التفاسير

< >
عرض

وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ
٧٨
فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ
٧٩
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

واعلم أنه ـ تعالى ـ لما وصف اليهود بالعِنَادِ، وأزال الطمع عن إيمانهم بين فرقهم، فالفرقة الأولى هي الضَّالة المضلّة، وهم الذين يحرّفون الكلم عن مواضعه.
والفرقة الثانية: المنافقون.
والفرقة الثالثة: الذين يُجَادلون المنافقين.
والفرقة الرابعة: هم المذكورون هنا، وهم العامة الأمّيون الذين لا يعرفون القراءة، ولا الكتابة، وطريقتهم التقليد وقَبُول ما يقال لهم، فبين الله ـ تعالى ـ أن المُمْتَنِعِينَ عن الإيمان ليس سبب ذلك واحداً، بل لكل قسم سبب.
وقال بعضهم: هم بعض اليهود والمنافقين.
وقال عكرمة والضَّحاك: "هم نصارى العرب".
وقيل: "هم قوم من أهل الكتاب رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها، فصاروا آمنين". وعن علي ـ رضي الله عنه ـ هم المجوس.
قوله: "مِنْهُمْ" خبر مقدم، فتعلّق بمحذوف. و "أمّيون" مبتدأ مؤخر، ويجوز على رأي الأخفش أن يكون فاعلاً بالظرف قبله، وإن لم يعتمد.
وقد بنيت على ماذا يعتمد فيما تقدم.
و "أُمِّيُّونَ" جمع "أمّي" وهو من لا يَكْتب ولا يَقْرأ.
واختلف في نسبته فقيل: إلى "الأمّ" وفيه معنيان:
أحدهما: أنه بحال أُمّه التي ولدته من عدم معرفة الكتابة، وليس مثل أبيه؛ لأن النساء ليس من شُغْلهن الكتابة.
والثاني: أنه بحاله التي ولدته أمه عليها لم يتغير عنها، ولم ينتقل.
وقيل: نسب إلى "الأُمَّة" وهي القَامَة والخِلْقَة، بمعنى أنه ليس له من النَّاس إلا ذلك.
وقيل: نسب إلى "الأُمَّة" على سَذَاجتها قبل أن يَعْرِف الأشياء، كقولهم: عامي أي: على عادة العامة.
وعن ابن عَبَّاس: "قيل لهم: أميون؛ لأنهم لم يصدقوا بأم الكتاب".
وقال أبو عبيدة: "قيل لهم: أُميون، لإنْزَال الكتاب عليهم، كأنهم نسبوا لأم الكتاب".
وقرأ ابن أبي عَبْلة: "أُمِّيُون" بتخفيف الياء كأنه استثقل توالي تضعيفين.
وقيل: الأمي: من لا يُقِرّ بكتاب ولا رسول.
قوله: "لاَ يَعْلَمُونَ" جملة فعلية في محلّ رفع صفة بـ "أميون"، كأنه قيل: أميون غير عالمين.
قوله: "إِلاَّ أَمَانِيَّ" هذا استثناء منقطع؛ لأن "الأماني" ليست من جنس "الكتاب"، ولا مندرجة تحت مدلوله، وهذا هو المُنْقطع، ولكن شرطه أن يتوهّم دخوله بوجه ما، كقوله:
{ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ } [النساء:157] وقوله النَّابغة: [الطويل]

601ـ حَلَفْتُ يَمِيناً غَيْرَ ذِي مَثْنَوِيَّةٍ وَلاَ عِلْمَ إِلاَّ حُسْنَ ظَنٍّ بِصَاحِبِ

