصحّ أن يعلم، ويقدر، وهذا القدر حاصلٌ لجميع الحيوانات فكيف يحسن أن يمدح الله نفسه بصفة يشاركه فيها أخس الحيوانات.
والذي عندي في هذا الباب: أنَّ الحيَّ عبارةٌ عن الكامل في نفسه، ولما لم يكن كذلك مقيداً بأنه كاملٌ في هذا دون ذاك دلّ على أنه كاملٌ على الإطلاق.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّه كان يقول: أعظم أسماء الله ـ تعالى ـ "الحيّ القيوم".
روي أنَّه -عليه الصَّلاة والسَّلام - ما كان يزيد على ذكره في السجود يَومَ بَدْرٍ.
والقيوم؛ قال مجاهدٌ: القائم على كلِّ شيءٍ وتأويله قائمٌ بتدبير الخلائق في إيجادهم وأرزاقهم.
وقال الكلبيُّ: القائم على كلّ نفس بما كسبت.
وقال الضحاك: القيُّوم الدَّائم الوجود الذي يمتنع عليه التغيير.
وقيل: القيُّوم الذي لا ينام، وهذا القول بعيد؛ لأنه يصير قوله ـ تعالى ـ { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } تكراراً.
وقال أبو عبيدة: القيُّوم الذي لا يزول.
قوله: { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } في هذه الجملة خمسة أوجه:
أحدها: أنها في محلِّ رفع خبراً للحيّ كما تقدَّم في أحد أوجه رفع الحيّ.
الثاني: أنَّها خبرٌ عن الله تعالى عند من يجيز تعدُّد الخبر.
الثالث: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضَّمير المستكنِّ في "القَيُّومِ" كأنَّه قيل: يقوم بأمر الخلق غير غافل، قاله أبو البقاءرحمه الله تعالى.
الرابع: أنها استئناف إخبارٍ، أخبر - تبارك وتعالى - عن ذاته القديمة بذلك.
الخامس: أنها تأكيد للقيُّوم؛ لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيُّوماً، قاله الزَّمخشريُّ، فعلى قوله إنَّها تأكيدٌ يجوز أن يكون محلُّها النصب على الحال المؤكَّدة، ويجوز أن تكون استئنافاً، وفيها معنى التأكيد، فتصير الأوجه أربعةً.
والسِّنة: النُّعاس، وهو ما يتقدَّم النَّوم من الفتور؛ قال عديّ بن الرقاع: [الكامل]

1177- وَسْنَانُ أَقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ في عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ

وهي مصدر وسن يَسِنُ؛ مثل: وَعَد، يَعِد، وقد تقدَّم علة الحذف عند قوله { { سَعَةً مِّنَ ٱلْمَالِ } [البقرة:247].
فإن قيل: إذا كانت السِّنة عبارةً عن مقدِّمة النَّوم، فقوله تعالى: { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } يدلُّ على أنَّه لا يأخذه نومٌ بطريق الأولى، فيكون ذكر النَّوم تكراراً.
فالجواب: تقدير الآية: لا تأخذه سنة، فضلاً عن أن يأخذه نومٌ.
وقيل هذا من باب التكميل.
وقال ابن زيد: "الوَسْنَانُ: الَّذِي يَقُومُ مِنَ النَّومِ وهو لا يَعْقِلُ؛ حَتَّى إنَّه رُبَّمَا جَرَّدَ السَّيْفَ على أهْلِهِ"، وهذا القول ليس بشيء، لأنَّه لاَ يفهم من لغة العرب ذلك، وقال المفضَّل: "السِّنَةُ: ثِقَلٌ في الرَّأْسِ، والنُّعَاسُ في العَيْنَيْنِ، والنَّوْمُ في القَلْبِ".
وكُرّرت "لاَ" في قوله تعالى: "وَلاَ نَوْمٌ" تأكيداً، وفائدتها انتفاء كلِّ واحدٍ منهما، ولو لم تذكر لاحتمل نفيهما بقيد الاجتماع، ولا يلزم منه نفيُ كلِّ واحدٍ منهما على حدته، ولذلك تقول: "مَا قَامَ زيدٌ، وعمرو، بل أحدهما"، [ولو قلت: "مَا قَامَ زيدٌ وَلاَ عمْرو، بل أحدهما"] لم يصحَّ.
فصل في تفسير "الوَسْنَانِ"
والوسنان: بين النَّائم، واليقظان، والنَّوم: هو الثَّقيل المزيل للقوَّة والعقل.
وقيل السِّنة: أوَّل النَّوم، وهو النُّعاس، والنَّوم: غشيةُ ثقيلةٌ تقع على القلب تمنع المعرفة بالأشياء.
قيل: إنَّ النَّوم عبارةٌ عن ريح تخرج من أعصاب الدِّماغ فإذا وصلت العينين، حصل النُّعاس، وإذا وصلت إلى القلب، حصل النوم.
فصل
والمعنى: لا يغفل عن شيءٍ دقيقٍ، ولا جليلٍ، فعبَّر بذلك عن الغفلة، لأنه سببها، فأطلق اسم السَّبب على مسببه.
نفى الله - تعالى - عن نفسه النَّوم، لأنَّه آفةٌ وهو منزَّهٌ عن الآفات؛ ولأنَّهُ تغيُّرٌ، ولا يجوز عليه التَّغيُّر.
"عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال:إنَّ اللهَ لاَ يَنَامُ، وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، وَلَكِنَّهُ يَخْفِضُ بَالْقِسْطِ، ويَرْفَعُهُ وَيُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وجهه مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ" .
يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حكى عن موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنَّه وقع في نفسه هل ينام الله تعالى! فأرسل إليه ملكاً فأرَّقه ثلاثاً، ثمَّ أعطاه قارورتين في كلِّ يدٍ واحدة، وأمره بالاحتفاظ بهما وكان يتحرَّز بجهده ألا ينام، فنام في آخر الأمر، فاصطفقت يداه وانكسرت القارورتان فضرب الله - تعالى - ذلك مثلاً له في بيان أنَّه لو كان ينام؛ لم يقدر على حفظ السَّموات والأرض.
واعلم أنَّ مثل هذا لا يمكن نسبته إلى موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - فإن كلَّ من جوَّز النَّوم على الله - تعالى - أو كان شاكاً في جوازه كفر، فكيف يجوز نسبة هذا إلى موسى - عليه السَّلام - فإن صحَّت هذه الرواية فالواجب نسبة هذا السُّؤال إلى جهال قومه.
قوله: { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } هي كالتي قبلها إلاَّ في كونها تأكيداً، و "ما" للشُّمول، واللاّم في "لَهُ" للملك، وكرَّر "مَا" تأكيداً، وذكرها هنا المظروف دون الظرف؛ لأنَّ المقصود نفي الإلهيَّة عن غير الله تعالى، وأنه لا ينبغي أن يعبد إلاّ هو، لأنَّ ما عبد من دونه في السَّماء كالشَّمس، والقمر، والنجوم أو في الأرض كالأصنام وبعض بني آدم، فكلُّهم ملكه تعالى تحت قهره، واستغنى عن ذكر أنَّ السَّموات، والأرض ملكٌ له بذكره قبل ذلك أنه خالق السَّموات والأرض.
