التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمْ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ
٨٧
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

روي عن ابن عباس أن التَّوراة لما نزلت أمر الله موسى بِحَمْلِهَا فلم يطق ذلك، فبعث لكل حرف منها ملكاً فلم يطيقوا حملها، فخفّفها الله على موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فحملها.
[قوله]: { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ } التضعيف في "قَفَّيْنَا" ليس للتَّعدية؛ إِذْ لو كان كذلك لتعدّى إلى اثنين؛ لأنه قيل: التضعيف يتعدّى لواحد، نحو: "قَفَوْتُ زَيْداً"، ولكنه ضُمِّن معنى "جئنا" كأنه قيل: وجئنا من بعده بالرُّسل.
فإن قيل: يجوز أن يكون متعدياً لاثنين على معنى أنَّ الأول محذوف، والثاني "بالرسل" والباء فيه زائدة تقديره: "وَقَفَّيْنَا من بعده الرسل".
فالجَوَاب: أن كثرة مجيئه في القرآن كذلك يبعد هذا التَّقْدِير، وسيأتي لذلك مزيد بيان في "المائدة" [الآية:46] إن شاء الله تعالى.
و "قَفَّيْنَا" أصله: قَفَّوْناً، ولكن لما وقعت "الواو" رابعة قلبت "ياء"، واشتقاقه من "قَفَوْتُ"، وقَفَوْتُه إذا اتَّبَعْتُ قَفَاه، ثم اتُّسِع فيه، فأطلق على تابع، وإن بَعُدَ زمان التابع عن زمان المتبوع.
قال أميَّةُ: [البسيط]

646ـ قَالَتْ لأُخْتٍ لَهُ قُصِّيهِ عَنْ جُنُبٍ وَكَيْفَ تَقْفُو وَلاَ سَهْلٌ وَلاَ جَبَلُ

و "القَفَا": مؤخّر العُنُق، ويقال له: القافية أيضاً، ومنه الحديث: "يعقد الشيطان على قَافِيَة رَأْس أَحَدِكُمْ" .
والقَفَاوَة: ما يدّخر من اللّبن وغيره لمن تريد إكرامه، وقفوت الرجل: قذفته بِفُجُور، "وفلان قِفْوتِي": أي تُهْمتي، وقِفْوتي أي خيرتي.
قال ابن دريد: كأنه من الأضداد.
ومنه قافية الشعر؛ لأنها يتلو بعضها بعضاً، ومعنى قفّينا: أي أتبعنا، كقوله:
{ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا } [المؤمنون:44].
و "مِنْ بَعْدِهِ" متعلق به، وكذلك: "بالرُّسُل" وهو جمع رسول بمعنى مُرْسَل، وفُعُل غير مقيس في "فعيل" بمعنى "مفعول" وسكون العين لغة "الحجاز" وبها قرأ الحسن، والضم لغة "تميم" وبها قرأ السَّبعة إلاَّ أبا عمر، وفيما أضيف إلى"نا" أو "كم" أو "هم"، فإنه قرأ بالسكون لتوالي الحركات.
فصل في تعيين الرسل المقفى بهم
هؤلاء الرُّسل: يوشع، وشمويل، وداود، وسليمان، وشعياء، وأرمياء، وعزير، وحزقيل، وإلياس، ويونس، وزكريا، ويحيى، وغيرهم.
وروي أن بعد موسى إلى أيام عيسى كانت الرسل متواترةً، ويظهر بعضهم في أثر البعض.
والشريعة واحدة في أيام عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فإنه جاء بشريعة مجدّدة، والدليل على ذلك قوله: { وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ }؛ لأنه يقتضي أنهم على حدٍّ واحدٍ في الشريعة يتبع بعضهم بعضاً فيها. وقال القاضي: إنَّ الرسول الثاني لا يجوز أن يكون على شِرْعَةِ الأوّل بحيث لا يؤدي إلا تلك بعينها من غير زيادة ولا نُقْصَان، مع أنّ تلك الشريعة محفوظةٌ يمكن معرفتها بالتَّواتر عن الأول؛ لأن الرَّسُول إذا كان هذا حاله لم يمكن أن يعلم من جهة إلاَّ ما كان قد علم من قبل، أو يمكن أن يعلم من قبل، فكما لا يجوز أن يبعث الله رسولاً لا شريعة معه أصلاً، فكذا هاهنا، فثبت أنه لا بد وأن يكونوا قد بعثوا بشريعة جديدة إن كانت الأولى محفوظةً، أو محيية لبعض ما اندرس من الشَّريعة الأولى.
والجواب: لم لا يجوز أن يكون المقصود من بعثة هؤلاء الرسل التعبُّد بتلك الشريعة السَّابقة بنوع آخر من الأَلْطَاف لا يعلمه إلا الله؟
فصل في لفظ عيسى
[قوله]: "عيسى": علم أعجمي فلذلك لم ينصرف، وقد تكلم النحويون في وَزْنِهِ، واشتقاقه على تقدير كونه عَرَبيَّ الوضع فقال سيبويه: وزنه "فِعْلَى" والياء فيه ملحقة ببنات الأربعة كياء "مِعْزى" بالياء لا الألف، سمّاها ياء لكتابتها بالياء.
وقال الفارسي: ألفه ليست للتأنيث كـ "ذِكْرَى"، بدلالة صرفهم له في النكرة.
وقال عثمان بن سعيد الصيرفي: وزنه "فِعْللَ" فالألف عنده أصيلة بمعنى أنها مُنْقلبة عن أصل. ورد عليه ذلك ابن البَاذش بأن الياء والواو لا يكونان أصليين في بنات الأربعة، فمن قال: إن "عيسى" مشتق من "الْعَيْس": وهو بياض تُخالطه شُقْرة ليس بمصيب، لأن الأعجمي لا يدخله اشتقاق ولا تصريف.
وقل الزمخشري: "وقيل: عيسى بالسُّريانية يشوع".
قوله: "ابن مريم" عطف بيان له أو بدل، ويجوز أن يكون صفة إلا أن الأول أولى؛ لأن "ابن مريم" جرى مجرى العلم له، وللوصف بـ "ابن" أحكام تخصّه، ستأتي إن شاء الله تعالى مبينة، وقد تقدم اشتقاق "ابن" وأصله.
و "مريم" أصله بالسّريانية صفة بمعنى الخَادِمِ، ثم سُمِّيَ به؛ فلذلك لم ينصرف، وفي لغة العرب: هي المرأة التي تُكْثر مخالطة الرجال كـ "الزِّير" من الرجال، وهو الذي يكثر مُخالطتَهُن.
قال رؤبة: [الرجز]

