التفاسير

< >
عرض

للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٨٤
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

في كيفية النَّظم وجوه:
الأول: قال الأَصمّ: إنه تعالى لمَّا جمع في هذه السُّورة أشياءَ كثيرةً مِنْ علم الأُصُول: من دلائل التَّوحيدِ، والنُّبوةِ، والمعادِ، وبيان الشَّرائِع، والتكاليف؛ كالصلاةِ والزكاةِ، والصومِ، والحجِّ، والقِصَاصِ، والجهادِ، والحيضِ، والطَّلاَقِ، والعِدَّةِ، والصَّدَاقِ، والخُلعِ، والإِيلاءِ، والرَّضَاعةِ، والبيع، والرِّبَا، وكيفيَّةِ المُداينةِ - ختم هذه السورة بهذه الآية على سبيل التَّهديد.
قال ابن الخطيب: لمَّا كان أكملُ الصفاتِ هو العلم والقدرة عبَّرَ عن كمالِ قُدْرته بقول { للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَٰواتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } مِلكاً ومُلْكاً، وعبَّرَ عن كمال علمه، وإِحاطته بالكُلِّيَّاتِ، والجُزْئِيَّاتِ بقوله: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللهُ }، وإذا اختصَّ بكمال العلم، والقُدرة، فكل من في السموات والأرض عبيدٌ مربوبون له، وجدوا بتخليقه، وتكوينه، وهذا غاية الوعدِ للمطيعين، ونهايةُ الوعيد للمذنبين، ولهذا ختم السورة بهذه.
الثاني: قال أبو مسلم: إنه تعالى لمَّا نزَّل في آخر الآية المتقدِّمة: "إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عليمٌ"، ذكر عقيبهُ ما يجرِي مجرى الدليل العقلي فقال: { للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَٰواتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } ومعنى هذا الملك أَنَّ هذه الأشياء لمَّا كانت محدثةً، فقد وجدت بتكوينه؛ وإبداعه، ومن أتقن هذه الأفعال العجيبة الغريبة المشتمِلة على الحِكم المُتكاثرة؛ والمنافع العظيمة، فلا شَكَّ أَنَّ ذلك مِنْ أعظم الأَدِلَّة على كونه عالماً مُحيطاً بأجزائها.
الثالث: قال القاضي: إنه تعالى لمَّا أمر بهذه الوثائِق - أعني الكتابة، والإِشهادَ، والرهنَ، وكان المقصودُ من الأَمر بها صيانة الأَموالِ، والاحتياط في حفظها - بيَّن تعالى أن المقصودَ من ذلك إنما يرجع لمنفعة الخلقِ، لا لمنفعةٍ تعُودُ إليه سبحانه، فإنَّ له مُلْكَ السَّموات، والأَرضِ.
الرابع: قال الشعبيُّ، وعكرمةُ، ومجاهدٌ: إنه تعالى لما نهى عن كِتمان الشهادة، وأَوعد عليه، بيَّن أَنَّ له مُلك السمواتِ، والأَرضِ؛ فيجازِي على الكِتْمانِ، والإِظهارِ.
فصلٌ في بيان سبب النُّزُول
قال مقاتلٌ: نزلت فيمن يتولَّى الكافرين من المؤمنين، يعني: وإن تُعْلِنُوا ما في أَنفُسِكُم من ولاية الكُفَّار، أو تُسِّروه، يُحَاسِبكُم به الله، كما ذكر في سورة آل عمران
{ لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ } [آل عمران:28]، إلى أن قال: { { قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ ٱللهُ } [آل عمران:29].
وذهب الأَكثرُون إلى أنَّها عامَّةٌ.
فصلٌ
رُوِي عن ابن عبَّاسٍ؛ أنه قال: لمَّا نزلت هذه الآية،
"جاء أبو بكرٍ وعمرُ، وعبدُ الرَّحمن بن عوف، ومعاذ، وناسٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثم بركُوا على الرَّكبِ، فقالوا: يا رسُول اللهِ، كُلِّفنا من الأَعمالِ ما نُطيقُ؛ الصلاةُ، والصِّيامُ، والجِهَادُ، والصَّدَقَةُ، وقد أُنزِلت عليك هذه الآيةُ ولا نُطِيقُهَا، إنَّ أَحدنا ليُحدِّثُ نفسهُ بما لا يحبّ أن يثبتَ في قلبهِ وإنَّ له الدُّنيا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْل الكِتابينِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بل قولوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ" فَلمَّا قرأها القومُ، ذلَّتْ بهم أَنفُسُهُم، فأنزل الله في إثرها { { ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءَاآمَنَ بِٱللهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ } [البقرة:285] فمكَثُوا في ذلك حولاً، واشتدَّ ذلك عليهم، فأَنزل اللهُ - تعالى - { { لاَ يُكَلِّفُ ٱللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة:286] فَنَسَخَتْ هذه الآية، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثُوا بِهِ أَنْفُسَهُم مَا لَمْ يَعْمَلُوا أَوْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ" .
