التفاسير

< >
عرض

يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
٩
فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ
١٠
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

قوله: "يخادعون" هذه الجملة الفعلية يحتمل أنْ تكون مستأنفةً جواباً لسؤال مقدّر هو: ما بالهم قالوا: آمنا وما هم بؤمنين؟
فقيل: يخادعون الله، ويحتمل أن تكون بدلاً من الجملة الواقعة صلة لـ "من" وهي "يقول"، ويكون هذا من بدل الاشْتِمَالِ؛ لأن قولهم كذا مشتمل على الخداع، فهو نظير قوله: [الرجز]

182- إِنَّ عَلَيَّ اللهَ أَنْ تُبَايِعَا تُؤْخَذَ كَرْهاً أَوْ تَجِيءَ طَائِعَا

وقول الآخر: [الطويل]

183- مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تَأَجَّجَا

فـ "تؤخذ" بدل اشتمال من "تبايع"، وكذا "تُلْمِم" بدلٌ من "تَأْتِنَا". وعلى هذين القولين، فلا مَحَلّ لهذه الجملة من الإعراب.
والجمل التي لا مَحَلّ لها من الإعراب أربع لا تزيد على ذلك - وإن توهّم بعضهم ذلك - وهي: المبتدأ والصِّلة والمُعْترضة والمفسّرة، وسيأتي تفسيرها في مواضعها.
ويحتمل أن تكون هذه الجملة حالاً من الضَّمير المستكن في ["يقول" تقديره: ومن الناس من يقول حال كونهم مخادعين.
وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً من الضمير المستكن] في "بمؤمنين"، والعامل فيها اسم الفاعل.
وقد ردّ عليه بعضهم بما معناه: أن هذه الآية الكريمة نظير: "ما زيد أقبل ضاحكاً"، قال: وللعرب في مثل هذا التركيب طريقان:
أحدهما: نفي القيد وحده، وإثبات أصل الفعل، وهذا هو الأكثر، والمعنى: أن الإقبال ثابت، والضحك منتفٍ، وهذا المعنى لا يتصوّر إرادته في الآية، أعني: نفي الخِدَاع، وثبوت الإيمان.
الطريق الثاني: أن ينتفي القَيْدُ، فينتفي العامل فيه، فكأنه قيل في المثال السابق: لم يقبل، ولم يضحك، وهذا المعنى - أيضاً - غير مراد بالآية الكريمة قطعاً، أعني: نفي الإيمان والخداع معاً، بل المعنى على نَفْي الإيمان، وثبوت الخداع، ففسد جعلها حالاً من الضمير في "بمؤمنين".
والعجب من أبي البَقَاءِ كيف استشعر هذا الإشكال، فمنع من جعل هذه الجملة في محل جر صفة لـ "مؤمنين"؟ قال: لأن ذلك يوجب نفي خِدَاعهم، والمعنى على إثبات الخداع، ثم جعلها حالاً من ضمير "بمؤمنين"، ولا فرق بين الحال والصفة في هذا.
و "الخداع" أصله: الإخفاءُ، ومنه الأَخْدَعَان: عِرْقان مُسْتَبْطنان في العُنُقِ، ومنه مخدع البيت، وخَدَع الضَّبُّ خِدْعاً: إذا توارى في جُحْرِه، وطريق خادع وخديع: إذا كان مخالفاً للمقصد، بحيث لا يفطن له؛ فمعنى يخادع: أي يوهم صاحبه خلاف ما يريد به المَكْروه.
وقيل: هو الفساد أي يفسدون ما أَظْهَرُوا من الإيمان بما أَضمروا من الكُفْرِ قال الشاعر: [الرمل]