647ـ قُلْتُ لِزِيرٍ لَمْ تَصِلْهُ مَرْيَمُهْ

و "ياء" الزّير عن واو؛ لأنه من "زار ـ يزور" فقلبت للكسرة قبلها كـ "الريح"، فصار لفظ "مريم" مشتركاً بين اللِّسَانين، ووزنه عند النحويين "مَفْعَل" لا "فَعْيَل"، قال الزمخشري: لأن "فَعْيلاً"، بفتح الفاء لم يثبت في الأبنية كما ثبت نحو: "عثير وعِلَيْب" وقد أثبت بعضهم "فَعْيلاً"، وجعل منه نحو: "ضهيد": اسم مكان و "مَدْين" على القول بأصالة ميمه و "ضهيأ" بالقَصْر ـ وهي المرأة التي لا تحيض، أو لا ثَدْيَ لها، مشتقّة من "ضَاهَأَتْ" أي: "شابهت"؛ لأنها شابهت الرجال في ذلك، ويجوز مدّها قاله الزَّجَّاج.
وقال ابن جني: وأما "ضهيد وعثير" فمصنوعان فلا دلالة فيهما على ثبوت "فَعْيَل"، وصحة الياء في "مريم" على خلاف القياس، إذْ كان من حقّها الإعلال بنقل حركة الياء إلى الراء، ثم قَلْب الياء ألفاً نحو: "مُبَاع" من البيع، ولكنه شذّ كما شذ "مَزْيَد ومدين".
وقال أبو البقاء: ومريم على أعجمي، ولو كان مشتقّاً من "رام ـ يَرِيم" لكان مَرِيْماً بسكون الياء. وقد جاء في الأعلام فتح الياء نحو: [مزيد] وهو على خلاف القياس.
و "البَيِّنَات" قيل: هي المُعْجِزَات المذكورة في سورة "آل عمران" و "المائدة".
وقيل: الإنجيل.
وقيل: أعم من ذلك.
قوله: "وَأَيَّدْنَاهُ" معطوف على قوله: "وَآتيْنَا عِيسَى".
وقرأ الجمهور: "وَأَيَّدْنَاهُ" على "فَعَّلْنَاهُ"، وقرأ مجاهد وابن محيصن ويروى عن أبي عمرو: "وَآيَدْنَاهُ" على "أَفْعَلْنَاهُ"، والأصل فيه: "أَأْيد" بهمزتين ثانيتهما ساكنة، فوجب إبدال الثانية ألفاً نحو: "أأمن" وبابِه، وصححت العين كما صحّت في "أغيلت وأغميت" وهو تصحيح شاذّ إلا في فعل التعجّب نحو: ما أبين وأطول.
وحكي عن أبي زيد أن تصحيح "أغيلت" مقيس.
فإن قيل: لم لا أعلّ "أَيَّدْنَاه" كما أعلّ نحو: أَبَعْنَاهُ حتى لا يلزم حمله على الشَّاذ؟.
فالجواب: أنه لو أعلّ بأن ألقيت حركة العَيْن على الفاء، فيلتقي ساكنان العين واللام، فتحذف العين لالتقاء الساكنين، فتجتمع همزتان مَفْتُوحتان، فيجب قلب الثانية واواً نحو: "أوادم" فتتحرك الواو بعد فتحة، فتقلب ألفاً فيصير اللفظ: أَأَدْنَاهُ؛ لأدّى إلى إعلال الفاء والعين، فالأجل ذلك رُفِضَ بخلاف أَبَعْنَاه وأقمناه، فإنه ليس فيه إلاَّ إعلال العَيْن فقط، قال أبو البقاء: فإن قلت: فلم لم تحذف الياء التي هي عَيْن كما حذفت من نحو: "أسلناه" من "سال ـ يسيل"؟.
