التفاسير

< >
عرض

قَالُواْ سُبْحَٰنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ
٣٢
قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
٣٣
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

"سبحان": اسم مصدر، وهو التسبيح، وقيل: بل هو مصدر؛ لأنه سمع له فعلٌ ثلاثيٌّ، وهو من الأسماء اللاَّزمة للإضافة، وقد يفرد، وإذا أفرد، منع الصَّرف للتعريف، وزيادة الألف والنون؛ كقوله: [السريع]

371- أَقُولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ سُبْحَانَ............................

وَقَدْ جَاءَ مُنَوَّناً كقوله: [البسيط]

372- سُبْحَانَهُ ثُمَّ سُبْحَاناً نَعُوذُ بِهِ وَقَبْلَنَا سَبَّحَ الْجُودِيُّ وَالْجُمُدُ

فقيل: صرف ضرورة.
وقيل: هو بمنزلة "قَبْلُ" و "بعدُ" إن نوي تعريفه بقي على حاله، وإن نكر أعرب منصرفاً، وهذا البيت يساعد على كونه مصدراً لا اسم مصدر، لوروده منصرفاً.
ولقائل القول الأول أن يجيب عنه بأن هذا نكرة لا معرفة، وهو من الأسماء اللازمة النصب على المصدرية، فلا ينصرف والناصب له فعل مقدر لا يجوز إظْهَاره، وقد روي عن الكَسائِيّ أنه جعله مُنَادى تقديره: يا سُبْحَانك ومنعه جمهور النحويين وإضافته - هُنَا - إلى المفعول؛ لأن المعنى: نسبحك نحن.
وقيل: بل إضافته للفاعل، والمعنى تنزّهت وتباعدت من السُّوء.
وسبحانك العامل فيه في مَحَلّ نصب بالقول.
قوله: { لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا } كقوله:
{ { لاَ رَيْبَ فِيهِ } } [البقرة:2] و "إلاّ" حرف استثناء، و "ما" موصولة، و "علمتنا" صلتها، وعائدها محذوف، على أن يكون "علم" بمعنى "معلوم"، ويجوز أن تكون مصدرية، وهي في محلّ نصب على الاستثناء، ولا يجوز أن تكون منصوبةً بالعلم الذي هو اسم "لا"؛ لأنه إذا عمل كان معرباً.
وقيل: في محلّ رفع على البَدَلِ من اسم "لا" على الموضع.
وقال ابن عطية: هو بدلٌ من خبر التبرئة كقولهم: "لا إله إلا الله"، وفيه نظر؛ لأن الاستثناء إنَّمَا هو من المحكوم عليه بقيد الحكم لا من المحكوم به.
ونقل هو عن "الزّهراوي" أن "ما" منصوبةٌ بـ "علمتنا" بعدها، وهذا غير معقول؛ لأنه كيف ينتصب الموصول بصلته وتعمل فيه؟
قال أبو حيان: إلاّ أن يتكلّف له وجه بعيد، وهو أن يكون استثناء منقطعاً بمعنى لكن، وتكون "ما" شرطية، و "علمتنا" ناصب لها، وهو في محل جزم بها، والجواب محذوف، والتقدير: "لكن ما علمتنا علمناه".
قوله: { إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ }.
فصل
الضمير يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون تأكيداً لاسم "إنَّ" فيكون منصوب المحل، وأن يكون مبتدأ، وخبره ما بعده، والجملة خبر "إنَّ"، وأن يكون فصلاً، وفيه الخلاف المشهور.
وهل له محل من الإعراب أم لا؟
وإذا قيل: إن له محلاًّ، فهل بإعراب ما قبله كما قال الفراء، فيكون في محل نصب، أو بإعراب ما بعده فيكون في محل رفع كقول الكسائي؟
قوله: "الحكيم" خبر ثانٍ أو صفة "العليم"، وهما "فعيل" بمعنى "فاعل" وفيهما من المُبالَغة ما ليس فيه.
و "الحكيم" لغة: الإتقان، والمنع من الخروج عن الإرادة، ومنه حَكَمَةُ الدابة؛ وقال جَرِيرٌ": [الكامل]

373- أَبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ أَنْ أَغْضَبَا

وقدم "العليم" على "الحكيم"؛ لأنه هو المتّصل به في قوله: "وعلم"، وقوله: "لا عِلْمَ لنا" فناسب اتصاله به؛ ولأن الحِكْمَةَ ناشئةٌ عن العلم وأثر له، وكثيراً ما تقدّم صفة العلم عليها.
والحكيم صفةُ ذاتٍ إن فسر بذي الحِكْمَةِ، وصفة فعل إن فسر بأنه المحكم لصنعته فكأن الملائكة قالت: أنت العالم بكل المعلومات، فأمكنك تعليم آدم، وأنت الحكيم في هذا الفعل المصيب فيه.
وعن "ابن عباس" أن مراد الملائكة من "الحكيم" أنه هو الذي حكم بجعل آدم - عليه الصلاة والسلام - خليفةً في الأرض.
فصل
احتج أَهْلُ الإسلام بهذه الآية على أنه لا سَبِيْلَ إلى معرفة المغيبات إلا بتعليم الله - تعالى - وأنه لا يمكن التوصُّل إليها بعلم النجوم والكهانة، ونظيره قوله تعالى:
{ { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } [الأنعام: 59] وقوله: { { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً } [الجن: 26].
قوله: { يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بأسْمَائِهِمْ }.
آدم: مبني على الضم؛ لأنه مفرد معرفة، وكل ما كان كذلك بُني على ما كان يرفع به، وهو في محلّ نصب لوقوعه موقع المَفْعول به، فإن تقديره: ادعوا آدم، وبني لوقوعه موقع المُضْمَرِ، والأصل: يا إياك كقولهم: "يَا إيَّاكَ قَدْ كَفَيْتُكَ"، و "يا أَنْتَ"؛ كقوله [الرجز]

374- يَا أَبْجَرُ بْنَ أَبْجَرٍ يَا أَنْتَا أَنْتَ الَّذِي طَلَّقْتَ عَامَ جُعْتا
قَدْ أَحْسَنَ اللهُ وَقَدْ أَسَأْتَا

و "يَا إِيَّاكَ" أقيس من "يا أنت"؛ لأن الموضع موضع نصب، فـ "إياك" أليق به، وتحرزت بالمفرد عن المضاف نحو: يا عبد الله، ومن الشبيه به، وهو عبارة عما كان الثَّانِي فيه من تمام معنى الأوّل نحو: "يا خيراً من زيد" و "يا ثلاثةً وثلاثين"، وبالمعرفة من النكرة المقصودة؛ نحو قوله: [الطويل]

375- فَيَا رَاكِباً إِمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ نَدَامَايَ مِنْ نَجْرَانَ أَنْ لاَ تَلاَقيَا

فإن هذه الأنواع الثلاثة معربة نصباً.
"أنبئهم" فعل أمر، وفاعل، ومفعول، والمشهور "أنبئهم" مهموز مضموماً، وقرىء بكسر الهاء. ويروى عن "ابن عامر"، كأنه أتبع الهاء لحركة "الباء"، ولم يعتد بـ "الهمزة"، لأنها ساكنةٌ، فهي حاجز غير حَصِيْنٍ.
وقرىء بحذف الهمزة، ورُويت عن "ابن كثير"، قال "ابن جنّيّ" هذا على إبدال الهمزة ياء، كما تقول: أنبيت كأعطيت، قال: وهذا ضعيف في اللّغة؛ لأنه بدلٌ لا تخفيف، والبدل عندنا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر.
وهذا من أبي الفَتْحِ غير مرضٍ، لأن البدل جاء في سَعَةِ الكلام، حكى "الأخفش" في "الأوسط" أنهم يقولون في أَخْطَأَت: أَخْطَيْت، وفي توضأت: توضيت.
قال: وربما حَرّكوه إلى "الواو"، وهذا قليل قالوا: "رَفَوْت" في "رَفَأْت"، ولم أسمع "رَفَيْت".
إذا تقرر ذلك، فللنحويين في صرف العلّة المبدل من الهمزة نظر في أنه هل يجرى مجرى العلّة الأصلي أم ينظر إلى أصله؟ ورتبوا على ذلك أحكاماً، ومن جملتها: هل يحذف جزماً كالحرف غير المبدل أم لا نظراً إلى أصله؟ واستدل بعضهم على حذفه جزماً بقول زهير: [الطويل]

376- جَرِيءٍ مَتَى يُظْلَمْ يُعَاقِبْ بِظُلْمِهِسَرِيعاً وَإِلاَّ يُبْدَ بِالظُّلْمِ يَظْلِمِ