184- أَبْيَضُ اللَّوْنِ لَذِيذٌ طَعْمُهُ طَيِّبُ الرِّيقِ إِذَا الرِّيقُ خَدَعْ

أي: فسد.
ومعنى "يُخَادعون الله" أي: من حيث الصورة لا من حيث المَعْنَى.
وقيل: لعدم عرفانهم بالله - تعالى - وصفاته ظنّوه ممن يُخَادَع.
وقال الزَّمخشري: إن اسم الله - تعالى - مُقْحَم، والمعنى: يخادعون الذين آمنوا، ويكون من باب: أعجبني زيد وكرمه. والمعنى: أعجبني كرم زيد، وإنَّما ذكر "زيد" توطئةً لذكر كرمه.
وجعل ذلك نظير قوله تعالى:
{ { وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [التوبة: 62]، { { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } [الأحزاب: 57]، وهذا منه غير مُرْضٍ؛ لأنه إذا صح نسبة مخادعتهم إلى الله - تعالى - بالأوجه المتقدّمة، فلا ضرورة تدعو إلى ادعاء زيادة اسم الله تعالى.
وأما "أعجبني زيد وكرمه"، فإن الإعجاب أسند إلى "زيد" بجملته، ثم عطف عليه بعض صفاته تمييزاً لهذه الصفة من بين سائر الصفات للشرف، فصار من حيث المعنى نظيراً لقوله تعالى:
{ { وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَٰلَ } [البقرة: 98].
والمصدر "الْخِدْع" بكسر الخاء، ومثله: الخديعة.
و "فَاعَلَ" له معانٍ خمسة:
المشاركة المعنوية نحو: ضارب زيد عمراً.
وموافقة المجرد نحو: "جاوزت زيداً" أي: جُزْتُه.
وموافقة "أفعل" متعدياً نحو: "باعدت زيداً وأبعدته". والإغناء عن "أفعل" نحو: "واريت الشيء".
وعن المجرد نحو: سافرت وقاسيت وعاقبت، والآية "فَاعَل" فيها يحتمل المعنيين الأوّلَيْن.
أما المشاركة فالمُخَادعة منهم الله - تعالى - تقدم معناها، ومخادعة الله إياهم من حيث إنه أجرى عليهم أَحْكام المسلمين في الدنيا، وَمُخَادعة المؤمنين لهم كونهم امتثلوا أمر الله - تعالى - فيهم، وأما كونه بمعنى المُجَرَّد، فيبينه قراءة ابن مسعود وأبي حَيَوَةَ "يَخْدَعُونَ". وقرأ أبو عمرو والحرميان "وَمَا يُخَادِعُونَ" كالأولى، والباقون "وَمَا يَخْدَعُونَ"، فيحتمل أن تكونا القراءتان بمعنى واحد، أي: يكون "فَاعَلَ" بمعنى "فَعَل"، ويحتمل أن تكون المُفَاعلة على بابها، أعني صدورها من اثنين، فهم يُخَادعون أنفسهم، حيث يُمَنُّونَها الأباطيل، وأَنْفُسهمْ تخادعهم تمنِّيهم ذلك، فكأنها مُحَاورة بين اثنين، ويكون هذا قريباً من قول الآخر: [المنسرح]

185- لَمْ تَدْرِ مَا لاَ؟ وَلَسْتَ قَائِلَهَا عُمْرَكَ ما عِشْتَ آخِرَ الأَبَدِ
وَلَمْ تُؤَامِرْ نَفْسَيْكَ مُمْتَرِياً فِيهَا وَفِي أُخْتِهَا وَلَمْ تَلِدِ

وقال آخر: [الطويل]

186- يُؤَامِرُ نَفْسَيْهِ وفِي الْعَيْشِ فُسْحَةٌ أَيَسْتَوْقِعُ الذُّوبَانَ أَمْ لاَ يَطُورُهَا

