التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ كَٱلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ
٢٦٤
وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰلَهُمُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٢٦٥
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

اعلم أنَّه تعالى، لم ذكر هذين النَّوعين من الإنفاق ضرب واحداً منهما مثلاً.
قوله: "كَٱلَّذِي" الكاف في محلِّ نصبٍ، فقيل: نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أي: لا تبطلوها إبطالاً كإبطال الذي ينفق رئاء النَّاس. وقي: في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير المصدر المقدَّر كما هو رأي سيبويه، وقيل: حالٌ من فاعل "تُبْطِلُوا"، أي: لا تبطلوها مشبهين الذي ينفق ماله رياء النَّاس.
و "رِئَآءَ" فيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ تقديره: إنفاقاً رئاء النَّاس، كذا ذكره مكي.
والثاني: أنه مفعول من أجله، أي: لأجل رئاء النَّاس، واستكمل شروط النَّصب.
الثالث: أنه في محلِّ حالٍ، أي: ينفق مرائياً.
والمصدر هنا مضافٌ للمفعول، وهو "النَّاس"، ورئاء مصدر راءى كقاتل قتالاً، والأصل: "رِئايا" فالهمزة الأولى عين الكلمة، والثانية بدلٌ من ياءٍ هي لام الكلمة، لأنها وقعت طرفاً بعد ألفٍ زائدةٍ. والمفاعلة في "راءَى" على بابها، لأنَّ المرائي يري النَّاس أعماله؛ حتى يروه الثَّناء عليه، والتَّعظيم له. وقرأ طلحة - ويروى عن عاصم -: "رِيَاء" بإبدال الهمزة الأولى ياء، وهو قياس الهمزة تخفيفاً؛ لأنَّها مفتوحةٌ بعد كسرةٍ.
قوله: { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ } مبتدأٌ وخبرٌ، ودخلت الفاء، قال أبو البقاء: "لتربط الجُمْلَة بِمَا قَبْلَهَا" كما تقدَّم، والهاء في "فَمَثَلُهُ" فيها قولان:
أظهرهما: أنها تعود على "الَّذي يُنْفِقُ رِئَاءَ النَّاسِ"؛ لأنَّه أقرب مذكورٍ فيكون المعنى أنَّ الله شبّه المانَّ المؤذي بالمنافق، ثم شبَّه المنافق بالحجر.
والثاني: أنها تعود على المانِّ المؤذي، كأنه تعالى شبَّهه بشيئين: بالذي ينفق رئاء وبصفوان عليه ترابٌ، فيكون قد عدل من خطاب إلى غيبة، ومن جمع إلى إفراد.
والصَّفوان: حجرٌ كبيرٌ أملس، وفيه لغتان:
أشهرهما سكون الفاء، والثانية فتحها، وبها قرأ ابن المسيّب والزُّهريُّ، وهي شاذَّةٌ؛ لأنَّ "فَعَلان" إنَّما يكون في المصادر نحو: النَّزوان، والغليان، والصفات نحو: رجلٌ طغيان وتيس عدوان، وأمَّا في الأسماء فقليلٌ جداً. واختلف في "صَفْوَان" فقيل: هو جمعٌ مفرده: صفا، قال أبو البقاء: "وجَمْعُ "فَعَلَ" على "فَعْلاَن" قليلٌ". وقيل: هو اسم جنس.
قال أبو البقاء: "وهو الأجود، ولذلك عاد الضَّمير عليه مفرداً في قوله: عَلَيْه".
وقيل: هو مفردٌ، واحده "صُفيٌّ" قاله الكسائي، وأنكره المبرَّد. قال: "لأنَّ صُفيّاً جمع صفا نحو: عصيّ في عصا، وقُفِيّ في قَفَا". ونقل عن الكسائي أيضاً أنه قال: "صَفْوان مفردٌ، ويجمع على صِفوان بالكسر". قال النَّحاس: "ويجوز أن يكون المكسور الصَّاد واحداً أيضاً، وما قاله الكسائيُّ غير صحيح، بل صفوان - يعني بالكسر - جمعٌ لصفا كـ "وَرَل" وَوِرْلان، وأخ وإخوان وكرى وكروان".
وحكى أبو عبيدٍ عن الأصمعي أن الصَّفوان، والصَّفا، والصَّفو واحد والكلُّ مقصورٌ.
وقال بعضهم: الصَّفوان: جمع صفوانة، كمرجانٍ ومرجانةٍ وسعدان، وسعدانة.
وقال بعضهم: الصَّفوان: هو الحجر الأملس، وهو واحدٌ وجمعٌ.
و { عَلَيْهِ تُرَابٌ }: يجوز أن يكون جملةً من مبتدأ، وخبرٍ، وقعت صفةً لصفوان، ويجوز أن يكون "عَلَيْه" وحده صفةً له، و "تُرَابٌ" فاعلٌ به، وهو أولى لما تقدَّم عند قوله
{ { فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ } [البقرة:261]. والتُّراب معروفٌ وهو اسم جنسٍ، لا يثنَّى، ولا يجمع.
وقال المبرِّد: وهو جمع واحدته "ترابة". وذكر النَّحَّاس له خمسة عشر اسماً: ترابٌ وتَوْرَبٌ، وتَوْرَابٌ، وتَيْرَابٌ وإِثْلَب وأَثْلَب وَكَثْكَثٌ وَكِثْكِثٌ ودَقْعَمٌ وَدَقْعَاءُ ورَغام بفتح الراء، ومنه: أرغم الله أنفه أي: ألصقه بالرَّغام وبَرى، وقرى بالفتح مقصوراً [كالعصا وكملح وعثير] وزاد غيره تربة وصعيد.
ويقال: ترب الرَّجل: افتقر. ومنه:
{ { أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } [البلد:16] كأنَّ جلده لصق به لفقره، وأترب، أي: استغنى، كأنَّ الهمزة للسَّلب، أو صار ماله كالتُّراب.
قوله: "فَأَصَابَهُ" عطفٌ على الفعل الذي تعلَّق به قوله: "عَلَيْهِ"، أي: استقرَّ عليه ترابٌ، فأصابه. والضَّمير يعود على الصَّفوان، وقيل: على التُّراب. وأمَّا الضَّمير في "فَتَرَكَهُ" فعلى الصفوان فقط. وألف "أصَابَه" من واوٍ؛ لأنه من صاب يصوب.
