التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَٰواْ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ
٢٧٨
فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَٰلِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ
٢٧٩
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

اعلم أنه تعالى لمَّا بيَّن في الآية المتقدمة أنَّ من انتهى عن الربا، فله ما سلف؛ فقد يظنُّ أنه لا فرق بين المقبوض منه، وبين الباقي في ذمَّة الغريم، فبين في هذه الآية الكريمة بقوله: { وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَٰوا } أي: الذي لم يقبض فالزيادة حرامٌ، وليس لهم أن يأخذوا إلاَّ رؤوس أموالهم، فقال: { ٱتَّقُواْ ٱللهَ } والاتقاء إنما يكون باتقاء ما نهى عنه، { وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَٰوا } يعني: إن كنتم قد قبضتم منه شيئاً، فيعفو عنه، وإن لم تقبضوه أو لم تقبضوا بعضه، فالذي لم يقبض حرامٌ قبضه، وهذه الآية دليلٌ على أحكام الكفَّار إذا أسلموا؛ لأن ما مضى في زمن الكفر، فإنه لا ينقض، ولا يفسخ، وما لم يوجد منه شيء في حال الكفر، فحكمه حكم الإسلام، فإذا تناكحوا على ما يجوز عندهم، ولا يجوز في الإسلام فمعفوٌّ عنه، وإن وقع على مهرٍ حرامٍ، وقبضته المرأة، فقد مضى، وليس لها شيءٌ، وإن لم تقبضه فلها مهر مثلها دون المسمى.
قوله تعالى: { وَذَرُواْ }: فتحت العين من "ذَرْ" حملاً على "دَعْ"، إذ هو بمعناه، وفتحت في "دَعْ"؛ لأنه أمرٌ من "يَدَعُ"، وفتحت من "يَدَعُ"، وإن كان قياسها الكسر؛ لكون الفاء واواً؛ [كيَعِدُ] لكون لامه حرف حلقٍ.
ووزن" ذَرُوا": علوا؛ لأنَّ المحذوف الفاء لا يستعمل منه ماضٍ إلاَّ في لغيَّة، وكذلك "دَعْ".
وقرأ الحسن: "مَا بَقَى" بقلب الكسر فتحةً، والياء ألفاً، وهي لغةٌ لطَيِّىءٍ، ولغيرهم؛ ومنه قول علقمة: [الطويل]

1263- زَهَا الشَّوْقُ حَتَّى ظَلَّ إِنْسَانُ عَيْنِهِ يَفِيضُ بِمَغْمُورٍ مِنَ الدَّمْعِ مُتْأَقِ

وقال آخر: [الوافر].

1264- وَمَا الدُّنْيَا بِبَاقَاةٍ عَلَيْنَا وَمَا حَيٌّ عَلَى الدُّنْيَا بِبَاقِ

ويقولون في الناصية: ناصاةٌ. وقرأ الحسن أيضاً: "بَقِيْ" بتسكين الياء، قال المبرد: "تسكين ياء المنقوص في النصب من أحسن الضرورة، هذا مع أنَّه معربٌ، فهو في الفعل الماضي أحسنُ" قال شهاب الدين: وإذا كانوا قد حذفوها من الماضي صحيح الآخر، فأولى من حرف العلة، قال: [مجزوء الرمل]

1265- إِنَّمَا شِعْرِيَ قَيْدٌ قَدْ خُلِطْ بِجُلْجُلانِ

وقال جرير في تسكين الياء: [البسيط]

1266- هُوَ الخَلِيفَةُ فَارْضُوا مَا رَضِيْ لَكُمُ مَاضِي العَزِيمَةِ مَا فِي حُكْمِهِ جَنَفُ

وقال آخر: [الطويل]

1267- لَعَمْرُكَ لاَ أَخْشَى التَّصَعْلُكَ مَا بَقِيْ عَلَى الأَرْضِ قَيْسِيٌّ يَسُوقُ الأَبَاعِرَا

