التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ
٦٥
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ
٦٦
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

لما عدّد وجوه إنعامه عليهم شرح [إليهم] ما وجه إليهم من التشديدات.
و "اللام" في [لقد] جواب قسم محذوف تقديره: واللَّهِ لَقَد، وكذلك نظائرها.
قال بعض المتأخرين لها نحو أربعين معنى قال: وجميع أقسام "اللام" التي هي حرف معنى يرجع عند التَّحقيق إلى قسمين: عاملة، وغير عاملة.
فالعاملة قسمان: جارّة، وجازمة، وزاد الكوفيون النَّاصبة للفعل.
وغير العاملة خمسة أقسام: لام ابتداء، ولام فارقة، ولام الجواب، ولام موطّئة، ولام التعريف عند من جعل حرف التعريف أحادياً.
أما الجارة فلها ثلاثون قسماً مذكورة في كتب النحو.
وأمّا الجازمة فلام الأمر، والدعاء والالْتِمَاس. وحركة هذه اللام الكسر.
ونقل ابن مالك عن الفرّاء أن فتحها لغة، ويجوز إسكانها بعد الواو والفاء، وهو الأكثر.
وفي حذف لام الطلب وإبقاء عملها أقوال:
وأما اللام ـ [هنا فهي لام "كي"] عند الكوفيين، وعند البصريين لام جَرّ.
ولام الجحود نحو: ما كان زيد لِيَذْهَبَ، ولام الصَّيرورة، وتسمى لام التَّعَاقُب، ولام المآل واللام الزائدة كقوله:
{ يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } [النساء:26] واللام بمعنى الفاء كقوله: { رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ } [يونس:88] أي: فيضلوا. والكلام على هذه اللاَّمات ليس هذا موضعه، وإنما نبّهنا عليه، فيطلب من مكانه.
و "قد" حرف تحقيق وتوقّع، وتفيد في المضارع التقليلَ إلاّ في أفعالِ الله ـ تعالى ـ فإنها للتحقيق، وقد تخرج المضارع إلى المُضِيِّ كقوله: [البسيط]

563ـ قَدْ أَتْرُكُ القِرْنَ مُصْفَرًّا أنَامِلُهُ كَأَنَّ أثْوَابَهُ مُجَّتْ بِفِرْصَادِ

وهي أداة مختصّة بالفعل، وتدخل على الماضي والمضارع، وتحدث في الماضي التقريب من الحال.
وفي عبارة بعضهم: "قد" حرف يصحب الأفعال، ويُقَرَّب الماضي من الحال، ويحدث تقليلاً في الاستقبال.
والحاصل أنها تفيد مع الماضي أحد ثلاثة مَعَانٍ: التوقّع، التقريب، والتحقيق، ومع المضارع أحد أربعة معانٍ: التوقّع، والتقليل، والتكثير، والتحقيق. قال ابن مالك: "والدَّالة على التقليل تصرف المضارع"، وكذلك الدّالة على التكثير. وأما الدالة على التحقيق، فقد تصرفه إلى المُضِيِّ، ولا يلزم فيها ذلك، وهي مع الفعل كجزء منه، فلا يفصل بينهما بغير القسم؛ كقوله: [الطويل]

564ـ أخَالِدُ قَدْ ـ وَاللّهِ - أَوْطَأْتَ عَشْوَةً وَمَا العَاشِقُ المَظْلُومُ فِينَا بِسَارِقِ

وإذا دخلت على الماضي، فيشترط أن يكون متصرفاً، وإذا دخلت على المضارع، فيشترط تجرّدهُ من جازم وناصب، وحرف تنفيس، وتكون اسماً بمعنى "حَسْب"؛ نحو: "قَدْنِي دِرْهَمٌ"، أي: حَسْبِي، وتتّصل بها نون الوقاية مع ياء المتكلم غالباً، وقد جمع الشاعر بين الأمرين، قال: [الرجز]

565ـ قَدْنِي مِنْ نَصْرِ الخُبْيبَيْنِ قَدِي

والياء المتّصلة بـ "قدني" في موضع نصب إن كان "قَدْني" اسم فعل، وفي موضع جرّ إن كانت بمعنى "حَسْب".
والياء في "قدي" تحتمل أن تكون بمعنى "حسبي"، ولم يأت بنون الوقاية على أحد الوجهين، وتحتمل أن تكون اسم فعل، وحذفت النون للضرورة، وتحتمل أن تكون اسم فعل، والياء للإطلاق.
وإن كانت حرفاً جاز حذف الفعل بعدها، كقوله: [الكامل]