والوابل: المطر الشَّديد، وبلت السَّماء تبل، والأرض موبولة، ويقال أيضاً: أوبل، فهو موبل، فيكون ممَّا اتفق فيه فعل، وأفعل، وهو من الصِّفات الغالبة كالأبطح، فلا يحتاج معه إلى ذكر موصوفٍ. قال النَّضر بن شميلٍ:
أولُ ما يَكُونُ المَطَرُ رَشاً، ثم طشاً، ثم طَلاًّ، ورَذاذاً، ثم نضحاً، وهو قطرٌ بين قطرين، ثم هطلاً وتهتاناً، ثم وابلاً وجوداً. والوبيل: الوخيم، والوبيلة: حزمة الحطب، ومنه قيل للغليظة: وبيلةٌ على التَّشبيه بالحزمة.
قوله: { فَتَرَكَهُ صَلْداً } كقوله تعالى:
{ { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } [البقرة:17]. والصَّلد: الأجرد الأملس، ومنه: "صَلَدَ جبينُ الأصْلَعِ": أي برق، والصَّلد أيضاً صفة، يقال: صلد بكسر اللام يصلد بفتحها، فهو صلد. قال النَّقَّاش: "الصَّلْدُ بلغة هُذَيل". وقال أبان بن تغلب: "الصَّلْد: اللَّيِّن من الحجارة" وقال علي بن عيسى: "هو من الحجارة ما لا خير فيه، وكذلك من الأرضين وغيرها، ومنه: "قِدْرٌ صَلُود" أي: بطيئة الغَلَيان"، وصلد الزّند: إذا لم يورد ناراً.
قوله: { لاَّ يَقْدِرُونَ } في هذه الجملة قولان:
أحدهما: أنها استئنافية فلا موضع لها من الإعراب.
والثاني: أنها في محلِّ نصب على الحال من "الَّذِي" في قوله: { كَٱلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ }، وإنما جمع الضَّمير حملاً على المعنى، لأنَّ المراد بالذي الجنس، فلذلك جاز الحمل على لفظه مرَّةً في قوله: "مَالَهُ" و "لاَ يُؤْمِنُ"، "فمثلُه" وعلى معناه أخرى. وصار هذا نظير قوله:
{ { كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } [البقرة:17] ثم قال: { بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ } [البقرة:17]، وقد تقدَّم.
وزعم ابن عطيَّة أنَّ مهيع كلام العرب الحمل على اللَّفظ أولاً، ثم المعنى ثانياً، وأنَّ العكس قبيحٌ، وتقدَّم الكلام معه في ذلك. وقيل: الضَّمير في "يَقْدِرُونَ" عائدٌ على المخاطبين بقوله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم } ويكون من باب الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، وفيه بعدٌ.
وقيل: يعود على ما يفهم من السِّياق، أي: لا يقدر المانُّون، ولا المؤذون على شيءٍ من نفع صدقاتهم. وسمَّى الصّدقة كسباً.
قال أبو البقاء: "وَلا يَجُوزُ أن يَكُونَ "لاَ يَقْدِرُونَ" حالاً من "الَّذِي"؛ لأنه قد فصل بينهما بقوله: "فَمَثَلُه" وما بعده". ولا يلزم ذلك؛ لأنَّ هذا الفصل فيه تأكيدٌ، وهو كالاعتراض".
فصل
قال القاضي: إنه تبارك وتعالى أكَّد النَّهي عن إبطال الصَّدقة بالمنّ، والأذى، وأزال كلّ شبهة للمرجئة، وبيَّن أنَّ المنَّ والأذى يبطلان الصَّدقة، ومعلومٌ أنَّ الصَّدقة قد وقعت، فلا يصحُّ أن تبطل، فالمراد إبطال أجرها، لأنَّ الأجر لم يحصل بعد، وهو مستقبل، فيصحُّ إبطاله بما يأتيه من المنّ والأذى.
واعلم أنَّه تعالى ضرب لكيفية إبطال الصَّدقة بالمنّ والأذى مثلين، فمثله أوَّلاً: بمن ينفق ماله رئاء النَّاس، وهو مع ذلك لا يؤمن بالله، واليوم الآخر، لأنَّ بطلان أجر نفقة هذا المرائي الكافر، أظهر من بطلان أجر صدقة من يُتْبعها بالمنّ، والأذى. ثم مثَّله ثانياً: بـ "الصَّفْوَانِ" الذي وقع عليه تُرابٌ، وغبارٌ، ثم أصابه المطر القويُّ، فيزيل ذلك الغبار عنه حتّى يصير كأنه لم يكن عليه غبار أصلاً، فالكافر كالصَّفوان، والتُّراب مثل ذلك الإنفاق، والوابل كالكفر الذي يحبط عمل الكافر، وكالمنّ والأذى اللَّذين يحبطان عمل هذا المنفق.
قال: فكما أنَّ الوابل أزال التُّراب الذي وقع على الصَّفوان، فكذلك المنّ والأذى، وجب أن يكونا مبطلين لأجر الإنفاق بعد حصوله، وذلك صريحٌ في القول بالإحباط.
قال الجبَّائيُّ: وكما دلّ هذا النَّص على صحَّة قولنا فالعقل دلَّ عليه أيضاً؛ لأن من أطاع، فلو استحقّ ثواب طاعته، وعقاب معصيته لوجب أن يستحقّ النّقيضين؛ لأنَّ شرط الثَّواب أن يكون منفعة خالصةً دائمةً مقرونةً بالإجلال، وشرط العقاب أن يكون مضرةً خالصةً دائمةً مقرونةً بالإهانة فلو لم تقع المحابطة، لحصل استحقاق النّقيضين وذلك محال، ولأنَّه حين يعاقبه، فقد منعه الإثابة، ومنع الإثابة ظلمٌ، وهذا العقاب عدل، فيلزم أن يكون هذا العقاب عدلاً من حيث إنَّه حقّه، وأن يكون ظلماً من حيث إنَّه منع الإثابة، فيكون ظلماً بنفس الفعل الذي هو عادلٌ فيه؛ وذلك محال، فصحّ بهذا النَّصّ ودلالة العقل صحّة قولنا في الإحباط والتَّكفير. وأجيبوا بأنه ليس المراد بقوله "لاَ تُبْطِلُوا" النَّهي عن إزالة هذا الثَّواب بعد ثبوته، بل المراد به ألاَّ يأتي بهذا العمل باطلاً؛ لأنَّه إذا قصد به غير وجه الله تعالى، فقد أتى به من الابتداء موصوفاً بالبطلان.
قال ابن الخطيب: ويدلّ على بطلان قول المعتزلة وجوه:
أولها: أنَّ الباقي والطّارئ إن لم يكن بينهما منافاة، لم يلزم من طَرَيَانِ الطَّارئ زوال الباقي، وإن حصلت بينهما منافاة لم يكن زوال الباقي أولى من اندفاع الطَّارئ، بل ربَّما كان اندفاع الطَّارئ، أولى؛ لأن الدفع أسهل من الرفع.