فصل
لما كان المراد من هذه الإضافة الخلق، والملك، احتجوا بهذه الآية الكريمة على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى.
قالوا: لأنَّ قوله تعالى { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } يتناول كل ما في السموات والأرض، وأفعال العباد من جملة ما في السَّموات والأرض، فوجب أن تكون منتسبة إلى الله تعالى انتساب الملك والخلق.
فإن قيل: لم قال { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } ولم يقل من في السموات.
فالجواب: لما كان المراد إضافة كلِّ ما سواه إليه بالمخلوقيّة، وكان الغالب عليه ما لا يعقل، أجرى الغالب مجرى الكلِّ، فعبر عنه بلفظة "مَا"، وأيضاً فهذه الأشياء إنَّما أسندت إليه من حيث إنَّها مخلوقة، وهي غير عاقلةٍ، فعبر عنه بلفظ "مَا" للتنبيه على أنَّ المراد من هذه الإضافة إليه الإضافة من هذه الجهة.
قوله: { مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ } كقوله:
{ { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللهَ } [البقرة:245].
قال القرطبيُّ: "مَنْ" رفع بالابتداء، و "ذَا" خبره، و "الَّذِي" نعتٌ لـ "ذَا"، أو بدل ولا يجوز أن تكون "ذا" زائدة كما زيدت مع "مَا"؛ لأنَّ "ما" مبهمة، فزيدت "ذا" معها لشبهها بها.
و "مَنْ"، وإن كان لفظها استفهاماً فمعناه النَّفي، ولذلك دخلت "إلاَّ" في قوله: "إِلاَّ بِإِذْنِهِ".
و "عِنْدَهُ" فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه متعلِّق بيشفع.
والثاني: أنه متعلِّق بمحذوف لكونه [حالاً] من الضَّمير في "يَشْفَعُ"، أي: يشفع مستقراً عنده، وقوي هذا الوجه بأنه إذا لم يشفع عنده من هو عنده وقريبٌ منه فشفاعة غيره أبعد وضعَّف بعضهم الحاليَّة بأنَّ المعنى: يشفع إليه.
و "إِلاَّ بِإِذْنِهِ" متعلِّقٌ بمحذوف، لأنَّه حال من فاعل، "يَشْفَع" فهو استثناءٌ مفرَّغ، والباء للمصاحبة، والمعنى: لا أحد يشفع عنده إلاَّ مأذوناً له منه، ويجوز أن يكون مفعولاً به، أي: بإذنه يشفعون كما تقول: "ضَرَب بِسَيْفِهِ"، أي: هو آلةٌ للضَّرب، والباء للتعدية.
و "يَعْلَمُ" هذه الجملة يجوز أن تكون خبراً لأحد المبتدأين المتقدمين، أو استئنافاً، أو حالاً. والضَّمير فِي "أيْدِيهم" و "خَلْفَهُم" يعود على "مَا" في قوله تعالى: { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } إلا أنَّه غلَّب من يعقل على غيره. وقيل: يعود على العقلاء ممَّن تضمَّنه لفظ "ما" دون غيرهم. وقيل: يعود على ما دلَّ عليه "مَنْ ذَا" من الملائكة والأنبياء. وقيل: من الملائكة خاصّةً.
فصل
قال مجاهدٌ وعطاءٌ والسديُّ: "مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ" ما كان قبلهم من أمور الدُّنيا "وَمَا خَلْفَهُم" ما يكون خلفهم من أمور الآخرة بعدهم.
وقال الضَّحَّاك والكلبي: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } يعني الآخرة؛ لأنَّهم يقدمون عليها. "وَمَا خَلفَهُمْ" يعني الدُّنيا؛ لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم.
وقال عطاءٌ عن ابن عبَّاس: "مَا بَيْنَ أَيْدِيهِم" من السماء إلى الأرض "وَمَا خَلْفَهُم" يريد ما في السَّموات.