قوله: { مِنَ ٱلرِّبَٰوا } متعلِّقٌ ببقي، كقولهم: "بَقِيَتْ منه بقيةٌ"، والذي يظهر أنه متعلقٌ بمحذوفٍ؛ على أنه حال من فاعل "بقَى"، أي: الذي بقي حال كونه بعض الربا، فهي تبعيضيةٌ.
ونقل ابن عطية هنا أنَّ العدويَّ - وهو أبو السَّمَّال - قرأ "مِنَ الرِّبُو" بتشديد الراء مكسورة، وضمِّ الباء بعدها واوٌ. قال شهاب الدين: قد تقدم أنَّ أبا السَّمَّال إنما قرأ "الرِّبَا" في أول الآية الكريمة بواوٍ بعد فتحة الباء، وأنَّ أبا زيدٍ حكى عن بعضهم: أنه ضمَّ الباء، وقدَّمت تخريجهما على ضعفه.
وقال ابن جنِّي: "شَذَّ هَذَا الحَرْفُ في أمرين:
أحدهما: الخروج من الكسر إلى الضم بناءً لازماً.
والآخر: وقوع الواو بعد الضمة في آخر الاسم، وهذا شيء لم يأت إلاَّ في الفعل؛ نحو: يغزو ويدعو، وأمَّا "ذو" الطائية بمعنى الذي فشاذةٌ جداً، ومنهم من يغيِّر واوها، إذا فارق الرفع، فيقول: "رأيتُ ذَا قَامَ".
ووجه القراءة أنه لمَّا فخَّم الألف انتحى بها الواو التي الألف بدل منها، على حدِّ قولهم: الصَّلاة والزكاة، وهي بالجملة قراءة شاذةٌ". قال شهاب الدين: غيره يقيِّد هذه العبارة، فيقول: "ليس في الأسماء المعربة واو قبلها ضمة" حتى يخرج عنه "ذُو" بمعنى الذي، و "هو" من الضمائر، وابن جنِّي لم يذكر القيد استثناء "ذو الطائية" ويرد عليه نحو "هو"، ويرد على العبارة "ذُو" بمعنى صاحب؛ فإنَّها معربةٌ في آخرها واوٌ بعد ضمةٍ.
وقد أجيب عنه بأنها تتغيَّر إلى الألف والياء فلم يبال بها، وأيضاً فإنَّ ضمة الدَّال عارضةٌ، إذ أصلها الفتح، وإنما ضمَّت؛ إتباعاً على ما تقرر في إعراب الأسماء الستة في كتب النحو.
وقله: "بناءً لازماً" تحرُّزٌ من وجود الخروج من كسرٍ إلى ضمٍّ، بطريق العرض؛ نحو: الحِبُك؛ فإنه من التداخل، ونحو: الرِّدُءْ" موقوفاً عليه، فالخروج من كسرٍ إلى ضمٍّ في هاتين الكلمتين، ليس بلازمٍ.
وقوله: "مِنْهُمْ مَنْ يغيِّرُ واوَها" المشهور بناؤها على الواو مطلقاً، وقد تعرب؛ كالتي بمعنى صاحب؛ وأنشدوا: [الطويل]

1268- فَإِمَّا كِرَامٌ مُوسِرُونَ لَقِيتُهُمْ فَحَسْبِيَ مِنْ ذِي عِنْدَهُمْ مَا كَفَانِيَا