وثانيها: أن الطارئ لو أبطل لكان إما أن يبطل ما دخل منه في الوجود في الماضي، وهو محال؛ لأنَّ الماضي قد انقضى، ولم يبق في الحال، وإعدام المعدوم محالٌ، وإما أن يبطل ما هو موجود في الحال وهو أيضاً محال؛ لأنَّ الموجود في الحال، لو أعدمه في الحال لزم الجمع بين العدم والوجود وهو محالٌ، وإما أن يبطل ما سيوجد في المستقبل وهو محالٌ، لأنَّ الذي سيوجد في المستقبل معدوم في الحال، وإعدام ما لم يوجد بعد محال.
وثالثها: أنَّ شرط طريان الطَّارئ، زوال الباقي، فلو جعلنا زوال النافي معلّلاً بطريان الطَّارئ، لزم الدَّور، وهو محالٌ.
ورابعها: أنَّ الطَّارئ إذا طرأ وأعدم الثَّواب السَّابق، فالثَّواب السَّابق إمَّا أن يعدم من هذا الطَّارئ شيئاً، أو لا يعدم منه شيئاً، والأول هو الموازنة، وهو قول أبي هاشم، وهو باطلٌ، وذلك لأنَّ الموجب لعدم كل واحد منهما وجود الآخر، فلو حصل العدمان معاً اللَّذان هما معلومان، لزم حصول الموجودين اللَّذين هما علَّتان، فيلزم أن يكون كلّ واحد منهما موجوداً حال كون كلّ واحد منهما معدوماً وهو محالٌ.
والثاني، وهو قول أبي علي الجبَّائي: هو أيضاً باطل؛ لأنَّ العقاب الطَّارئ لما أزال الثَّواب السَّابق، وذلك الثَّواب السَّابق ليس له أثر ألبتة في إزالة الشَّيء من هذا العقاب الطَّارئ؛ فحينئذ لا يحصل له من العلم الذي أوجب الثَّواب السَّابق فائدة أصلاً، لا في جلب ثواب ولا في دفع عقاب، وذلك على مضادة النَّصّ الصّريح في قوله تبارك وتعالى
{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } [الزلزلة:7]، لأنه خلاف العدل حيث يحمل العبد مشقّة الطَّاعة، ولم يظهر له منها أثر، لا في جلب منفعةٍ، ولا في دفع مضرةٍ.
خامسها: أنكم تقولون الصَّغيرة تحبط بعض أجزاء الثَّواب دون البعض وذلك محالٌ؛ لأن أجزاء الاستحقاقات متساوية في الماهيَّة، فالصَّغيرة الطَّارئة إذا انصرف تأثيرها إلى بعض تلك الاستحقاقات دون البعض مع استواء الكلّ في الماهيَّة كان ذلك ترجيحاً للممكن من غير مرجّح، وهو محالٌ فلم يبق إلاَّ أن يقال بأنَّ الصَّغيرة الطَّارئة تزيل كلَّ تلك الاستحقاقات، وهو باطلٌ بالاتّفاق، أو لا تزيل شيئاً منها، وهو المطلوب.
سادسها: أنَّ عقاب الكبيرة، إذا كان أكثر من ثواب العَمَل المتقدّم، فإمَّا أن يقال: بأنَّ المؤثر في إبطال الثَّواب بعض أجزاء العقاب الطَّارئ، أو كلها، والأوَّل باطل؛ لأنَّ اختصاص بعض تلك الأجزاء بالمؤثريّة دون البعض مع استواء كلِّها في الماهيَّة ترجيح للممكن من غير مرجّح، وهو محالٌ. الثاني باطل، لأنَّه حينئذ يجتمع على إبطال الجزء الواحد من الثَّواب جزآن من العقاب مع أنَّ كلَّ واحد من ذينك الجزأين مستقلٌّ بإبطال ذلك الثَّواب، فقد اجتمع على الأثر الواحد مؤثران كلّ واحدٍ منهما مستقلٌّ وذلك محالٌ؛ لأنَّه يستغني بكلِّ واحدٍ منهما عن كلّ واحد منهما فيكون غنيّاً عنهما معاً، حال كونه محتاجاً إليهما معاً، وهو محالٌ.
سابعها: أنَّه لا منافاة بين هذين الاستحقاقين؛ لأنَّ السَّيِّد إذا قال لعبده: احفظ هذا المتاع لئلاّ يسرقه السَّارق، ثم في ذلك الوقت جاء العدوّ، وقصد قتل السّيِّد، فاشتغل العبد بمحاربة ذلك العدوِّ، وقتله، فذلك الفعل من العبد يستوجب استحقاقه للمدح، والتعظيم حيث دفع القتل عن سيِّده، ويوجب استحقاقه للذَّمِّ، حيث عرض ماله للسّرقة، وكلّ واحدٍ من الاستحقاقين ثابت، والعقلاء يرجعون في مثل هذه الواقعة إلى التَّرجيح أو إلى المهايأة، فأمَّا أن يحكموا بانتفاء الاستحقاقين وزواله فذلك مدفوعٌ في بداية العقول.
ثامنها: أَنَّ الموجب لحصول هذا الاستحقاق هو الفعل المُتقدِّم، فهذا الطَّارئ إِمَّا أن يكون له أثر في جهة اقتضاء ذلك الفعل لذلك الاستحقاق، أو لا يكون. والأوَّل محالٌ؛ لأَنَّ ذلك العل إنَّما يكون موجوداً في الزَّمان الماضي، فلو كان لهذا الطَّارئ أَثَرٌ في ذلك الفعل لكان هذا إيقاعاً للتَّأثير في الزَّمان الماضي، وهو محالٌ، وإن لم يكن لهذا الطَّارئ [أثر] في اقتضاءِ ذلك الفعل السَّابق لذلك الاستحقاق، وجب أَن يبقى ذلك الاقتضاء كما كان وألاَّ يزول.
وتاسعها: أَنَّ المعتزلة يقولون: إِنَّ شُرب جرعةٍ من الخمرِ، يحبطُ ثواب الإِيمان وطاعة سبعين سنةٍ على سبيل الإِخلاص، وذلك محالٌ؛ لأنَّا نعلم بالضَّرورة أَنَّ ثواب هذه الطَّاعات أكثر مِنْ عقاب هذه المعصية الواحدة، والأعظم لا يُحيط بالأَقلّ.