قال الزمخشري: الاقتصار بـ "خادعت" على وجهه أن يُقَال: عني به "فعلت"، إلا أنه على وزن "فاعلت"، لأن الزِّنَةَ في أصلها للمغالبة، والفعل متى غولب فيه جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مُغَالب لزيادة قوة الداعي إليه، ويعضده قراءة أبي حيوة المتقدمة.
وقرىء: "وَمَا يُخَدِّعُونَ"، ويُخَدَّعَونَ من خَدَّعَ مشدداً.
و "يَخَدِّعَونَ" بفتح الياء والتشديد؛ الأصل يختدعون، فأدغم.
وقرىء: "وما يُخْدَعُونَ"، "ويُخَادَعُونَ" على لفظ ما لم يسم فاعله، وتخريجها على أن الأصل "وَمَا يُخْدَعُونَ إِلاَّ عَنْ أنفسهم" فلما حذف الجَرّ انتصب على حَدّ: [الوافر]

187- تَمُرُّونَ الدِّيَارَ فَلَمْ تَعُوجُوا............................

"إلا أنفسهم"إلا" في الأصل حرف استثناء و "أنفسهم" مفعول به، وهذا استثناء مفرغ، وهو: عبارة عما افتقر فيه ما قبل "إلا" لما بعدها، ألا ترى أن "يخادعون" يفتقر إلى مفعول؟ ومثله: "ما قام إلا زيد"، فـ "قام" يفتقر إلى فاعل، والتَّام بخلافه، أي: ما لم يفتقر فيه ما قيل "إلا" لما بعدها، نحو: قام القوم إلاّ زيداً، وضربت القوم إلا بكراً، فقام قد أخذ فاعله، وضربت أخذ مفعوله، وشرط الاستثناء المُفَرَّغ أن يكون بعد نفي، أو شبهة كالاستفهام والنهي.
وأن قولهم: قرأت إلاّ يوم كذا، فالمعنى على نفي مؤول تقديره: ما تركت القراءة إلاَّ يوماً، هذا ومثله:
{ { وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ } [التوبة: 32] و { { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَاشِعِينَ } [البقرة: 45].
وللاستثناء أحكام كثيرة تأتي مفصّلة في مواضعها إن شاء الله تعالى.
والنَّفسُ: هنا ذات الشيء وحقيقته، ولا تختص بالأجسام لقوله تعالى:
{ { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } [المائدة: 116]، "وَمَا يَشْعُرُونَ" هذه الجملة الفعلية يحتمل إلا يكون لها محلّ من الإعراب؛ لأنها استئناف، وأن يكون لها محلّ، وهو النصب على الحال من فاعل "يخدعون" والمعنى: وما يرجع وَبَال خداعهم إلاَّ على أنفسهم غير شاعرين بذلك، ومفعول "يشعرون" محذوف للعلم به، تقديره: وما يشعرون أن وَبَالَ خداعهم راجع على أنفسهم، واطّلاع الله عليهم.
والأحسن ألا يقدّر مفعول؛ لأن الغرض نفي الشعور عنه ألبتة من غير نظر إلى مُتَعلَّقه، والأوّل يسمى حذف الاختصار، ومعناه: حذف الشيء بدليل.
والثاني يسمى حذف الاقتصار، وهو حذف الشيء لا لدليل.
والشُّعور: إدراك الشيء من وجه يدقّ، وهو مشتقّ من الشَّعَر لدقّته.
وقيل: هو الإدراك بالحاسّة مشتقّ من الشِّعَار، وهو ثوب يلي الجَسَد، ومنه مشاعر الإنسان أي: حواسّه الخمسة التي يشعر بها.
فصل في حد الخديعة
اعلم أن الخديعة مذمومة.
قال ابن الخطيب: "وَحَدُّهَا هي إظهار ما يوهم السّلامة والسّداد، وإبطال ما يقتضي الإضرار بالغير، أو التخلّص منه، فهو بمنزلة النِّفَاق في الكفر والرِّياء في الأفعال الحسنة، وكل ذلك بخلاف ما يقتضيه الدين؛ لأن الدين يوجب الاستقامة والعدول عن الغُرُورِ والإساءة، كما يوجب المُخَالصة في العبادة".