566ـ أَزِفَ التَّرَحُّلُ غَيْرَ أَنَّ رَكَابَنَا لَمّا تَزُلْ بِرِحَالِنَا وَكَأَنْ قِدِ

أي: قد زالت.
وللقسم وجوابه أحكام تأتي إن شاء الله تعالى [مفصلة].
و "عَلِمْتُم" بمعنى: عرفتم، فيتعدّى لواحد فقط.
والفرق بين العِلْمِ والمَعْرفة أن العلم يستدعي معرفة الذات، وما هي عليه من الأحوال نحو: "علمت زَيداً قائماً أو ضاحكاً"، والمعرفة تستدعي معرفة الذَّات.
وقيل: لأن المعرفة يسبقها جهل، والعلم قد لا يسبقه جهل، ولذلك لا يجوز إطلاق المعرفة عليه سبحانه وتعالى.
و "الَّذِينَ اعْتَدَوا" الموصول وصِلَتُهُ في محصل نصب مفعول به، ولا حاجة إلى حذف مضاف كما قدره بعضهم، أي: أحكام الذين اعتدوا؛ لأن المعنى عرفتم أشخاصهم وأعيانهم.
وأصل "اعْتَدَوْا": "اعْتَدَيُوا"، فأعلّ بالحذف، ووزنه "افْتَعَوْا"، وقد عرف تصريفه ومعناه.
و "منكم" في محلّ نصب على الحال من الضمير في "اعتدوا"، ويجوز أن يكون من "الذين". أي من المعتدين كائنين منكم.
و "من" للتبعيض.
و "في السَّبْتِ" متعلّق بـ "اعتدوا"، والمعنى: في حكم السبت.
وقال أبو البقاء: وقد قالوا: "اليوم السَّبت"، فجعلوا "اليوم" خبراً عن "السبت"، كما يقال: "اليوم القِتَال"، فعلى ما ذكرنا يكون في الكلام حذف، تقديره: في يوم السَّبْت، فالسّبت في الأصل مصدر "سَبَتَ" أي: قطع العمل.
وقال ابن عطية: والسَّبْت: إما مأخوذ من "السُّبُوت" الذي هو الراحة والدَّعَة، وإما من "السَّبْت" وهو القَطْع؛ لأن الأشياء فيه سبتت، وتمت خِلْقَتُهَا.
ومنه قولهم: سبت رأسه أي: حلقه.
وقال الزمخشري: "والسّبت مصدر [سبتت] اليهود: إذا عظمت يوم السبت". وفيه نظر، فإنّ هذا اللفظ موجود، واشتقاقه مذكور في لسان العرب قبل فعل اليَهُود ذلك، اللّهم إلا [أن] يريد هذا السبت الخاصَّ المذكور في هذه الآية.
والأصل فيه المصدر كما ذكرت، ثم سمي به هذا اليوم من الأسبوع، لاتفاق وقوعه فيه كما تقدم أن خلق الأشياء تَمّ وانقطع، وقد يقال: يوم السبت فيكون مصدراً.
وإذا ذكر معه "اليوم"، أو مع ما أشبهه من أسماء الأزمنة مما يتضمّن عملاً وحدثاً جاز نصب "اليوم"، ورفعه، نحو: "اليوم الجمعة"، "اليوم العيد" كما يقال: "اليوم الاجتماع والعَوْد".
فإن ذكر مع "الأحد" وأخواته وجب الرفع على المشهور، وتحقيقها مذكور في [كتب] النحو.
فصل في قصة عدوانهم بالصيد
روي عن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنه ـ أنه قال: هؤلاء القوم كانوا في زمان دَاوُدَ ـ عليه الصلاة والسلام ـ بـ "أيلة" على ساحل البحر بين "المدينة" و "الشام" وهو مكان يجتمع إليه الحيتان من كل أرض في شهر من السّنة حتى لا يرى الماء لكثرتها، وفي غير ذلك الشهر في كل سَبْت يجتمعون هناك حتى يخرجن بخراطيمهن من الماء لأمنها، فإذا مَضَى السَّبت تفرقن، ولزمن قَعْرَ البحر فذلك قوله:
{ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ } [الأعراف: 163] فعمد رجال فحفروا حِيَاضاً عند البحر، وشرعوا إليها الجَدَاول، فإذا كانت عشية يوم الجمعة فَتَحُوا تلك الجداول، فكانت الحيتان تدخل إلى الحِيَاض، فلا تطيق الخروج منها لبعد عُمْقِها، وقلّة الماء، فيأخذونها يوم الأحد.