قال الجبَّائي: لا يمتنع أَنْ تكون الكبيرة الواحدة أعظم من كُلِّ طاعةٍ، لأن معصية الله تعالى تعظم على قدر كثرة نعمه، وإحسانه، كما أَنَّ استحقاق قيام الرَّبَّانيَّة، وقد ربَّاهُ وملكه، وبلغه إلى النِّهاية [العظيمة أعظم] من قيامه بحقِّه لكثرة نعمه، فإِذا كانت نعم الله على عباده، بحيث لا تُضبط عظماً، وكثرةً لم يمتنع أَنْ يستحقَّ على المعصية الواحدة العقاب العظيم الَّذي يعلو على ثواب جملة الطَّاعات.
قال ابن الخطيب: وهذا العُذْرُ ضعيفٌ؛ لأَنَّ المَلِك الَّذِي عظمت نعمُهُ على عبده، ثمّ إِنَّ ذلك العبدَ قام بحقِّ عبوديَّته خمسين سنةً، ثم إنّه كسر رأس قلم ذلك الملك قصداً، فلو أحبط المَلك جميع طاعاته بسبب ذلك القدر من الجرم فكُلُّ أحدٍ يذمُّهُ، وينسبه إلى ترك الإِنصاف والقسوة، ومعلومٌ أَنَّ جميع المعاصي بالنِّسبة إلى جلال الله تعالى أقلُّ من كسر رأس القلم، فظهر أَنَّ قولهم على [خلاف] قياس العقول.
عاشرها: أَنَّ إِيمان ساعةٍ يهدم كُفْر سبعين سنة فالإيمان سبعين سنةً كيف يهدمُ بفسق ساعةٍ، وهذا مِمَّا لا يقبلُهُ العقلُ، والله أعلمُ.
قوله { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ } يحتمل أمرين:
أحدهما: لا تأْتُوا به باطِلاً، وذلك أَنْ يَنْوي بالصَّدقة الرِّياء والسُّمعة.
[قال القرطبيُّ: إِنَّ اللهَ تعالى عبَّر عن عدم القبول، وحرمان الثوب] بالإبطال، والمراد الصَّدقةُ الَّتي يمُنُّ بها، ويُؤذي لا غيرها، فالمَنُّ والأَذى في صدقة؛ لا يُبطلُ صدقةً غيرها.
قال جمهور العلماء في هذه الآية: إنَّ الصَّدقة التي يعلم الله من صاحبها أنه يمنّ، أو يُؤذي بها، فإِنَّها لا تقبل.
وقيل: إِنَّ اللهَ جعل للملك عليها أمارة، فهو لا يكتبها.
قال القرطبيُّ: وهذا حسنٌ.
والثاني: أن يأتوا بها على وجهٍ يوجب الثَّواب، ثُمَّ يتبعوها بالمَنِّ والأذى، فيزيلوا ثوابها، وضرب لذلك مثلين:
أحدهما: يطابقُ الأَوَّل وهو قوله: { كَٱلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِٱللهِ }، إِذْ من المعلوم [أَنَّ المراد من كونه عمل] هذا باطلاً أَنَّه دخل في الوجود باطلاً، لا أَنَّهُ دخل صحيحاً، ثم يزول؛ لأَنَّ الكُفر مقارنٌ له فيمتنع دخوله صحيحاً في الوجود.
والمثال الثاني: وهو الصَّفوان الَّذي وقع عليه تراب، ثمَّ أصابهُ وابلٌ فهذا يشهدُ لتأَويل المعتزلة؛ لأنَّه جعل الوابلَ مُزِيلاً لذلك التُّراب بعد وقُوع التُّراب على الصَّفوان، فكذا هاهنا: يجب أن يكون المنُّ والأَذى مزيلين للأجر والثَّواب بعد حصول استحقاق الأَجر.
ويمكن أَنْ يجاب عنه: بأَنَّا نُسلِّم أَنَّ المشبه بوقوع التُّراب على الصَّفوان حُصُولُ الأَجر للكافر؛ بل المشبَّه بذلك صُدُورُ هذا العمل الَّذي لولا كونه مقروناً بالنِّيَّة الفاسدة، لكان موجباً لحصول الأَجر والثواب؛ لأَنَّ التُّراب إذا وقع على الصَّفوان، لم يكن ملتصقاً به، ولا غائصاً فيه أَلْبَتَّة، بل يكون ذلك الاتِّصال كالانفِصال، فهو في مرأَى العين متَّصلٌ، وفي الحقيقة منفصلٌ، فكذا الإِنفاقُ المقرون بالمَنّ والأَذى، يُرَى في الظَّاهر أَنَّه عَمَلٌ مِنْ أَعمال البِرّ، وفي الحقيقة ليس كذلك، فظهر أَنَّ استدلالهم بهذه ضعيف.
فصلٌ
قال ابن عبَّاس قوله: { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِٱلْمَنِّ } على الله بسبب صدقتِكُم، وبالأذى لذلك السَّائل.
وقال الباقون: بالمَنّ على الفقير وبالأذى للفقير { كَٱلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ }؛ لأنَّ المُنافق، والمُرائي يأتيان بالصَّدقة لا لوجه اللهِ - تعالى - ومن يَقْرُنُ الصَّدقة بالمنّ والأَذى، فقد أتى بتلك الصَّدقة لا لوجه اللهِ - تعالى - أيضاً، إذ لو كان غرضه من تلك الصَّدقة طلب مرضاة الله تعالى لما مَنَّ على الفقير، ولا آذاه، فثبت اشتراكُ الصُّورتين في كون الصَّدقة لم يأت بها لوجه اللهِ - تعالى - وتقدَّم الكلامُ على الإِلقاء.
فصلٌ في "هل تُعطى الصَّدقةُ للأَقارب"
قال القرطبي: كرِه مالكٌ لهذه الآية أن يُعطي الرَّجل صدقتُه الواجبة أقاربه؛ لئلا يعتاض منهم الحمد، والثَّناء، ويظهر منَّتهُ عليهم، ويكافئوه عليها، فلا تخلص لوجه اللهِ - تعالى - واستحبَّ أن يعطيها الأَجانب، واستحبَّ أيضاً أن يولِّي غيره تفريقها، إذا لم يكن الإِمامُ عدلاً؛ لئلا تُحبط بالمَنِّ والأَذى، والشُّكر، والثَّناء، والمُكافأة بالخدمة من المعطى بخلاف صدقة التَّطوُّع السّرّ؛ لأن ثوابها إذا حبط سلم من الوعيد.