فصل في امتناع مخادعة الله تعالى
مخادعة الله - تعالى - ممتنعة من وجهين:
أحدهما: أنه يعلم الضَّمائر والسرائر، فلا يصح أن يُخَادَع.
والثاني: أن المنافقين لم يعتقدوا أن الله بعث الرسول إليهم، فلم يكن قصدهم في نفاقهم مخادعة الله، فثبت أنه لا يمكن إجْراءُ هذا اللفظ على ظاهره، فلا بُدّ من التأويل، وهو من وجهين:
الأول: أنه - تعالى - ذكر نفسه، وأراد به الرسول على عادته في تَفْخِيْمِ أمره، وتعظيم شأنه.
قال:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ } [الفتح: 10].
والمنافقون لما خادعوا [الله ورسوله] قيل: إنهم يخادعون الله.
الثاني: أن يقال: صورة حالهم مع الله حيث يظهرون الإيمان وهم كافرون صورة من يُخَادع، وصورة صنع الله معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده من الكَفَرةِ صورة صنع الخادع، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر الله فيهم، فأجروا أحكامه عليهم.
فصل في بيان الغرض من الخداع في الآية
الغرض من ذلك الخداع وجوه:
الأول: أنهم ظنوا أن النبي - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه يجرونهم في التَّعْظيم والإكرام مجرى سائر المؤمنين إذا أظهروا لهم الإيمان.
الثاني: يجوز أن يكون مرادهم إفشاء النبي - عليه الصلاة والسلام - أَسْرَاره، والاطِّلاع على أسرار المؤمنين، فينقلونها إلى الكفار.
الثالث: أنهم دفعوا عن أنفسهم أَحْكَام الكفار، كالقَتْلِ وغيره.
الرابع: أنهم كانوا يطمعون في أموال الغَنَائم.
فإن قيل: فالله تعالى كان قادراً على أن يوحي إلى نبيه كَيفية مَكْرِهِمْ وخداعهم، فَلِمَ لَمْ يَفْعَلْ ذلك هتكاً لسترهم؟
قلنا: هو قادر على استئصال "إبليس" وذريته ولكنه - تعالى - أبقاهم وقواهم، إما لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، أو لحكمة لا يطلع عليها إلا هو.
وقوله: { وما يَخْدَعُونَ إلا أنفسهم } فيه وجهان:
الأول: أنه - تعالى - يجازيهم على ذلك، ويعاقبهم عليه، فلا يكونون في الحقيقة خادعين إلاّ أنفسهم.
والثاني: ما ذكره أكثر المفسرين، وهو أن وَبَالَ ذلك راجع إليهم في الدنيا؛ لأن الله - تعالى - كان يدفع ضرر خِدَاعهم عن المؤمنين ويصرفه إليهم، وهو كقوله:
{ { إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [النساء: 142] ونظائره.
"في قلوبهم مرض" الجار والمجرور خبر مقدّم واجب التقديم لما تقدّم ذكره في قوله تعالى:
{ { وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَٰوَةٌ } [البقرة: 7]. والمشهور تحريك الراء من "مرض".
وَرَوَى الأصمعي عن أبي عمرو سكونها، وهما لغتان في مصدر مَرِضَ يَمْرَضُ.
"والمرض": الفتور.
وقيل: الفساد.
وقيل: صفة توجب وقوع الخَلَلِ في الأفْعال الصادرة عن الفاعل، ويطلق على الظلمة؛ وأنشدوا: [البسيط]

188- فِي لَيْلَةٍ مَرِضَتْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ فَما يُحِسُّ بِهِ نَجْمٌ وَلاَ قَمَرُ

