التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
٦١
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

"لن نَصْبِرَ" ناصب منصوب، والجملة في محلّ نصب بالقول، وتقدم الكلام على "لن".
قوله: { طَعَامٍ وَاحِدٍ }، وإنما كان طعامين هما: المَنّ والسَّلْوَى؛ لأن المراد بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدّل، فأريد بالوحدة نفي التبديل لا الاختلاف، أو لأنهما ضرب واحد؛ لأنهما من طعام أهل التلذُّذ والترف، ونحن أهل زِرَاعات لا نريد إلا ما ألفناه من الأشياء المتفاوتة، أو لأنهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر، أو لأنهما كانا يؤكلان في وقت واحد.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كانوا يعجنون المَنّ والسّلوى، فيصير طعاماً واحداً.
وقيل: لأن العرب تعبّر عن الاثنين بلفظ الواحد، وبلفظ الواحد عن الواحد، كقوله تعالى:
{ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [الرحمن:22]، وإنما يخرجان من المِلْحِ دون العَذْب.
قال ابن الخطيب: ليس المراد أنه واحد في النوع، بل إنه واحد في المَنْهَجِ، كما يقال: إن طعام فلان على مائدته طعام واحد إذا كان لا يتغيّر عن نهجه.
وقيل: كنوا بذلك عن الغنى، فكأنهم قالوا: لن نرضى أن نكون كلنا مشتركين في شيء واحد فلا يخدم بعضنا بعضاً، وكذلك كانوا أول من اتخذ الخدم والعبيد. و "الطعام": اسم لكل ما يطعم من مأكول ومشروب، ومنه:
{ وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } [البقرة:249]، وقد يختص ببعض المأكولات كاختصاصه بالبُرّ والتَّمْرِ في حديث الصَّدقة، أو صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير. والطَّعم ـ بفتح الطاء ـ المصدر أو ما يشتهى من الطعام ـ أو ما يؤديه الذوق، تقول: طَعْمُهُ حُلْو وطَعْمُهُ مُرّ، وبضمها الشيء المطعوم كالأُكْلِ والأَكْل؛ قال أبو خِرَاشٍ: [الطويل]

527ـ أَرُدُّ شُجَاعَ البَطْنِ لَوْ تَعْلَمِينَهُ وأُوثِرُ غَيْرِي مِنْ عِيَالِكِ بالطُّعْمِ
وأَغْتَبِقُ المَاءَ القَرَاحَ فَأَنْتَهِي إذَا الزَّادُ أَمْسَى للْمُزَلَّجِ ذَا طَعْمِ

أراد بالأول المطعوم، وبالثاني ما يُشْتَهَى منه، وقد يعبَّر به عن الإعطاء؛ قال عليه السلام: "إِذا اسْتَطْعَمَكُمُ الإمام فَأَطْعِمُوُه" أي: إذا استفتح، فافتحوا عليه، وفلان ما يَطْعَمُ النومَ إلاَّ قائماً؛ قال: [المتقارب]

528ـ نَعَاماً بِوَجْرَةَ صُفْرَ الْخُدُو دِمَا تَطْعَمُ النَّوْمَ إِلاَّ صيَامَا

قوله: "فادع" اللّغة الفصيحة "ادْعُ".
بضم العين من "دَعَا يدعو".
ولغة بني عامر "فَادْعِ" بكسر العين قال أبو البقاء: "لالتقاء السَّاكنَيْنِ؛ يُجْرُونَ المعتلَّ مُجْرَى الصَّحيح، ولا يراعون المحذُوفَ" يعني أن العَيْنَ ساكنةٌ، لأجل الأمر، والدَّالُ قبلها ساكنةٌ، فكسرت العين، وفيه نظرٌ، لأن القاعدة في هذا ونحوه أن يُكْسَر الأوَّل من الساكنين، لا الثاني، فيجوزُ أنْ يكُون من لُغتِهِمْ "دَعَا يَدْعِي" مثل "رَمَى يَرْمِي"، والدُّعَاء هنا السُّؤال، ويكون هنا بمعنَى التَّسْمية؛ كقوله: [الطويل]

529ـ دَعَتْنِي أَخَاها أُمُّ عَمْرٍو... ..................

وقد تقدم، و "لنا" متعلّق به، واللام للعلة.
قوله: "يُخْرِجْ" مجزوم في جواب الأمر.
وقال بعضهم: مجزوم بلام الأمر مقدرة، أي "ليخرج"، وضعفه الزجاج وسيأتي الكلام على حذف لام الأمر إن شاء الله تعالى.
والقراءة المشهورة "يُخْرِجْ" بضم "الياء" وكسر "الراء"، و "تُنْبِت" بضم "التاء" وكسر "الباء" وقرأ زيد بن علي "يَخْرُج" بفتح "الياء" وضم "الراء" و "تَنْبُت" بفتح "التاء" وضم "الباء".
قوله: { مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ } مفعول "يخرج" محذوف عن سيبويه تقديره: مأكولاً مما، أو شيئاً ممّا تنبت الأرض. والجار يجوز أن يتعلّق بالفعل قبله، ويكون "مِنْ" لابتداء الغاية، وأن تكون صفةً لذلك المفعول المحذوف، فيتعلّق بمضمر، أي: مأكولاً كائناً مما تنبته الأرض.
و "مِنْ" للتبعيض، ومذهب الأخفش: أن "من" زائدة في المفعول، والتقدير: يخرج ما تُنْبِتُهُ الأرض؛ لأنه لا يشترط في زيادتها شيئاً.
قال النَّحاس: وإنما دعى الحسن إلى زيادتها؛ لأنه لم يجد مفعولاً لـ "يخرج" فأراد أن يجعل "ما" مفعولاً و "ما" يجوز أن تكون موصولة اسمية أو نكرة موصوفة، والعائد محذوف، أي من الذي تُنْبته، أو من شيء تُنْبته، ولا يجوز جعلها مصدريّة؛ لأن المفعول المحذوف لا يُوصَف بالإنبات؛ لأن الإنبات مصدر، [والمُخْرج] جوهر، وكذلك على مذهب الأخفش؛ لأن المخرج جوهر لا إنبات.
قوله: "مِنْ بَقْلِهَا" يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون بدلاً من "ما" بإعادة العامل، و "من معناها: بيان الجِنْس.
والثاني: أن يكون في محلّ نصب على الحال من الضمير المحذوف العائد على "ما" أي: مما تُنْبته الأرض في حال كونه من بقلها، و "من" أيضاً للبيان.
و "البَقْل": كل ما تنبته الأرض من النَّجم، أي: ما لا سَاقَ له، وجمعه "بُقُول".
و "القِثَّاء" معروف، الواحدة: قِثَّاءة، فهو من باب قَمْح وقَمْحة، وفيها لغتان: المشهورة كسر القاف، وهي قراءة العامة، وقرأ يحيى بن وَثّاب، وطلحة بن مصرّف، والأشهب العُقَيْلِيُّ بضم القاف وهي لغة "تميم".
و "القِثَّاء" مُفْرَدُهُ وَجَمْعُهُ ممدود، تقول: "قِثَّاء" و "قِثَّاءة" وَ "دِبَّاءَ" وَ "دِبَّاءة"، وَ "دَاء" وَ "دَوَاء" والهمزة أصلٌ بنفسها في قولهم: "أَقْثَأَتِ الأرض"، أي: كثر قِثَّاؤها. ووزنها "فِعَّال"، ويقال في جمعها: "قَثَائِي"، مثل: "عِلْبَاء" و "عَلاَبِي".
قال بعضهم: إلا أن "قِثَّاء" من ذوات الواو، تقول "أَقْثَأْتُ القَوْمَ"، أي: أطمعتهم ذلك، وَقَثأْتُ القِدْرَ سَكَّنْتُ غليانَهَا بالماء.
قال الجعدي: [الطويل]