قيل: لو فعلوا ذلك لتوالى إِعْلاَلاَن:
أحدهما: قلب الهمزة الثانية ألفاً، ثم حَذْفُ الألف المبدلة من الياء لسكونها، وسكون الألف قبلها، فكان يصير اللَّفط أدْنَاه، فتحذف الفاء والعين، وليس "أَسَلْنَاه" كذلك؛ لأن هناك حذفت العين فقط.
وقال الزمخشري في "المائدة": "أَيَّدْتُك على أَفْعَلْتُكَ".
وقال ابن عطية: "على فاعَلْتُكَ"، ثم قال: "ويظهر أنَّ الأصل في القراءتين: أفعلتك، ثم اختلف الإعلال" والذي يظهر أن "أَيَّدَ" فَعَّلَ لمجيء مضارعه على يُؤَيِّد بالتشديد، ولو كان أَيَّدَ بالتشديد بزنة "أَفْعَل" لكان مضارعه "يُؤْيِدُ" كـ "يُؤْمِنُ" من "آمن" وأما آيَدَ ـ بالمدّ ـ فَيحْتَاج في نقل مُضَارعة إلى سماع، فإن سُمِع "يُؤايِد" كـ "يُقَاتل" فهو "فَاعَلَ" فإن سمع "يُؤْيِد" كـ "يكرم" و "آيَد" فهو أَفْعَلَ، ذكر جميع ذلك أبو حَيّان في "المائدة"، ثم قال: إنه لم يظهر كلام ابن عطيّة في قوله: "اختلف الإعلال"، وهو صحيح، إلاَّ أن قوله: والذي يظهر أن "أَيَّد" في قراءة الجمهور "فَعَّل" لا "أَفْعَل" إلى آخره فيه نظر؛ لأنه يُشْعِرُ بجواز شيء آخر متعذّر. كيف يتوهّم أن "أَيَّدَ" بالتشديد في قراءة الجمهور بزنة "أَفَعْلَ"، هذا ما لا يقع.
و "الأَيْد": القوة.
قال عبد المطّلب: [الرجز]

648ـ أَلْحَمْدُ لِلَّهِ الأعَزِّ الأَكْرَمِ أَيَّدَنَا يَوْمَ زُحُوفٍ الأَشْرَمِ

والصحيح أن "فَعَّلَ" و "أفْعَل" هنا بمعنى واحد وهو"قَوَّيْنَاهُ"، وقد فرق بعضهم بينهما، فقال: "أما المَدُّ فمعناه: القوة، وأما القَصْر فمعناه: التأييد والنصر" وهذا في الحقيقة ليس بفرق، وقد أبدلت بعض العرب في آيَدَ على أَفْعَلَ الياء جيماً فقالت: آجَدَهُ أي قواه.
قال الزمخشري: "يقال: الحمد لله الذي آجَدَني بعد ضَعْف، وأوجدني بعد فَقْر". وهذا كما أبدلوا من يائه جيماً فقالوا: لا أفعل ذلك جَدَ الدَّهْرِ أو مد الدهر، وهو إبدال لا يطّرد.
ومن إبدال الياء جيماً قول الراجز: [الرجز]

