التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـٰقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ
٤٦
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

"الذين" يحتمل موضعه الحَرَكات الثلاث، فالجر على أنه تابع لما قبله نعتاً، وهو الظَّاهر، والرفع والنَّصْب على القطع، وقد تقدم معناه.
وأصل الظَّن رجحان أحد الطرفين وأما هذه الآية ففيها أوجه:
أحدهما: وعليه الأكثر ـ أن الظَّن ـ هاهنا ـ بمعنى اليقين؛ ومثله
{ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ } [الحاقة:20]؛ وقال تعالى: { أَلا يَظُنُّ أُوْلَـٰئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ } [المطففين:4].
وقال دُرَيْدُ بنُ الصِّمَّة: [الطويل]

458ـ فَقُلْتُ لَهُمْ: ظُنُّوا بأَلْفَي مُدَجَّجٍ سَرَاتُهُمْ في الفَارِسِيِّ المُسَرَّدِ

وقال أبو دُؤَاد: [الخفيف]

459ـ رُبَّ هَمٍّ فَرَّجْتُهُ بِعزيمٍ وغُيُوبٍ كَشَّفْتُهَا بِظُنُونِ

فاسْتُعْمِلَ الظَّن استعمال اليَقين [مجازاً، كما استعمل العِلْم استعمال الظّن؛ كقوله: { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } [الممتحنة:10] ولكن العرب لا تستعمل الظَّن استعمال اليقين] إلاّ فيما لم يخرج إلى الحسّ والمشاهدة كالآيتين والبَيْت، ولا تجدهم يقولون في رجل حاضر: أظنّ هذا إنساناً.
قائلو هذا القول قالوا: إن الظن ـ هنا ـ بمعنى العلم، قالوا: لأنّ الظن وهو الاعتقاد الذي يقارنه تجويز النقيض يقتضي أن يكون صاحبه غير جازم بيوم القيامة، وذلك كفر والله ـ تعالى ـ مدح على [الظّن]، والمدح على الكُفْرِ غير جائز، فوجب أن يكون المراد من الظن ـ هاهنا ـ العلم، وسبب هذا المجاز أن العلم والظن يشتركان في كون كل واحد منهما اعتقاداً راجحاً، إلا أن العلم راجحٌ مانعن من النقيض، والظن راجحُ غير مانع من النقيض، فلما اشتبها من هذا الوجه صَحّ إطلاق اسم أحدهما على الآخر، كما في الآية والبَيْت.
والثاني: أن الظّن على بابه وفيه تأويلان:
أحدهما: أن تجعل مُلاَقَاة الرب مجازاً عن الموت؛ لأن مُلاَقاة الرب سبب عن الموت، فأطلق المسبّب، وأراد السبب، وهو مجاز مشهور فإنه يقال لمن مات: إنه لقي رَبَّهُ، فتقدير الآية: وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو المَوْت في كل لَحْظَةٍ، فإن من كان متوقعاً للموت في كل لحظة، فإنه لا يفارق قلبه الخشوع.
وثانيها: أنهم يظنون مُلاَقاة ثواب ربهم؛ لأنهم ليسوا قاطعين بالثواب، دون العِقَاب، والتقدير: يظنون أنهم ملاقو ثَوَاب ربهم، ولكن يشكل على هذا عطف { وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } فإنه إذا أعدناه على الثَّوَاب المقدر، فيزول الإشْكَال أو يقال: إنه بالنسبة إلى الأوّل بمعنى الظَّن على بابه، وبالنِّسْبَة إلى الثَّاني بمعنى اليقين، ويكون قد جمع في الكلمة الوَاحِدَةِ بين الحقيقة والمجاز، وهي مسألة خلاف.
وثالثها: قال المَهْدَوِيّ والمَاوَرْدِيّ وغيرهما: أن يضمر في الكلام "بذنوبهم"، فكأنهم يتوقعون لقاءه مذنبين؛ لأن الإنسان الخاشع قد ينسى ظنه بيقينه وبأعماله.
قال "ابن عطية": "وهذا تعسُّف".
فصل في أوجه ورود لفظ الظن
قال "أبو العباس المقرىء": وقد ورد "الظَّن" في القرآن بإزاء خمسة معان:
الأول: بمعنى "اليقين" كهذه الآية، ومثله:
{ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ } [الحاقة:20]، ومثله: { ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ ٱللَّهِ } [البقرة:249].
الثاني: بمعنى "الشَّك" قال تعالى:
{ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } [الجاثية:32].
الثالث: بمعنى "حسب" قال تعالى:
{ إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } [الانشقاق:14] أي: حسب ألا يرجع، ومثله: { وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ } [فصلت:22].
الرابع: بمعنى "الإنكار" قال تعالى:
{ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ص:27] أي: إنكارهم.
والخامس: بمعنى "الجَحْد" قال تعالى:
{ وَمَا ظَنُّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ } [يونس:60] أي: وما جَحْدُهم.
و "أن" وما في حَيّزها سادّة مسدّ المفعولين عند الجمهور، ومَسَدّ الأول والثاني محذوف عند "الأخفش"، وقد تقدّم تحقيقه.
و "مُلاَقُو رَبِّهِمْ" من باب إضافة اسم الفاعل لمعموله إضافة تخفيف؛ لأنه مستقبل، وحذفت النون للإضافة، والأصل: "مُلاَقُون ربّهم" والمُفَاعلة ـ هنا ـ بمعنى الثلاثي نحو: عَافَاكَ الله.
قال "المهدوي": قال "ابن عطية": وهذا ضعيف؛ لأن "لَقِيَ" يتضمن مَعْنَى "لاقَى". كأنه يعني أن المادّة لذاتها تقتضي المُشَاركة بخلاف غيرها من "عَاقَبْت وطَارَقْت وعَافَاك".
وقد تقدم أن في الكلام حذفاً تقديره: ملاقو ثَوَاب ربهم وعقابه.
قال "ابن عطية": "ويصح أن تكون المُلاَقاة ـ هاهنا ـ بالرؤية التي عليها أهل السُّنة، وورد بها متواتر الحديث". فعلى هذا الذي قاله لا يحتاج إلى حَذْفِ مضاف.
و "أَنَّهُمْ إلَيْهِ رَجِعُونَ" عطف على "أنهم" وما في حَيّزها، و "إليه" متعلّق بـ "راجعون"، والضمير: إما للرَّبِّ سبحانه، أو للثواب كما تقدّم، أو للقاء المفهوم من قوله: "إنهم مُلاَقُوا".
ويجوز: "وإنهم" بالكسر على القطع.
فصل في رؤية الله تعالى
استدّل بعض العلماء بقوله: "مُلاَقُو رَبِّهِمْ" على جواز رؤية الله تعالى، قالت المعتزلة: لفظ اللِّقاء لا يفيد الرؤية، لقوله تعالى:
{ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } [التوبة:77]، وقوله: { وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَاماً } [الفرقان:68]، وقوله: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ } [البقرة:223] وهو يتناول المؤمن والكافر، والرؤية لا تثبت للكافر، وقوله عليه الصلاة والسلام: "من حَلَفَ على يَمِينٍ ليقتطع بها مَالَ أمْرىءٍ مسلمٍ لَقِيَ الله وهو عَلَيْه غَضْبَان" وليس المراد رؤية الله؛ لأن ذلك وصف لأهل النار، فعلمنا أن اللقاء ليس عبارةً عن الرؤية. وفي العرف قول المسلمين: من مات لَقِيَ الله، ولا يعنون أنه رأى الله، وأيضاً فاللقاء يراد به القُرْب، فإن الأمير إذا أذن للشَّخص في الدخول عليه يقول: لقيته، وإن كان ضريراً، وإذا منعه من الدُّخول يقول: ما لقيته، وإن كان قد رآه، ويقال: لقي فلان جهداً، وكل هذا يدلّ على أنّ اللقاء ليس عبارة عن الرُّؤية، وقال تعالى: { فَالْتَقَى ٱلْمَآءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } [القمر:12] وهذا إنما يصحّ في حقّ الجسم، ولا يصح في [حق] الله تعالى.
قال ابن الخطيب: أجاب الأصحاب بأن اللقاء في اللُّغة: عبارة عن وصول أحد الجِسْمَيْن إلى الآخر بحيثُ يماسّه بمسطحه، يقال: لقي هذا ذاك إذا ماسّه، واتصل به، ولما كانت المُلاَقاة بين الجسمين المدركين سبباً لحصول الإدراك بحيث لا يمتنع إجراء اللفظ عليه، وجب حمله على الإدراك؛ لأن إطلاق لفظ السبب على معنى المسبّب من أقوى وجوه المجاز، فثبت أنه يجب حمل لفظ اللِّقَاء على الإدراك [أكثر ما في الباب أنه ترك هذا المعنى في بعض الصُّور بدليل يخصه، فوجب إجراؤه على الإدراك] في البواقي.
وعلى هذا التقرير زالت السُّؤالات.
وأما قوله:
{ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً } [التوبة:77] الآية.
قلنا: لأجل الضرورة؛ لأن المراد: إلى يوم يلقون جزاءه وحكمه، والإضمار على خلاف الدليل، فلا يُصَار إليه إلاّ عند الضرورة.
وأما قوله: { ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُواْ رَبِّهِمْ } فلا ضرورة في صَرْفِ اللفظ عن ظاهره، ويمكن أن يقال ملاقاة كل أحد بحسبه، فالمؤمن من يلقى الله، وهو عنه راضٍ، فيثيبه، وينعم عليه بأنواع النعم: والكافر والحالف الكاذب يلقى الله، وهو عليه غضبان، فيعذبه بأنواع العِقَابِ، كما أن خاصّة الأمير يلقون الأمير، وهو راضٍ عنهم، فيعطيهم وينعم عليهم، وأما اللّص وقاطع الطريق إذا لقوا الأمير عاقبهم، وقطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم بما استحقوا، وشَتّان بين اللقاءين.