530ـ تَفُورُ عَلَيْنَا قِدْرُهُمْ فَنُدِيمُهَا وَنَقْثَؤُهَا عَنَّا إِذَا حَمْيُهَا غَلاَ

وهذا وهم فاحش؛ لأنه لما جعلها من ذوات الواو كيف يستدلّ عليه بقولهم: "أَقْثأت القوم" بالهمز، بل كان ينبغي أن يقال: "أَقْثَيْتُ" والأصل "أَقْثوْتُ" لكن لما وقعت الواو في بناء الأربعة قلبت ياء، كـ "أَغْزَيْتُ" من الغَزْوِ، ولكان ينبغي أن يقال: "قَثَوْتُ القِدْرَ" بالواو، ولقال الشاعر: [نَقْثُوهَا] بالواو.
وَ "الْمَقْثَأة" و "الْمَقْثُؤَة" - بفتح الثاء وضمها: موضع "القِثَّاء".
و "الفُوم": الثُوم وروي عن علقمة وابن مسعود أنه قرأ: "وثُومها"، وهي قراءة ابن عباس رضي الله عنهما ـ وفي مصحف عبد الله. والفاء تبدل من الثاء كما قالوا: "جدث وجدف" و "عَاثُور وعَافُور" و "مَغَافير ومَغَاثير"، ولكنه غير قياس.
وعن ابن عباس الفُوم: الخُبْز، تقول العرب: "فَوِّمُوا لنا: أي: اخْتَبزُوا".
وقال ابن عباس أيضاً وعطاء أبو مالك: هو الحِنْطَة وهي لغة قديمة، وأنشد ابن عباس لمن سأله عن "الفُومِ": [الكامل]

531ـ قَدْ كُنْتَ أَحْسِبُنِي كَأَغْنَى وَاحِدٍ [نَزَلَ] الْمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعَةِ فُومِ

وقال ابن دُرَيْدٍ"الفُومَةُ السُّنْبُلَةُ"، وأنْشَد: [الوافر]

532ـ وَقَالَ رَبيئُهُمْ أَتَانَا بِكَفِّهِ فُومَةٌ أَوُ فُومَتَانِ

وقال القتيبي: "هو الحبوبُ كلها".
قال الكلبي والنضر بن شُمَيْل والكسَائي والمؤرج: الصّحيح أنه الثُّوم، لقراءة ابن عباس، ولكونه في مُصْحِف عبد الله بن مسعود وثُومها؛ ولأنه لو كان المراد الحِنْطة لما جاز أن يقال لهم: أَتَسْتَبِْدِلُون الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ لأن الحِنْطة أشرف الأطعمة، ولأنَّ الثوم أوفق للعَدَس والبَصَل من الحِنْطة وأنشد المؤرج لحسان: [المتقارب]

533ـ وَأَنْتُمْ أُنَاسٌ لِئَامُ الأُصُولِ طَعَامُكُمُ الْفُومُ وَالْحَوْقَلُ

يعني: الثوم والبصل؛ وأنشد النضر لأمية بن أبي الصَّلْت: [البسيط]

534ـ كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ إِذْ ذَاكَ ظاهِرَةً فِيْها الْفَرَادِيسُ وَالْفُومَانُ وَالْبَصَلُ

الفَرَادِيس: واحدها فِرْدِيسٌ. وَكَوْمٌ مُفَرْدَسٌ، أي: مُعَرَّش.
وقال بعضهم: "الفُوم: الحِمَّص لغة شامِيّة".
قوله: "وَعَدَسِهَا" العَدَس معروف، والعَدَسَة: بَثْرَةٌ تخرج بالإنسان، وربما قَتَلَتْ وعَدَسْ زجر للبِغَال؛ قال: [الطويل]

535ـ عَدَسْ مَا لِعَبَّادٍ عَليْكِ إِمَارَةٌ نَجَوْتِ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ

والعدس: شدة الوَطْء، والكَدْح أيضاً، يقال: عدسه. وعدس في الأرض ذهب فيها، وعدست إليه المَنِيّة أي: سارت؛ قال الكميت: [الطويل]

536ـ أُكَلِّفُهَا هَوْلَ الظَّلاَمِ وَلَمْ أَزَلْ أَخَا اللَّيْلِ مَعْدُوساً إِلَيَّ وَعَادِسَا