وقال ابن جريج: "مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ": مضيّ آجالهم "وما خَلْفَهُم": ما يكون بعدهم.
وقال مقاتل: { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } ما كان قبل الملائكة. "وَمَا خَلْفَهُم" أي: ما كان بعد خلقهم.
وقيل: "مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ" ما قدموا من خير وشر "وَمَا خَلْفَهُمْ" ما هم فاعلوه.
والمقصود من هذا الكلام: أنَّه عالم بأحوال الشَّافع، والمشفوع له، فيما يتعلَّق باستحقاق الثَّواب والعقاب؛ لأنَّه عالمٌ بجميع المعلومات لا يخفى عليه شيءٌ والشُّفعاء لا يعلمون من أنفسهم أنَّ لهم من الطَّاعة ما يستحقُّون به هذه المنزلة العظيمة عند الله، ولا يعلمون أنَّ الله هل أذن لهم في تلك الشَّفاعة، أم لا.
قوله: "بِشَيْءٍ" متعلِّقٌ بـ "يحيطون". والعلم هنا بمعنى المعلوم؛ لأنَّ علمه تعالى الذي هو صفةٌ قائمةٌ بذاته المقدَّسة لا يتبعَّض، ومن وقوع العلم موقع المعلوم قولهم: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا عِلْمَكَ فِينَا" وحديث موسى، والخَضِر - عليهما الصَّلاة والسَّلام - "مَا نَقَص علمي وعلمُك من علمه إلاَّ كَمَا نقص العُصْفُورُ من هذا البَحْر" ولكون العلم بمعنى المعلوم، صحَّ دخول التَّبعيض، والاستثناء عليه. و "مِنْ عِلْمِهِ" يجوز أن يتعلَّق بـ "يحيطون"، وأن يتعلَّق بمحذوف لأنه صفة لشيء، فيكون في محلِّ جر. و "بمَا شَاءَ" متعلِّقٌ بـ "يحيطون" أيضاً، ولا يضرُّ تعلُّق هذين الحرفين المتَّحدين لفظاً ومعنًى بعاملٍ واحدٍ؛ لأنَّ الثاني ومجروره بدلان من الأول، بإعادة العامل بطرق الاستثناء، كقولك: "مَا مَرَرْتُ بأحدٍ إلاَّ بِزَيْدٍ"، ومفعول "شَاءَ" محذوفٌ تقديره: إلا بما شَاءَ أن يحيطوا به، وإنما قدَّرته كذلك لدلالة قوله: { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ }.
فصل
هؤلاء المذكورون في هذه الآية يحتمل أن يكونوا هم الملائكة، ويحتمل أن يكونوا الملائكة وسائر من يشفع يوم القيامة من النَّبيين، والصِّديقين والشهداء والصالحين.
وفي معنى الاستثناء قولان:
أحدهما: أنَّهم لا يعلمون شيئاً من معلوماته إلا ما أراد هو أن يعلمهم كما قالوا:
{ { لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ } [البقرة:32].
الثاني: أنَّهم لا يعلمون الغيب إلاَّ بما شاء أن يطلع بعض أنبيائه على بعض الغيب كقوله تعالى
{ { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ } [الجن:26-27].
قوله: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ }: الجمهور على "وَسِعَ" بفتح الواو وكسر السِّين وفتح العين فعلاً ماضياً.
و "كُرْسِيُّه" بالرَّفع على أنَّه فاعله، وقرئ "وَسْعَ" سكَّن عين الفعل تخفيفاً نحو: عَلْمَ في عَلِمَ. وقرئ أيضاً: "وَسْعُ كُرْسِيِّه" بفتح الواو وسكون السين ورفع العين على الابتداء، و "كُرْسِيِّه" خفضٌ بالإضافة "السَّمَوَاتُ" رفعاً على أنه خبر للمبتدأ.
واعلم أنه يقال: وَسِعَ فلاناً الشَّيء يَسعهُ سَعَةً إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به، ولا يسعك هذا أي: لا تطيقه ولا تحتمله، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
"لَوْ كَانَ مُوسَى حَيّاً مَا وَسِعَهُ إِلاَّ اتِّبَاعِي" أي: لا يحتمل غير ذلك.
والكُرْسِيُّ: الياء فيه لغير النَّسب، واشتقاقه من الكِرْسِ، وهو الجمع؛ ومنه الكُرَّاسة للصَّحائف الجامعة للعلم؛ ومنه قول العجَّاج: [الرجز]