وقيل: كانوا ينصبون الحَبَائل والشّصُوص يوم الجمعة، ويخرجونها يوم الأحد، وذلك هو اعتداؤهم، ففعلوا ذلك زماناً واشتغلوا وهم خائفون من العقوبة، فلما طال العَهْدُ، ولم تنزل عقوبة قَسَتْ قلوبهم [وتجرءوا] على الذنب فاسْتَنّ الأبناء بِسُنَّة الآباء، واتخذوا الأموال، وقالوا: ما نرى السبت إلاّ وقد أحل لنا، فمشى إليهم طوائف من أهل المدينة الذين كرهوا الصيد في السبت، ونهوهم عن ذلك فلم ينتهوا، وقالوا: نحن في هذا العمل منذ زمان، فما زادنا الله به إلا عِزًّا فقيل لهم: لا تفتروا فربما نزل بكم العَذَابُ، فانقسموا ثلاثة أصناف: صنف أَمْسَكَ وانتهى، وصنف ما أمسك ولم يَنْتَهِ، وصنف انتهكوا الحرمة فلما أبوا قَبُولَ النصح قال الناهون: والله لا ننساكم فقسموا القرية بجدار، ومكثوا على ذلك سنين، فلعنهم داود ـ عليه الصلاة والسلام ـ وغضب الله عز وجل عليهم لإصرارهم على المعصية، فخرج النَّاهون ذات يوم من بابهم، والمجرمون لم يفتحوا بابهم، ولم يخرج منهم أحد فلما أبطئوا تَسَوّروا عليهم الحائط، فإذا هم جميعاً قردة خاسئين.
فإن قيل: إذا كانوا قد نهوا عن الاصْطِيَاد يوم السَّبت، فما الحكمة في أن أكثر الحيتان يوم السَّبت دون سائر الأيام؟
فالجواب: أما على مذهب أهل السُّنة فإرادة الإضلال جائزة من الله تعالى.
وأما على مذهب المعتزلة، فالتشديد في التكاليف حسن لغرض ازدياد الثواب.
و "قِردَةً خَاسِئِيْنَ" يجوز فيه أربعة أوجه:
أحدها: أن يكونا خبرين، قال الزَّمخشري: "أي: كونوا جامعين بين القِردَيّة والخسوء".
وهذا التقدير منه بناء على أن الخبر لا يتعدّد، فلذلك قدرهما بمعنى خبر واحد من باب: "هذا حُلْو حَامض" وقد تقدّم القول فيه.
والثَاني: أن يكون "خاسئين" نعتاً لـ "قردة" قاله أبو البقاء. وفيه نظر من حيث إنّ القردة غير عقلاء، وهذا جمع العقلاء.
فإن قيل: المخاطبون عقلاء؟ فالجواب: أنّ ذلك لا يفيد؛ لأن التقدير عندكم حينئذ: كونوا مثل قردة من صفتهم الخُسوء، ولا تعلّق للمخاطبين بذلك، إلا أنه يمكن أن يقال: إنهم مشبَّهُون بالعقلاء كقوله:
{ لِي سَاجِدِينَ } [يوسف:4] و { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [فصلت:11].
والثالث: أن يكون حالاً من اسم "كونوا"، والعامل فيه "كونوا"، وهذا عند من يجيز لـ "كان" أن تعمل في الظروف [والأحوال] وفيه خلاف سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى عند قوله:
{ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً } [يونس:2].
الرابع: وهو الأجود أن يكون حالاً من الضمير المُسْتكنّ في "قردة"؛ لأنه في معنى المشتق أي: كونوا ممسوخين في هذه الحال.
وجمع "فِعْل" على "فِعَلَة" قليل لا يَنْقَاس.
ومادة "القرد" تدلّ على اللُّصوق والسكون، تقول: قَرَد بمكان كذا: أي: لصق به وسكن، ومنه: الصُّوف "الْقَرَد" أي: المتداخل، ومنه أيضاً: "القُرَادُ" هذا الحيوان المعروف ويقال: "خسأته فخَسَاً، فالمتعدي والقاصر سواء نحو: زاد وغاض وقيل: خسأته فخسىء وانسخاً، والمصدر "الخسوء" و "الْخَسْء".
وقال الكسائي: "خسأت الرجل خسأ، وخسأ هو خسوءاً"، ففرق بين المصدرين.
والخسوء: الذّلة والصَّغار والطرد والبعد، ومنه: خسأت الكلب قال مجاهد وقتادة والربيع: وهي لغة "كنانة".
وقال أبو روق: يعني خرساً لقوله تعالى:
{ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [المؤمنون:108] والمراد من هذا الأمر سرعة التكوين لا نفس الأمر. روي عن مجاهد رضي الله عنه أن الله ـ تعالى ـ مسخ قلوبهم يعني: بالطَّبع والخَتْم، إلا أنه مَسَخَ صورهم لقوله { كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [الجمعة:5] وهذا مَجَاز ظاهر [مشهور].
فصل في المقصود من ذكر هذه القصة
والمقصود من ذكر هذه القصّة أمران:
الأول: إظهار معجزة سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه كالخطاب لليهود الذي كانوا في زمانه، فلما أخبرهم ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ عن هذه الواقعة مع أنه كان أمياً لم يقرأ ولم يكتب، ولم يخالط القوم ـ دلّ على أنه إنما عرفه بالوحي.