أي: يسار إليّ بالليل. وعدس لغة في حدس، قاله الجوهري. وعن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالعَدَسِ فإنه مُبَارك مُقَدّس، وإنه يرقق القَلْب ويكثر الدَّمْعَة فإنه بارك فيه سبعون نبياً آخرهم عِيْسَى ابن مريم" .
اختلف العلماء في أكل البصل والثّوم [والكراث] وما له رائحة كريهة من البُقُول.
فذهب الجمهور إلى الإبَاحَةِ، للأحاديث الثابتة في ذلك.
وذهبت طائفة من أهل الظاهر ـ القائلين بوجوب صلاة الفرض في الجَمَاعة إلى المَنْعِ؛ لأن النبي ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ سمّاها خبيثةً.
وقال تعالى:
{ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَٰئِثَ } [الأعراف:157].
والصحيح الأول؛
"لقوله ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ لبعض أصحابه: كُلْ فإنِّي أُنَاجي من لا تُنَاجي" .
فصل في لفظ أدنى
قوله: "أَتَسْتَبْدِلُون"؛ وفي مصحف أُبي "أَتُبَدِّلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى"، وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: ـ وهو الظاهر ـ قول الزجاج أن أصله: "أَدْنَوُ" من الدنو، وهو القرب، فقلبت الواو ألفاً لتحركها، وانفتاح ما قبلها، ومعنى الدُّنُوِّ في ذلك فيه وجهان:
أحدهما: أنه أقرب لقلّة قيمته وخَسَاسته.
والثاني: أنه أقرب لكم؛ لأنه في الدنيا بخلاف الذي هو خير، فإنه بالصبر عليه يحصل نفعه في الآخرة.
والثاني: قول علي بن سليمان الأَخْفَش أن أصله: "أَدْنَأُ" مَهْمُوزاً من دَنَأَ ـ يَدْنَأُ ـ دَنَاءَة، وهي الشيء الخَسِيْس، إلا أنه خفّف همزته؛ كقوله: [الكامل]

537ـ..................... فَارْعَيْ فَزَارَةُ لاَ هَنَاكِ الْمَرْتَعُ

ويدل عليه قراءة زهير [القرقبي] الكسائي: "أدنأ" بالهمز.
الثالث: أن أصله: أَدْوَن من الشيء الدّون، أي: الرَّدِيء، فقلب بأن أخرت العين إلى موضع اللام، فصار: أَدْنُوُ، فأعلّ كما تقدم. ووزنه "أفلع"، وقد تقدم معنى الاستبدال.
و "أدنى" خبر عن "هو"، والجملة صلة وعائد، وكذلك: "هو خير" صلة وعائد أيضاً.
فصل في معنى الآية
ومعنى الآية: أتستبدلون البقل والقثّاء والفوم والعدس والبصل الذي هو أدنى بالمَنّ والسَّلوى الذي هو خير؟ من وجوه:
الأول: أنّ البقول لا خطر لها بالنسبة إلى المَنّ والسلوى، لأنهما طعام مَنّ الله به عليهم، وأمرهم بأكله، فكان في استدامته شكر نعمة الله، وذلك أَجْر وذُخْر في الآخرة، والذي طلبوه عَارٍ من هذه الخصال، فكان أدنى.
وأيضاً لما كان المَنَّ والسَّلوى ألذّ من الذي سألوه، وأطيب كان أدنى، وأيضاً لما كان ما أعطوه لا كُلْفة فيه، ولا تعب، وكان الذي طلبوه لا يجيء إلا بالحَرْثِ والتعب كان [أيضاً] أدنى.
وأيضاً لما كان ما ينزل عليهم لا مِرْيَة في حلّة وخُلُوصه لنزوله من عند الله، والحبوب والأرض يتخلّلها البيوع والغُضُوب وتدخلها الشُّبه، كانت أدنى من هذا الوجه.
وأفرد في قوله: { ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ } وإن كان ما طلبوه أنواعاً حملاً على قوله: "ما" في قوله: { مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ }، أو على الطعام المفهوم من قوله: { لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ }.
قوله: { ٱهْبِطُواْ مِصْراً } القراءة المعروفة "اهْبِطُوا" بكسر الباء، وقرىء بضمها. و "مصراً" قرأ الجمهور منوناً، وهو خطّ المصحف.
فقيل: إنهم أمروا بهبوط مِصْرٍ من الأمصار فلذلك صرف.
وقيل: أمروا بِمْصرٍ بعينه، وإنما صرف لخفّته، لسكون وسطه كـ "هِنْد ودَعْد"؛ وأنشد: [المنسرح]

538ـ لَمْ تَتَلَفَّعْ بِفَضْلِ مِئْزَرِهَا دَعْدٌ وَلَمْ تُسْقَ دَعْدُ في العُلَبِ

فجمع بين الأمرين.
أو صرفه ذهاباً به إلى المكان.
وقرأ الحسن: "مِصْرَ" بغير تنوين، وقال: الألف زائدة من الكاتب، وكذلك في بعض مصاحف عُثْمان، ومصحف أُبيّ، وابن مَسْعُود، كأنهم عَنَوْا مكاناً بعينه، وهو بلد فرعون وهو مروي عن أبي العالية.
وقال الزمخشري: "إنه معرّب من لسان العَجَمِ، فإن أصله مِصْرائيم، فعرب"، وعلى هذا إذا قيل بأنه علم لمكان بعينه، فلا ينبغي أن يصرف ألبتة لانضمام العُجْمة إليه، فهو نظير "ماه وَجور وحِمْص"، ولذلك أجمع الجمهور على منعه في قوله:
{ ٱدْخُلُواْ مِصْرَ } [يوسف:99]. والمِصْر في أصل اللغة: الحَدّ الفاصل بين الشيئين، وحكي عن أهل "هَجَر" أنهم إذا كتبوا بيع دار قالوا: "اشترى فلانٌ الدَّارَ بِمُصُورِهَا" أي: حُدُودها؛ وأنشد: [البسيط]

539ـ وَجَاعِلُ الشَّمْسِ مِصْراً لا خَفَاءَ بِهِ بَيْنَ النَّهَارِ وَبَيْنَ اللَّيْلِ قَدْ فَصَلاَ