لأن بذكر العلم اسْتُحضِر الظن، ولهذا لا يجوز: صَهَلَتِ الخيل إلاَّ حماراً.
واعلم أن المنقطع على ضربين: ضرب يصحّ توجه العامل عليه، نحو: جاء القوم إلاّ حماراً. وضرب لا يتوجه نحو ما مثل به النحاة: "ما زاد إلا ما نقص"، و "ما نفع إلا ما ضر" فالأول فيه لُغتان: لغة "الحجاز" وجوب نصبه، ولغة "تميم" أنه كالمتّصل، فيجوز فيه بعد النفي وشبهه النصب والإتباع.
والآية الكريمة من الضرب الأول، فيحتمل في نصبها وَجْهان:
أحدهما: على الاستثناء المنقطع.
والثاني: أنه بدل من "الكتاب".
و "إلاّ" في المنقطع تقدر عند البصريين بـ "لَكِنَّ"، وعند الكونفيين بـ "بل"، وظاهر كلام أبي البقاء أن نصبه على المصدر بفعل مَحْذُوف، فإنه قال: "إلا أماني" استثناء منقطع؛ لأن الأماني ليس من جنس العلم، وتقدير "إلاّ" في مثل هذا بـ "لكن" أي: لكن يتمنونه أماني، فيكون عنده من باب الاستثناء المفرّغ المنقطع، فيصير نظير: "ماعلمت إلا ظنّاً". [وفيه نظر].
الأَمَاني جمع "أُمْنِيَّة" بتشديد الياء فيها.
وقال أبو البَقَاءِ: "يجوز تخفيفها فيها".
وقرأ أبو جعفر بتخفيفها، حَذَفَ إحدى الياءين تخفيفاً.
قال الأخفش: "هذا كما يقال في جمع مفتاح: مفتاح ومفاتيح".
قال النَّحَّاس: "الحذف في المعتلّ اكثر"؛ وأنشد قول النابغة: [الطويل]

602ـ وَهَلْ يُرْجِعُ التَّسْلِيمَ أو يَكْشِفُ العَمَى ثَلاثُ الأَثَافِي والرُّسُومُ البَلاَقِعُ

وقال أبو حَاتِمٍ: "كلّ ما جاء واحده مشدداً من هذا النوع فلك في الجمع الوجهان". وأصله يرجع إلى ما قال الأخفش.
ووزن "أمنية": "أُفْعُولَة" من تَمَنَّى يَتَمَنَّى: إذا تلا وقرأ؛ قال: [الطويل]

603ـ تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ آخِرَ لَيْلِهِ تَمَنِّيَ دَاوُدَ الزَّبُورَ عَلَى رِسْلِ

وقال كعب بن مالك: [الطويل]

604ـ تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ وآخِرَهُ لاَقَى حِمَامَ المقَادِرِ

وقال تعالى: { إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَانُ فِيۤ أُمْنِيَّتِهِ } [الحج:52] أي: قرأ وتلا.
والأصل على هذا: "أُمْنُويَة" فأعلت إعلال "ميت" و "سيد" وقد تقدم.
وقيل: الأمنية: الكذب والاختلاق.
قال أعرابي لابن دَأْب في شيء يحدث به: أهذا الشيء رويته أم تمنيته أي: اختلقته.
وقيل: ما يتمنّاه الإنسان ويشتهيه.
وقيل: ما يقدره ويحزره من مَنَّى: إذا كذب، أو تمنى، أو قدر؛ كقوله: [البسيط]

605ـ لاَ تَأْمَنَنَّ وَإِنْ أَمْسَيْتَ في حَرَمٍ حَتَّى تُلاَقِيَ مَا يَمْنِي لَكَ المَانِي