والثاني: أنه ـ تعالى ـ لما أخبرهم بما عاجل به أصحاب السّبت، فكأنه يقول لهم: لا تتمردوا ولا تغتروا بالإمهال، فينزل بكم ما نزل بهم، ونظيره قوله تعالى
{ يَٰأَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ } [النساء:47] الآية.
فإن قيل: إنهم بعد أن صاروا قردةً لا يبقى لهم فَهْم، ولا عَقْل، ولا علم، فلا يعلمون ما نزل بهم من العذاب، ووجود القرديّة غير مؤلم.
فالجواب: لم لا يجوز أن يقال: إنّ الذي كان إنساناً عاقلاً فاهماً كان ثابتاً لم يتغير، وإنما تغيرت الصورة فلم يقدر على النّطق والأفعال الإنسانية، لكنها كانت تعرف ما نالها من تغير الخِلْقة بسبب المعصية، فكانت في نهاية الخوف والخَجَل، وربما كانت متألمة بسبب تغير تلك الأعضاء؟.
فإن قيل: أولئك القردة بقوا أو هلكوا، فإن بقوا فالقردة الموجودون في زماننا هل يجوز أن يكونوا من نَسْلِهِمْ أم لا؟
فالجواب: الكل جائز، إلاّ أن الرواية عن ابن عباس أنهم مكثوا ثلاثة أيام، ثم هلكوا ولم يأكلوا ولم يشربوا، ولم ينسلوا.
قال ابن عطية: وروي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال
"إن المَمْسوخ لا يَنْسِلُ، ولا يَأْكل، ولا يَشْرَب، ولا يَعِيْش أكثر من ثَلاَثَة أيام" . قاله القُرْطبي. وهذا هو الصحيح.
واحتج ابن العَرَبيّ وغيره على أن المَمْسُوخَ يَعيش، ويَنسل، لقوله عليه الصلاة والسلام:
"إنّ امة من بَنِي إِسْرَائِيْلَ لا يُدْرى ما فعلت ولا أراها إلا الفَأْر ألا ترونها إذا وضع لها أَلْبَان الإِبِلِ لم تَشْرَبْهُ وإذا وضع لها أَلْبَان الشَّاة تشربها" .
ويقول جابر رضي الله عنه: "أُتِيَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِضَبٍّ فأَبى أن يأكل منه وقال: لا أَدْرى لعلّه من القُرُون التي مُسِحَتْ" . وروى البخاري عن عمر بن ميمن أنه قال: "رأيت في الجاهلية قردةً قد زَنَتْ فرجموها فرجمتها معهم".
قال ابن العربي: فإن قيل: كيف تعرف البَهَائم الشرائع حتى ورثوها خَلْفاً عن خَلْفٍ إلى زمان عمر؟
قلنا: نعم! كان ذلك؛ لأن اليهود غَيَّرُوا الرَّجم، فأراد الله أن يقيمه في مسوخهم حتى يكون أبلغ في قيام الحُجَّة على ما أنكروا وغيّروه، حتى تشهد عليهم كتبهم، وأَخْبارهم، ومسوخهم، حتى يعلموا أنّ الله يعلم ما يُسِرُّون وما يعلنون.
قال القرطبي: ولا حُجّة في شيء من ذلك، أما حديث الفأر والضَّبّ فكان هذا حَدْساً منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل أن يوحى إليه أنّ الممسوخ لا يعيش ولا يَنْسل.
وأما حديث القردة ففي بعض الروايات لم يذكروا فيها أنها زنت إنما ذكر الرَّجم فقط، وإنما أخرجه البخاري دلالة على أن [عمر بن ميمون أدرك الجاهلية، ولم يُبَالِ بظنه الذي ظنه في الجاهلية، وذكر ابن عبد البر أن] عمرو بن ميمون من كبار التابعين من الكوفيين، هو الذي رأى الرجم في الجاهلية من القردة.
"فَجَعَلْنَاهَا" فعل وفاعل ومفعول.
"نَكَالاً" مفعول ثانٍ لـ "جعل" التي بمعنى "صير"، والأول هو الضمير، وفيه أقوال: أحدها: يعود على المَسْخَة.
وقيل: على القرية، لأن الكلام يقتضيها كقوله:
{ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً } [العاديات:4] أي: بالمكان.
وقيل: على العقوبة.
وقيل: على الأمة.
"النكال": المنع، ومنه: النّكل، والنِّكلْ: اسم للقيد من الحديد، واللِّجَام؛ لأنه يُمنع به، وسمي العقاب نَكَالاً؛ لأنه يُمنْع به غير المعاقب أن يفعل فِعْلَه، ويمنع المعاقب أن يعود إلى فَعله الأول.
و "التنكيل": إصابة الغير بالنِّكَال لِيُردَعَ غيره، ونَكَلَ عن كذا يَنْكلُ نُكُولاً: امتنع، وفي الحديث:
"إنّ الله يحب الرُّجُلَ النِّكل" أي: القوي على الغرس.
"والْمَنْكَل": مَا يُنكَّلُ به الإنسان، قال: [الرجز]