قوله: { مَّا سَأَلْتُمْ } "ما" في محلّ نصب اسماً لـ "إن"، والخبر في "لكم"، و "ما" بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي: الَّذي سألتموه.
قال أبو البَقَاء: "ويضعف أن تكون نكرة موصوفة". يعني: أنَّ الذي سألوه شيءٌ معيَّنٌ، فلا يحسُنُ أن يُجَابُوا بشيء مُبهَمٍ.
وقرىء: "سِلْتُمْ" مثل: بِعْتُمْ، وهي مأخوذةٌ من "سَالَ" بالألف، قال حَسَّان رضي الله عنه: [البسيط]

540ـ سَالَتْ هُذَيْلٌ رَسُولَ اللَّهِ فَاحِشَةً ضَلَّتْ هُذَيْلٌ بِمَا سَالَتْ وَلَمْ تُصِبِ

وهل هذه الألف منقلبة عن ياء أو واو لقولهم: يَتَساوَلاَنِ، أو عن همزة؟ ثلاثة أقوال يأتي بيانها في سورة "المعارج" إن شاء الله تعالى.
فصل في بيان أنه هل عصوا بذلك السؤال
أكثر المفسرين زعموا أن ذلك السؤال كان معصية.
قال ابن الخطيب: وعندنا ليس الأمر كذلك، والدليل عليه أن قوله: "كلوا واشربوا" عند إنزال المَنّ والسّلوى ليس بإيجاب، بل هو إباحةٌ، وإذا كان كذلك لم يكن قولهم: { لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ } معصية؛ لأن من أُبيح له ضرب من الطعام فحسنٌ منه أن يسأل غير ذلك، إما بنفسه أو على لسان الرسول، فلما كان عندهم أن سؤال موسى أقرب إلى الإجابة جاز لهم أن يسألوه ذلك، ولم يكن فيه معصية.
واعلم أن سؤال النَّوع الآخر من الطعام يحتمل أن يكون لأغراض منها: أنهم لما تناولوا ذلك النوع الواحد أربعين سنةً مَلّوه، فاشْتَهَوْا غيره.
ومنها: لعلّهم ما تعودوا ذلك النوع، وإما تعودوا سائر الأنواع، ورغبة الإنسان فيما اعتاده في أصل التربية وإن كان خسيساً فوق رَغْبته فيما لم يَعْتَدْهُ وإن كان شريفاً.
ومنها: لعلهم ملوا البقاء في التِّيْه، فسألوه هذه الأطعمة التي لا توجد إلاَّ في البلاد، وغرضهم الوصول إلى البلاد لا نفس الأطعمة.
ومنها: أن المُوَاظبة على نوع واحد سببٌ لنقصان الشهوة، وضعف الهَضْم، وقلّة الرغبة والاستكثار من الأنواع بضد ذلك، فثبت أن تبديل طعام بغيره يصلح أن يكون مقصود العقلاء، وليس في القرآن ما يدلّ على منعهم، فثبت أن هذا القَدْرَ لا يجوز أن يكون معصية، ومما يؤكد ذلك أن قوله: { ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } كالإجابة لما طلبوا، ولو كانوا عاصين في ذلك السُّؤال لكانت الإجابة إليه معصية، وهي غير جائزة على الأنبياء، لا يقال: إنهم لما أبوا شيئاً اختاره الله لهم أعطاهم عاجل ما سألوه كما قال:
{ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا } [الشورى:20] لأن هذا خلاف الظاهر. واحتجوا على أن ذلك السؤال معصية بوجوه:
الأول: قولهم: لن نصبر على طعامٍ واحدٍ يدلّ على أنهم كرهوا إنزال المَنّ والسلوى، فتلك الكراهة معصية.
الثاني: أن قول موسى عليه الصلاة والسلام: { أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ } استفهام على سبيل الإنكار، وذلك يدلّ على كونه معصية.
الثالث: أن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وصف ما سألوه بأنه أدنى، ما كانوا عليه بأنه خير، وذلك يدلّ على ما قلناه.
والجواب عن الأول: أن قولهم: { لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ } ليس فيه دليل على أنهم كرهوه، بل اشتهوا شيئاً آخر؛ لأن قولهم: لن نصبر إشارةٌ إلى المستقبل؛ لأن "لن" لنفي المستقبل، فلا يدلّ على أنهم سخطوا الواقع.
وعن الثاني: بأن الاستفهام على سبيل الإنكار قد يكون لما فيه من تفويت الأنفع في الدنيا، وقد يكون لما فيه من تَفْويت الأنفع في الآخرة.
وعن الثالث: بأن الشيء قد يوصف بأنه خير من حيث إن الانتفاع به حاضر متيقّن، ومن حيث إنه حصل بِلاَ كَدّ ولا تَعَبٍ، فكما يقال ذلك في الحاضر، فقد يقال في الغائب المشكوك فيه: إنه أدنى من حيث إنه لا يتيقّن من حيث لا يوصل إليه إلا بالكَدّ، فلا يمتنع أن يكون مراده ـ عليه الصلاة والسلام ـ هذا المعنى، أو بعضه، فثبت أن ذلك السؤال لم يكن معصيةً، بل كان سؤالاً مباحاً، وإذا كان كذلك فقوله: { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ }، لا يجوز أن يكون لما تقدم؛ بل لما ذكره الله ـ تعالى ـ بعد ذلك وهو قوله: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَٰتِ ٱللَّهِ } إلى آخره. فهذا هو الموجب للغَضَبِ والعقاب لا كونهم سألوه ذلك.
فصل في المراد بـ "مصر"
قال قوم: المراد من "مصر" البلد الذي كانوا فيه مع فرعون؛ لقوله تعالى:
{ ادْخُلُواْ الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ } [المائدة:21] فأوجب دخول تلك الأرض، وذلك يقتضي المنع من دخول غيرها، وأيضاً قوله: { كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ } يقتضي دوامهم فيه؛ وقوله: { وَلاَ تَرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ } [المائدة:21] صريح في المَنْعِ من الرجوع عن بيت المقدس، وأيضاً فإنه ـ تعالى، بعد الأمر بدخول الأرض المقدّسة، قال: { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ } [المائدة:26].
فلما بيّن تعالى أنهم ممنوعون من دخولها هذه المُدّة، فعند زوال تلك المُدّة يجب أن يلزمهم دخولها، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون المراد من مِصْر سواها.
فإن قيل: هذه الوجوه ضعيفة.
أما الأول: فلأن قوله:
{ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ } َ } [المائدة:21] أمر ندب فلعلّهم ندبوا إلى دخول الأرض المقدسة، مع أنهم ما منعوا من دخول مصر، وأما قوله: { كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ } فذلك يدل على دوام تلك الأرض المقدسة.
وأما قوله: { وَلاَ تَرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ } فلا نسلّم أنّ معناه: ولا ترجعوا إلى مصر، بل يحتمل أن يكون معناه: ولا تعصوا فيما أمرتكم؛ لأن العرب تقول لمن عصى الأمر: أرتَدّ على عقبه، فالمراد من هذا العصيان كونهم أنكروا أن يكون دخول الأرض المقدسة أولى.
ويحتمل أن يكون ذلك النهي مخصوصاً بِوَقْتٍ معين.
والجواب: أنه ثبت في الأصول أن ظاهر الأمر للوجوب، وإن سلّمنا أنه للندب، ولكن الإذن في تركه يكون إذناً في ترك المندوب، وهو لا يليق بالأنبياء.
وأما قوله: لا نسلّم أن المراد من قوله: "ولا ترتدوا": ولا ترجعوا.
قلنا: الدليل عليه أن أمره بدخول الأرض المقدّسة، ثم قوله بعده: { وَلاَ تَرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ } يتبادر إلى الفَهْم أن النهي يرجع إلى ما تعلّق به ذلك الأمر.
وقوله: "تخصيص النهي بوقت معين".
قلنا: التخصيص خلاف الظاهر.
قال أبو مسلم الأصفهاني: يجوز أن يكون المراد "مِصْر فرعون" لوجهين:
الأول: من قرأ "مِصْرَ" بغير تنوين كان عَلَماً للبلد المُعَيّن، وليس في العالم بلدة ملقبة بهذا اللقب سواها، فحمل اللفظ عليه، ولأن اللفظ إذا دَارَ بين كونه علماً، وبين كونه صفة فحمله على العلم أولى.
ومن قرأه منوناً فإما أن تجعله اسم عَلَم، وتقول: إنما نون لسكون وسطه، فيكون القريب أيضاً ما تقدم، وإن جعلناه اسم جنس فقوله: { ٱهْبِطُواْ مِصْراً } يقتضي التخيير، كما إذا قال: أَعْتِقْ رَقَبَةً.
الوجه الثاني: أن الله ـ تعالى ـ ورث بن إسرائيل أرض "مصر" لقوله:
{ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ } [الشعراء:59] وإذا موروثةً لهم امتنع أن يحرم عليهم دخولها.
فإن قيل: قد يكون الرجل مالكاً للدَّار وإن كان ممنوعاً من دخولها كمن أوجب على نفسه اعتكافَ أيام في المسجد، فإنه يحرم عليه دخول دَارِهِ، وإن كانت مملوكةً له، فلم لا يجوز أن يقال: إن الله ـ تعالى ـ وَرَّثهم "مصر" بمعنى الولاية، والتصرف فيها، ثم إنه ـ تعالى ـ حرم عليهم دخولها بإيجابه عليهم سُكْنى الأرض المقدسة؟
قلنا: الأصل أن الملك مطلق للتصرف والمنع من التصرف خلاف الدليل.
وأجاب الفرق الأول عن حجّتي أبي مسلم.
أما قوله "إن القراءة المشهورة بالتنوين يقتضي التخيير".
قلنا: نعم، لكنا نخصّص العموم في حقّ هذه البلدة المعينة بما ذكرنا من الدليل.
وأما الثاني: فإنّا لا ننازع في أن الملك لمطلق التصرف لكن قد يترك هذه الأصل لعارض كالمرهون والمستأجر، فنحن تركنا هذا الأصل لما قدمنا من الدّلائل.
قوله: { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ } أي: جُعِلَتِ الذِّلَّة محيطً بهم، مشتملةً عليهم؛ كمن يكون في القُبَّة المَضْرُوبَةِ؛ قال الفرزدقُ لجرير: [الكامل]