قال ابن مسعود، وابن عبَّاسٍ، وابن عمر: هذه الآية منسوخةٌ، وإليه ذهب محمَّد بن كعبٍ القرظِيّ؛ ويدُلُّ عليه ما رَوَى أَبو هريرة - رضي الله عنه - عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: قال: "إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا وَسْوَسَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ" .
وقال آخرون: الآية من باب الخبر، والنَّسخُ لا يتطرَّق إلى الأخبارِ، إنما يرِدُ على الأمرِ والنَّهي، وقوله: { يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللهُ } خبر، وهؤلاء ذكرُوا في الآيةِ وجُوهاً:
الأول: أن الخواطر الواردة على النَّفس قسمان:
منها: ما يعزمُ على فعله وإيجاده، فيكون مؤاخذاً به؛ لقوله - تعالى -:
{ { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللهُ بِٱلَّلغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } [البقرة:225]، وقال بعد هذه الآية: { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } [البقرة:286]، وقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلْفَاحِشَةُ فِي ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور:19].
ومنها: ما يخطر بالبالِ مع أَنَّ الإنسان يكرهُهَا ولا يمكنه دفعها، فهذا لا يُؤاخذُ به.
الثاني: أن كُلَّ ما كان في القلب ممَّا لا يدخُل في العملِ؛ فإنه في محلِّ العفوِ.
وقوله: { إِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } فالمرادُ منه أن يوجد ذلك العمل، إمَّا ظاهراً وإمَّا خُفيَةً، وأمَّا ما يُوجدُ في القلبِ من العزائم والإراداتِ، ولم تتَّصِل بعمل، فذلك في محلِّ العفو.
قال ابن الخطيب: وهذا ضعيفٌ؛ لأن أكثر المُؤاخذاتِ إنَّما تكون بأفعالِ القُلُوبِ؛ ألا ترى أنَّ اعتقادَ الكُفْرِ والبدَع إِلاَّ مِنْ أَعمال القُلُوبِ، وأعظم أَنواع العِقَابِ مُتَرتِّبٌ عليه.
وأيضاً: فأفعالُ الجوارح إذا خلت عن أفعال القُلُوبِ، لا يترتَّب عليها عقابٌ؛ كأفعال النَّائِمِ والسَّاهي.
الثالث: قال الحسن: كُلُّ من أسرَّ عملاً أو أَعْلَنهُ من حركةٍ من جوارحه، أو همّةٍ في قلبه، إِلاَّ يُخْبرُه الله به ويُحاسبُه عليه، ثم يغفِر ما يشاءُ ويُعذِّب من يشاء؛ لأن الله - تعالى - أَثبت للقلبِ كسباً؛ فقال:
{ { وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } [البقرة:225].
الرابع: أن الله - تعالى - يُحاسِبُ خلقهُ بجميع ما أَبدوا من أعمالهم أو أخفوهُ، ويُعاقِبُهُم عليه، غير أنَّ معاقبَتَهُ على ما أَخفوهُ ممَّا يعملُوه هو ما يحدث لهم في الدُّنيا من الهَمِّ والغَمِّ والمصائِبِ، والأُمُور التي يحزنزن عليها.
روى الضَّحَّاك
"عن عائشة - رضي الله عنها -: قالت: سألت رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ما حدَّث العبد به نفسهُ من شرٍّ كانت مُحاسبةُ الله - تعالى - عليه، فقال: يا عائشة، هذه مُعاتَبةُ الله - عزّ وجلّ - العبد بما يُصيبُهُ من الحُمَّى والنّكبة، حتَّى الشَّوكة والبضاعة يضعُهَا في كُمِّهِ فيفقدها فيرُوعُ لها فيجِدُها في ضِبْنه حتَّى إنَّ المؤمن ليخرُجُ من ذُنُوبه؛ كما يخرج التِّبرُ الأحمرُ من الكِير."