ويروى: "مِنْ ذُو" على الأصل.
فصل
قوله: { إِن كُنْتُمْ } شرطٌ، وجوابه محذوفٌ عند الجمهور، أي: فاتَّقوا، وذروا، ومتقدِّم عند جماعةٍ، وقيل: "إِنْ" هنا بمعنى إذ؛ وهذا مردودٌ.
فإن قيل: كيف قال { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَاآمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللهَ } ثم قال { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } فالجواب من وجوهٍ:
الأول: أن هذا كما يقال إن كنت أخي فأكرمني، معناه: إِنَّ من كان أخاً، أكرم أخاه.
الثاني: أنَّ معناه إن كنتم مؤمنين قبله، أي: معترفين بتحريم الرِّبا.
الثالث: إن كنتم تريدون استدامة حكم الإيمان.
الرابع: يا أيُّها الذين آمنوا، بلسانهم، ذروا ما بقي من الرِّبا إن كنتم مؤمنين بقلوبكم.
الخامس: ما تقدم أنَّ "إن" بمعنى "إذْ".
فصل في سبب النزول
في سبب النزول رواياتٌ:
الأولى: أن أهل مكة كانوا يرابون، فلما أسلموا عند فتح مكة، أمرهم الله تعالى بهذه الآية، أن يأخذوا رؤوس أموالهم دون الزيادة.
الثانية: قال مقاتلٌ: نزلت في أربعة إخوةٍ من ثقيف: مسعودٍ، وعبد [ياليل]، وحبيبٍ، وربيعة، وهم بنو عمرو بن عمير بن عوف الثقفي، كانوا يداينون بنى المغيرة بن عبد الله بن عمير بن مخزومٍ وكانوا يرابون. فلما ظهر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على الطائف، أسلم هؤلاء الإخوة، فطلبوا رباهم من بنى المغيرة. فقال بنو المغيرة: والله ما نعطي الرِّبا في الإسلام، وقد وضعه الله تعالى عن المؤمنين، فاختصموا إلى عتَّاب بن أسيد، فكتب عتَّابٌ - وكان عامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقصة الفريقين، وكان ذلك مالاً عظيماً؛ فنزلت الآية.
الثالثة: قال عطاء، وعكرمة: نزلت في العباس بن عبد المطَّلب، وعثمان بن عفَّان - رضي الله عنهما - وكانا قد أسلفا في التمر، فلما حضر الجذاذ، قال لهما صاحب التمر: إن أنتما أخذتما حقكما، لا يبقى لي ما يكفي عيالي! فهل لكما أن تأخذا النصف، وتؤخِّرا النّصف؛ وأضعف لكما؟ ففعلا، فلما جاء الأجل، طلبا الزيادة، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنهاهما فأنزل الله هذه الآية؛ فسمعا وأطاعا وأخذا رؤوس أموالهما.
الرابعة: قال السُّدِّيُّ: نزلت في العباس، وخالد بن الوليد، وكانا شريكين في الجاهلية، يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عميرٍ، وناسٍ من ثقيف، فجاء الإسلام ولهما أموالٌ عظيمةٌ في الربا؛ فأنزل الله هذه الآية. فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في "حجةِ الوَدَاعِ" في خطبته يوم عرفة
"أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِي مَوْضُوعٌ، ودِمَاءُ الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وإنَّ أَوَّلَ دَم أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابنِ رَبِيعَةَ بن الحَارِثِ، كان مُسْتَرْضعاً في بني سعدٍ؛ فقَتَلَه هُذيْلٌ، وَرِبَا الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وأَوَلُّ رِباً أَضَعُ رِبَا العباسِ بنِ عَبْد المطلبِ؛ فإنه مَوْضُوعٌ كُلُّه" .
فصل
القاضي قوله: { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } يدلُّ على أنَّ الإيمان لا يتكامل إذا أصرَّ الإنسان على الكبائر، ولا يصير الإنسان مؤمناً على الإطلاق، إلاَّ إذا اجتنب كل الكبائر.
والجواب: لمَّا دلَّت الدلائل الكثيرة المذكورة في قوله تعالى:
{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } [البقرة:3] على أنَّ العمل خارج عن مسمَّى الإيمان، كانت هذه الآية محمولةً على كمال الإِيمان وشرائعه، فكان التقدير: إن كنتم عاملين بمقتضى شرائع الإيمان، وهذا وإن كان تركاً للظاهر لكنا ذهبنا إليه؛ لتلك الدلائل.
فإن قيل: كيف أمر بالمحاربة مع المسلمين؟
قلنا: هذه اللفظة قد تطلق على من عصى الله غير مستحل كما جاء في الخبر
"مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيّاً، فَقَدْ بَارَزَنِي بالمُحَارَبَةِ" ، وعن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لم يَدَع المخابرة، فليأذَن بحرب من اللهِ ورسُوله" وقد جعل كثيرٌ من المفسرين والفقهاء قوله: { { إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللهَ وَرَسُولَهُ } [المائدة:33] أصلاً في قطع الطريق من المسلمين، فثبت أن ذكر هذا النوع من التهديد مع المسلمين وارد في كتاب وسنة رسوله.
وفي الجواب عن السؤال وجهان:
الأول: أن المراد المبالغة في التهديد دون نفس الحرب.
الثاني: أن المراد منه نفس الحرب، وفيه تفصيلٌ؛ فنقول: إنّ المصرَّ على فعل الربا، إذا كان من شخص، وقدر الإمام عليه قبض عليه وأجرى فيه حكم الله من التَّعزير، والحبس إلى أن تظهر منه التوبة، وإن كان المصر ممن له عسكرٌ وشوكة، حاربه الإمام، كما يحارب الفئة الباغية، وكما حارب أبو بكرٍ - رضي الله عنه - مانعي الزكاة، وكذا القول لو اجتمعوا على ترك الأذان، وترك دفن الموتى، فإنه يفعل بهم ما ذكرناه.
وقال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - من عامل بالربا، يستتاب، فإن تاب، وإلاَّ ضرب عنقه.
والقول الثاني: أنه خطابٌ للكفار، وأن معنى قوله: { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } أي: معترفين بتحريم الربا { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } أي: فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ ٱللهِ وَرَسُولِهِ } ومن ذهب إلى هذا القول، قال: إنَّ فيه دليلاً على أنَّ من كفر بشريعة واحدةٍ من شرائع الإسلام، فهو خارجٌ من ملة الإسلام، كافرٌ كما لو كفر بجميع شرائعه.
قوله: { وَإِنْ تُبْتُمْ } فالمعنى على القول الأول: وإن تبتم عن معاملة الربا، وعلى الثاني: من استحلال الربا { فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } أي: لا تظلمون الغريم بطلب الزيادة على رأس المال { وَلاَ تُظْلَمُونَ } أي: بنقصان رأس المال.
قوله: { لاَ تَظْلِمُونَ } فيها وجهان:
أظهرهما: أنها لا محلَّ لها؛ لاستئنافها، أخبرهم تعالى بذلك، أي: لا تظلمون غيركم بأخذكم الزيادة منه، ولا تظلمون أنتم - أيضاً - بضياع رؤوس أموالكم.
والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في "لَكُمْ" والعامل ما تضمَّنه الجارُّ من الاستقرار؛ لوقوعه خبراً وهو رأي الأخفش.
وقرأ الجمهور الأول مبنيّاً للفاعل، والثاني مبنياً للمفعول. وروى أبانٌ، والمفضَّل، عن عاصم بالعكس. ورجَّح الفارسي قراءة العامة؛ بأنها تناسب قوله: "وإن تُبْتُمْ" في إسناد الفعلين إلى الفاعل، فتظلمون مبنياً للفاعل أشكل بما قبله. وقال أبو البقاءرحمه الله : يُقْرَأُ بتسميةِ الفَاعِلِ في الأوَّلِ، وترْكِ التسمية في الثاني؛ ووجهه: أنَّ منعهم من الظلم أهمُّ؛ فبدئ به، ويقرأ بالعكس، والوجه فيه: أنه قدَّم ما تطمئن به نفوسهم من نفي الظلم عنهم، ثم منعهم من الظلم، ويجوز أن تكون القراءتان بمعنى واحدٍ؛ لأنَّ الواو لا ترتِّب.