أي: يقدر لك المقدر.
قال الراغب: والمني: التقدير، ومنه "المَنَا" الذي يُوزَن به، ومنه "المنية" وهو الأجل المقدر للحيوان، "والتَّمَنِّي": تقدير شيء في النفس وتصويره فيها، وذلك قد يكون عن ظنّ وتخمين، وقد يكون بناء على رَوِيَّةٍ وأصل، لكن لما كان أكثره عن تخمين كان الكذب أملك له، فأكثر التمني تصوّر ما لا حقيقة له [والأمنية: الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء]. ولما كان الكذب تصوّر ما لا حقيقة له وإيراده باللفظ الدَّال صار التمني كالمبدأ للكذب فعبر عنه.
ومنه قوله عثمان: "ما تغنيت ولا تمنيت منذ أسلمت".
وقال الزمخشري: والاشتقاق من منَّى: إذا قدَّر؛ لأن المتمني يُقَدِّرُ في نفسه، ويَحْزر ما يتمناه، وكذلك المختلق، والقارىء يقدر أن كلمة كذا بعد كذا، فجعل بين هذه المعاني قدراً مشتركاً وهو واضح.
وقال أبو مسلم: حَمْله على تمني القلب أولى بقوله تعالى:
{ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } [البقرة:111].
وقال الأكثرون: حمله على القراءة أليق؛ لأنا إذا حَمَلْنَاه على ذلك كان له به تعلّق، فكأنه قال: لا يعلمون الكتاب إلاَّ بقدر ما يتلى عليهم فيسمعونه، وبقدر ما يذكر لهم فيقبلونه، ثم إنَّهُمْ لا يتمكّنون من التدبُّر والتأمل، وإذا حمل على أن المراد الأحاديث والأكاذيب أو الظن والتقدير وحديث النفس كان الاستثناء فيه نادراً.
قوله: { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } "إن" نافية بمعنى "ما" وإذا كانت نافية المشهور أنها لا تعمل عمل "ما" الحِجَازية.
وأجاز بعضهم ذلك ونسبه لسيبويه، وأنشد: [المنسرح]

606ـ إنْ هُوَ مُسْتَوْلِياً عَلَى أَحَدٍ إلاَّ عَلَى أَضْعَفِ المَجَانِينِ

"هو" اسمها، و "مستولياً" خبرها.
فقوله: "هم" في محل رفع الابتداء لا اسم "إن" لأنها لم تعمل على المشهور، و "إلا" للأستثناء المفرغ، ويظنون في محلّ الرفع خبراً لقوله "هم".
وحذف مفعولي الظَّن للعمل بهما واقتصاراً، وهي مسألة خلاف.
فصل في بطلان التقليد في الأصول
الآية تدلّ على بطلان التقليد.
قال ابن الخطيب: وهو مشكل؛ لأن التقليد في الفروع جائز عندنا.
قوله: { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ } "ويل" مبتدأ، وجاز الابتداء به وإن كان نكرة، لأنه دعاء عليهم، والدعاء من المسوغات، سواء كان دعاء له نحو: "سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ" أو دعاء عليه كهذه الآية، والجار بعده الخبر، فيتعلّق بمحذوف.
وقال أبو البقاء: ولو نصب لكان له وجه على تقدير: ألزمهم الله ويلاً، واللام للتبيين؛ لأن الاسم لم يذكر قبل المصدر يعني: أن اللام بعد المنصوب للبيان، فيتعلّق بمحذوف. وقوله: لأن الاسم لم يذكر قبل، يعني أنه لو ذكر قبل "ويل" فقلت: "ألزم الله زيداً ويلاً" لم يحتج إلى تبيين بخلاف ما لو تأخر. وعبارة الجرمي توهم وجوب الرفع في المقطوع عن الإضافة؛ ونصّ الأخفش على جواز النّصب، فإنه قال: ويجوز النصب على إضمار فعل أي: ألزمهم الله ويلاً.
واعلم أن "وَيْلاً" وأخواته وهي: "وَيْح" و "وَيْس" و "وَيْب" و "وَيْه" و "ويك" و "عَوْل" من المصادر المنصوبة بأفعال من غير لفظها، وتلك الأَفْعَال واجبة الإضمار، لا يجوز إظهارها ألبتة؛ لأنها جعلت بدلاً من اللفظ بالفعل، وإذا فصل عن الإضافة فالأحسن فيه الرفع نحو: "ويل له" وإن أضيف نصب على ما تقدم، وإن كانت عبارة الجرمي توهم وجوب الرفع عند قَطْعه عن الإضافة، فإنه قال: فإذا أدخلت اللاّم رفعت فقلت: "ويل له" و "ويح له" كأنه يريد على الأكثر، ولم يستعمل العرب منه فعلاً؛ لاعتلال عينه وفائه. وقد حكى ابن عرفة: "تَوَيَّلَ الرجل" إذا دعا بالوَيْلِ. وهذا لا يرد؛ لأنه مثل قولهم: سَوَّفْتَ ولَوْلَيت إذا قلت له: سَوْفَ وَلَوْ.
ومعنى الويل: شدة الشر، قاله الخليل.
وقال الأَصْمَعِيّ: الويل: التفجُّع، والويح: الترحم.
وقال سيبويه: وَيْلٌ لمن وقع في الهَلكة، وويح زجر لمن أشرف على الهلاك.
وقيل: الويل: الحزن.
وهل "ويل وويح وويس وويب" بمعنى واحد أو بينها فرق؟ خلاف فيه، وقد تقدم ما فرق به سيبويه في بعضها.
وقال قوم: "ويل" في الدعاء عليه، و "ويح" وما بعده ترحم عليه.
وزعم الفراء أنّ أَصْل "ويل": وَيْ، أي: حزن، كما تقول: وي لفلان أي حُزْنٌ له، فوصلته العرب باللاّم، وقدرت أنها منه فأعربوها، وهذا غريب جدًّا.
ويقال: وَيْلٌ وَوَيْلَة.
وقال امرؤ القيس [الطويل]