وعن أنس بن مالكٍ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِه الخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ العُقُوبَةَ في الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِه الشَّرَّ أَمْسَك عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوافِيَهُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ" .
فإن قيل: كيف تحصل المُؤَاخذةُ في الدُّنيا مع قوله: { { ٱلْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَـسَبَتْ } [غافر:17].
قلنا: هذا خاصٌّ، فيُقدَّمُ على ذلك العامِّ.
الخامس: أنه - تعالى - قال: "يُحَاسِبْكُم" ولم يَقُل "يُؤَاخِذْكُم" وقد ذكرنا في معنى كونه حسيباً ومُحَاسباً وجوهاً كثيرة، ومن جملتها كونه عالماً بها، فيرجعُ معنى الآية إلى كونه عالماً بكُلِّ ما في الضَّمائر والسَّرائر.
والمرادُ من المُحاسبة: الإِخبار والتَّعريفُ.
ومعنى الآية: وَإِنْ تُبْدُوا مَافِي أَنْفُسِكُمْ فتعملُوا به أَوْ تُخْفُوهُ ممَّا أضمرتم ونويتم، يحاسبكم به الله، ويُخبركم به، ويُعرفكم إيَّاه ثم يغفر للمؤمنين إظهاراً لفضله، ويعذِّب الكافرين إظهاراً لعدلِهِ.
وهذا معنى قول الضَّحَّاك، ويُروَى عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -؛ يدلُّ عليه أَنَّهُ قال: { يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللهُ } ولم يَقُلْ: "يُؤَاخِذْكُمْ"، والمُحاسبةُ غير المُؤَاخذة.
ورُوِي عن ابن عبَّاسٍ أنه - تعالى - إذا جمع الخلائق يُخْبَرهم بما كان في نفوسهم، فالمُؤْمِنُ يُخبِرهُ ويعفو عنه، وأهل الذُّنُوب يُخبرهم بما أَخفوا من التَّكذِيب والذَّنب روى صفوان بن محرز قال: كُنتُ آخِذاً بيد عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - فأتاهُ رجلٌ، فقال: كيف سمعتَ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في النَّجوى؟ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"إِنَّ اللهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ يَسْتُرُه من النَّاسِ، فيقُولُ: أي عَبْدِي، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا وَكَذَا؟ فيقولُ: نَعَمْ أي ربِّ، ثم يقُول: أي رَبِّ، حتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى في نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ، قال: فَإِنِّي قد سترتُها عليك في الدُّنيا وقد غَفَرْتُهَا اليَوْمَ، ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ [بِيَمِينِهِ]، وأَمَّا الكافِرُ والمُنَافِقُ فَيقُولُ الأَشهادُ هؤلاءِ الَّذِين كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ" .
السادس: أنه - تعالى - قال: { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } فيكون الغُفرانُ لمن كان كارِهاً لورُودِ تلك الخواطِرِ، والعَذَابُ إن كان مُصِرّاً على تِلك الخواطِرِ مستحسِناً لها.
السابع: المراد كتمان الشَّهادة؛ وهذا ضعيفٌ، لعُموم اللَّفظ.
قوله تعالى: "فَيَغْفِرُ": قرأ ابن عامر وعاصمٌ برفع "يَغْفِرُ" و "يُعَذِّبُ"، والباقون من السبعةِ بالجزم، وقرأ ابن عباس والأعرجُ وأبو حيوة: "فَيَغْفِرَ" بالنصب.
فأمَّا الرفعُ: فيجوزُ أَنْ يكونَ رفعُه على الاستئنافِ، وفيه احتمالان:
أحدهما: أن يكونَ خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: فهو يَغْفِرُ.
والثاني: أنَّ هذه جملةٌ فعليةٌ من فعلٍ وفاعلٍ، عُطِفت على ما قبلها.
وأمَّا الجزمُ فللعطفِ على الجزاءِ المجزوم.