541ـ ضَرَبَتْ عَلَيْكَ العَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا وقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الكِتَابُ المُنْزَلُ

أو ألصقت بهم حتى لزمتهم كما يضرب الطِّين على الحائط فيلزمه.
ومن قال: إنها الجزية فبعيد؛ لأن الجزية لم تكن مضروبةً حينئذ.
وقال بعضهم: هذا من باب المُعْجِزَات؛ لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أخبر عن ضرب الذِّلّة والمَسْكَنة عليهم، ووقع الأمر كذلك، فكان معجزة. و "الذِّلّة": الصَّغَار. والذُّلّ بالضم: ما كان عن قَهْرٍ، وبالكسر: ما كان بعد شماس من غير قهر. قاله الراغب.
و "المَسْكَنَةُ": مَفْعَلَة من السُّكون، لأن المسكين قليل الحركة والنهوض، لما به من الفَقْرِ، و "المسكين: مُفْعِيْل منه، إلاّ أن هذه الميم قد ثبتت في اشتقاق هذه الكلمة، قالوا: تمسكن يتمسكن فهو متمسكن، وذلك كما تثبت ميم "تَمْنَدل وتَمَدْرَعَ" من "النَّدْلِ" و "الدَّرعِ" وذلك لا يدلّ على أصالتها؛ لأن الاشتقاق قضى عليها بالزِّيَادة.
وقال الراغب: قوله: { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ }: فالميم في ذلك زائدة في أصحّ القولين.
وإيراد هذا الخلاف يؤذن بأن النون زائدة، وأنه من "مسك" و "ضربت" مبني للمفعول و "الذّلة" قائم مقام الفاعل.
قوله: { وَبَآءُو } ألف "بَاءَ بكذا" منقلبة عن واو؛ لقولهم: "بَاءَ ـ يَبُوءُ" مثل: "قَالَ ـ يَقُولُ" قال عليه الصَّلاة والسَّلام: "أَبُوءُ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ"، والمصدر: "البَوَاء".
وبَاءَ معناه: رَجَع؛ وأنشد بعضهم هذا: [الوافر]