أي: لظلمتها، ويجوز أن يكون أراد بـ "مَرِضَتْ" فَسَدْت، ثم بين جهة الفَسَادِ بالظُّلمة.
قوله: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً }.
هذه جملة فعلية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، متسبّبة عنها، بمعنى أنَّ سبب الزِّيَادة حصول المرض في قلوبهم، إذ المراد بالمرض هنا الغِلّ والحسد لظهور دين الله تعالى.
و "زاد" يستعمل لازماً ومتعدياً لاثنين ثانيهما غير الأول كـ "أَعْطَى وكَسَا"، فيجوز حذف مفعوليه، وأحدهما اختصاراً واقتصاراً، تقول: "زاد المال" فهذا لازم، و "زدت زيداً أجراً" ومنه:
{ { وَزِدْنَٰهُمْ هُدًى } [الكهف: 13]، { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } [البقرة: 10] و "زدت زيداً" ولا تذكر ما زدته، و "زدت مالاً" ولا تذكر من زدته.
وألف "زاد" منقلبة عن ياء؛ لقولهم: "يزيد".
وقرأ ابن عامر وحمزة: "فزادهم" بالإمالة.
وزاد حمزة إمالة "زاد" حيث وقع، و
{ { زَاغَ } [النجم: 17] { { وَخَابَ } [إبراهيم: 15]، و { { طَابَ } [النساء: 13]، و "حَاقَ" [الأنعام: 10]، والآخرون لا يميلونها.
فصل في أوجه ورود لفظ المرض
ورد لفظ "المرض" على أربعة أوجه:
الأول: الشّك كهذه الآية.
الثاني: الزِّنَا قال تعالى:
{ { فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [الأحزاب: 32].
الثالث: الحَرَجُ قال تعالى:
{ { أَوْ كُنتُم مَّرْضَىۤ أَن تَضَعُوۤاْ أَسْلِحَتَكُمْ } [النساء: 102].
الرابع: المرض بعينه.
قوله: { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } نظيره قوله تعالى:
{ { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } [البقرة: 7] وقد تقدّم. و "أليم" هنا بمعنى: مُؤْلِم، كقوله: [الوافر]

189- ونَرْفَعُ مِنْ صُدُورِ شَمَرْدَلاَتٍ يَصُكُّ وُجُوهَهَا وَهَجٌ أَلِيمُ

ويجمع على "فُعَلاَء" كـ: "شريف وشرفاء"، و "أفْعَال" مثل: "شريف وأشراف"، ويجوز أن يكون "فعيل": هُنَا للمُبَالغة محولاً من "فَعِل" بكسر العَيْنِ، وعلى هذا تكون نسبة الألم إلى العَذَابِ مجازاً، لأنّ الألم حلّ بمن وقع به العذاب لا بالعذاب، فهو نظير قولهم: "شِعْرٌ شَاعِر".
و { بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } متعلّق بالاستقرار المقدر في "لهم"، أي: استقر لهم عَذَابٌ أليم بسبب تكذيبهم.
و "ما" يجوز أن تكون مصدرية، أي: بكونهم يكذبون، وهذا على القول بأن لـ "كان" مصدراً، وهو الصحيح عند بعضهم للتصريح به في قول الشاعر: [الطويل]

190- بِبَذْلٍ وَحِلْمٍ سَادَ في قوْمِهِ الفَتَى وَكَوْنُكَ إِيَّاهُ عَلَيْكَ يَسِيرُ

