التفاسير

< >
عرض

أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ
١٢٨
وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى
١٢٩
فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ ٱلْلَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ
١٣٠
-طه

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } في فاعل (يَهْدِ) أوجه:
أحدها: أنه ضمير الباري تعالى، ومعنى (يَهْدِي) يُبَيِّن، ومفعول (يَهْدِي) محذوف تقدره: أفلم يُبَيِّن اللهُ لهم العبرَ وفعله بالأمم المكذبة.
قال أبو البقاء: وفي فاعله وجهان:
أحدهما: ضمير اسم الله تعالى وعلَّق (بَيَّن) هنا، إذا كانت بمعنى أعلم كما علقه في قوله تعالى
{ { وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ } [إبراهيم: 45].
قال أبو حيَّان: و "كَمْ" هنا خبرية، والخبرية لا تعلِّق العامل (عنها).
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون فيه ضمير الله، أو الرسول، ويدل عليه القراءة بالنون.
الوجهُ الثاني: أنَّ الفاعل مضمر يفسره ما دلَّ عليه من الكلام بعده، قال الحوفي: "كَمْ أَهْلَكْنَا" قد دَلَّ على هلاك القرون التقدير: أَفَلَمْ نُبَيِّن لَهُمْ هَلاَكَ من أهلكنا من القرون ومَحْونا آثارَهم فيتعِظُوا بذَلِك.
وقال أبو البقاء: الفاعل ما دَلَّ عليه "أهْلَكْنا" أي إهْلاَكنا والجملة مفسرة له.
الوجه الثالث: أنَّ الفاعل نفس الجملة بعده.
قال الزمخشري: فاعل "لَمْ يَهْدِ" الجملة بعد يريد: أَلَمْ يَهْدِ لَهُم هذا بمعناه ومضمونه، ونظيره قوله:
{ { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ سَلاَمٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي ٱلْعَالَمِينَ } [الصافات: 78، 79] أي: تركنا عليه هذا الكلام.
قال أبو حيَّان: وكونُ الجملة فاعل "يَهْدِ" هو مذهب كوفيّ، وأما تشبيهه وتنظيره بقوله:
{ { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ سَلاَمٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي ٱلْعَالَمِينَ } [الصافات: 78، 79] فإن "تَرَكْنَا" معناه هذا القول فحكيتْ به الجملة، فكأنه قيل: وقُلْنَا عليه، وأطلقنا عليه هذا اللفظ، (والجملة تُحكَى بمعنى القول كما تُحْكَى بالقول).
الوجه الرابع: أنه ضمير الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنه هو المبيِّن لهم بما يوحى إليه من أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية، وهذا الوجه تقدم نقلُه عن الزمخشري.
الوجه الخامس: أنَّ الفاعلَ محذوف، نقل ابن عطية عن بعضهم: أنَّ الفاعل مقدر تقديره: الهُدَى أو الأمرُ أو النَّظَرُ والاعتبارُ.
قال ابن عطيَّة: وهذا عندي أحسن التقادير.
قال أبو حيان: وهو قول المبرِّد، وليس بجيد إذ فيه حذف الفاعل، وهو لا يجوز عند البصريين، وتحسينه أن يقال: الفاعل مضمرٌ تقديره: يَهْدِ هُوَ أي: الهُدَى قال شهاب الدين: ليسَ في هذا القول أن الفاعل محذوف بل فيه أنه مقدر، ولفظ مقدَّر كثيراً ما يستعمل في المضمر. وأما مفعول "يَهْدِ" ففيه وجهان:
أحدهما: أنه محذوف.
والثاني: أن يكون الجملة من "كَمْ" وما في خبرها، لأنها معلقة له، فهي سادة مسدّ مفعوله.
الوجه السادس: أن الفاعل "كَمْ" - قاله الحوفي، وأنكره على قائله لأن "كَمْ" استفهام لا يعمل فيها ما قبلها.
قال أبو حيَّان: وليست "كَمْ" هنا استفهامية بل هي خبرية. واختار أن يكونَ الفاعل ضمير الله تعالى، فقال: وأحسَنُ التخاريج أن يكون الفاعلُ ضميراً عائداً على الله تعالى، كأنَّه قال أَفَلَمْ يبيِّن الله، ومفعول يبين محذوف، أي العبرَ بإهلاك القرون السابقة، ثم قال: "كَمْ أَهْلَكْنَا" أي: كثيراً أهلكنَا، فـ "كَمْ" مفعولة بـ "أَهْلَكْنَا" والجملة كأنها مفسرة للمفعول المحذوف لـ "يَهْدِ".