607ـ لَهُ الوَيْلُ إنْ أَمْسَى وَلاَ أُمُّ عَامِرٍ لَدَيْه وَلاَ البَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يَشْكُرَا

وقال أيضاً: [الطويل]

608ـ وَيَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ فَقَالَتْ: لَكَ الوَيْلاَتُ إِنَّكَ مُرْجِلِي

فـ "وَيْلات" جمع "وَيْلة" لا جمع "وَيْل" كما زعم ابن عطية؛ لأن جمع المذكر بالألف والتاء لا ينقاس.
قال ابن عباس رضي الله عنه: "الويل العذاب الأليم"، وعن سفيان الثورى أنه قال: "صديد أهل جهنم". وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:
"الوَيْلُ وَادٍ في جَهَنَّمَ يَهْوِي فِيهِ الكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفاً قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ" ].
وقال سعيد بن المسيب: "وَادٍ في جهنم لو سيرت فيه جبال الدّنيا لانماعت من شدّة حره".
وقال ابن يزيد: "جبل من قَيْح ودم".
وقيل: صهريج في جهنم.
وحكى الزهراوي عن آخرين: أنه باب من أبواب جَهَنّم.
وعن ابن عباس: الويل المشقّة من العذاب.
وقيل: ما تقدم في اللغة.
قوله: "بِأَيْدِيْهِمْ" متعلّق بـ "يكتبُون"، ويبعد جعله حالاً من "الكتاب"، والكتاب ـ هنا ـ بعض المكتوب، فنصبه على المفعول به، ويبعد جعله مصدراً على بابه، وهذا من باب التأكيد، فإن [الكتابة] لا [تكون] بغير اليد، [ونظيره]:
{ وَلاَ طَآئِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [الأنعام:38] { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم } [آل عمران:167].
وقيل: فائدة ذكره أنهم باشروا ذلك بأنفسهم، ولم يأمروا به غيرهم، فإنّ قولهم: فعل كذا يحتمل أنه أمر بفعله ولم يباشره، نحو: "بنى الأمير المدينة" فأتى بذلك رفعاً لهذا المجاز.
وقيل: فائدة [ذكره أنهم باشروا ذلك بأنفسهم، ولم يأمروا به غيرهم. ففائدته] بيان جرأتهم ومجاهرتهم، فإن المُبَاشر للفعل أشدّ مواقعة ممن لم يباشره.
وهذان القولان قريبان من التأكيد، فإنّ أصل التأكيد رفع توهّم المجاز.
وقال ابن السراج: ذكر الأيدي كناية عن أنهم اختلقوا ذلك من تِلْقَائهِمْ، ومن عند أنفسهم، وهذا الذي قاله لا يلزم.
والأيدي: جمع "يد"، والأصل: أَيْدُيٌ بضم الدال كـ "فلس وأفلس" في القِلّة، فاستثقلت الضمة قبل الياء، فقلبت كسرة للتجانُس، نحو: "بيض" جمع "أبيض"، والأصل "بُيْض" بضم الباء كـ "حمر" جمع "أحمر"، وهذا رأي سيبويه، أعني أنه يقر الحرف ويغير الحركة، ومذهب الأخفش عكسه، وسيأتي تحقيق مذهبهما عند ذكر "معيشة" إن شاء الله تعالى.
وأصل "يد": يَدْيٌ ـ بسكون العين.
وقيل: يَدَيٌ ـ بتحريكها ـ فَتحرَّكَ حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفاً، فصار: يَداً كـ "رَحًى" وعليه التثنية: يَدَيَانِ وعليه أيضاً قوله: [الزجز]