فقد صَرّح بالكون، ولا جائز أن يكون مصدر "كان" التَّامة لنصبه الخبر بعدها، وهو "إياه" على أنَّ للنظر في هذا البيت مجالاً ليس هذا موضعه.
وعلى القول بأن لها مصدراً لا يجوز التصريح به معها، لا تقول: "كان زيد قائماً كوناً"، قالوا: لأن الخبر كالعوض من المصدر، ولا يجمع بين العوض والمُعَوَّض منه، وحينئذ فلا حَاجَةَ إلى ضمير عائد على "ما"؛ لأنها حرف مصدري على الصحيح، خلافاً للأخفش وابن السّراجِ في جعل المصدرية اسماً.
ويجوز أن تكون "ما" بمعنى "الذي"، وحينئذ فلا بُدّ من تقدير عائدٍ أي: بالذي كانوا يكذبونه، وجاز حَذْفُ العائد لاستكمال الشُّروط، وهو كونه منصوباً متصلاً بفعل، وليس ثمَّ عائد آخر.
وزعم أبو البَقَاءِ أن كون "ما" موصولةً اسميةً هو الأظهر، قال: لأنّ الهاء المقدرة عائدة على "الَّذِي" لا على المصدر. وهذا الَّذِي قاله غير لازم، إذ لقائل أن يقول: لا نسلّم أنه لا بُدَّ من هاءٍ مقدّرة حتى يلزم جعل "ما" اسمية، بل من قرأ { يَكْذِبُونَ } مخففاً فهو عنده غير متعدٍّ لمفعول، ومن قرأه مشدداً فالمفعول محذوف لفهم المعنى أي: بما كانوا يكذبون الرَّسول والقرآن، أو يكون المشدّد بمعنى المخفّف، وقرأ الكوفيون: { يَكْذِبُونَ } بالفتح والتَّخفيف، والباقون بالضَّم والتشديد.
و "يكذّبون" مضارع "كذَّب" بالتشديد، وله معانٍ كثيرة: الرَّمي بكذا، ومنه الآية الكريمة والتعدية نحو: "فَرَّحْتُ زيداً".
والتكثير نحو: "قَطَّعْتُ الأثواب".
والجعل على صفة نحو: "قَطَّرْتُه" أي: جعلته مقطراً؛ ومنه: [السريع]

191- قَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى وَجَارَاتُهَا مَا قَطَّرَ الفَارِسَ إِلاَّ أَنَا