قال القفَّال: جعل كثرة ما أهلك من القرون مبيِّناً لهم كما جعل مثل ذلك واعظاً لهم وزاجراً. وقرأ ابنُ عباس وأبو عبد الرحمن السلمي "أَفَلَمْ نَهْدِ" بالنون المؤذنة بالتعظيم. قال الزجاج: يعني أَفَلَمْ نبيَِّن لهم بياناً يهتدون به لو تدبروا وتفكروا.
وقوله: "كَمْ أَهْلَكْنَا" فالمراد به المبالغة في كثرة مَنْ أهلكه الله تعالى من القرون الماضية. قوله: "مِنَ القُرونِ" في محل نصب (نعت لـ "كَمْ") لأنَّها نكرة ويضعف جعلُه حالاً من النكرة، ولا يجوز أن يكون تمييزاً على قواعد البصريين و "مِن" داخلة عليه على حد دخولها على غيره من التمييزات لتعريفه.
قوله: "يَمشُونَ" حال من "القُرونِ"، أو من مفعول "أَهْلَكْنَا" والضمير على هذين عائد على القرون المهلكة، ومعناه: إنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ وَهُمْ في حال أمنٍ وَمَشْيٍ وتقلُّب في حاجاتهم كقوله:
{ { أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً } [الأنعام: 44] ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في "لَهُمْ"، والضمير في "يَمْشُونَ" على هذا عائد على مَنْ عادَ عليه الضمير في "لَهُمْ" وهم المشركون المعاصرون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعامل فيها "يَهْدِ". والمعنى: إنَّكم تَمْشُون في مساكن الأمم السالفة وتتصرفون في بلادهم فينبغي أن تعتبروا لئلا يحلّ بكُم ما حلَّ بهم.
وقرأ ابن السميفع "يُمَشَّوْنَ" مبنيًّا للمفعول مضعفاً، لأنه لما تعدَّى بالتضعيف جاز بناؤه للمفعول.
فصل
المعنى: أَو لَمْ نبيِّن القرآن أو مَا تقدم من المقادير لكفَّار مكة { كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِم } ديارهم إذا سافَرُوا. والخطاب لقريش كانوا يسافرون إلى الشام، فيروْنَ ديار المهلكين من أصحاب الحِجْر، وثَمُود، وقرى لوط { إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ } لذوي العقول. ثم بيَّن تعالى الوجه الذي لأجله لا ينزل العذاب معجلاً على من كفر بمحمد - عليه السلام - فقال: { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } (وفيه تقديم وتأخير)، والتقدير: ولولا كلمةٌ سبقت من ربك وأجل مسمى لكانَ لزاماً.
والكلمة في الحكم بتأخير العذاب عنهم أي: وَلَوْلاَ حكمٌ سبقت بتأخير العذاب عنهم "وَأَجَلٌ مُسَمًّى" هو القيامة، (وقيل: يَوْمَ بَدْر). قوله: "وَأَجَلٌ مُسَمًّى" في رفعه وجهان:
أظهرهما: عطفه على"كَلِمَةٌ"، أي: ولوْلاَ أجلٌ مُسَمًّى لكان العذاب لزاماً لهم.
والثاني: جوَّزه الزمخشري، وهو أن يكون مرفوعاً عطفاً على الضمير المستتر، والضمير عائد على الأخذ العاجل المدلول عليه بالسياق، وقام الفصل بالخبر مقام التأكيد، والتقدير: ولوْلاَ كلمة سبقت من ربك لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين لهم كما كانا لازمين لعادٍ وثمود، ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل، فقد جعل اسم "كَانَ" عائداً على ما دلَّ عليه السياق، إلا أنَّه قد يشكل عليه مسألة وهي أنه قد جوَّز في (لزاماً) وجهين:
أحدهما: أن يكونَ مصدرَ (لازم) كالخصام، ولا إشكال على هذا.
والثاني: أن يكون وصفاً على (فِعَال) بمعنى مُفْعِل أي: ملزم، كأنه آلة اللزوم، لفرط لزومه، كما قالوا: لِزَازٌ خَصِمٌ، وعلى هذا فيقال: كان ينبغي أن يطابق في التثنية، فيقال: لزامين بخلاف كونه مصدراً فإنه يفرد على كل حال. وجوَّز أبو البقاء أن يكون "لِزَاماً" جمع "لاَزِم" كقيام جمع قائِم.
فصل
والمراد أنَّ أمة محمد - عليه السلام - وإن كذَّبُوا فسيؤخرون ولا يفعل بهم ما فعل بغيرهم من الاستئصال، وذلك لأنَّه عَلِم أن فيهم من يؤمن. وقيل: علم أنَّ في نسلِهِم من يؤمن، ولو نزل بهم العذاب لعمهم الهلاك. وقيل: المصلحة فيه خفية لا يعلمها إلا الله تعالى.
وقال أهل السنة: له بحكم المالكية أن يخص مَنْ يشاء بفضله ومَن شاء بعذابه من غير علة، إذ لو كان فعله لعلة لكانت تلك العلة إن كانت قديمة لزم قدوم الفعل، وإن كانت حادثة افتقرت إلى علة أخرى ولزم التسلسل.