وأمَّا النصبُ: فبإضمار "أَنْ"، وتكونُ هي وما في حَيِّزها بتأويلِ مصدرٍ معطوف على المصدر المتوهَّم من الفعلِ قبل ذلك، تقديره: تكنْ محاسبةُ، فغفرانٌ، وعذابٌ. وقد رُوي قولُ النابغة بالأوجه الثلاثة، وهو: [الوافر]

1302 - فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ رَبيعُ النَّاسِ وَالبَلَدُ الحَرَامُ
ونَأْخُذْ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ أَجَبَّ الظَّهْر لَيْسَ لَهُ سَنَامُ

بجزم: "نَأْخُذْ" عطفاً على "يَهْلِكْ رَبِيعُ" ونصبه ورفعِه، على ما ذُكِرَ في "فَيَغْفِرْ" وهذه [قاعدة مطَّرِدة، وهي أنه إذا وقع بعد جزاء الشرط فعلٌ بعد فاءٍ أو واوٍ جاز فيه هذه] الأوجُهُ الثلاثةُ، وإن توسَّطَ بين الشرطِ والجزاءِ، جاز جزمه ونصبه وامتنع رفعه، نحو: إِنْ تَأْتِنِي فَتَزُرْنِي أَوُ فَتَزُورَنِي، أَوْ وَتَزُرْني أَوْ تَزُورَنِي.
وقرأ الجعفي وطلحة بن مصرِّف وخلاَّد: "يَغْفِرْ" بإسقاط الفاء، وهي كذلك في مصحف عبد الله، وهي بدلٌ من الجواب؛ كقوله تعالى:
{ { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ ٱلْعَذَابُ } [الفرقان:68-69]. وقال أبو الفتح: "وهي على البدلِ من "يُحاسِبْكُمْ"، فهي تفسيرٌ للمحَاسَبَة" قال أبو حيان: "وليس بتفسيرٍ، بل هما مترتِّبان على المُحَاسَبَةِ". وقال الزمخشريُّ: "ومعنى هذا البدلِ التفصيلُ لجملة، الحساب؛ لأنَّ التفصيلَ أوضحُ من المفصَّل، فهو جارٍ مجرى بدل البعض من الكلِّ أو بدل الاشتمال؛ كقولك: "ضَرَبْتُ زَيْداً رَأْسَهُ" و "أَحْيَيْتُ زَيْداً عَقْلَهُ"، وهذا البدلُ واقعٌ في الأفعالِ وقوعَه في الأسماءِ؛ لحاجةِ القبلتينِ إلى البيان".
قال أبو حيان: وفيه بعضُ مناقشةٍ: أمَّا الأولُ؛ فقوله: "معنَى هذا البدلِ التفصيلُ لجملةِ الحسابِ"، ولس العذابُ والغفرانُ تفصيلاً لجملةِ الحسابِ؛ لأنَّ الحِسَابَ إنما هو تعدادُ حسناتِه وسيئاتِه وحصرُها، بحيث لا يَشُذُّ شيءٌ منها، والغفرانُ والعذابُ مترتِّبان على المُحاسَبَة، فليست المحاسبةُ مفصَّلةً بالغفرانِ والعذابِ. وأمَّا ثانياً؛ فلقوله بعد أَنْ ذكر بدل البعض من الكل وبدل الاشتمال: "وهذا البدلُ واقعٌ في الأفعالِ وقوعَه في الأسماءِ لحاجةِ القبيلَين إلى البيان"، أمَّا بدلُ الاشتمال، فهو يمكن، وقد جاءَ؛ لأنَّ الفعلَ يدُلُّ على الجنسِ، وتحته أنواعٌ يشتملُ عليها، ولذلك إذا وقع عليه النفيُ، انتفَتْ جميعُ أنواعه، وأمَّا بدلُ البعضِ من الكلِّ، فلا يمكنُ في الفعل إذ الفعلُ لا يقبلُ التجزُّؤَ؛ فلا يقال في الفعلِ له كلٌّ وبعضٌ، إلا بمجازٍ بعيدٍ، فليس كالاسم في ذلك، ولذلك يستحِيلُ وجودُ [بدل] البعضِ من الكلِّ في حق الله تعالى؛ إذ الباري لا يتقسَّم ولا يتبعَّض.