649ـ خَالِي عُوَيْفٌ وَأَبُو عَلِجِّ أَلْمُطْعِمَانِ اللَّحْمَ بِالْعَشِجِّ

يريد: "وأبو علي" و "بالعشي".
قوله: "بِرُوحِ القُدُسِ" متعلق بـ "أيدناه".
وقرأ ابن كثير: "القُدْس" بإسكان الدال، والباقون بضمها، وهما لغتان: الضم لـ "الحجاز" والإسكان لـ"تميم"، وقد تقدم ذلك، وقرأ أبو حيوة: "القُدُّوس" بواو، فيه لغة فتح القاف والدال معناه: الطَّهارة أو البركة كما [تقدم عند قوله:
{ وَنُقَدِّسُ لَكَ } [البقرة:30]] و "الروح" في الأصل: اسم للجزء الذي تحصل به الحياة في الحيوان، قاله الرَّاغب.
فصل في المراد بـ "روح القدس"
اختلفوا في "روح القُدُس" هنا على وجوه:
أحدها: أنه جبريل عليه السلام؛ لقول حسّان: [الوافر]

650ـ وجبْرِيلٌ رَسولُ اللهِ فِينَا ورُوحُ القُدْسِ لَيْسَ بِهِ كِفَاءُ

قال الحسن: القُدُس هو الله عزّ وجلّ، وروحه: جبريل، قال تعالى: { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُسِ } [النحل:102] وقيل: سمي جبريل روحاً لِلَطَافته ولمكانته من الوَحْي الذي هو سبب حياة القلوب.
قال النحاس: وسمي جبريل روحاً أو أضيف إلى القدس؛ لأنه كان بتكوين الله عزّ وجلّ له روحاً من غير ولادة والد والده [وقيل: المارد بروح القدس الإنجيل كما قال في القرآن "روحاً من أمرنا" لأنه الذي يوحى به]، وكذلك سمي عيسى روحاً لهذا.
وقال ابن عَبَّاس وسعيد بن جُبَيْرٍ: "هو الاسم الأعظم الذي كان يحيي به عيسى الموتى".
وقيل: هو الروح الذي نفخ فيه.
والقُدُس والقُدُّوس هو الله، فنسب روح عيسى إلى نفسه تعظيماً وتشريفاً، كما يقال: بَيْت الله، ونَاقَة الله؛ قاله الربيع وغيره، كقوله:
{ فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [التحريم:12] وعلى هذا المراد به الروح الذي يحيى به الإنسان.
[واعلم أن إطلاق الروح على "جبريل" وعلى الإنجيل والاسم الأعظم مجاز].
قوله: { أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ } الهمزة هنا ـ للتوبيخ والتَّقريع، والفاء للعطف عَطَفَتْ هذه الجملة على ما قَبْلَها، واعْتُنِيَ بحرف الاستفهام فَقُدِّم، وتقدم تحقيق ذلك، وأن الزمخشري يقدر بين الهمزة وحرف العطف جملةً ليعطف عليها، وهذه الجملة يجوز أن تكون معطوفة على ما قبلها من غير حذف شيء كأنه قال: ولقد آتينا يا بني إسرائيل أنبياءكم ما آتيناهم فكلما جاءكم رسول.
ويجوز أن يُقَدَّر قبلها محذوف أي: ففعلتم ما فعلتم فكلما جاءكم رسول، وقد تقدّم الكلام في "كلما" عند قوله "كُلَّمَا أَضَاءَ"، والناصب لها هنا استكبرتم.
و "جاء" يتعدّى بنفسه تارة كهذه الآية، وبحرف الجر أخرى، نحو: "جئت إليه" و "رسول"فَعُول" بمعنى "مفعول" أي: مُرْسَل، وكون "فَعُول" بمعنى "المفعول" قليل، جاء منه: "الرَّكُوب والحَلُوب"، ويكون مصدراً بمعنى: الرِّسالة قاله الزمخشري؛ وأنشد: [الطويل]

651ـ لَقَدْ كَذَبَ الوَاشُونَ ما فُهْتُ عِنْدَهُمْ بِسِرٍّ وَلاَ أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ

أي: برسالة، ومن عنده: { إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الشعراء:16].
قوله: { بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمْ } متعلّق بقوله: "جاءكم" و "ما" موصولة بمعنى الَّذِي، والعائد محذوف لاستكمال الشّروط والتقدير: بما لا تَهْوَاه، و "تهوى" مضارع "هَوِي" بكسر العين ولامه من ياء؛ لأن عينه واو، وباب "طويت وشويت" أكثر من باب "قُوَّةٌ وحُوةٌ" ولا دليل في "هَوِي" لانكسار العين، وهو مثل "شَقِي" من الشّقاوة، وقولهم في تثنية مصدر هوي: هَوَيان أدلُّ على ذلك.
ومعنى تهوى: تحبّ وتختار، وأصل الهَوَى: الميل، سمي بذلك؛ لأنه يَهْوي بصاحبه في النار، ولذلك لا يستعمل غالباً إلاّ فيما لا خير فيه، وقد يستعمل فيما هو خير، ففي الحديث الصحيح قول عمر في أسارى "بدر": "فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يَهْو ما قلت".
وعن عائشة رضي الله عنها: "والله ما أرى رَبَّك إلا يُسَارع في هواك". وجمعه "أهواء".
قال تعالى:
{ بِأَهْوَائِهِم } [الأنعام:119] ولا يجمع على "أَهْوِية"، وإن كان قد جاء "نَدَى" و"أنْدِية"؛ قال الشاعر: [البسيط]