فصلٌ في كيفيَّة التَّشبيه في الآية
في كيفيَّة هذا التَّشبيه وجهان:
الأول: ما تقدَّم أَنَّ العمل الظَّاهر كالتُّراب والمانُّ والمُؤذي والمنافق كالصَّفوان يوم القيامة كالوابل، هذا على قولنا، وأما على قول المعتزلة فالمنُّ والأَذى كالوابل.
الوجه الثاني: قال القفَّالرحمه الله ُ: إِنَّ أَعمال العباد يجازون بها يوم القيامة، فمن عمل بالإِخلاص، فكأَنَّه طرح بذراً في الأَرض، فهو ينمُو، ويتضاعفُ لهُ، حتى يحصده في وقته، ويجده وقت حاجته، والصَّفوان محلّ بذر المنافق، ومعلومٌ أَنَّه لا ينمو فيه شيء، ولا يكون فيه قبولٌ للبذر، والمعنى أَنَّ عمل المانّ، والمُؤذي، والمنافق كالبذر المطروح في ترابٍ قليل على صفوانٍ، فإذا أَصَابَهُ مطرٌ بقي مستودعٌ بذره خالياً، لا شيء فيه؛ أَلاَ تَرَى أَنَّهُ تعالى: ضرب مثل المُخلص بجنَّةٍ فوقَ رَبْوَةٍ؟ والجَنَّةُ ما يكُونُ فيها أشجار ونخيل، فمن أخلص للهِ، كان كمن غرس بُسْتاناً في ربوةٍ من الأَرض، فهو يجني ثمر غِراسه في أوقات حاجته "وهي تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حين بإذن ربِّها" متضاعفة زائدة.
ثم قال تعالى { لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ }.
وفيه قولان: مبنيَّان على ما تقدَّم في الإِعراب، فعلى الأَوَّل لا يقدرُ أحد من الخلق على ذلك البذر المُلْقى في ذلك التُّراب الَّذي كان على ذلك الصَّفوان، لزوال التُّراب، وما فيه من البذر بالمطر، فلم يقدر أَحدٌ على الانتفاع به، وهذا يُقوِّي تشبيه القفَّال، وإِنْ عاد الضَّمير إلى الَّذي يُنفِقُ، فإنما أُشير به إلى الجنس والجنسُ في حُكم العامّ، ثم قال { وَٱللهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ }.
فصلٌ في التَّحذير من الرِّياء.
"قال رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُم الشِّرْكُ الأَصغرُ قالوا يا رسُولَ اللهِ: وَمَا الشِّركُ الأَصغرُ؟ قال: الرِّياءُ، يَقُولُ اللهُ لهم يومَ يُجَازِي العِباد بأَعمالِهِم اذْهَبُوا إِلَى الَّذِي كُنْتُمْ تُرَاءون فِي الدُّنْيَا، [فانظُرُوا] هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُم جَزَاءً" .
"وروى أبو هريرة - رضي اللهُ عنه -: أَنَّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حدَّثَهُ أَنَّ الله تبارك وتعالى إذا كان يومُ القيامة ينزلُ إلى العباد ليقضى بينهم، وكُلُّ أُمَّةِ جاثيةٌ، فأَوَّلُ مَنْ يدعونَ رجلاً جمع القرآن، ورجلاً قُتل في سبِيلِ اللهِ ورجُلاً كثير المالِ، فيقول اللهُ للقارئ: أَلَمْ أَعْلِّمك ما أنزلتُ على رسُولي؟ قال: بلَى يا ربّ، قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كُنت أقومُ به آناءَ اللَّيل وآنَاءَ النَّهار، فيقُولُ اللهُ له: كذبتَ، وتقُولُ الملائِكَةُ: كذبت، ويقُولُ اللهُ - تبارك وتعالى - بل أردت أن يقال: فلانٌ قارئٌ، وقد قيل ذلك ويُؤتى بصاحب المال فيقول اللهُ تعالى له: ألم أُوسِّعْ عليكَ حتَّى [لَمْ] أَدَعك تحتاجُ إِلى أحد؟ قال: بَلَى يَا رَبِّ قال: فماذا عَمِلت فيما آتيتُك؟ قال: كُنتُ أَصل الرَّحم، وأَتصدَّقُ، فيقول اللهُ لهُ: كَذَبتَ، وتقُولُ الملائِكةُ: كَذَبتَ، ويقُولُ اللهُ - تعالى - بَل أَرَدتَ أَنْ يُقال: فُلانٌ جوادٌ، وقد قيل ذلك، ويؤتَى بالَّذي قُتل في سبيل اللهِ فيقول له: في ماذا قُتِلْتَ؟ فيقُولُ: يا رَبّ أُمِرْتُ بالجهادِ في سبيلك، فَقَاتَلْتُ حتّى قُتِلْتُ، فيقُولُ اللهُ: كَذَبْتَ وتقُولُ الملائِكةُ: كَذَبْتَ. ويقُولُ اللهُ تعالى بل أَرَدْتَ أَنْ يُقال فُلانٌ جرِيء، وقد قيل ذلك ثُمَّ ضرب رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - على رُكْبتي، ثُمَّ قال يا أَبَا هُريْرَة أُولئك الثَّلاثة أَوّل خلق الله تعالى تُسعَّر بهم النَّارُ يوم القيامة."
قوله: { وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللهِ }.
قوله: { وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ } كقوله "مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ كمثلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْع" في جميع التَّقادير فليُراجع. وقرأَ الجحدريُّ "كَمَثَلِ حَبَّةٍ" بالحاءِ المُهملة والباءِ.
في قوله: "ابْتِغَاءَ" وجهان:
أحدهما: أَنَّهُ مفعولٌ من أجله، وشروطُ النَّصب متوفّرة.
والثاني: أَنَّهُ حالٌ، و "تَثْبِيتاً" عطفٌ عليه بالاعتبارين، أي: لأجل الابتغاء والتَّثبيت، أو مُبتغين مُتَثَبِّتين. ومنع ابن عطيَّة أن يكون "ابتغاء" مفعولاً من أجله، قال: "لأَنَّهُ عَطَفَ عليه تَثْبِيتاً، وتثبيتاً لا يصحَّ أن يكونَ مفعولاً من أجله، [لأنَّ الإِنفاقَ لا يكُونُ لأجل التَّثبيتِ]. وحَكَى عن مكي كونه مفعولاً من أجله] قال: "وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا بَيَّنَّاهُ".