542ـ فَآبُوا بِالنِّهَابِ وَبِالسَّبَايَا وأُبْنَا بِالمُلُوكِ مُصَفَّدينَا

وهذا وَهَمٌ؛ لأن هذا البيت من مادة: "آبَ ـ يَئوب" فمادته من همزة، وواو، وبَاءٍ، و "بَاءَ" مادته من باء، وواو، وهمزة، وادعاء القلب يه بعيدٌ؛ لأنه لم يُعْهَد تقدُّم العين واللام معاً على الفاء في مقلوب، وهذا من ذاك.
والبَوَاء: الرجوع بالقَوَدِ، وهُمْ في هذا الأمر بَوَاءٌ، أي: سَوَاء؛ قال: [الطويل]

543ـ أَلاَ تَنْتَهي عَنَّا [مُلُوكٌ] وتَتَّقِي مَحَارِمَنَا لاَ يَبُؤِ الدَّمُ بِالدَّمِ

أي: لا يرجعُ الدم بالدم في القَوَدِ.
وبَاءَ بكذا: أقرَّ أيضاً، ومنه الحديث المتقدِّم أي: أُقِرُّ بها، وأُلْزِمُهَا نَفْسِي، وقال: [الكامل]

544ـ أَنْكَرْتُ بَاطِلَها وَبُؤْتُ بِحَقِّهَا .......................

وقال الراغب: "أصل البَواء مُسَاوَاةٌ الأَجْزَاءِ في المكان خلاف النَّبْوَة الذي هو مُنَافاة الأجزاء".
وقوله: "وَبَاءوا بِغَضَبٍ" أي: حلُّوا مَبْوَأً ومعه غَضَب، واستعمال "بَاءَ" تنبيه على أن مكانه الموافق يلزمه فيه غضب الله فكيف بغيره من الأمكنة، وذلك نحو:
{ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [آل عمران:21].
ثم قال: وقول من قال: بؤت بحقها، أي: أقررت فليس تفسيره بحسب مقتضى اللفظ.
وقولهم: "حَيّاك الله وبَيّاك" أصله: بَوّأك، وإنما غير للمُشَاكلة، قاله خلف الأحمر.
وقيل: باءوا: استحقوا، ومنه قوله تعالى:
{ إِنِّيۤ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } [المائدة:29] أي: تستحق الإثم جمعياً، ومن قال: إنه الرجوع فلا يقال: باء إلا بِشَرّ.
قوله: "بغضب" في موضع الحال من فاعل "باءوا" أي: رجعوا مغضوباً عليهم، وليس مفعولاً به كـ "مررت بزيد".
وقال الزمخشري: هو من قولك: باء فلان بفلان إذا كان حقيقاً بأن يقتل به لمُسَاواته له ومكافأته، أي صاروا أحقاء بغضبه. وعلى هذا التفسير ينبغي كون الباء للحال.
قوله: { مِّنَ ٱللَّهِ } الظاهر أنه في محلّ جر صفة بـ "غضب"، فيتعلّق بمحذوف، أي: بغضب كائن من الله.
و "من" لابتداء الغاية مجازاً.
وقيل: هو متعلّق بالفعل نفسه أي: رجعوا من الله بِغَضَبٍ. وليس بقوي.
قوله: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ }.
"ذلك" مبتدأ أشير به إلى ما تقدّم من ضرب الذِّلّة والمسكنة [والخلافة] بالغضب.
و "بأنهم" الخبر، والباء للسببية، أي: ذلك مستحقّ بسبب كفرهم.
وقال المهدوي: الباء بمعنى اللام أي: لأنهم، ولا حاجة إلى هذا، فإن باء السببية تفيد التَّعليل بنفسها.
و "يكفرون" في محلّ نصب خبراً لـ "كان"، و "كان" وما في حَيّزها في حل رفع خبراً للمبتدأ كما تقدم.
قوله: { بِآيَٰتِ ٱللَّهِ } متعلّق بـ"يكفرون" والباء للتعدية.
قوله: { وَيَقْتُلُونَ } في محلّ نصب عطفاً على خبر "كان"، وقرىء: "تقتلون" بالخطاب التفاتاً إلى الخطاب الأول بعد الغيبة. و "يُقَتَّلونُ" بالتشديد للتكثير.
قوله: { ٱلنَّبِيِّينَ } مفعول به جمع "نبي".
والقراءة على ترك الهمزة في النُّبوة، وما تصرف منها، ونافع المدني على الهمز في الجميع إلاّ موضعين: في سورة "الأحزاب":
{ لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ } [الأحزاب:50]، { بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلاَّ } [الأحزاب:53]، فإن قالون حكى عنه في الوَصْلِ كالجماعة وسيأتي. وما من همز فإنه جعله مشتقاً من "النبأ" وهو الخبر، فالنَّبِيُّ "فعيل" بمعنى "فاعل" أي: مُنَبِّىءٌ عن الله برسالته، ويجوز أن يكون بمعنى "مفعول"، أي: أنه مُنَبَّأٌ من الله بأوامره ونواهيه، واستدلُّوا على ذلك بجمعه على"نُبَآء" كـ "ظَرِيف وظُرَفَاء" قال العَبَّاسُ بنُ مِرْدَاسٍ: [الكامل]

545ـ يا خَاتَمَ النُّبَآءِ إِنَّكَ مُرْسَلٌ بِالحَقِّ كُلُّ هُدَى الإلَهِ هُدَاكَا

فظهور الهمزتين يدلُّ على كونه من "النَّبَأ"، واستضعف بعض النحويين هذه القراءة، قال أبو علي: "قال سيبويه": بلغنا أن قوماً من أهل التحقيق يحققون "نبيئاً وبريئة" قال: وهو رَدِيء، وإنما استردأه؛ لأن الغالب في استعماله التخفيف. وقال أبو عبيدة الجمهور الأعظم من القراء والعَوَامّ على إسقاط الهمز من النَّبِي والأَنْبِيَاء، وكذلك أكثر العرب مع حديث رويناه، فذكر أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا نَبِيءَ الله" فهمز، فقال: "لَسْتُ بِنَبِيءِ الله" ـ فهمز ـ ولَكِنِّي نَبِيُّ اللَّهِ، ولم يهمز، فأنكر عليه الهمز.
قال: وقال لي أبو عبيدة: العرب تبدل الهمزة في ثلاثة أحرف: "النبيّ والبَرية والخَابِية" وأصلهن الهَمْز.
قال أبو عبيدة: ومنها حرف رابع: "الذُّرِّيَّة" من ذَرأَ ـ يَذْرَأ، ويدلّ عل أن الأصل الهمز قال سيبويه: [إنهم] كلّهم يقولون: تنبأ مُسَيْلمة فيهمزون.
وبهذا لا ينبغي أن ترد به قراءة هذا الإمام الكبير، أما الحديث فقد ضعفوه.
قال ابن عطية: ومما يقوي ضعفه أنه لما أنشده العَبَّاس: [الكامل]

546ـ يَا خَاتَمَ النُّبَآءِ............. ......................