609ـ يَا رُبَّ سَارٍ بَاتَ ما تَوَسَّدَا إلاَّ ذِرَاعَ العَنْزِ أَوْ كَفَّ اليَدَا]

والمشهور في تثنيتها عدم ردِّ لامها، قال تعالى: { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [المائدة:64] { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [المسد:1] وقد شذّ الردُّ في قوله: يَدَيَانِ؛ قال: [الكامل]

610ـ يَدَيَانِ بَيْضَاوَانِ عِنْدَ مُحَلَّمٍ قَدْ يَمْنَعَانِكَ أَنْ تُضَامَ وتُقْهَرَا

و "أياد" جمع الجمع، نحو: كلب وأكلب وأكالب، ولا بد في قوله: "يَكْتُبُونَ الكِتَابَ" من حذف يصح معه المعنى، فقدره الزمخشري: "يكتبون الكتاب المحرف"، وقدره غيره حالاً من الكتاب تقديره: ويكتبون الكتاب محرفاً، وإنما [أحوج] إلى هذا الإضمار؛ لأن الإنكار لا يتوجّه على من كتب الكتاب بيده إلا إذا حرفه غيره.
قوله: "لِيَشْتَرُوا" اللام: لام كي، وقد تقدمت، والضمير في "به" يعود على ما أشاروا إليه بقوله "هذا من عند الله".
و "ثَمَناً" مفعوله.
وقد تقدّم تحقيق دخول الباء على غير الثمن عند قوله:
{ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } [البقرة:41] فليلتفت إليه، واللاّم متعلقة بـ "يقولون" أي: يقولون ذلك لأجل الاشتراء.
وأبعد من جعلها متعلّقة بالاستقرار الذي تضمنه قوله: { مِنْ عِنْد اللَّهِ }.
قوله: { مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ } متعلّق بـ "ويل" أو بالاستقرار في الخبر.
و "من" للتعليل و "ما" موصولة اسمية، والعائد محذوف، ويجوز أن تكون نكرة موصوفة.
والأول أقوى، والعائد أيضاً محذوف أي: كتبته، ويجوز أن تكون مصدرية، أي: من كَتْبِهِمْ.
و { وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } مثل ما تقدم قبله، وإنما كرر الوَيْل؛ ليفيد أن الهَلَكَة متعلقة بكل واحد من الفعلين على حِدَته لا بمجموع الأمرين، وإنا قدم قوله: "كَتَبَتْ" على "يَكْسِبُون"؛ لأن الكتابة مقدمة، فنتيجتها كَسْب المال، فالكَتْب سبب والكَسْب مسبب، فجاء النظم على هذا.
فصل في سبب هذا الوعيد
هذا الوعيد مرتّب على أمرين: على الكتابة الباطلة لقصد الإضلال، وعلى أن المكتوب من عند الله، فالجمع بينهما منكر عظيم.
وقوله: { لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } تنبيه على أمرين:
الأول: أنه يدلّ على نهاية شقاوتهم؛ لأن العاقل لا يرضى بثمن قليل في الدنيا يحرمه الأجر العظيم الأبدي في الآخرة.
والثاني: إنما فعلوا ذلك طلباً للمال والجَاهِ، وهذا يدلّ على أن أَخْذَ المال بالباطل وإن كان بالتّراضي فهو مُحَرّم؛ لأن الذي كانوا يعطونه من المال كان عن محبة ورضا.