وهذا الَّذي رَدَّه لا بُدُّ فيه من تفصيلٍ، وذلك أَنَّ قوله تبارك وتعالى: "وَتَثْبِيتاً" إِمَّا أن يُجْعَل مصدراً متعدّياً، أو قاصراً، فإِنْ كان قاصراً، أو متعدّياً، وقدَّرنا المفعول هكذا: "وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنفُسهِم الثَّوابَ على تلك النَّفَقَة"، فيكُونُ تثبيتُ الثَّواب وتحصيله من اللهِ حاملاً لهم على النَّفقة، وحينئذٍ يصحُّ أَنْ يكونَ "تَثْبِيتاً" مفعولاً من أجلِهِ.
وإن قدَّرنا المفعول غير ذلك، أي: وتَثْبِيتاً من أنفسهم أعمالهم بإخلاص النية، أو جعلنا "مِنْ أَنْفُسِهِمْ" هو المفعول في المعنى، وأنَّ "مِنْ" بمعنى اللام، أي: لأنفسهم، كما تقول: "فَعَلْتُه كَسْراً مِنْ شَهوتي" فلا يتضحُ فيه أن يكون مفعولاً لأجله.
وأبو البقاء قد قدَّر المفعول المحذوف "أَعْمالَهم بإِخلاص النيةِ"، وجوَّز أيضاً أن يكونَ "مِنْ أنفسهم" مفعولاً، وأن تكونَ "مِنْ" بمعنى اللام، وقد كان قدَّم أولاً أنه يجوزُ فيهما المفعولُ من أجله، والحالية؛ وهو غيرُ واضحٍ كما تقدَّم.
وتلخَّص أنَّ في "من أنفسهم" قولين:
أحدهما: أنه مفعولٌ بالتجوُّز في الحرف.
والثاني: أنه صفة لـ "تثبيتاً"، فهو متعلِّقٌ بمحذوفٍ، وتلخَّص أيضاً أن التثبيت يجوزُ أن يكونَ متعدّياً، وكيف يقدَّر مفعوله، وأَنْ يكونَ قاصراً.
فإن قيل: "تَثْبِيتٌ" مصدر ثَبَّت؛ وثَبَّت مُتَعدٍّ، فكيف يكون مصدرُه لازماً؟
فالجواب: أَنَّ التثبيت مصدرُ تَثَبَّتَ، فهو واقعٌ موقعَ التثبُّتِ، والمصادرُ تنوبُ عن بعضها؛ قال تعالى:
{ { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [المزمل:8] والأصل: "تَبتُّلاً" ويؤيِّد ذلك قراءة مجاهد "وَتَثَبُّتاً"، وإلى هذا نحا أبو البقاء.
قال أبو حيان: "ورُدَّ هذا القول؛ بأنَّ ذلك لا يكون إلا مع الإِفصاح بالفعلِ المتقدِّم على المصدرِ، نحو الآيةِ، وأمَّا أَنْ يُؤْتَى بالمصدرِ من غيرِ نيابةٍ على فعلٍ مذكورٍ، فلا يُحْمَلُ على غير فعله الذي هو له في الأصل"، ثم قال: "والذي نقولُ: إنَّ ثَبَتَ - يعني مُخفَّفاً - فعلٌ لازمٌ، معناه تمكَّن ورَسَخ، وثَبَّت مُعدًّى بالتضعيف، ومعناه مكَّنَ وحقَّق؛ قال ابن رواحة: [البسيط]

1220- فَثَبَّتَ اللهُ مَا أَتَاكَ مِنْ حَسَنٍ تَثْبِيتَ عِيسَى وَنَصْراً كَالَّذِي نُصِرُوا

فإذا كان التثبيتُ مُسنداً إليهم، كانت "مِنْ" في موضع نصب متعلقةً بنفس المصدرِ، وتكونُ للتبعيض؛ مثلُها في "هَزَّ من عِطْفِهِ"، و "حَرَّك مِنْ نشاطِه" وإن كان مُسْنداً في المعنى إلى أنفسهم، كانت "مِنْ" أيضاً في موضعِ نصبٍ؛ صفة لتثبيتاً".
قال الزمخشريُّ: "فإنْ قُلْتَ: فما معنى التبعيضُ؟ قلتُ: معناه أنَّ مَنْ بَذَلَ مالَه لوجه الله تعالى، فقد ثَبَّتَ بعض نفسه، ومَنْ بَذَلَ روحَه، وماله معاً، فقد ثَبَّت نفسَه كُلَّها". قال أبو حيان: "والظاهرُ أنَّ نفسَه هي التي تُثَبِّته، وتَحْمِله على الإِنفاق في سبيل الله، ليس له مُحرِّكٌ إلا هي؛ لما اعتقدته من الإِيمانِ والثواب" يعني: فيترجَّحُ أنَّ التثبيتَ مسندٌ في المعنى إلى أنفسهمِ. والابتغاءُ: افتعالٌ من بغيتُ، أي: طلبتُ، وسواءٌ قولك: بغيتُ، وابتغَيْتُ.
فصلٌ
معنى قوله: { ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللهِ }، أي: طلب رضى الله "وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ" قال قتادة: احتساباً.
وقال الشعبيُّ، والكلبيُّ: تصديقاً من أنفسهم، أي: يخرجون الزكاة طيبةً بها أنفسهم، على يقين الثواب، وتصديقٍ بوعد الله، ويعلمون أَنَّ ما أخرجوا خيرٌ لهم مما تركوا، وقيل: على يقينٍ بإِخلافِ الله عليهم.
وقال عطاءٌ، ومُجاهدٌ: يتثبتون، أي: يضعونَ أَموالهُم.
قال الحسن: كان الرجل إذا همّ بصدقةٍ يتثبت، فإن كان لله، أَمضى، وإن كان يخالطه شكٌّ، أمسك، ثم إنه تعالى لمَّا بين أن غرضهم من الإنفاق هذان الأَمران، ضرب الإِنفاق مثلاً، فقال: { كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ }.
قال القرطبي: الجنة هي البستانُ، وهي قطعة أرض تَنْبُت فيها الأشجار، حتى تُغطيها، مأخوذةٌ من لفظِ الجنّ والجنين، لاستتارهم.