لم ينكره، ولا فرق بين الجمع والواحد، ولكن هذا الحديث قد ذكره الحاكم في "المستدرك"، وقال: هو صحيح على شرط الشَّيخين، ولم يخرجاه.
فإذا كان كذلك فليلتمس للحديث تخريجٌ يكون جواباً عن قراءة نافع، على أنّ القَطْعِيّ لا يُعَارَضُ بالظني، وإنما يذكر زيادة فائدة.
والجواب عن الحديث: أنّ أبا زيد حكى: نَبَأْتُ من أرض كذا إلى أرض كذا، أي: خرجت منها إليها فقوله: "يا نبيء الله" بالهمز يوهم يا طَرِيدَ الله الذي أخرجه من بلده إلى غيره، فَنَهَاه عن ذلك لإيهامه ما ذكرنا، لا لسبب يتعلّق بالقراءة.
ونظر ذلك نهيه المؤمنين عن قولهم:
{ رَاعِنَا } [البقرة:104] لما وجدت اليهود بذلك طريقاً إلى السَّب به في لغتهم، أو يكون حضًّا منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ على تَحَرِّي أفصح اللغات في القرآن وغيره، وأما من لم يهمز، فإنه يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه من المهموز، ولكن [خفف]، وهذا أولى ليُوافق القراءتين، ولظهور الهمز في قولهم: تنبأ مسيلمة، وقوله: "يا خاتم النُّبَآء....".
والثاني: أنه أصل آخر بنفسه مشتقّ من "نَبَا ـ يَنْبُو": إذا ظهر وارتفع، ولا شَكّ أن رتبة النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ مرتفعة، ومنزلته ظاهرة بخلاف غيره من الخَلْقِ، والأصل: "نبيو وأنبواء"، فاجتمع الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء كـ "ميت" في "ميوت"، وانكسر ما قبل الواو في الجمع فقلبت ياء، فصار: أنبياء.
والواو في "النبوة" بدل من الهمزة على الأول، وأصل بنفسها على الثّاني، فهو "فعيل" بمعنى "فاعل"، أي: ظاهر مرتفع، أو بمعنى مفعول أي: رفعه الله على خَلْقِهِ، أو يكون مأخوذاً من النبي الذي هو الطريق، وذلك أن النبي طريق الله إلى خلقه، به يتوصّلون إلى معرفة خالقهم؛ قال الشاعر: [البسيط]

547ـ لَمَّا وَرَدْنَ نُبَيًّا وَاسْتَتَبَّ بِنَا مُسْحَنْفِرٌ كَخُطُوطِ النَّسْجِ مُنْسَحِلُ

وقال الشاعر: [المتقارب]