وقوله: { فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } دليل على أخذهم المال عليه، فلذلك كرر [ذكر] الويل.
واختلفوا في قوله: "يَكْسِبُونَ" هل المراد سائر معاصيهم، أو ما كانوا يأخذون على الكتابة والتحريف؟
والأقرب في نظم الكلام أنه راجعٌ إلى الكَسْب المأخوذ على وجه الكتابة والتحريف، وإن كان من حيث العموم أنه يشمل الكل.
فصل في الرد على المعتزلة
قال القاضي: دلت الآية على أن كتابتهم ليست خلقاً لله ـ تعالى ـ لأنها لو كانت خلقاً لله ـ تعالى ـ لكانت إضافتها إليه ـ تعالى ـ بقولهم: { هو من عند الله } حقيقة؛ لأنه ـ تعالى ـ إذا خلقها فيهم فَهَبْ أن العبد يكتسب إلا أن نسبة ذلك الفعل إلى الخالق أقوى من انتسابه إلى المكتسب، فكان إسناد تلك الكتابة إلى الله ـ تعالىـ أولى من إسنادها إلى العَبْدِ، فكان يجب أن يستحقوا الحمد على قولهم فيها: إنها من عند الله، ولما لم يكن كذلك علمنا أن تلك الكتابة ليست مخلوقة لله تعالى.
والجواب: أنَّ الداعية الموجبة لها من خَلْق الله كما تقدم في مسألة الداعي.
فصل
يروى أن أَحْبار اليهود خافوا ذهاب كَلِمتهم ومآكلهم وزوال رِيَاستهم حين قدم رسول الله صلى لله عليه وسلم "المدينة" فاحْتَالوا في تَعْويق اليهود عن الإيمان، فعمدوا إلى صفة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة فغيّروها، وكان صفته فيها حَسَن الوجه، حَسَن الشعر، أَكْحَل العينين رَبْعة القامة فغيّروها وكتبوا مكانها طويلاً أَزْرق سَبْطَ الشعر، فإذا سألهم سَفَلتهم عن محمد صلى الله عليه وسلم قرءوا ما كتبوه عليهم، فيجدونه مخالفاً لصفته فيكذبونه.
وقال أبو مَالِكٍ: نزلت هذه الآية في الكاتب الذي كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيغير ما يملي عليه.
روى الثعلبي بإسناده
"عن أنس أن رجلاً كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم وكان قد قرأ البقرة و آل عمران وكان النبي صلى الله عليه وسلم تلا غفوراً رحيماً فكتب عليماً حكيماً فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: اكْتُبُ كَيْفَ شِئْتَ قال: فارتد ذلك الرجل عن الإسلام، ولحق بالمشركين فقال: أنا أعلمكم بمحمد إنِّي كنت أكتب ما شئت، فمات ذلك الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ الأَرْضَ لاَ تَقْبَلُهُ قال: فأخبرني أبو طَلْحَة: أنه أتى الأرض التي مات فيها، فوجده منبوذاً."
قال أبو طلحة: ما شأن هذا الميت؟ قالوا دفناه مراراً فلم تقبله الأرض.