1178- يَا صَاحِ، هَلْ تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَسا؟ قَالَ: نَعَمْ، أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا

وقيل: أصله من تراكب الشَّيء بعضه على بعض، ومنه الكرس أبوال الدَّوابِّ وأبعارها يتلبد بعضها فوق بعض. [وأكرست الدَّار: إذا كثرت الأبعار والأبوال فيها، وتلبَّد بعضها فوق بعض]، وتكارس الشَّيء: إذا تركب ومنه الكرَّاسة، لتركب بعض الأوراق على بعضٍ. و "الكُرْسِيُّ" هو هذا الشَّيء المعروف لتركب خشباته بعضها فوق بعضٍ.
وجمعه كراسيّ كبُخْتِيّ وبَخَاتِيّ، وفيه لغتان: أشهرهما ضمُّ كافه، والثانية كسرها، وقد يعبَّر به عن الملك؛ لجلوسه عليه، تسميةً للحالِّ باسم المحلِّ؛ ومنه: [الرجز]

1179- قَدْ عَلِمَ القُدُّوسُ مَوْلَى القُدْسِ أَنَّ أَبَا العَبَّاسِ أَوْلَى نَفْسِ
في مَعْدِنِ المَلْكِ القَدِيمِ الكُرْسِي

وعن العلم؛ تسميةً للصفة باسم مكان صاحبها؛ ومنه قيل للعلماء: "الكَرَاسِيّ"؛ قال القاتل: [الطويل]

1180- يَحُفُّ بِهِمْ بِيضُ الوُجُوهِ وَعُصْبَةٌ كَرَاسِيُّ بِالأَحْدَاثِ حِينَ تَنُوبُ

وصفهم بأنهم عالمون بحوادث الأمور، ونوازلها؛ ويعبَّر به عن السِّرِّ، قال: [البسيط]

1181- مَا لِي بِأَمْرِكَ كُرْسِيٌّ أُكَاتِمُهُ وَلاَ بِكُرْسِيِّ - عَلْمَ اللهُ - مَخْلُوقِ

وقيل: الكرسيُّ لكلِّ شيء: أصله.
فصل في حقيقة "الكُرْسِيّ"
واختلفوا فيه على أربعة أقوال:
أحدها: أنَّه جسم عظيم يسع السَّموات، والأرض قال الحسن: هو العرش نفسه.
وقال أبو هريرة: الكرسيُّ: موضوعٌ أمام العرش ومعنى قوله: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } أي: سعته مثل سعة السَّموات والأرض.
وقال السُّدِّيُّ: إنَّه دون العرش، وفوق السَّماء السَّابعة، وفي الأخبار أن السموات والأرض في جنب الكرسيّ كحلقة في فلاةٍ، والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاةٍ.
وأمّا ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: الكرسيُّ: موضع القدمين فمن البعيد أن يقول ابن عباس هو موضع القدمين لأن الله سبحانه وتعالى منزه عن الجوارح.
وثانيها: أنَّ "الكرسي" هو السُّلطان، والقدرة، والملك.
ثالثها: هو العلم، لأنَّ العلم هو الأمر المعتمد عليه "والكُرْسِيُّ" هو الشَّيء الذي يعتمد عليه، وقد تقدَّم هذا.
ورابعها: ما اختاره القفَّال وهو: أنَّ المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه؛ لأنَّه خاطب الخلق في تعريف ذاته، وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم، وعظمائهم كما جعل الكعبة بيتاً له يطوف النَّاس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم، وأمر النَّاس بزيارته، كما يزورون بيوت ملوكهم.
وذكر في الحجر الأسود: "أنَّهُ يمين اللهِ في أَرْضِهِ" وجعله موضوعاً للتقبيل كما يقبل الناس أيضاً أيدي ملوكهم، وكذلك ما ذكر في محاسبة العباد يوم القيامة من حضور الملائكة والنبيين والشُّهداء، ووضع الميزان، فعلى هذا القياس أثبت لنفسه العرش في قوله:
{ { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ } [طه:5] ووصف العرش بقوله: { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَآءِ } [هود:7] ثم قال: { { وَتَرَى ٱلْمَلاَئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ } [الزمر:75] ثم قال: { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } [الحاقة:17] وقال: { ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ } [غافر:7]، وكذلك إثبات الكرسيّ.
وقال ابن الخطيب -رحمه الله -: وهذا جوابٌ مبيّن إلاَّ أنَّ المعتمد هو الأوَّل، وأنَّ ترك الظَّاهر بغير دليل لا يجوز.
قوله: { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } يقال: آده كذا، أي: أثقله، ولحقه منه مشقَّةٌ؛ قال القائل: [الطويل]

1182- أَلاَ مَا لِسَلْمَى اليَوْمَ بَتَّ جَدِيدُهَا وَضَنَّتْ وَمَا كَانَ النَّوَالُ يُؤُودُها