لأن أصله: "يبدأ" بالهمزة، فكذلك هذه الآية أُبدلت الهمزة ياء، ثم حذفت حملاً للأمر على المجزوم.
وقرىء: "أَنْبِيهُمْ" بإثبات "الياء" نظراً إلى "الهمزة" وهل تضم "الهاء" نظراً للأصل أم تكسر نظراً للصورة؟
وجهان منقولان عن "حمزة" عند الوقف عليه.
و "بِأَسْمَائِهِمْ": متعلّق بـ "أَنْبِئْهُمْ"، وهو المفعول الثاني كما تَقَدّم، وقد يتعدّى بـ "عن" نحو: "أنبأته عن حاله"، وأما تعديته بـ "من" في قوله:
{ { قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ } [التوبة: 94] فسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
قوله: { فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِِ }.
والمراد من هذا الغيب أنه كان عالماًَ بأحوال آدم قبل نطقه، وهذا يدل على أنه سبحانه يعلم الأشياء قبل حدوثها، وذلك يدلّ على بطلان مذهب "هشام بن الحكم" في أنه لا يعلم الأشياء إلاَّ عند وقوعها، فإن قيل: قوله:
{ { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } [البقرة: 3] يدلّ على أنّ العبد قد يعلم الغيب؛ لأن الإيمان بالشَّيء فرع العلم به، وهذا الآية مشعرة بأن علم الغيب ليس إلا لله تعالى، وأن كل من سواه فهم خَالُونَ عن علم الغيب.
والجواب: ما تقدم في قوله:
{ { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } [البقرة: 3].
قوله: { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ } "قال" جواب "فلما"، والهمزة للتقرير إذا دخلت على نفي تقرير قررته، فيصير إثباتاً كقوله:
{ { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ } [الشرح: 1] أي: قد شرحنا.
و "لم" حرف جزم، و "أقل": مجزوم بها حذفت عينه، وهي "الواو" لالتقاء الساكنين، و "لكم" متعلّق به، و "اللام" للتبليغ، والجُمْلَة من قوله: "إني أعلم" في محلّ نصب بالقول.
وقد تقدم نظائر هذا التركيب.
قوله: { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ } كقوله { أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } من كون "أعلم" فعلاً مضارعاً، و "أفعل" بمعنى "فاعل" أو "أفعل" تفضيل، وكون ما في محلّ نصب أو جر، وقد تقدم.
والظاهر: أن جملة قوله: "وأعلم" معطوفة على قوله: { إِنِيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ }، فتكون في محلّ نصب بالقول.
وقال "أبو البقاء": إنه مستأنف، وليس محكياً بالقول: ثم جوَّز فيه ذلك.
و "تبدون" وزنه: "تفعون"؛ لأن أصله: تبدوون مِثْل: تخرجون، فأعلّ بحذف "الواو" بعد سكونها، و "الإبداء": الإظهار، و "الكَتْم" الإخفاء؛ يقال: بَدَا يَبْدُو بَدَاء؛ قال: [الطويل]

377-......................... بَدَا لَكَ فِي تِلْكَ القَلُوصِ بَدَاءُ

وقوله: { وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمونَ } عطف على "ما" الأولى بحسب ما تكون عليه من الإعراب.
روي عن ابن عباس، وابن مسعود، وسعيد بن جبير: أن قوله: "ما تُبْدُون" أراد به قولهم: { أَتَجْعَلُ فِيْهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيْهَا } وبقوله: { وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُون } أراد به ما أسر "إبليس" في نفسه من الكبر وألاَّ يسجد.
قال "ابن عطية": وجاء "تكتمون" للجماعة، والكاتم واحدٌ في هذا القول على تجوّز العرب واتِّسَاعها، كما يقال لقوم قد جَنَى منهم واحد: أنتم فعلتم كذا، أي: منكم فاعله، وهذا مع قَصْد تعنيف، ومنه قوله:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلْحُجُرَاتِ } [الحجرات: 4] وإنما ناداه منهم عُيَيْنَةُ.
وقيل: "الأقرع".
وقيل:
{ { إِنِيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [البقرة:30] من الأمور الغائبة، والأسرار الخفية التي يظن في الظاهر أنه لا مصلحة فيها، ولكن لعلمي بالأسرار المغيبة أعلم أنّ المصلحة في خلقها.
وقيل إنه - تعالى - لما خلق آدم رأت الملائكة خلقاً عجيباً قالوا: ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أكرم عليه منه، فهذا الذي كَتَمُوا، ويجوز أن يكون هذا القول سرًّا أسروه بينهم، فأبداه بعضهم لبعض، وأسروه عن غيرهم، فكان في هذا الفعل الواحد إبداء وكتمان.
وقالت طائفة: الإبْدَاء والكَتْمُ المراد به العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم أجمع، وهذه الآية تدلّ على فضيلة العلم.