548 - لأَصْبَحَ رَتْماً دُقَاقَ الحَصَى مَكَانَ النَّبِيِّ مِنَ الكَاثِبِ

"الرَّتْم" ـ بالتاء المثناة والمثلثة جميعاً: الكسر.
و "الكَاثِب" بالمثلثة: اسم جَبَل، وقالوا في تحقير نُبُوّة مسيلمة: نَبِيئة.
وقالوا: جمعه أنبياء قياس مُطّرد في "فعيل" المعتل نحو: "وَلِيّ وأولياء، وصَفِيّ وأصفياء".
وأما قَالُون فإنما ترك الهمز في الموضعين المذكورين لمَدْرَكٍ آخر، هو أنه من أصله في اجتماع الهمزتين من كلمتين إذا كانتا مكسورتين أن تسهل الأولى، إلا أن يقع قبلها حرف مدّ، فتبدل وتدغم، فلزمه أن يفعل هنا ما فعل في:
{ بِٱلسُّوۤءِ إِلاَّ } [يوسف:53] من الإبدال والإدغام، إلاّ أنه روي عنه خلاف في: { بِٱلسُّوۤءِ إِلاَّ } ولم يُرْو عنه [هنا] خلافٌ كأنه التزم البدل لكثرة الاستعمال في هذه اللَّفظة وبابها، ففي التحقيق لم يترك همزة "النَّبيّ"، بل همزه ولما همزه أدّاه قياس تخفيفه إلى ذلك، ويدلّ على هذا الاعتبار أنه إنما يَفْعَل ذلك حيث يَصِل، أمّا إذا وقف فإنه يهمزه في الموضعين، لزوال السَّبب المذكور، فهو تارك للهمز لفظاً آتٍ به تقديراً.
فإن قيل: قوله: "يَكْفُرُونَ" دخل تحته قتل الأنبياء، فَلِمَ أعاد ذكره؟
فالجواب: إن المذكور هنا هو الكفر بآيات الله، وهو الجهل والجَحْد بآياته، فلا يدخل تحته قتل الأنبياء.
قوله: { بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } في محلّ نصب على الحال من فاعل "يقتلون" تقديره: يقتلونهم مبطلين، ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف تقديره: قتلاً كائناً بغير الحَقِّ، فيتعلّق بمحذوف.
قال الزمخشري: قتل الأنبياء لا يكون إلاَّ بغير الحَقّ، فما فائدة ذكره؟
وأجاب: بأن معناه أنهم قتلوهم بغير الحَقّ عندهم؛ لأنهم لم يقتلوا ولا أفسدوا في الأرض حتى يقتلوا، فلو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجهاً يستحقّون به القتل عندهم.
وقيل: إنما خرج وصفهم بذلك مخرج الصّفة لقتلهم بأنه ظلم في حقهم لاحقٌ، وهو أبلغ في الشناعة والتعظيم لذنوبهم.
وقيل: هذا التكرير للتأكيد، كقوله تعالى:
{ وَمَن يَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـهَاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } [المؤمنون:117]، ويستحيل أن يكون لمدعي الإله الثاني بُرْهَان.
وقيل: إن الله ـ تعالى ـ [لو ذمّهم على مجرد القتل قالوا: أليس أنّ الله يقتلهم، فكأنه تعالى قال: القَتْلُ الصادر من الله ـ تعالى ـ] قَتْلٌ بحقِّ، ومن غير الله قَتْلٌ بغير حق.
فإن قيل: كيف جاز أن يخلّي بين الكافرين [وقتل] الأنبياء؟
قيل: ذلك كرامة لهم، وزيادة في منازلهم كمن يقتل في سبيل الله من المؤمنين، وليس ذلك بِخُذْلان لهم.
قال ابن عباس والحسن رضي الله عنهم: لم يقتل قَطّ نبي من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وكل من أمر بقتال نصر.
فصل في أوجه ورود لفظ الحق
وقد ورد "الحَقّ" على أحد عشر وجهاً:
الأول: بمعنى "الجَزْم" لقوله تعالى:
{ وَيَقْتُلُونَ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } [آل عمران:112] أي: بغير جَزْمٍ كهذه الآية.
الثاني: بمعنى "الصّفة" قال تعالى:
{ ٱلآنَ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ } [البقرة:71] أي: بالصفة التي نعرفها.
الثالث: بمعنى "الصّدق" قال تعالى:
{ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنينَ } [الروم:47]، ومثله: { ذَٰلِكَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ ٱلْحَقِّ } [مريم:34] أي: قول الصدق.
الرابع: بمعنى: "وجب" قال تعالى:
{ وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي } [السجدة:13] أي: وجب، ومثله: { وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ } [غافر:6] أي: وجبت.
الخامس: بمعنى: "الولد" قال تعالى:
{ بَشَّرْنَاكَ بِٱلْحَقِّ } [الحجر:55] أي: بالولد.
السادس: الحقّ: الحُجّة قال تعالى:
{ فَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } [يونس:76] أي: جاءتهم الحجّة، وهي اليَدُ والعَصَاة.
السابع: بمعنى "القَضَاء" قال تعالى:
{ قَالَ رَبِّ ٱحْكُم بِٱلْحَقِّ } [الأنبياء:112] أي: اقض، ومثله: { وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ ٱلْحَقُّ يَأْتُوۤاْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } [النور:49].
الثامن: بمعنى: "التوحيد" قال تعالى:
{ بَلْ جَآءَ بِٱلْحَقِّ } [الصافات:37] أي بالتوحيد.
التاسع: الحَقّ: الإسلام قال تعالى:
{ وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ } [الإسراء:81] أي: جاء الإسلام، وذهب الكفر، ومثله: { أَفَمَن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ } [يونس:35] أي: إلى الإسلام، ومثله: { إِنَّكَ عَلَى ٱلْحَقِّ ٱلْمُبِينِ } [النمل:79].
العاشر: بمعنى القرآن، قال تعالى:
{ بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ } [ق:5] أي: بالقرآن.
الحادي عشر: الحَقّ: هو الله تعالى، قال تعالى:
{ وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ } [المؤمنون:71] أي: في إيجاد الولد، ومثله: { وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ } [العصر:3] أي: بالله.
قوله: "ذَلِكَ بِمَا عَصَوا" مثل ما تقدم.
وفي تكرير اسم الإشاره قولان:
أحدهما: أنه مُشَار به إلى ما أشير بالأول إليه على سبيل التأكيد.
والثاني: ما قاله الزمخشري: وهو أن يشار به إلى الكُفْرِ، وقَتْلِ الأنبياء، على معنى أن ذلك بسبب عصيانهم، واعتدائهم؛ لأنهم انهمكوا فيها.
و "ما" مصدرية، و "الباء" للسببية، أي بسبب عصيانهم، فلا محلّ لـ "عصوا" لوقوعه صلةً، وأصل "عَصَوْا": "عَصَيُوا" تحركت الياء وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفاً، فالتقى ساكنان [الياء] والواو، فحذفت الياء لكونها أوّل السّاكنين، وبقيت الفتحة تدلّ عليها، فوزنه "فَعَوْا".
وأصل "العصيان": الشدة. واعتصمت النَّوَاة: إذا اشتدت.
قوله: { وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } المراد منه الظُّلم، أو تجاوز الحَقّ إلى الباطل.
وأصل "الاعتداء": المُجَاوزة من "عَدَا" ـ "يَعْدُو"، فهو "افْتِعَال" منه، ولم يذكر متعلّق العصيان والاعتداء، ليعم كل ما يُعْصى ويعتدى فيه.
وأصل "يَعْتَدُون": "يَعْتَدِيُون"، ففعل به ما فعل بـ
{ تَتَّقُونَ } [البقرة:21] من الحذف والإعلال، وقد تقدم، فوزنه: "يَفْتَعُون".
والواو من "عصوا" واجبة الإدغام في الواو بعدها، لانفتاح ما قبلها، وليس فيها [مدٌّ] يمنع من الإدغام، ومثله:
{ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ } [آل عمران:20] وهذا بخلاف ما إذا انضم ما قبل الواو، فإن المَدّ يقوم مقام الحاجز بين المثلين: فيجب الإظهار، نحو: { ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ } [البقرة:25] ومثله: { ٱلَّذِى يُوَسْوِسُ } [الناس:5].
فإن قيل: ما الفرق بين ذكره "الحَقّ" هاهنا معرفاً، وبين ذكره في "آل عمران" منكراً في قوله
{ وَيَقْتُلُونَ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } [آل عمران:112]؟
والجواب: أن الحَقّ المعلوم الذي يوجب القتل فيما بين الناس هو قوله عليه الصلاة والسلام:
"لا يَحِلّ دَمُ امرىءٍ مسلم إلا بإحْدَى ثَلاَثٍ، كُفْر بعد [إيمان]، وزِنًى بعد [إحْصَان]، وقَتْل نفس بغير حق" .