652ـ فِي لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى ذَاتِ أَنْدِيَةٍ لاَ يُبْصِرُ الكَلْبُ مِن ظَلْمَائِهَا الطُّنُبَا

وأما "هَوَى يَهْوِي" بفتحها في الماضي وكسرها في المضارع فمعناه السُّقوط، و"الهَوِيُّ" بفتح الهاء، ذهاب في انْحِدَار.
و "الهُوِيُّ": ذهاب في صعود وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى.
وأسند الفعل إلى "الأنفس" دون المُخَاطب فلم يقل: "بما لا تَهْوُون" تنبيهاً على أنّ النفس يُسْند إليها الفعل السيّىء غالباً نحو:
{ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ } [يوسف:53] { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ } [يوسف:18] و"استكبر" بمعنى: "تكبر".
قوله: "فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ"الفاء" عاطفة جملة "كذبتم" على "استكبرتم"، و "فريقاً" مفعول مقدم، قدم لتتفق رؤوس الآي، وكذا: "فَرِيقاً تَقْتُلُونَ"، ولا بُدّ من محذوف، أي: فريقاً منهم، والمعنى أنه نشأ عن اسْتِكْبَارهم مُبَادرة فريق من الرسل بالتكذيب، ومبادرةُ آخرين بالقتل. وقدم التكذيب؛ لأنه أول ما يفعلونه من الشَّر؛ ولأنه مشترك بين المقتول وغيره، فإنَّ المقتولين قد كذبوهم أيضاً، وإنما لما يُصَرِّح به؛ لأنه ذكر أقبح منه في الفِعل. وجيء بـ "تقتلون" مضارعاً، إما لكونه مستقبلاً؛ لأنهم كانوا يَرُومُونَ قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك سحروه، وسَمُّوا له الشاة، وقال عليه الصلاة والسلام عند موته:
"مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَاوِدُنِي، فَهَذَا أوان انْقِطَاع أَبْهَرِي" ولما فيه من مُنَاسبة رؤوس الآي والفَوَاصل، وإما أن يراد به الحال الماضية؛ لأن الأمر فظيع، فأريد استحضاره في النُّفوس، وتصويره في القلوب.
وأجاز الرَّاغب أنْ يكون "ففريقاً كَذّبتم" معطوفاً على قوله: "وآتيناه"، ويكون "أفكلّما" مع ما بعده فصلاً بينهما على سبيل الإنْكَارِ. والأظهر الأول وإن كان ما قاله محتملاً.
فصل في بيان الذي استحق به بنو إسرائيل نهاية الذم
هذا نهاية الذَّم؛ لأن اليهود من بني إسرائيل كانوا إذا أتاهم رسول بخلاف ما يهوون كذبوه، وإن تهيأ لهم قتله قتلوه، لإرادتهم الرّفعة في الدنيا، وطلب لذاتها، والتَّرؤس على عامتهم، وأخذ أموالهم بغير حَقّ، وكانت الرسل تبطل عليهم ذلك، فيكذبونهم ويوهمون عوامهم كونهم كاذبين، ويحتجون في ذلك بالتحريف وسوء التأويل، وبعضهم كان يستكبر على الأنبياء استكبار إبليس على آدم عليه الصلاة والسَّلام، فلما سمعت اليهود ذكر عيسى ـ عليه الصَّلاة السلام ـ قالوا: يا محمد لا مثل عيسى فعلت كما تزعم ولا كما تقص علينا من الأنبياء فعلت فائتنا بما أتى به عيسى ـ عليه الصلاة والسَّلام ـ إن كنت صادقاً، فقال الله عز وجل: أفكلّما جَاءَكم يا معشر اليهود رسول بما لا تهوي أنفسكم استكبرتم، وتعظّمتم عن الإيمان به، فطائفة كذبتم مثل عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وطائفة تقتلون أي: قتلتم مثل: زكريا ويحيى وشعيب، وسائر من قتلوا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.