والتسمية نحو: "فَسَّقْتُهُ" أي: سميته فاسقاً
والدعاء له نحو: "سَقَّيْتُهُ" أي قلت له: "سَقَاكَ الله".
أو الدعاء عليه نحو: "عَقَّرتُه" أي قلت: عَقْراً لك.
والإقامة على الشي نحو: "مَرَّضتُه" والإزالة نحو: "قَذَّيْتُ عينه" أي: أزلت قَذَاها.
والتوجّه نحو: "شَرَّقَ وغَرَّبَ"، أي: توجّه نحو الشرق والغرب.
واختصار الحكاية نحو: "أمَّنَ" قال: آمين.
وموافقة "تَفَعَّلَ" و "فَعَلَ" مخففاً نحو: وَلَّى بمعنى تولّى، وقَدَّرَ بمعنى قَدَر، والإغناء عن "تَفَعَّلَ" و "فَعَلَ" مخففاً نحو "حَمَّرَ" أي تكلم بلغة "حمير"، قالوا: "مَنْ دخل ظَفَارِ حَمَّرَ وعَرَّدَ في القِتَال" هو بمعنى عَرَدَ مخففاً، وإن لم يلفظ به.
و "الكذب" اختلف النَّاس فيه، فقائل: هو الإخبار عن الشيء بخير ما هو عليه ذهناً وخارجاً، وقيل: بغير ما هو عليه في الخارج، سواء وافق اعتقاد المتكلّم أم لا.
وقيل: الإخبار عنه اعتقاد المتكلّم سواء وافق ما في الخارج أم لا، والصّدق نقيضه.
فصل في معنى الآية
قال المفسرون: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } شكّ ونفاق { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً }؛ لأن الآيات كانت تنزل آيةً بعد آيةٍ، كلما كفروا بآيةٍ ازدادوا كفراً ونفاقاً، وذلك معنى قوله:
{ { فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } [التوبة: 125] والسورة لم تفعل ذلك، ولكنهم ازدادوا رجساً عند نزولها حين كفروا بها قبل ذلك، وهو كقوله تعالى: { { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً } [نوح: 6] والدعاء لم يفعل شيئاً من هذا، ولكنهم ازدادوا فراراً عنده، وقال: { { فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } [فاطر: 42].
قالت المعتزلة: لو كان المراد من المرض - هاهنا - الكفر والجَهْل لكان قوله: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } محمولاً على الكُفْرِ والجَهْلِ، فيلزم أن يكون الله - تعالى - فاعلاً للكفر والجهل.
قالت المعتزلة: ولا يجوز أن يكون الله - تعالى - فاعلاً للكفر والجَهْلِ لوجوه:
أحدها: أنّ الكفار كانوا في غَايَة الحرص على الطَّعن في القرآن، فلو كان المعنى ذلك لقالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: إذا فعل الله الكفر فينا، فكيف تأمرنا بالإيمان؟
وثانيها: أنه - تعالى - ذكر هذه الآيات في معرض الذَّم لهم على كُفْرِهِمْ، فكيف يذمّهم على شيء خلقه الله فيهم.
وثالثها: قوله: { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فإن كان الله خلق ذلك فيهم كما خلق لونهم وطولهم، فأيّ ذنب لهم حتَّى يعذبهم؟
ورابعها: أنه - تعالى - أضافه إليهم بقوله: { بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } وبأنهم يفسدون في الأرض، وأنهم هم السّفهاء، وأنهم إذا خلوا إلى شَيَاطينهم قالوا: إنا معكم، وإذا ثبت هذا فلا بُدّ من التأويل، وهو من وجوه:
الأول: يحمل المرض على الغَمّ، لأنه يقال: مرض قلبي من أمر كذا، والمعنى: أن المنافقين مرضت قلوبهم لما رأوا إثبات أمر النبي - عليه أفضل الصلاة والسلام -، واستعلاء شأنه يوماً فيوماً، وذلك يؤدي إلى زوال رياستهم، كما روي أنه - عليه الصلاة والسلام - مَرَّ بعبد الله بن أُبَيّ على حِمَارٍ، فقال له: نَحّ حمارك يا مُحَمّد فقد آذانا رِيْحُهُ، فقال له بعض الأنصار، اعْذُرْهُ يا رسول الله، فإنه كان مؤملاً أن نُتَوِّجَهُ الرياسةَ قبل أن تقدم علينا، فهؤلاء لمَّا اشتدَّ عليهم الغَمّ وصفهم الله بذلك فقال: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } أي: زادهم غمًّا على غَمِّهِمْ.
وثانيها: المراد من زيادة المرض زيادة منع الألطاف فيكون بسبب ذلك المَنْع خاذلاً لهم.
الثالث: أنَّ العرب تصف فتور النَّظر بالمرض يقولون: جاريةٌ مريضةُ الطرف.
قال جرير: [البسيط]

192- إِنَّ العُيُونَ الَّتِي في طَرْفِهَا مَرَضٌ قَتَلْنَنَا ثُمَّ لَمْ يُحْيِينَ قَتْلاَنَا

فكذا المرض هاهنا إنما هو الفتور في النِّية؛ لأن قلوبهم كانت قويةً على المُحَاربة، والمُنَازعة، والمخاصمة، ثم انكسرت شوكتهم، فأخذوا في النِّفَاق بسبب ذلك الخوف، والانكسار، فقال تعالى: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } أي: زادهم الانْكِسَارَ والجُبْنَ والضعف، وحقق الله ذلك بقوله: { { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ } [الأحزاب: 26]
الرابع: أن يحمل المرض على أَلَم القلب؛ لأنَّ المُبْتَلَى بالحَسَدِ والنِّفَاقِ، ومشاهدة ما يكره ربما صار ذلك سبباً لتغيير مِزَاَجِهِ، وتألُّم قلبه، وحَمْلُ اللَّفْظِ على هذا الوَجْهِ حَمْلٌ له على حقيقته، فكان أولى.
وقوله: { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } صريح أن كذبهم علّة للعذاب الأليم، وذلك يقتضي أن يكون كل كذب حراماً.
فأما ما يروى عن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أنه كذب ثلاث كذبات، فالمراد التعريض، ولكن لما كانت صورته الكذب سمي بذلك.
والمراد بكذبهم قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وهم غير مؤمنين.