قال شهاب الدين: ولا أدري ما المانعُ من كونِ المغفرة والعذابِ تفسيراً، أو تفصيلاً للحساب، والحسابُ نتيجتُه ذلك، وعبارةُ الزمخشريِّ هي بمعنى عبارة ابن جنِّي، وأمَّا قوله: "إِنَّ بدلَ البعضِ من الكلِّ في الفعْلِ متعذِّرٌ، إذ لا يتحقَّق فيه تجزُّؤٌ"، فليس بظاهرٍ؛ لأنََّ الكليةَ والبعضيةَ صادقتان على الجنس ونوعه، فإنَّ الجنسَ كلٌّ، والنوعَ بعضٌ، وأمَّا قياسُه على الباري تعالى، فلا أدري ما الجامع بينهما؟ وكان في كلام الزمخشريُّ ما هو أولى بالاعتراض عليه. فإنه قال: وقرأ الأعمش: "يَغْفِر" بغير فاءٍ مجزوماً على البدلِ من "يُحَاسِبْكُمْ"؛ كقوله: [الطويل]

1303- مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تَأَجَّجَا

وهذا فيه نظرٌ؛ لأنه لا يطابق ما ذكره بعد ذلك؛ كما تقدَّم حكايتُه عنه؛ لأن البيت قد أُبدِلَ فيه من فعلِ الشرط، لا من جوابِه، والآية الكريمة قد أُبْدِلَ فيها من نفسِ الجواب، ولكنَّ الجامعَ بينهما كونُ الثاني بدلاً مِمَّا قبلَه وبياناً له.
وقرأ أبو عمرو بإدغام الراء في اللام، والباقون بإظهارها، وأظهر الباء قبل الميم هنا ابن كثير بخلافٍ [عنه]، وورشٌ عن نافع، والباقون بالإِدغام، وقد طَعَن قومٌ على قراءةِ أبي عمرٍو؛ لأنَّ إدغام الراءِ في اللام عندهم ضعيفٌ.
قال الزمخشريُّ: "فإن قلت: "كيف يَقْرأ الجَازِمُ"؟ قلت: يُظْهِر الراءَ، ويُدْغِم الباء، ومُدْغِمُ الراءِ في اللام لاحِنٌ مخطىءٌ خطأً فاحِشاً، وراويه عن أبي عمرٍو مخطىءٌ مرتين؛ لأنه يَلْحَنُ وينسُبُ إلى أعلمِ الناس بالعربية ما يُؤذِنُ بجهلٍ عظيم، والسببُ في هذه الروايات قِلَّةُ ضبطِ الرواة، وسبب قلةِ الضبطِ قلةُ الدراية، ولا يَضْبطُ نحو هذا إلا أهلُ النَّحو" قال شهاب الدين. وهذا من أبي القاسم غيرُ مرضيٍّ؛ إذ القُرَّاء معتنُونَ بهذا الشأن؛ لأنهم تَلقَّوا عن شيوخهم الحرفَ [بعد الحَرْفِ]، فكيف يقلُّ ضبطُهُم؟ وهو أمرٌ يُدْرَكُ بالحسِّ السمعيِّ، والمانعُ من إدغام الراءِ في اللام والنونِ هو تكريرُ الراءِ وقوتُها، والأقوى لا يدغم في الأضعَف، وهذا مَذهبُ البصريِّين: الخليل وسيبويه ومَنْ تبعهما، وأجاز ذلك الفراءُ والكسائيُّ والرُّؤاسيُّ ويعقوبُ الحضرميُّ ورأسُ البصريِّين أبو عمرو، وليس قوله: "إن هذه الرواية غلطٌ علَيْه" بمُسَلَّمٍ، ثم ذكر أبو حيان نقولاً عن القراء كثيرةً، وهي منصوصة في كتبهم، فلم أرَ لذكرها هنا فائدةً؛ فإنَّ مجموعها مُلَخَّصٌ فيما ذكرته، [وكيف] يقال: إنَّ الراوي ذلك عن أبي عمرو مخطىءٌ مرتين، ومن جملة رُواتِهِ اليزيديُّ إمامُ النَّحو واللغةِ، وكان يُنازعُ الكسائيُّ رئاسته، ومحلُّهُ مشهُور بين أهلِ هذا الشَّأْن.
روى طاوُس عن ابنِ عبَّاس: "فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ" الذَّنب العَظِيم "ويُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ على الذَّنْبِ الصَّغِير، لا يُسْأَلَ عمَّا يَفْعَل وهُمْ يُسْأَلُون، واللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير".
قوله: { وَٱللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } قد بيَّن بقوله تعالى: { للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَٰواتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } أنه كامل الملك والمَلَكُوتِ، وبيَّن بقوله: { إِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللّهُ } أنه كامل العِلْمِ والإحاطةِ، ثم بيَّن بقوله: { وَٱللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أنه كامِل القُدْرة، مُسْتَولٍ على كل المُمكِنَات بالقَهرِ والقُدرة والتَّكوين والإِعدام، ومن كان موصوفاً بهذه الصِّفات، يجبُ على كُلِّ عاقِلٍ أن يكون عَبْداً له مُنْقَاداً خاضِعاً لأوامرهِ ونواهِيهِ.