أي: يثقلها، ومنه الموءودة للبنت تدفن حيّة، لأنَّهم يثقلونها بالتُّراب. وقرئ: "يَوْدُهُ" بحذف الهمزة، كما تحذف همزة "أُنَاسٍ"، وقرئ "يُوُودُهُ" بإبدال الهمزة واواً.
و "حِفْظ": مصدرٌ مضافٌ لمفعوله، أي: لا يَئُودُهُ أن يحفظهما.
و "العَلِيُّ" أصله: "عَلْيِوٌ"، فأُدْغِمَ؛ نحو: مَيِّتٍ؛ لأنَّه من علا يعلو؛ قال القائل في ذلك البيت: [الطويل]

1183- فَلَمَّا عَلَوْنَا وَاسْتَوَيْنَا عَلَيْهِمُ تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لِنَسْرٍ وَكَاسِرِ

فصل في المراد بالعلو
والمراد بالعلو علو القدر والمنزلة لا علو المكان لأن الله سبحانه وتعالى منزه عن التحيز والعلي والعالي القاهر الغالب للأشياء تقول العرب: علا فلان فلاناً أي غلبه وقهره؛ قال الشاعر: [الطويل]

1184- فَلَمَّا عَلَوْنَا...................... ............................

البيت المتقدِّم، وقال تعالى: { { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي ٱلأَرْضِ } [القصص:4].
قال ابن الخطيب: لو كان علوُّه بالمكان لكان متناهياً؛ فإنَّ الجزء المفروض فوقه، أعلى منه، فلا يكون عليّاً مطلقاً، وإن كان غير متناه، وقد دلَّت البراهين اليقينيَّة على استحالة بعدٍ غير متناهٍ.
وأيضاً فلو فرضنا في ذلك نقطاً غير متناهية، فإن لم يحصل فوق تلك النّقط نقطة، أخرى، وكانت تلك النُّقطة طرفاً، لذلك البعد، فيكون متناهياً، وإن لم يوجد في ذلك البعد سفلاً فلا يكون فيها ما هو فوق على الإطلاق، وذلك ينفي حصول العلوّ المطلق، ولأنَّ العالم كرة، فكل علوّ بالنسبة إلى أحد وجهي الأرض هو سفل بالنسبة للوجه الثاني، فينقلب العلوُّ سفلاً، ولأن لو كان علُّوه بالمكان، لكان حصول العلوّ للمكان بالذَّات، والله تعالى بالعرض، وما بالذات أشرف منها بالعرض، فيكون علوُّ المكان أشرف من علوِّه سبحانه، وذلك باطلٌ.
و"ٱلْعَظِيمُ" تقدَّم معناه، وقيل: هو هنا بمعنى المعظَّم؛ كما قالوا: "عَتِيقٌ" بمعنى: مُعَتَّق؛ قال القائل: [الخفيف]

1185- فَكَأَنَّ الخَمْرَ العَتِيقَ مِنَ الإِسْـ ـفَنْطِ مَمْزُوجَةً بِمَاءٍ زُلاَلِ