قوله: "بِرَبْوَةٍ" في محلِّ جرٍّ؛ لأنه صفةٌ لجنة. والباءُ ظرفيةٌ بمعنى "في"، أي: جنةٍ كائنةٍ في ربوةٍ. والربوةُ: أرضٌ مرتفعةٌ طيبةٌ، قاله الخليلُ. وهي مشتقةٌ من: رَبَا يَرْبُو، أي: ارتفَع، وتفسيرُ السدّيِّ لها بما انخفض من الأرض ليس بشيءٍ. ويقال: رَبْوةٌ ورَباوَةٌ، بتثليثِ الراءِ فيهما، ويُقال - أيضاً -: رابيةٌ، قال القائل: [الطويل]

1221- وَغَيْثٍ مِنَ الوَسْمِيِّ حُوِّ تلاَعُهُ أَجَابَتْ رَوَابِيهِ النِّجَاءَ هَوَاطِلُهْ

وقرأ ابن عامرٍ، وعاصم: "رَبْوَة" بالفتح، والباقون: بالضمِّ، قال الأخفشُ: "وَنَخْتَارُ الضمَّ؛ لأنه لا يكاد يُسْمع في الجمع إلا الرُّبا" يعني فدلَّ ذلك على أن المفرد مضمومُ الفاءِ، نحو بُرمة، وبُرَم، وصورة، وصُوَر. وقرأ ابن عباسٍ: "رِبْوَة" بالكسر، [والأشهب] العقيلي: "رِبَاوة"، مثل رسالة، وأبو جعفر: "رَبَاوة" مثل كراهة، وقد تقدَّم أنَّ هذه لغاتٌ.
فصلٌ
تقدم أَنَّ الربوة: هي المرتفع من الأَرض، ومنه الرابيةُ، لأن أجزاءها ارتفعت ومنه الرَّبو إذا أصابه نفسٌ في جوفه زائِدٌ، ومنه الرِّبا؛ لأنه الزيادةُ قال المفسِّرون: إِن البُستان إذا كان في ربوةٍ من الأَرضِ، كان أحسنَ، وأكثر ريعاً.
قال ابن الخطيب: وفيه إشكالٌ: وهو أن البُستان إذا كان في موضع مرتفع من الأَرض، فلا ترتفع إليه الأَنهارُ، وتضر به الرياحُ كثيراً؛ فلا يحسنُ ريعه وإذا كان في وهدةٍ من الأرض، انصبت إليه مياه الأَنهار، ولا يصل إليه إثارة الرياح، فلا يحسن أيضاً ريعه فإذن البستان إنما يحسن ريعه إذا كان على الأرض المستوية التي لا تكون ربوةً، ولا وهدةً فإذن ليس المرادُ من هذه الربوة، ما ذكروه، بل المراد منه كونُ الأَرضِ طيناً حُرّاً بحيث إذا نزل المطرُ عليها، انتفخ وربا ونما، فإن الأرض متى كانت بهذه الصفة يكثر ريعها، وتكمل أشجارها، ويؤيد هذا التأويل قوله تبارك وتعالى:
{ وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } [الحج:5] والمرادُ من ربوها ما ذكرنا، فكذا هاهنا.
وأيضاً فإنه تبارك وتعالى ذكر هذا المثل في مقابلة المثل الأَول، وهو الصَّفوان الذي لا يؤثر فيه المطر، ولا يربو، ولا ينمُو؛ بسبب نزول المطر عليه، فكان المرادُ بالربوةِ في هذا المثل كون الأَرض بحيثُ تربُو، وتنمُو والله أعلم.
قال ابن عطيَّة: ورياضُ الحزن ليست من هذا، كما زعم الطبريُّ؛ بل تلك هي الرياضُ المنسوبةُ إلى نجد؛ لأنها خيرٌ من رياض تهامة ونباتُ نجدٍ أَعطرُ، ونسيمهُ أبردُ وأرقُّ، ونجد يقال لها حزن وقلَّما يصلح هواء تهامة إلاَّ بالليل، ولذلك قالت الأَعرابية: "زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَة".
قوله: { أَصَابَهَا وَابِلٌ } هذه الجملةُ فيها أربعةُ أوجهٍ:
أحدها: أنها صفةٌ ثانيةٌ لجنة، هنا بالوصفِ بالجارِّ والمجرور، ثم بالجملةِ؛ لأنه الأكثرُ في لسانهم؛ لقُرْبهِ من المفرد، وبُدئ بالوصفِ الثابتِ المستقرِّ وهو كونها بربوة، ثم بالعارض، وهو إصابةُ الوابل. وجاء قوله في وصفِ الصَّفوانِ بقوله: "عَلَيْهِ تُرَابٌ" ثم عطف على الصفةِ "فأَصابه وابلٌ" وهنا لم بعطفِ بل أَخرج صفةً.
والثاني: أن تكونَ صفةً لـ "رَبْوَة".
قال أبو البقاء: "لأنَّ الجنةَ بعضُ الرَّبْوَة" كأنه يعني أنه يلزمُ من وصفِ الربوة بالإِصابة، وصفُ الجنَّةِ به.
الثالث: أن تكون حالاً من الضميرِ المستكنِّ في الجارِّ؛ لوقوعهِ صفةً.
الرابع: أن تكونَ حالاً من "جنة"، وجاز ذلك؛ لأنَّ النكرة قد تخَصَّصت بالوصفِ.
قوله: { فَآتَتْ أُكُلَهَا } أي أعطت و "أكلها" فيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: وهو الأصحُّ أنَّ "آتَتْ" تتعدَّى لاثنين، حذف أولهما وهو "صاحبها"، أو "أهلها". والذي حسَّن حذفه، أنَّ القصدَ الإِخبارُ عمَّا تُثْمِرُ، لا عمَّن تُثْمَرُ له؛ ولأنه مقدرٌ في قوله: "كَمَثَلِ جَنَّةٍ" أي: غارس جَنَّةٍ، أو صاحب جنةٍ؛ كما تقدَّم. و "أُكُلَها" هو المفعول الثاني. و "ضِعْفَيْن" نصبٌ على الحالِ من "أُكُلَها".
والثاني: أَنَّ "ضِعْفَيْن" هو المفعول الثاني، وهذا غَلَطٌ.
والثالث: أنَّ "آتَتْ" هنا بمعنى أَخرجت، فهو متعدِّ لمفعولٍ واحدٍ. قال أبو البقاء: "لأنَّ معنى "آتَتْ": أَخْرَجَتْ، وهو من الإِتاءِ، وهو الرَّيع". قال أبو حيان: "لاَ نَعْلَم ذلك في لسان العرب". ونسبةُ الإِتَاءِ إليها مجازٌ.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو "أُكْلَها" بضمِّ الهمزة، وسكونِ الكافِ، وهكذا كلُّ ما أُضيف من هذا إلى مؤنثٍ، إلاَّ أبا عمرو، فإنه يُثَقِّل ما أُضيف إلى غير ضمير، أو إلى ضمير المذكر، والباقون: بالتثقيل مطلقاً، وسيأتي إيضاحُ هذا كلّه. والأُكُلُ بالضم: الشيءُ المأكولُ والأَكلةُ في المعنى مثل الطّعمة؛ وأنشد الأخفش: [الطويل]

1222- فَمَا أَكْلَةٌ إِنْ نِلْتُهَا بغَنِيمَةٍ وَلاَ جَوْعَةٌ إِنْ جُعْتُهَا بغرَامِ

وقال أبو زيدٍ: يقال: إنه لذو أكلٍ، إذا كان له حظٌّ من الدنيا. وبالفتح مصدرٌ، وأُضيف إلى الجنَّةِ؛ لأنها محلُّهُ أو سببهُ ومعنى "ضِعْفَيْنِ" أي: ضَعُفَتْ في الحملِ؛ لأن ضعفَ الشيءِ مثله زائداً عليه، وقيل: ضِعفُ الشيء مِثْلاهُ.