ثم إنَّه تعالى لما أخبر نبيَّه بأنه لا يُهْلِكُ أحداً قبل استيفاء أجله أمره بالصبر فقال: { فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } أي من تكذيبهم النبوة، وقيل: تركهم القبول.
قال الكلبي ومقاتل: هذه الآية منسوخة بآية القتال. ثم قال: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } أي: صَلِّ بأمر ربك. وقيل: صَلِّ لله بالحمْدِ له، والثناء عليه، ونظيره قوله تعالى:
{ { وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَٰوةِ } [البقرة: 45].
قوله: "بِحَمْدِ رَبِّك" حال أي: وأنتَ حامدٌ لربِّك على أنه وفقك للتسبيح وأعانك عليه. واختلفوا في التسبيح على قوليْن، فالأكثرون على أن المراد منه الصلاة وهؤلاء اختلفوا على ثلاثة أوجه:
الأول: أنَّ المراد الصلوات الخمس، قال ابن عباس: دخلت الصلوات الخمس فيه، فـ { قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ } هو الفجر، وقيل؛ "غروبها" الظهر والعصر، لأنهما جميعاً قبل الغروب { وَمِنْ ءَانَاءِ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْ } يعني المغرب والعتمة، ويكون قوله: "وَأَطْرَافَ النَّهَار" كالتوكيد للصَّلاة بين الوقتين في طرفي النهار، وهما صلاة الفجر وصلاة المغرب، كما اختصت الوسطى بالتوكيد.
الثاني: أنَّ المرادَ الصلوات الخمس والنوافل، لأن الزمان إما أن يكون قبل طلوع الشمس أو قبل غروبها، فالليل والنهار داخليْن في هاتيْن العبادتين وأوقات الصلاة الواجبة دخلت فيها، ففي قوله: { وَمِنْ ءَانَاءِ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ } للنوافل.
الثالث: أن المراد أربع صلوات، فقوله: { قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ } للفجر "وَقَبْلَ غُرُوبِهَا" للعصر، { وَمِنْ ءَانَاءِ ٱللَّيْلِ } المغرب والعتمة، بقي الظهر خارجاً.
وعلى هذا التأويل يمكن أن يستدل بهذه الآية على أن المراد بالصَّلاة الوُسْطى صلاة الظهر، لأن قوله:
{ { حَافِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَاتِ } [البقرة: 238] المراد به هذه الأربع، ثم أفرد الوسطى بالذكر، والتأسيس أوْلَى من التأكيد، والأول أولى. هذا إذا حَمَلْنَا التسبيح على الصلاة.
وقال أبو مسلم: لا يبعد حمله على التنزيه والإجلال، والمعنى اشتغل بتنزيه الله تعالى في هذه الأوقات. فإن قيل: النهار له طرفان، فكيف قال: "وَأَطْرَافَ النَّهَار"؟ بل الأولى أن يقول كما قال:
{ { وَأَقِمِ ٱلصَّلَٰوةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ } [هود: 114].
فالجواب: من الناس من قال أقل الجمع اثنان فسقط السؤال ومنهم من قال: إنما جمع لأنه يكرر في كل نهار ويعود. وقوله: { مِنْ ءَانَاءِ ٱللَّيْلِ } متعلق بـ "سَبِّحْ" الثانية. قوله: "وَأَطْرَافَ" العامة على نصبه، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه عطف على محل { وَمِنْ آنَاءِ ٱللَّيْلِ }.
والثاني: أنه عطف على "قَبْل".
وقرأ الحسن وعيسى بن عمر "وأطرافِ" بالجر عطفاً على "آناء اللَّيل" وقوله هنا "أَطْرَافَ" وفي هود "طَرَفَيْ النَّهَارِ"، فقيل: هو من وضع الجمع موضع التثنية كقوله:

3701- ظَهْرَاهُمَا مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَيْن

وقيل: هو على حقيقته، والمراد بالأطراف الساعات.
قوله: "تَرْضَى" قرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم "تُرْضَى" مبنيًّا للمفعول.
والباقون مبنيًّا للفاعل، وعليه
{ { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } [الضحى: 5] والمعنى: ترضى ما تنال من الشفاعة، أو ترضى بما تنال من الثواب على ضم التاء كقوله: { { وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً } [مريم: 55].