قيل: وَأُنكر ذلك لانتفاء هذا الوصف. وقيل في الجواب عنه: إنَّه صفة فعلٍ، كالخلق، والرِّزق، والأوَّل أصحُّ.
قال الزَّمخشريُّ: "فإنْ قلت: كَيْفَ تَرَتَّبَتِ الجُملُ في آية الكرسيّ من غير حَرْفِ عطفٍ؟ قلت: ما منها جملةٌ إلاَّ وهي واردةٌ على البيان لما ترتَّبت عليه، والبيان متَّحدٌ بالمبيَّن، فلو توسَّط بينهما عاطفٌ لكان كما تقول العرب: "بَيْنَ العَصَا وَلِحَائِهَا" فالأولى بيانٌ لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمناً عليه غير ساهٍ عنه، والثانية لكونه مالكاً لما يدبِّره، والثالثة لكبرياء شأنه، والرابعة لإحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى منهم، المستوجب للشَّفاعة وغير المرتضى، والخامسة لسعة علمه، وتعلُّقه بالمعلومات كلِّها، أو لجلاله وعظم قدرته" انتهى. يعني غالب الجمل وإلاَّ فبعض الجمل فيها معطوفة وهي قوله: "وَلاَ يُحِيطُونَ"، وقوله: "وَلاَ يَؤُودُهُ" وقوله { وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ }.
فصل في فضل هذه الآية
في فضل هذه الآية الكريمة روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"ما قُرِئَت هذه الآية في دَارٍ إلاَّ اهْتَجَرَهَا الشَّيْطَانُ ثَلاَثِينَ يَوْماً، ولاَ يَدْخُلُهَا سَاحِرٌ وَلاَ سَاحِرَةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً" .
وعن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: سمعت نبيَّكم على أعواد المنبر وهو يقول: "مَنْ قَرَأَ آيَةَ الكُرْسِيِّ في دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ، لم يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الجَنَّة إِلاَّ المَوْتُ، ولا يواظب عليها إلاَّ صدّيق، أو عابدٌ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه؛ أمَّنه الله على نفسه وجاره، وجار جاره، والأبيات التي حوله" .
وتذاكر الصَّحابة أفضل ما في القرآن، فقال لهم عليٌّ: أين أنتم من آية الكرسيّ قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا عَلِيُّ سَيِّدُ البَشَرِ آدَمُ، وسَيِّدُ العَرَبِ مُحَمَّدٌ، وَلاَ فَخْرَ، وَسَيِّدُ الكَلاَمِ القُرْآنُ، وسَيِّد القُرْآنِ البَقَرَةُ وسَيِّدُ البَقَرَةِ آيةُ الكُرْسِيّ" وعن أبيّ بن كعبٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا أبا المنذر؛ أيُّ آيةٍ في كِتَابِ اللهِ أعْظَم؟ قلت: اللهُ لا إله إلاَّ هو الحيُّ القَيُّومُ، قال: فضرب صدري ثم قال: ليَهْنِكَ العِلْمُ يَا أَبَا المُنْذِرِ ثم قال: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ لهذه الآية لِسَاناً وَشَفَتَيْنِ تُقَدِّسُ المَلِكَ عِنْدَ سَاقِ العَرْشِ" .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زَكَاةِ رمضان فأتاني آت، فجعل يحثو من الطَّعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إنّي محتاج، ولي عيالٌ، ولي حاجة شديدةٌ قال: فخلّيت عنه، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم] يا أبا هريرة مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ؛ قلت يا رسول الله؛ شَكَا حَاجَةً شديدة، وعيالاً؛ فرحمته، فخلَّيت سبيله. قال: أَمَا إِنَّهُ قَدُ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ فعرفت أنه سيعود، بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فرصدته، فجاء يحثو من الطَّعام، فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعني فإنِّي محتاج ولي عيال ولا أعود فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة قلت: يا رسول الله شكا حاجةً، وعيالاً فرحمته وخلَّيت سبيله قال: أمَا إنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ، وسيعود فعرفت أنه سيعود؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه سيعود فرصدته الثالثة: فجاء يحثو من الطَّعام؛ فأخذته، فقلت لأرفعنَّك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات أنَّك تزعم ألاَّ تعود، ثم تعود قال: دعني أُعلّمك كلمات، ينفعك الله بها، قلت: ما هي قال: إذا أَوَيْتَ إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسيّ { ٱللهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ } حتى تختم الآية، فإنَّك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطانٌ، حتّى تصبح، فخلَّيت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَا فَعَلْتَ بِأَسِيركَ البَارِحَةَ؟ قلت: يا رسول الله - عليك الصَّلاة والسَّلام - زَعَمَ أنَّه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخلّيت سبيله ـ قال: ما هي قلت: قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسيّ من أولها، حتى تتمّ الآية، وقال لي لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان، حتى تصبح، وكانوا أحرص شيءٍ على الخير، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ، وهو كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِب منذ ثَلاَث لَيَالٍ يا أبا هُرَيْرَةَ؟ قلت: لا، قال: ذَلِكَ شَيْطَانٌ" .