قال عطاءٌ: حملت في سنةٍ من الرَّيع ما يحملُ غيرها في سنتين.
وقال عكرمة: حملتْ في السنة مرَّتين.
وقال الأَصمُّ: ضِعْفَ ما يكونُ في غيرها.
قوله: { فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ }. الفاءُ: جواب الشرطِ، ولا بُدَّ من حذفٍ بعدها؛ لتكمل جملة الجواب. واختلف في ذلك على ثلاثة أوجه:
فذهب المبردُ إلى أنَّ المحذوف خبرٌ، وقوله: "فَطَلٌّ" مُبتدأٌ، والتقديرُ: "فَطَلٌّ يصيبها". وجاز الابتداءُ هنا بالنكرةِ؛ لأنها في جوابِ الشرطِ، وهو من جملةِ المُسَوِّغات للابتداءِ بالنكرةِ، ومن كلامهم: "إِنْ ذَهَبَ عَيْرٌ، فَعَيْرٌ في الرِّباطِ".
والثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: فالذي يُصيبها طلٌّ.
والثالث: أنه فاعلٌ بفعلٍ مضمرٍ؛ تقديره: فيُصيبها طلٌّ، وهذا أَبْيَنُها.
إلاَّ أنَّ أبا حيَّان قال - بعد ذكر الثلاثة الأَوجه - "والأَخير يحتاجُ فيه إلى حذف الجملة الواقعةِ جواباً، وإبقاءِ معمولٍ لبعضها؛ لأنه متى دخلت الفاءُ على المضارع، فإنما هو على إضمارِ مُبتدأ؛ كقوله:
{ { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللهُ مِنْهُ } [المائدة:95] [أي: فهو يَنْتقمُ]، فكذلك يحتاج إلى هذا التقدير هنا، أي: فهي، أي: الجنةُ يُصيبها طلٌّ، وأمَّا في التقديرين السابقين، فلا يحتاجُ إِلاَّ إلى حذف أحد جُزْئي الجملة". قال شهاب الدِّين: وفيما قاله نظرٌ؛ لأنَّا لا نُسلِّم أن المضارع بعد الفاءِ الواقعةِ جواباً يحتاجُ إلى إضمار مبتدأ. ونظيرُ الآية قول امرئ القيس: [الوافر]

1223- أَلاَ إِنْ لاَ تَكُنْ إِبِلٌ فَمِعْزَى كَأَنَّ قُرُونَ جِلَّتِهَا العِصِيُّ

فقوله: فَمِعْزَى" فيه التقاديرُ الثلاثةُ.
وادَّعى بعضهم أنَّ في هذه الآية الكريمة تقديماً وتأخيراً، والأصلُ: "أصابها وَابِلٌ، فإنْ لَمْ يُصِبْها وَابِلٌ فَطَلٌّ فآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ" حتى يُجْعَلَ ايتاؤها الأُكُلَ ضعفينِ على الحالين: من الوَابِلِ، والطَّلِّ، وهذا لا حاجة إليه؛ لاستقامةِ المعنى بدونِه، والأصلُ عدمُ التقديم والتأخير، حتى يخُصُّه بعضهم بالضرورةِ.
والطَّلُّ: المُسْتَدَقُّ من القَطْرِ الخَفِيف وقال مجاهدٌ: "هو النَّدَى" وهذا تَجَوُّزٌ منه؛ ويقال: طلَّه النَّدى وأَطَلَّه أيضاً؛ قال: [الطويل]

1224- وَلَمَّا نَزَلْنَا مَنْزِلاً طَلَّهُ النَّدَى .......................

ويُجمع "طَلٌّ" على طِلال؛ نقول: طُلَّت الأَرضُ، وأَطلها النَّدى فهي مطلولةٌ قال الماوردي: وزرعُ الطَّلِّ أضعفُ مِنْ زرع المطرِ، وأقلُّ ريعاً.
فصلٌ
هذا مثلٌ ضربه اللهُ تعالى؛ لعمل المؤمن المخلص، فيقول: كما أنَّ هذه الجنة تريع في كل حالٍ، ولا تُخلفُ سواء قلَّ المطرُ أو كثُر؛ كذلك يُضعِّف اللهُ صدقةَ المؤمن المخلص الذي لا يَمنّ، ولا يُؤذي سواءٌ قلَّت نفقته أو كثرت، وذلك أن الطَّلَّ إذا كان يدومُ، يعملُ عمل الوابل الشديد.
وقيل: معناه إن لم يُصبها وابلٌ حتى تضاعف ثمرتها، فلا بُدَّ وأَنْ يصيبها طلٌّ يُعْطي ثمراً دون ثمر الوابل، فهي على كُلِّ حالٍ لا تخلو من ثمرة، فكذلك من أخرج صدقةً لوجه الله تعالى، لا يضيع كسبه؛ قليلاً كان، أو كثيراً.
قوله: { وَٱللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } هذا وعدٌ، ووعيدٌ.
قرأ الجمهور: تعملون خطاباً وهو واضحٌ، فإنه من الالتفاتِ من الغَيْبة إلى الخطابِ الباعث على فعلِ الإِنفاقِ الخالصِ لوجه اللهِ تعالى، والزاجر عن الرياءِ والسُمعة. وقرأ الزهري: بالياء على الغيبة، ويحتمل وجهين:
أحدهما: أن يعودَ على المُنفقين.
والثاني: أن يكون عاماً فلا يخُصُّ المنفقين، بل يعودُ على الناسِ أجمعين؛ ليندرجَ فيهم المنفقونَ اندِراجاً أولياً.
والمراد من البصير: العليمُ، أي: هو تبارك وتعالى عالمٌ بكمية النفقاتِ وكيفيتها والأمور الباعثة عليها، وأنه تعالى يجازي بها.