567ـ فَارْمِ عَلَى أَقْفَائِهِمْ بِمَنْكَلِ

والمعنى: أنا جعلنا ما جرى على هؤلاء عقوبة رادعة لغيرهم.
والضمير في "يَدَيْهَا" و "خلفها" كالضمير في "جَعَلْنَاهَا".
قال ابن الخطيب: لما قبلها وما معها وما بعدها من الأمم والقرون، لأن مَسْخَهُمْ ذكر في كتب الأولين، فاعتبروا بها، "ما يحضرها من [القرون] والأمم. وما خَلْفَهَا من بعدهم.
وقال الحَسَنُ: عقوبة لجميع ما ارتكبوه من هذا الفعْلِ، وما بعده.
و "مَوْعِظَةً" عطف على "نَكَالاً" وهي "مَفعِلَةٌ"، من الوَعْظ وهو التخويف.
وقال الخليل: "التذكير بالخير فيما يرق له القلب".
والاسم: "العظة" كـ "العِدَة" و "الزِّنَة" و "لِلْمُتَّقِينَ" متعلّق بـ "موعظة"، واللام للعلّة، وخصّ المتّقين بالذِّكر وإن كانت موعظةً لجميع العالم البَرّ والفاجر؛ لأن المنتفع بها هم المتقون دون غيرهم، ويجوز أن تكون اللام [مقوية]؛ لأن "موعظة" فرع على الفعل في العمل فهو نظير
{ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [البروج:16] فلا تعلّق لها لزيادتها، ويجوز أن تكون متعلّقة بمحذوف؛ لأنها صفة لـ "موعظة".
أي: موعظة كائنة للمتّقين، أي: يعظ المتقون بعضهم بعضاً.